الجلاء


اتخذت كلمة الجلاء (ذات المعنى اللغوي المعبر عن الوضوح والإخلاء) معنى عظيماً في وجدان الشعب العربي السوري، ونلاحظ أن هذا التعبير خاص تقريباً بعيد ميلاد الجمهورية العربية السورية المستقلة، بعد ولادتها شكلياً تحت ظل الاحتلال الفرنسي الذي رزحت البلاد تحته لأكثر من ربع قرن.

لقد شكل جلاء قوات الاحتلال الفرنسي ومعها القوات الحليفة الأخرى، نتيجة ناصعة لنضال الشعب العربي السوري ضد أشكال الاحتلال والاستعمار المتعاقب الذي استمر مئات السنوات. بحيث أثمرت تضحياته الكبيرة وصبره العظيم، فوصل إلى نيل حريته التي ضحى من أجلها بكل غالٍ ونفيس، فاستحق بذلك أن يعيش حريته وشموخه بين أمم الأرض الحرة.

إن جلاء القوات الأجنبية عن أرض سورية في السابع عشر من نيسان عام 1946، أصبح عيد الجلاء، وهو في نفس الوقت العيد الوطني لسورية، ذكرى تحرر الوطن من سلطة الاحتلال الغاشمة.

في كل سنة، ومع إطلالة الربيع الباسمة، يستذكر السوريون كباراً وصغاراً يوم استعادوا حريتهم، ويشحذون هممهم لتحرير آخر شبر بقي من أرض الوطن المحتلة في الجولان الحبيب.

جمال باشا
الملقب بالسفاح

لمحة تاريخية:
أدى تمزق الدولة العباسية وتقسيمها بين أمراء الجيوش والعائلات السياسية إلى وقوع سورية تحت سلطة المماليك، وقد جاء ذلك بعد هزيمة المغول على يد السلطان الظاهر بيبرس، حيث خضعت دمشق لسلطتهم التي استمرت حتى مجيء العثمانيين الأتراك بقيادة السلطان سليم الأول عام 1516م، الذي هزم المماليك في معركة مرج دابق وأنهى سلطتهم على بلاد الشام.

كان ذلك مقدمة لأربعمئة سنة من السيطرة العثمانية، أصبحت فيها سورية جزءاً من التقسيم الإداري للإمبراطورية العثمانية، وقد شهدت هذه الفترة التاريخية الطويلة ركوداً في مختلف فعاليات المجتمع العربي، الذي ران عليه ثقل الاحتلال، مما أدى إلى تراجع تطوره في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلا أن شرارة التمرد ضد هيمنة العثمانيين كانت غافية تحت الرماد، إذ سرعان ما أخذت نوازع الثورة تشتعل في نفوس الوطنيين العرب في مختلف الأصقاع العربية، حتى كانت الفرصة السانحة لهم مع اشتعال الحرب العالمية الأولى، والتي تعامل فيها العثمانيون مع العرب بمنتهى القسوة وأرسلوهم إلى ميادين القتال المستعرة حيث قضى العديد منهم دون أن يُعرف له قبر أو مصير.

وكانت الطامة الكبرى بتعيين أحمد جمال باشا السفاح والياً على سورية، إبان هذه الحرب، حيث تقرب أولاً من الوطنيين العرب -والسوريين منهم على الأخص- قبل أن يمعن فيهم سجناً وقتلاً وتشريداً، ومن أشهر جرائمه شنق كوكبة من الوطنيين العرب الأحرار في الوقت نفسه في كل من دمشق وبيروت في اليوم نفسه، وذلك في السادس من أيار من عام 1916.

شهداء أيار

وكان من بين هؤلاء الأبطال: الشيخ عبد الحميد الزهراوي (من حمص) وهو رئيس المؤتمر العربي في باريس وعضو مجلس الأعيان، ‏ وثلاثة مبعوثين من ممثلي دمشق هم: شفيق المؤيد العظم وشكري العسلي ورشدي الشمعة، وسليم الجزائري وهو ضابط عربي قدير وشجاع في الجيش التركي، الأمير عمر الجزائري (من دمشق) حفيد الأمير عبد القادر الجزائري الشهير، وعبد الوهاب الإنكليزي‏، وغيرهم من الأبطال المناضلين.‏

