29 أيار

شهد شهر أيار على مر التاريخ أحداثاً عظاماً حددت مسارات أمة وخيارات شعب، لكن ما كرسه هذا الشهر من معانٍ سامية، يميزه عن الشهور الأخرى، وخصوصاً لدى الشعب العربي السوري، الذي يُذَّكره أيار بتضحية الذين ناضلوا في سبيل حرية بلدهم واستقلالها، فدفعوا حياتهم ثمناً غالياً للوطن الأغلى، وأغدقوا على مذبح التضحية من خصوبة أرواحهم وطهره دمائهم الكثير.

لقد حفل شهر أيار في منتصف القرن العشرين بأيام مشهودة سواء على الصعيد العالمي أو المحلي، فمع نهاية الحرب العالمية الثانية بإعلان استسلام ألمانيا النازية في التاسع من أيار من عام 1945، تبدى واقع جديد في العالم مع نشوء توازنات جديدة تحكمه، ورفعت الشعوب التي كانت محكومة بالاستعمار الأجنبي في مختلف القارات صوتها مطالبة بالحرية والاستقلال، في مسعى أن تأخذ بيدها مقدراتها وتتحكم بمسار تطورها وحياتها، وفيما حاول الاستعمار القديم الاحتفاظ بمواقعه السابقة، كان مسار التاريخ يأخذ تطوره الطبيعي، وشعوب الأرض قاطبة ترفع رأسها ووتيرة مطالباتها، ومن بينها شعوبنا العربية التي أحبطها سابقاً حجم الخديعة التي تعرضت لها إبان الحرب العالمية الأولى، وتحويل مسار الثورة العربية الكبرى من إنشاء دولة عربية واحدة، إلى تقسيم العالم العربي كغنيمة حرب بين القوى الكبرى، متمثلة آنذاك بالاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي.

أما سورية، فقد كانت على موعد مع يوم عظيم، وكما عرفت في السادس من أيار من عام 1916 طعم الجراح التي أعملها أحمد جمال باشا السفاح والمستعمر العثماني في لحوم شهداء الحرية والعروبة، فإنها كانت تنتظر –ويا للقدر- موعداً مماثلاً في شهر أيار نفسه، ولكن هذه المرة على يد المستعمر الفرنسي الذي أطلق وحشيته وشراسته ضد مدينة دمشق، التي ما انفكت تطالب الحلفاء المنتصرين بتحقيق وعودهم التي وَعَدوا بها إبان الحرب العالمية الثانية، بأنهم سيَمنحون الحرية للمستعمرات ما إن يتم الانتصار على النازية في أوروبا.

ولمّا تراجع الاحتلال الفرنسي عن وعوده، وأراد أن يفرض الأمر الواقع على شعب ودولة اعتادا التمرد والثورة على كل ظالم، انتفض الشعب السوري بكل طبقاته وفئاته ورفض الإذعان لإملاءات القوة الاستعمارية، فكان ما كان من تدمير دمشق واستشهاد عناصر حامية البرلمان السوري، الذين سطروا أروع صور البسالة في مقارعة العدوان الفرنسي والدفاع عن رموز وطنهم وحريته واستقلاله.

الأرضية التاريخية:
لعب نشوب الحرب العالمية الثانية دوراً كبيراً في تغيير الأوضاع على المستوى الدولي، فقد انخرطت الدول الاستعمارية الرئيسة في صراع حاد مع دول المحور مما أدى إلى تغير في موازين القوى، إذ وجدت دول كبرى سابقة – كبريطانيا وفرنسا – نفسها عرضة للاحتلال أو التدمير، وتمكنت الجحافل النازية من احتلال أوروبا وروسيا ووضعت بريطانيا فيما يشبه الحصار.

