حلب



قلعة حلب في بدايات القرن العشرين

تعدّ حلب من أقدم مدن الدنيا وهي لا تزال حتى اليوم مدينة عامرة ومن أكبر المدن السورية، تقع حلب في أقصى الشمال الغربي من الهضبة السورية الداخلية ويخترقها نهر صغير هو نهر قويق. يعود تاريخ حلب إلى القرن العشرين قبل الميلاد، عندما نشأت فيها مملكة عمورية عرفت باسم يمحاض، وكان لها علاقات ودية مع مملكة ماري وقطنا وكركميش. وفي نهاية القرن السابع عشر قبل الميلاد دمر الملك الحثي مرشيل حلب عند استيلائه على شمال سورية؛ ثم تناوب عليها الحثيون والميتانيون قبل أن تستقر تحت السيطرة الحثية سنة 1430 ق.م، ولم تنتهِ هذه السيطرة إلا بنهاية سيطرة الحثيين على الأناضول في القرن الثالث عشر ق.م.


من آثار حلب الآرامية، من مقتنيات المتحف الوطني في حلب

بعد ذلك بسط كل من الآراميين والآشوريون والفرس نفوذهم على منطقتها دون أن يعطوا المدينة أهمية تذكر، واستمرت كذلك، إلى أن قامت الدولة السلوقية، عندما بنى سلوقس نيكاتور الأول في موقع حلب مستعمرة مقدونية أطلق عليها اسم "بيرويا"، ورغم عدم أهميتها الاستراتيجية لدى السلوقيين، إلا أن المدينة الناشئة استفادت من ازدهار المدن الرئيسية كـأنطاكية وأفاميا واللاذقية وسلوقيا لتصبح مركزاً تجارياً هاماً في شمال وشرق سورية.

استولى الرومان على بلاد الشام سنة 64 ق.م، حيث نعمت حلب بحقبة طويلة من السلم تحت سلطتهم، وأنشأ الرومان فيها أسواقاً وساحة عامة واسعة وشارعاً عريضاً ذي رواق بأعمدة من الجانبين. استمر ازدهار المدينة في العهد البيزنطي حيث وُجدت فيها طائفة مسيحية كبيرة قديمة العهد، كما استقر فيها الكثير من اليهود وغيرهم، وذلك لتمتع المدينة بحياة اقتصادية ناجحة ومزدهرة.


شكل الغزو الفارسي سنة 540م ضربة قاصمة لحلب، فقد أحرق الفرس المدينة، ولكن القلعة التي لجأ إليها الأهالي ثبتت لهجمات الغزاة. أعاد الإمبراطور جوستينيان الأول بناء مواقعها الدفاعية، وبنى فيها كاتدرائية جميلة، ولكن تهديد الفرس المستمر حال دون ازدهار المدينة من جديد.

في عام16هـ/637م وصلت قوات المسلمين بقيادة أبي عبيدة بن الجراح إلى ضواحي حلب، فحاصرتها، ولم يلبث أهلها أن طلبوا الصلح والأمان فأعطوا ذلك. أضيفت حلب وقنسرين إلى جند حمص، عند تقسيم الشام إلى أجناد على يد الخليفة عمر بن الخطاب؛ ثم فصل معاوية بن أبي سفيان حلب وقنسرين عن حمص وأصبحت حلب تابعة لقنسرين، ولم يكن لحلب شأن إداري وسياسي في العهد الأموي، رغم أن ابن العديم يذكر أن الخليفة سليمان بن عبد الملك بنى أول مسجد جامع في حلب، ويحكى أنه كان يضاهي مسجد دمشق من حيث روعة زخارفه ونقوشه وأن الخليفة جهد أن يكون معادلاً لعمل أخيه في دمشق. وبانتقال الحكم إلى العباسيين فقدت دمشق مكانتها كعاصمة للدولة الإسلامية وتراجعت اقتصادياً، ولكن حلب بدأت أهميتها تزداد شيئاً فشيئاً حتى صارت حلب من أهم مدن شمال سورية في العصر العباسي. وفي النصف الثاني من القرن الثالث الهجري ضمها أحمد بن طولون إلى ولايته المصرية، ثم عادت حلب تابعة للخليفة سنة 284 هـ. وفي عام 325 هـ/936م دخلت الشام بما فيها حلب ضمن أعمال والي مصرالمعروف بـالإخشيدي.


تمثال أبو فراس الحمداني
مدخل الحديقة العامة بحلب

عادت أهمية حلب من جديد مع دخول سيف الدولة إليها عام 333هـ/944م، حيث بدأ صراع بين الإخشيد وبين الحمدانيين حول بلاد الشام؛ وانتهى هذا الصراع بصلح تم عقده بين الطرفين سنة 334هـ، تخلى بموجبه الإخشيد عن حلب وحمص وأنطاكية لسيف الدولة، وتجدد هذا الاتفاق سنة 336هـ، بعد اعتراف الخليفة بشرعية حكم سيف الدولة الحمداني سنة 335هـ.