كانت الشعوب العربية قد ضاقت ذرعاً بالعثمانيين وجرائمهم، وقد وجدت الفرصة أمامها سانحة مع ترنح الإمبراطورية العثمانية بمفاعيل الحرب العالمية الأولى وهزيمتها أمام الحلفاء، وتقدمت فرنسا وبريطانيا لتقاسم مناطق النفوذ من تركة الرجل المريض. وسرعان ما اندلعت نيران الثورة العربية الكبرى التي انطلقت شرارتها من مكة المكرمة وأميرها الشريف حسين، وقد تقدمت قوات الثورة بقيادة الأمير فيصل مدعومة من القوات البريطانية لتلحق الهزيمة بالقوات العثمانية المتراجعة، ودخلت قوات الثورة دمشق في العاشر من كانون الثاني من عام 1918، وفي السابع من آذار 1920، انعقد في سورية المؤتمر السوري العام الذي أعلن استقلال سورية العربية ونادى بفيصل ملكاً عليها، ونصب الأمير فيصل ملكاً على سورية العظمى ليصبح الملك فيصل الأول، ولتظهر دولة سورية إلى الوجود، وقام الملك فيصل الأول بتعيين رضا الركابي كأول رئيس للوزراء في الدولة السورية الوليدة.

كان طموح الشعوب العربية كبيراً، وأملها في أن ترى شمس الحرية تشرق من جديد وتسطع على سماء دولة عربية موحدة شديداً، إلا أن الدول الاستعمارية الكبرى التي خرجت منتصرة من الحرب العالمية الأولى كان لديها مخططات أخرى، إذ أن اتفاقية سايكس بيكو التي تقسم بلاد الشام الطبيعية إلى مناطق تابعة للاستعمارين الفرنسي والبريطاني كانت قد أخذت طريقها إلى التنفيذ، وكانت تجزئة سورية إلى مناطق خاضعة للقوات الفرنسية وأخرى للقوات البريطانية تمهيداً لاحتلالها أمراً قائماً بالفعل، إذ كانت القوات البريطانية متواجدة في فلسطين والأردن والعراق، فيما نزلت القوات الفرنسية إلى الساحل السوري واستولت عليه. وفي خلفية هذه الأحداث كان وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود، يشير إلى بدء استعمار جديد على الأرض العربية، لكنه هذه المرة من النوع الاستيطاني الذي يؤسس لطرد العرب من أوطانهم وبلادهم، وإحلال شعب جديد محلهم.

لم يطل الوقت حتى أدرك الشعب العربي في سورية وهم الوعود الاستعمارية، إذ كانت طلائع القوات الفرنسية قد أخذت تحتل مواقع حساسة في الشريط الساحلي منذ مطلع تشرين الثاني 1918 وأخذت تتوسع باتجاه الشرق والشمال وتقضي على الحكومات المحلية التي قامت في تلك المناطق باسم الحكومة العربية في دمشق. وجاء التحدي للاحتلال الفرنسي من المناطق الريفية في الساحل السوري الشمالي والمناطق الشمالية الغربية من سورية على شكل موجة من الثورات المشتعلة. وبرزت ثورتان: الأولى بقيادة الشيخ صالح العلي شملت كل أنحاء المنطقة الساحلية، من القرداحة وبابنا شمالاً إلى صافيتا جنوباً، مروراً بـجبلة ومصياف وبانياس وطرطوس جنوباً، وكان مركزها قرية الشيخ بدر التي جعل منها الشيخ صالح العلي حصناً له.

أما الثورة الثانية فقد كانت بقيادة إبراهيم هنانو وشملت المنطقة الشمالية الغربية بين حارم وكفر تخاريم وإدلب وجبل الزاوية وجسر الشغور جنوباً و معرة النعمان وأطراف حماة.

ولم تتوقف تلك الثورات باستيلاء الفرنسيين في تموز عام 1920 على جميع المدن الداخلية وعلى قسم كبير من البلاد بل ظلت مشتعلة خلال السنة الأولى من الاحتلال الفرنسي، ولم تتم السيطرة الفرنسية عل المناطق الثائرة في صيف 1921 إلا باستخدام القوة المفرطة.