لكن دخول الاتحاد السوفييتي الحرب على طول جبهته الواسعة ودخول الولايات المتحدة كطرف قوي على الجبهة الغربية حولا مسار الحرب لصالح الحلفاء مجدداً، فأطبقت قوات الحلفاء من الشرق والغرب على ألمانيا مما أدى إلى انكسار القوات الهتلرية، وبدأت تباشير هذه الهزيمة تلوح في عام 1944.

وضع المستعمرات:
كانت الشعوب الواقعة تحت الاستعمار تغلي على وقع توالي الأحداث التي هزت العالم، فقد ترافق تعاونها مع الدول الاستعمارية إبان الحرب العالمية الثانية للتخلص من النازية، بآمال عراض لنيل الكرامة والاستقلال، فبدأت الهند كبرى المستعمرات البريطانية تجيش بثورات شعبية سلمية يقودها زعيمها التاريخي المهاتما غاندي، وفي إفريقيا كما في آسيا كانت الشعوب تطمح إلى الاستقلال والحرية كسياق طبيعي بعد الحرب العالمية الثانية التي خاضتها شعوب أوروبا – ومنها شعوب الدول المستعمَرة – تحت نفس الشعارات.

ولم يكن الوضع في سورية بعيداً عن هذا الاصطخاب العالمي الكبير، ففرنسا – البلد المستعمر – انقسمت بين جماعتين واحدة موالية لألمانيا النازية وعرفت بحكومة فيشي، فيما أعلن الجنرال ديغول الذي كان قائد القوات الفرنسية في الجزائر الانشقاق عن حكومة فيشي وترأس ما كان يسمى حكومة فرنسا الحرة ومقرها مدينة الجزائر.

وهكذا شهدت سورية صراعاً بين القوات التابعة لحكومة فيشي وقوات حكومة الجنرال ديغول بالتحالف مع الإنكليز، حيث تمكنت القوات المتحالفة من إخراج قوات فيشي من سورية في صيف عام 1941.

وبعد أن استتب الأمر للقوات المتحالفة قام الجنرال ديغول بجولة في سورية ولبنان اجتمع خلالها بزعماء البلاد، وأصدر قراراً بتسمية الجنرال كاترو مفوضاً سامياً لحكومة فرنسا الحرة في سورية ولبنان.

وعلى إثر ذلك أذاع الجنرال كاترو (باسم الجنرال ديغول) بيانه الشهير الذي وعد فيه سورية ولبنان بالاستقلال وحق تقرير المصير.


جريدة القبس 23 حزيران 1941

سورية تحصل على الاستقلال:
قام الجنرال كاترو بتعيين الشيخ تاج الدين الحسيني رئيساً للجمهورية الوليدة، وذلك في حفل رسمي دعا إليه المعتمد الإنكليزي والقنصل المصري والقنصل الإيراني وبطريرك دمشق، ونفراً من الرجالات السوريين، وتلا كتاب الاعتراف بالدولة السورية، وطلب من الشيخ تاج الدين الحسيني تولي رئاسة الدولة، فقبل الشيخ الحسيني طلبه.

إلا أن ذلك لم ينل رضا القوى الوطنية السورية التي كانت ترى في الحسيني ولاءً مطلقاً للسياسات الاستعمارية السابقة، فاشتدت الاحتجاجات والضغوط على الجنرال كاترو لتغيير هذا القرار، ومن ذلك أن الزعيم الوطني المحبوب فخري البارودي، أرسل عريضة للجنرال كاترو يحتج فيها على قرار التعيين هذا جاء فيها:

«إذا كان في عزم السلطة الشروع في مفاوضات عتيدة لعقد المعاهدات التي ضمنها تصريح الحلفاء، فليست هناك وسيلة صالحة لهذا الغرض إلا استشارة أبناء البلاد عن طريق مجلس نيابي دستوري ينتخب انتخاباً حراً. إنها وسيلة وحيدة، وكل وسيلة سواها ليست إلا إثارة للقلاقل والاضطرابات».