أصبحت حلب مركزاً لإمارة الحمدانيين الذين امتد حكمهم في الفترة 333-394هـ/944-1003م، وغدت أهم مدينة في شمالي الشام، فقد أقام سيف الدولة لنفسه بلاطاً مهماً، جمع فيه عدداً كبيراً من الشعراء والعلماء من كل فن، كـالمتنبي وأبو فراس الحمداني والفارابي ابن جني وغيرهم، كما شغل سيف الدولة نفسه في الجهاد ضد الإمبراطورية المتعاظمة القوة، وتمكن نقفور سنة 351هـ/962م من الاستيلاء على مدينة حلب دون قلعتها، ونهب المدينة وقتل الناس وأحرق المساجد، وجمع كميات كبيرة من الغنائم وأعداداً كبيرة من الأسرى، ثم تراجع إلى بلاده. وهكذا نجد ابن حوقل (من جغرافيي القرن الرابع الهجري) يصف حلب قبل استيلاء الروم عليها بأنها مدينة عامرة كثيرة الخيرات، لها أسواق حسنة وحمامات وفنادق كثيرة وساحات فسيحة، ثم يصفها بعد إخراج أبي المعالي شريف بن سيف الدولة منها عام 358هـ بأنها أصبحت في قبضة الروم وأن على أمير حلب أن يدفع 700 ألف درهم كل سنة عن المناطق التابعة له وغير ذلك من الشروط القاسية.

استمر أمراء حلب بدفع الجزية أيام الدولة المرداسية 1023-1079م ولكن المدينة ازدهرت نتيجة للنشاط التجاري المتوسع، حيث كانت تمر فيها تجارات الشام والروم وديار بكرومصر والعراق، مما أدى إلى انتشار الثراء والرخاء في المدينة. وبعد وفاة الأمير المرداسي محمود سنة 466هـ حدث صراع بين أفراد الأسرة المرداسية، فولى السلطان السلجوقي ملكشاه سنة 1086م، قسيم الدولة أقسنقر حلب، والذي أحل فيها الاستقرار والهدوء، إلا أن عهده لم يطل، فبموت ملكشاه سنة 1092م انتقلت حلب إلى تتش بن ألب أرسلان وسلالته من بعده 487-511هـ/1094-1117م. لم يكن لهذه السلالة السلجوقية الصغيرة إلا أهمية محلية، ولم يكن وضع الأمراء في المناطق المجاورة أفضل حالاً، فقد استعرت نار الحروب بين أمراء الشام في الربع الأخير من القرن الخامس الهجري، مما جعلهم عاجزين عن الوقوف أمام الفرنجة الصليبيين الذي اجتاحوا المنطقة ووصلوا إلى أبواب حلب سنة 493هـ/ 1099م ، وأكثروا من ترويعها بالإغارة والتخريب.

استمرت هذه الحالة حتى استولى عماد الدين زنكي صاحب الموصل على حلب سنة 522هـ، فأعاد إليها الأمن والاستقرار، ووسع عماد الدين رقعة دولته بضم حماة وحمص وبعلبك، كما استولى سنة 539هـ/1144م على الرها وقضى على إمارة الفرنج فيها.

قُتل عماد الدين زنكي في حصار قلعة جعبر، فخلفه ابنه نور الدين محمود في حكم الموصل وحلب وملحقاتها. كان نور الدين زنكي قائداً قوياً فسرعان ما استخلص دمشق تحت حكمه، ومهد السبيل للقضاء على الحكم الفاطمي الضعيف في مصر مستعيناً في ذلك بقائده صلاح الدين الأيوبي، وتابع قتال الفرنج، وجعل من حلب مدينة مزدهرة، فأعاد بناء الأسوار، ورمّم القلعة والجامع الكبير، وأعاد بناء الأسواق وأصلح الأقنية وبنى فيها بيمارستاناً وداراً للعدل، وعدداً من المدارس التي عهد بالتدريس فيها إلى فقهاء الأحناف والشافعية. وعندما توفي سنة 569هـ/1173م خلفه ابنه الملك الصالح إسماعيل، وكان فتى صغيراً، فرأى صلاح الدين أن من مصلحة المسلمين أن يمد سلطانه إلى الشام حتى يستطيع متابعة الجهاد ضد الفرنجة، فدخل دمشق ثم حمص وحماة، ولكنه أخفق أمام أبواب حلب، ولم تصبح تحت سلطته إلا سنة 579هـ/1183م، بعد موت الملك الصالح إسماعيل، وفي سنة 582هـ/1186م ولى صلاح الدين ابنه الظاهر غازي على حلب. أظهر الملك غازي وزوجته ضيفة خاتون ونائبه طغرل قدرات إدارية ممتازة، ساعدت على بقاء حلب في سلالة صلاح الدين، بينما انتقلت الممالك الأخرى إلى أولاد الملك العادل الأول أخي صلاح الدين. وكان عهد الملك الظاهر غازي عهد رخاء ورفاهية لحلب، فأصبحت من أجمل مدن الشرق وأكثرها نشاطاً وازدهاراً، فقد نشطت صناعياً بسبب المعاهدات التجارية مع البندقية، واتسعت عمرانياً، وأُعيد بناء قلعتها لتصبح واحدة من أروع أعمال الفن العسكري في العصور الوسطى، وبنيت المدارس والزوايا وازدهرت الحياة الثقافية، وظهرت فيها أسماء بارزة كـالسهروردي وابن العديم وغيرهم.