لكن الدول الاستعمارية كانت قد أعدت عدتها لتحصين وضعها العسكري وتحويلها إلى سيطرة سياسية كما ظهر ذلك جلياً في مؤتمر سان ريمو والذي انعقد بتاريخ 25 نيسان من عام 1920 والذي تلخصت مقرراته بما يلي:
1- وضع سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي.

2- وضع العراق تحت الانتداب الإنكليزي.

3- وضع فلسطين وشرقي الأردن تحت الانتداب الإنكليزي مع الالتزام بتنفيذ وعد بلفور.

أثارت مقررات هذا المؤتمر السخط والغضب في أوساط الوطنيين العرب وخاصة في سورية، مما أدى إلى استقالة حكومة الركابي، وتشكيل حكومة جديدة برئاسة هاشم الأتاسي وتَسَلم يوسف العظمة وزارة الدفاع فيها، وقد اتبعت هذه الحكومة نهج المواجهة مع الاحتلال حيث أخذت تشجع الثوار في الشمال والساحل وتمدهم بالمؤن والذخائر، كما أصدرت قانوناً يفرض التجنيد الإلزامي للإسراع ببناء جيش وطني.

وبناء على ذلك سارعت القوات الفرنسية إلى التحرك لقطع الطريق على أي إنجاز وطني يرسخ استقلالية الدولة السورية الوليدة، وفي 14 تموز عام 1920 أصدر الجنرال غورو إنذاره الشهير الذي طالب بتسليم بتسليم محطة رياق للسكة الحديدية للسلطة العسكرية الفرنسية وإلغاء التجنيد الإجباري وتسريح الجيش وقبول الانتداب الفرنسي بدون شروط.

ورغم أن الحكومة السورية التي كانت تدرك الفرق في موازين القوى العسكرية قد استجابت للإنذار، إلا أن غورو احتج على تأخر كتاب الموافقة لمدة نصف ساعة، وبدأ بالزحف على دمشق، حيث اصطدم بالجيش السوري الفتي الذي كان يقوده البطل يوسف العظمة في ميسلون في 24 تموز 1920، ودارت معركة غير متكافئة لعدة ساعات انتهت بالقضاء على المدافعين ومنهم يوسف العظمة. وفي اليوم التالي دخلت القوات الفرنسية دمشق ومنها إلى باقي الأراضي السورية، وأجبر الملك فيصل على مغادرة البلاد، وتم تقسيم سورية إلى عدة دويلات، وفي 31 آب من نفس العام صدر قرار إنشاء دولة لبنان الكبير، وتم إنزال العلم العربي في دمشق وبيروت وحل محله أعلام الاحتلال الفرنسي.

كان وقع الاحتلال ثقيلاً على المواطنين السوريين العرب الذي بذلوا الكثير للتخلص من نير الهيمنة العثمانية والتمتع بهواء الحرية، وخصوصاً أن الاستعمار الفرنسي ترافق مع جملة من الإجراءات الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي اتسمت بالقسوة الشديدة، وهدفت إلى خنق روح الثورة والاستقلال في نفوس أبناء الشعب، بالإضافة إلى هدفها الأساسي القائم على امتصاص خيرات البلاد، ونهب ثرواتها.

لكن ذلك انعكس مزيداً من الثورات على سلطات الاحتلال، ففي سنة 1922 اندلعت ثورة سلطان باشا الأطرش في جبل العرب، حيث قامت السلطات الفرنسية باعتقال المناضل أدهم خنجر بتاريخ 17 تموز 1922 في دار سلطان باشا الأطرش وكان غائباً عنه، واندلعت على إثر ذلك معارك دامية مع القوات الفرنسية استخدمت فيها الطائرات وحقق الثوار فيها انتصارات مذهلة.