وبناء على هذا الاحتجاج الواسع، تم في عام 1942 إجراء انتخابات نيابية فازت فيها الكتلة الوطنية. ومع وفاة الشيخ تاج الدين الحسيني في 17 كانون الثاني من عام 1943، ارتأى كاترو أن يتنازل للقوى الوطنية، فقام بتعيين السيد عطا الأيوبي رئيساً للحكومة السورية المكلفة بإجراء انتخابات تشريعية جديدة ورئيساً لدولة سورية بالوكالة.

وفي 22/3/1943 تم الاتفاق بين ممثلي الحكومتين السورية واللبنانية وبين قائد الجيش الفرنسي في سورية ولبنان الجنرال كاترو على تسليم الصلاحيات الدستورية التي تمثلها سلطات الاحتلال إلى الحكومة السورية، وزف سعد الله الجابري وهو يبكي البشرى للمجلس النيابي وللشعب، حيث عدت تلك الجلسة جلسة إعلان الاستقلال، فعم الفرح والابتهاج كل المحافظات والمدن السورية.‏

وقد جرت هذه الانتخابات فعلاً في 7 تموز من عام 1943 والتأم المجلس النيابي الجديد، فتم انتخاب فارس الخوري رئيساً له، وانتخب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية السورية، وتألفت حكومة جديدة برئاسة سعد الله الجابري، وكان هذا بداية عهد الجمهورية الثالثة في سورية والتي أصبح اسمها «الجمهورية السورية».

إلا أن مخططات الاحتلال الفرنسي لم تكن متوافقة مع رغبة الشعب العربي السوري في الحصول على استقلاله الناجز الكامل، ومن ذلك تصريح الجنرال كاترو الذي نشرته صحيفة صوت الأحرار بأن «السلطات الفرنسية ستحتفظ بالجيش الخاص بها إلى ما بعد نهاية الحرب، وأنها لا تقبل أي حل آخر».

ومر عام 1944 في عملية تسليم واستلام بين إدارات الانتداب والإدارات السورية الناشئة وقد سلمت سلطات الانتداب إلى السلطات السورية جميع المصالح الحكومية ماعدا ادارتين اثنتين: القطعات العسكرية وإدارة الأمن العام.‏‏

جميل مردم بك

وطلبت الحكومة السورية ممثلة بوزير خارجيتها جميل مردم بك من المفوض السامي الجديد للحكومة الفرنسية الجنرال بينيه السرعة في تسليم هاتين الإدارتين إلى الحكومة السورية في بداية 1945 ولكن المفوض السامي استمهل لمشاورة حكومته ثم عاد باقتراح غريب، وهو عقد معاهدة جديدة تحدد العلاقات بين فرنسا وسورية لمدة 25 عاماً قابلة للتجديد، ورد عليه وزير الخارجية السورية بأنه جرى عقد معاهدة سابقة بين الطرفين عام 1936 ولكن الحكومة الفرنسية تجاهلتها ولم تصدقها لذا فلا مجال للعودة إلى الوراء!‏‏

المخططات الفرنسية في بقاء الاحتلال:
مع اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها، أخذت تتبدى شيئاً فشيئاً مخططات المستعمر الفرنسي في الحفاظ على وضعه الاستعماري السابق، وعدم إفساح الفرصة أمام الشعوب – وخصوصاً الشعوب العربية – في الحصول على استقلالها الناجز التام، خصوصاً بعد رجحان كفة الحلفاء في الحرب، وقرب هزيمة ألمانيا النازية، حيث حاولت فرنسا أن تعيد سيطرتها الاستعمارية على بلاد الشام (وخصوصاً سورية) وأخذت تماطل في تسليم كافة السلطات للحكومة السورية الشرعية.