استمر حكم الأيوبيين في حلب حتى سنة 658هـ/1259م حينما استولى عليها المغول بقيادة هولاكو، ودمروها، فلما هزموا في معركة عين جالوت، دخلت حلب ضمن سلطان المماليك في مصر، وأصبحت العاصمة الثانية في بلاد الشام بعد دمشق، إلا أنها كانت تستعيد عافيتها ببطء شديد بسبب تهديد المغول المستمر والثورات والتمرد وثقل الضرائب وانتشار الطاعون فيها سنة 749هـ/1348م وما قاسته سنة 800هـ/1397م عندما غزا تيمورلنك البلاد.


جامع الخسروية
من آثار العمارة العثمانية

احتل العثمانيون حلب بعد معركة مرج دابق سنة 922هـ/1516م، وبقيت عاصمة لإيالة مماثلة لما كانت عليه أيام المماليك. عانت حلب كغيرها في عهد العثمانيين من ثقل الضرائب والمشاكل المتأتية عن ظلم العثمانيين وفرقهم العسكرية، ومع ذلك حافظت على أهميتها التجارية، وتطورت بحيث غدت في وقت من الأوقات السوق الرئيسية للشرق كله. ولكنها بدأت بالتقهقر منذ عام 1775م بسبب فساد الإدارة، وحدوث زلزال عام 1822م الذي هدم الجزء الأكبر من المدينة، وتغير طرق التجارة العالمية وفقدان الشرق الكثير من أهميته.

استولى المصريون على حلب من عام 1831 إلى عام 1839، وأثقل إبراهيم باشا كاهل المدينة بالضرائب التي فرضها لصالح جيوشه، وبنظام الاحتكار الذي أدخله عليها، ومع ذلك فإن هذه الفترة مهدت لحدوث تغيرات فعالة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على الأوضاع الاجتماعية والإدارية والحياة الاقتصادية، واتصلت حلب بحماة ودمشق بخط حديدي سنة 1906م وباسطنبول وأوروبا سنة 1912م بقطار الشرق السريع.

بقيت حلب تابعة للسلطنة العثمانية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى 1918 لتعود جزءاً من القطر العربي السوري ومركزاً لمحافظة حلب. يحتل القسم القديم من المدينة الجزء المنخفض الذي يتوسط المدينة، ويعكس بما يضم من معالم الطابع التاريخي لها، أكثر الأبنية فيها مبنية بالحجارة الحلبية المشهورة بلونها الأشهب، الذي يُنسب إليه، كما يقال اسم حلب الشهباء. وإضافة إلى الأسواق المغطاة الشبيهة بأسواق دمشق القديمة، يضم هذا القسم القديم كلاً من الأحياء التالية: الكلاسة وباب النيرب والمشارقة وقسطل الحجارين والسويقة. وجميعها تشترك بشكل أزقتها الضيقة وبيوتها المتلاصقة ذات الشرفات المستورة والواجهات الخشبية التي تتم الإطلالة منها على الخارج عبر نوافذ صغيرة.


أسواق حلب

إن الازدهار التجاري الذي تمتعت به حلب مدة طويلة تجلى في ازدياد عدد أسواقها وخاناتها التي بنيت لإقامة التجار الأجانب، وهذه الخانات العثمانية لا تزال محافظة على بنيانها، وقد أولى الولاة اهتماماً كبيراً ببناء المدارس والمساجد الكبيرة وفق الأسلوب الهندسي الاستانبولي، كـجامع خسرو باشا وجامع بهرام باشا والمدرسة الأحمدية والمدرسة الشعبانية ومدرسة عثمان باشا.

إلا أن أهم آثار المدينة هو قلعتها الشهيرة التي تعد مثالاً للهندسة العسكرية في القرون الوسطى، وما تزال القلعة المهيبة محافظة على سلامتها في وسط المدينة، لتعبر عما لهذه المدينة من تاريخ عريق.