وقد توقفت الثورة مؤقتاً عام 1923 بعد أن أصدرت السلطات الفرنسية عفواً عن قائدها (سلطان باشا)، إلا أن التدابير الوحشية التي اتخذتها سلطات الاحتلال ضد أبناء شعبنا على امتداد الوطن أثارت الثورة من جديد، وكانت الشرارة مرة أخرى من جبل العرب، وإشارة بدء انطلاق الثورة السورية الكبرى عام 1925، عندما أقدمت سلطات الاحتلال على تعيين حاكم فرنسي طاغية كان أبناء الجبل قد خبروا بطشه وظلمه في مرة سابقة هو الجنرال كاربيه، وباشر بتنفيذ سياسات تهدف إلى البطش بزعماء الجبل ورموزه الوطنية، وعندما أرسل كاربيه جنوده إلى دار سلطان باشا الأطرش ليطلبوا منه موافاة القائد الفرنسي في السويداء، ألقى أبناء الجبل القبض على هؤلاء الجنود، وما لبثت الثورة أن اندلعت في السويداء، وتوالت المعارك الطاحنة في الكفر وقلعة السويداء، وتم القضاء على العديد من الحملات التي حاولت فك الحصار عن القلعة.

وعندما أرسلت السلطات الفرنسية حملة من دمشق على رأسها الجنرال ميشو لتأديب الثوار، تصدى لها رجال الثورة في معركة المزرعة الشهيرة في الثاني والثالث من شهر آب عام 1925، وقاموا بتشتيت الحملة، وعندها استخدمت قوات الاحتلال الفرنسي كل قواها مستخدمة الطائرات والمدرعات حيث قصفت 80 قرية في محافظة السويداء من أصل 100، إلى إثر ذلك انضمت القبائل العربية المتواجدة في بادية درعا والسويداء إلى رجال الثورة، كما أعلن حزب الشعب السوري بقيادة المناضلين الوطنيين عبد الرحمن الشهبندر ونسيب البكري تأسيس الحكومة الوطنية ومركزها السويداء.

وفي 23 آب 1925 أصدر سلطان باشا الأطرش منشوره الشهير إلى الشعب السوري والذي أعلن فيه بيان الثورة السورية الكبرى ومطالبها.

على إثر هذا البيان التحقت أحياء الشاغور والميدان في دمشق بالثورة التي امتد لهيبها إلى بساتين الغوطة ورياضها، وامتد أوار الثورة إلى جميع أنحاء دمشق وجبل العرب وجنوب سورية، حيث توالت المعارك الضارية بين مجاهدي الثورة والقوات الفرنسية التي استعملت سياسة الأرض المحروقة في قتالها ضد الثوار فهدمت البيوت وحرقت الأراضي الزراعية، وقد قصفت الطائرات مدينتي دمشق والسويداء مرات عديدة، وتسبب القصف في إحدى المرات إلى تدمير حي سيدي عامود الدمشقي، والذي أصبح يعرف منذ ذلك الوقت بحي الحريقة.

وبعد أن مني المستعمرون بخسائر فادحة حشدوا جل قواهم للقضاء على الثائرين، وتمكنوا من ذلك في نيسان سنة 1927، بعد أن جندوا آلاف الجند المدججين بالسلاح بمساندة المدرعات والطائرات الحربية فاحتلوا المدن والقرى وأعملوا فيها خراباً وقتلاً وتدميراً. وأجبروا الثوار وقادتهم على المغادرة إلى الأردن وفلسطين ومصر.

لم يشكل توقف الثورات المسلحة نهايةً لنضال الشعب السوري في سبيل الحرية، بل تابع نضاله السياسي من أجل الاستقلال، واتخذ هذا النضال الطابع الفكري والجماهيري، من حيث تشكيل الأحزاب والجمعيات السياسية، واستمرار المظاهرات والإضرابات الداعية إلى رحيل المستعمر والحصول على الاستقلال الناجز والكامل، فتشكلت الجمعية التأسيسية التي افتتحت أولى جلساتها في 9 حزيران من عام 1928 وترأسها هاشم الأتاسي، وقامت الجمعية التأسيسية باقتراح الدستور الذي صاغته لجنة يرأسها المناضل الوطني إبراهيم هنانو، وتألف الدستور من 115 مادة، أبرزها تلك التي تعتبر أن سورية دولة واحدة غير قابلة للتجزئة وأن نظام الحكم جمهوري برلماني، ورفضت فرنسا تلك البنود وساومت على إلغائها، فيما رفضت الجمعية التأسيسية إلغاء أي منها، مما دفع بسلطات الاحتلال إلى تعطيل الجمعية.