صورة قديمة لمجلس الشعب

قضية الجيش الوطني:
وتبدت هذه المماطلة بأجلى صورها، في ممانعة سلطات الاحتلال الفرنسي بقيادة الجنرال كاترو لقيام جيش وطني سوري مستقل، يأخذ أوامره من الحكومة السورية بدلاً من أن يتلقاها من سلطات الاحتلال، وقد وصلت هذه القضية ذروتها مع مطلع العام 1944، عندما عقد المجلس النيابي جلسة بتاريخ 3-1-1944 احتج فيها بشدة على تصريحات الجنرال كاترو، وطالب النواب فيها بشدة من الحكومة أن تأخذ زمام المبادرة بغض النظر عن الموقف الفرنسي، وتباشر في تشكيل جيش وطني لا علاقة له بالسلطات الفرنسية، وكان قد عقد في اليوم الذي سبقه اجتماع شعبي كبير في منزل أحد قدماء المحاربين طالبت فيها الفعاليات الشعبية والعسكرية بإنشاء جيش وطني وخرج بعدها الشباب الحاضرون في مظاهرة مرددين شعار «ما في عيش بلا جيش»، وقد انتقلت المظاهرات إلى بقية المدن السورية مرددة المطالب ذاتها.

أثارت قضية تبعية الجيش للسلطات الفرنسية الشعور الوطني لدى كافة طبقات وفئات الشعب السوري الذي رأى فيها مسألة مصيرية يتم فيها تحديد حقيقة استقلال سورية من عدمه، ومع مطلع العام 1945 كانت الأمور قد وصلت إلى ذروتها، فقد عقد المجلس النيابي جلستين بتاريخ 13-1 و24-1-1945 لبحث قضية الجيش وتبارى النواب بالضغط على الحكومة لتقصيرها في هذه المسألة ومحاباة فرنسا، وأكد بعض منهم أن الشعب سيقوم بإنشاء الجيش بالقوة وأن النواب سيدعون كل الضباط والجنود السوريين للانضمام إلى الجيش الوطني فوراً.

وبتاريخ 1 شباط عقدت جلسة أخرى سرية، واتفق فيها النواب على الخطوات الآتية:
1- شراء السلاح حتى ولو عن طريق التهريب.
2- إنشاء نواة للجيش والبدء بتسليحه.
3- منح الحكومة صلاحية دعوة ضباط الجيش السوري وأفراده للالتحاق بالجيش الوطني.‏

وبتاريخ 1-5-1945 بحثت القضية مرة أخرى، حيث أصر النواب على عدم البحث بالتشريع الخاص بالجيش قبل استلام الجيش من السلطات الفرنسية.

وفيما كان النواب يبحثون عن الطريقة التي يدفعون بها السلطات الفرنسية للوفاء بالتزاماتها التي قطعتها على نفسها في إعلان كاترو الشهير، كانت فرنسا تعد العدة لانتهاج أسلوب آخر في التعامل مع المطالب السورية المشروعة، سواء منها الرسمية أو الشعبية، مما دفع الوضع برمته إلى منعطف خطير.

الجنود السنغاليين في الجيش الفرنسي بسورية

الأيام التي سبقت العدوان الفرنسي:
بدأت التحرشات الفرنسية بالحكومة السورية مع إطلالة شهر أيار وانتهاء الحرب العالمية الثانية، ورغم أن الحكومة السورية أعلنت الثامن من أيار يوم احتفال بالنصر على النازية، إلا أن حدة التوتر في البلاد كانت في ارتفاع مستمر، وانطلقت المظاهرات الغاضبة في مختلف المدن السورية.

الجنرال أوليفا روجيه
قائد حامية دمشق الفرنسية

وبتاريخ 18-5-1945 عقدت مباحثات بين وفد فرنسي بقيادة الجنرال بينيه المندوب العام مع وزيري خارجية سورية ولبنان، ورفضت سورية أن يكون الجنرال أوليفا روجيه من ضمن الوفد الفرنسي مما جعله يحقد على سورية والمسؤولين فيها.