قوات الاحتلال الفرنسي
تقصف الأحياء الدمشقية

وفي عام 1930 أجرت فرنسا محاولة ثانية للوصول إلى تسوية مع القوى الوطنية السورية وذلك بالاعلان عن نشر دستور جديد يتألف من نفس مواد الدستور القديم مضافاً إليه مادة تقضي بوقف تنفيذ المواد التي تمس صلاحيات الانتداب، مما أدى بالشعب السوري إلى الانتفاض مجدداً بوجه محاولات الاحتلال الفرنسي في مس سيادته وكرامته الوطنية، فعمت المظاهرات والإضرابات مختلف أنحاء البلاد.

وقد اجتمعت معظم القوى الوطنية آنذاك في حزب الكتلة الوطنية الذي أخذ على عاتقه مسألة تخليص سورية من الاحتلال الفرنسي وإقامة دولة سورية مستقلة ذات سيادة، بالإضافة إلى قوى وطنية أخرى اختلفت معه في تفاصيل سياسته وإن لم تختلف في الهدف العام الأساسي المبني على استقلال سورية وحريتها مثل حزب الشعب بقيادة الدكتور عبد الرحمن الشهبندر وعصبة العمل القومي وغيرها من القوى السياسية السورية، المتمثلة بالقوى القومية والاشتراكية.

وصل النضال الجماهيري لدى الشعب العربي السوري إلى ذروته في عام 1936 إثر مهاجمة الشرطة التابعة للاحتلال لمقر حزب الكتلة الوطنية في حلب بعد ذكرى الأربعين لوفاة المناضل الوطني إبراهيم هنانو. فاجتاحت المظاهرات الشوارع والساحات وأعلن الإضراب في كافة المدن السورية والذي دام ستين يوماً، وعرف بالإضراب الستيني الشهير، الذي حمل الدلالة الكبرى على وحدة الشعب السوري في آماله وتطلعاته إلى الحرية والاستقلال، واشتركت فيه جميع القوى السياسية والاجتماعية من مختلف المذاهب والمشارب.

وقامت السلطات الفرنسية في حملة اعتقالات كبرى بين المواطنين، في محاولة لقمع الإضرابات والمظاهرات بكل ما استطاعت من عنف، قبل أن تكتشف استحالة مواجهة إرادة شعب بكامله، فعادت وأطلقت سراحهم بعد نجاح الإضراب في الوصول إلى أهدافه.

في ذلك الوقت، ظهرت مؤثرات محلية وإقليمية ودولية عديدة أثرت على وضع سلطة الانتداب الفرنسي في سورية، أهمها الوضع الدولي وبروز قوى دولية جديدة إلى الساحة، أخذت تلقي بظلالها على الهيمنة المطلقة للقوتين الاستعماريتين الكبريتين آنذاك (فرنسا وبريطانيا). وفي فرنسا نفسها وصل إلى السلطة تحالف الجبهة الشعبية الذي ضم في صفوفه القوى اليسارية الفرنسية (الاشتراكيون والشيوعيون) برئاسة ليون بلوم، وارتأت السلطة الجديدة أن تصل إلى نوع من التفاهم مع القوى السياسية الممثلة للشعب السوري كي تتجنب بذلك الضغوط المتواصلة التي تشكلها نضالات هذا الشعب في سبيل الحرية، ولتظهر بمظهر المتفهم لحقوق الشعوب في تقرير المصير.

من ناحية أخرى نجح الملك فيصل الأول (ملك سورية السابق)، والذي كان قد أصبح ملكاً على العراق في عقد معاهدة مع بريطانيا منحت العراق بعض الحقوق في الاستقلال، مما ترك أثراً كبيراً في سورية، وأصبح المطلب الشعبي للحركة الوطنية عقد معاهدة مع فرنسا على غرار المعاهدة العراقية البريطانية، وبعد مفاوضات استمرت ستة شهور، توصل الوفد السوري المفاوض (الذي ترأسه الزعيمان هاشم الأتاسي وفارس الخوري) مع الحكومة الفرنسية في باريس في التاسع من أيلول عام 1936 إلى عقد المعاهدة المعروفة بمعاهدة عام 1936، وقد استقبل الوفد المفاوض لدى عودته الى سورية استقبال الفاتحين، وجرت له في كل بلدة سورية مر بها احتفالات مشهودة.

إلا أن قوى وطنية كثيرة اعترضت على هذه المعاهدة باعتبارها تعطي صفة شرعية للانتداب الفرنسي، ونشأت معارضة تدعو إلى استقلال سورية التام وعدم الارتباط بأي التزام تجاه الحكومة الفرنسية.

وألقى فارس الخوري عضو الوفد السوري المفاوض خطاباً وضح فيه طبيعة وملابسات المفاوضات والاتفاقية الناتجة عنها قائلاً:

«بدأت مفاوضاتنا مع الوفد الفرنسي منذ أول نيسان عام 1936 واستمرت خمسة شهور بلا انقطاع، عبرنا بها على أطوار متنوعة بين كر وفر، وجدال وسجال، مع حكومة الاتحاد الجمهوري، ثم مع حكومة الجبهة الشعبية، حتى انتهينا في أوائل أيلول إلى اتفاق حاسم، وقعناه في التاسع منه، وعدنا به لنعرضه على الأمة السورية لتبدي رأيها فيه بواسطة الانتخابات.

وقد نشرنا نصوص المعاهدة وملاحقها يوم 22 تشرين الأول ليطلع الشعب عليها ويجري انتخاباته على أساسها، فقابلتها طبقات الأمة بالرضى عن مضامينها، والقناعة بصلاحها للاستقلال المنشود.
ولا بد من الإشارة الى كون صلاح المعاهدات يستند إلى النية الحسنة عند عاقديها والعزم الصادق على تنفيذها بأمانة واخلاص أكثر مما يستند على نصوصها وما في عباراتها والقوة المؤيدة لحقوق كل من الطرفين فيها هي كفاءته ومقدرته في الطلب والتنفيذ.

فمع التصريح والتوثق من أن الروح التي سادت هذه المفاوضات كانت روح مودة وولاء تجلى فيها مظهر صميمي من الجانب الفرنسي وعزم جلي على التخلي عن سورية وترك مقدراتها لأبنائها والاكتفاء باقامة تحالف مخلص بين الحكومتين وصداقة متينة بين الشعبين فإن المستقبل المحفوف بمجاهل الغيب والأحداث الطارئة يقضي على الشعب السوري أن يكون كامل الأهبة مستوفي الاستعداد لمواجهة هذا المستقبل بنشاط لا يمل وعزيمة لا تفل. فإذا كانت النصوص تعلن قوة الحق فإن عزيمة الشعب تعلن حق القوة. وأخلق بمن توفرت له هاتان القوتان أن يبقي جانبه مرهوبا وحقه مصونا موفورا.


وعلى إثر المعاهدة انعقدت في سورية انتخابات لتشكيل مجلس نيابي سوري (برلمان)، فازت الكتلة الوطنية بأغلبية مقاعده، بعد هزيمة القوى المؤيدة للاحتلال والمتعاونة معه هزيمة ساحقة.

إلا أن فرنسا التي ساءها حصول الشعب السوري على أي من حقوقه الوطنية أخذت تتراجع شيئاً فشيئاً عن بنود المعاهدة، ورفض الموظفون الفرنسيون تسليم سلطاتهم إلى الحكومة السورية المنتخبة، وتردت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وأخيراً قامت السلطات الفرنسية المحتلة بحل البرلمان السوري المنتخب من قبل الشعب، وأخذت زمام السلطة مباشرة في عودة للحالة الاستعمارية السابقة، منهية بذلك مفاعيل المعاهدة نهائياً.

لم تكتف السلطات الاستعمارية الفرنسية بذلك، بل ساهمت في مؤامرة رتبتها معها كل من بريطانيا وتركيا على لواء الإسكندرونة حيث ساهمت في سلخ لواء الإسكندرون عن وطنه الأم، بتسليم اللواء السليب إلى الحكومة التركية (التي ضمته إلى إقليم كيليكية) بعد انسحاب قواتها منه في 23 تموز من عام 1939، متجاهلة بذلك حق تقرير المصير للشعب العربي السوري في اللواء، رغم اللجان الدولية التي زارت اللواء وثبتت وجود أغلبية عربية فيه من حقها تقرير مصيرها بكامل حريتها وفقاً للمواثيق الدولية آنذاك.

كانت الحرب العالمية الثانية قد ألقت بظلالها على العالم آنذاك، ودخلت قوات الحلفاء (فرنسا وبريطانيا) في حرب ضروس مع قوات المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان)، وشهدت سورية صراعاً بين القوات الفرنسية التي كانت تابعة لحكومة فيشي (الموالية للألمان) وقوات حكومة الجنرال ديغول (المتحالفة مع الحلفاء) حيث تمكنت القوات المتحالفة من إخراج قوات فيشي من سورية في تموز من عام 1941، وعلى إثر ذلك أذاع الجنرال كاترو (باسم ديغول) بيانه الشهير الذي وعد فيه سورية ولبنان بالاستقلال وحق تقرير المصير.

وبناء على ذلك تم في عام 1942 إجراء انتخابات نيابية فازت فيها الكتلة الوطنية، وفي شهر آب من عام 1943 انتخب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية السورية، وتألفت حكومة جديدة برئاسة سعد الله الجابري.

ومع اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها، حاولت فرنسا أن تعيد سيطرتها الاستعمارية على بلاد الشام (وخصوصاً سورية) وأخذت تماطل في تسليم كافة السلطات للحكومة السورية الشرعية، فاندلعت الاضطرابات في كافة أنحاء الوطن السوري لتأكيد حق الشعب السوري في الاستقلال التام والناجز، إلا أن القوات الفرنسية واجهت تلك الهبة الشعبية بعنف منقطع النظير مستخدمة القوة المفرطة بحق المتظاهرين العزل، وقامت بارتكاب مجازر مروعة بحق السكان الآمنين، وأنزلت قواتها إلى الشوارع، وقصفت الأحياء السكنية في دمشق والسويداء وغيرها من المدن بالطائرات، وكان أن أنهت مسيرة القمع هذه بمجزرة مروعة ارتكبتها في مبنى البرلمان السوري، عندما رفضت حاميته المكونة من رجال الدرك السوري أمراً بإنزال العلم السوري عن البرلمان وتسليمه للقوات الفرنسية، التي قامت بقصفه بمختلف أنواع القنابل وتدميره مما أدى إلى استشهاد أفراد حاميته الأبطال (ما عدا واحداً نجى بأعجوبة وأصبح يعرف باسم الشهيد الحي)، وذلك في التاسع والعشرين من شهر أيار عام 1945، وتم إنزال العلم السوري من فوق البرلمان فوق جثث هؤلاء الرجال الشجعان.

لم تؤد العمليات الوحشية التي مارستها قوات الاحتلال الفرنسي في وأد جذوة النضال والكفاح لدى أبناء الشعب السوري الذي استمروا في مقاومة قوات الاحتلال بكل السبل المتاحة. وكانت الظروف الدولية التي تبعت نهاية الحرب العالمية الثانية غير مؤاتية كي تستمر فرنسا في سياساتها الاستعمارية، حيث طالبت بريطانيا بوقف أعمال القتال وإعطاء السوريين ما وُعِدوا به، وهدد تشرشل رئيس وزراء بريطانيا بتدخل عسكري في سورية، وبالفعل دخلت قوات بريطانية إلى سورية في مسعى لتهدئة الأوضاع.

تم عرض المشكلة على مجلس الأمن، الذي صوّت على انسحاب قوات الاحتلال بمختلف جنسياتها من الأراضي السورية واللبنانية، حيث أصبحت كل منهما دولة مستقلة معترفاً بها في منظمة الأمم المتحدة.

وهكذا، وتتويجاً لنضال طويل مليء بالتضحيات والبطولات، خرج آخر جندي أجنبي من الأراضي السورية في السابع عشر من نيسان عام 1946، واعتبر هذا اليوم، الذي أصبح يعرف بيوم الجلاء، العيد الوطني لسورية، وفي ذات اليوم جرى أول احتفال احتفاء بعيد الجلاء ألقى فيه الرئيس شكري القوتلي خطاباً هنأ فيه الشعب السوري على هذا الانتصار العظيم.

إن روح الحرية والإباء التي التي تطبع الشعب السوري بطابعها على مر العصور، تظهر ملامحها في نشيده الوطني، والتي أوصلته إلى تحقيق حريته من الاستعمار الأجنبي بعد نضال طويل، ليرفرف علم الوطن المستقل شامخاً ويصدح نشيدها الوطني بإباء في أرجاء أرضها المروية بدماء شهدائها البررة، أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر.


اكتشف سورية