وقد جاءت المطالب الفرنسية أثناء المفاوضات متنافية مع السيادة والحرية واتخذت طابع الإنذار والفرض، وتزامن ذلك مع إنزال تعزيزات عسكرية فرنسية كبيرة في ميناء بيروت، ونتيجة لذلك قررت الحكومتان السورية واللبنانية قطع المفاوضات وتهيئة البلاد لجولة من العنف الذي ستمارسه القوات الفرنسية.

وقد تزامن كل ذلك مع الإعلان عن الحالة الصحية الصعبة لرئيس الجمهورية السورية الرئيس شكري القوتلي فنشأ عن ذلك ارتفاع في حدة التوتر الشعبي واتسعت المظاهرات الصاخبة فشملت معظم المناطق وارتفعت أصوات النواب تحت قبة البرلمان تدعوا للمقاومة واستدعى جميل مردم بك رئيس الوزراء بالوكالة الزعيم عبد الله عطفة بتاريخ 21-5-1945 لوضع خطة لاستدعاء ضباط وجنود الوحدات الخاصة لتشكيل جيش وطني، وشرعت المدن السورية تتأهب لرد أي عدوان مسلح وقدم المئات من الشبان أنفسهم كمتطوعين لحمل السلاح كما بدأ الضباط والجنود بالالتحاق بقوى الدرك والشرطة وكذلك فعل العديد من النواب اللذين ارتدوا اللباس العسكري وصاروا يتدربون على القتال في ثكنة الشرطة الموجودة في القلعة.‏

في 23-5-1945 طلب الجنرال باجيت القائد العام للجيش البريطاني التاسع من مقر قيادته في مصر من الجنرال الفرنسي أوليفا روجيه تجنب الأعمال الاستفزازية التي تقوم بها المدرعات الفرنسية المرابطة في شوارع دمشق والمدن السورية وعدم تحليق الطائرات فوق المساجد في أوقات الصلاة، وأبرق إلى حكومته في لندن، يعلمها باستعداد الفرنسيين لانتهاج طريق العنف.

وقد طلب السفير البريطاني في باريس نزع الفتيل عن الوضع المتفجر في سورية وكان جواب ديغول الرفض وقد كتب في مذكراته بعد ذلك يقول: « بسبب قناعتي بتآمر البريطانيين مع السوريين فإننا لن نرحل إلا إذا كنا مجبرين وسنذهب إلى حد مقاتلة الثوار السوريين والإنكليز معاً» مما يدل على تصميم فرنسا على إبقاء الاحتلال والعدوان.

بلاغ القيادة العسكرية الفرنسية:
أصدر الجنرال الفرنسي أوليفا روجيه بياناً إلى القوات الفرنسية صادر عن دائرة الأركان الحربية ب - د رقم 24، جاء فيه:‏

«أيها الضباط والجنود العاملون تحت العلم الفرنسي، عليكم التقيد بالتعليمات التالية:

1- وجوب إبادة جميع عناصر الشغب التي تريد إخراج فرنسا من سورية.

2- وجوب احتلال جميع دوائر الحكومة ومؤسساتها ومنشآتها الثقافية والاقتصادية.

3- منع اتصال الحكومة السورية مع جميع دول العالم وبالدرجة الأولى مع جيرانها العرب وأصدقائها الدول الاشتراكية.

4- وجوب تجريد جميع أفراد الشعب من أسلحتهم وآلاتهم الجارحة خلال 24 ساعة من الآن.

5- وجوب وضع البلاد تحت الحكم العسكري وإعلان الأحكام العرفية».


ثم وزعت الإدارة العسكرية الفرنسية في البلاغ قواتها على الأماكن الحساسة التي يجب أن ترابط فيها، وأعطت الأوامر لاحتلال مدينة دمشق عند إعطاء أول إشارة إنذار، وأشارت إلى أن السلاح الجوي الفرنسي يستطيع أن يثير الذعر في نفوس السكان، وإذا اضطرت فإنها ستلقي القنابل المحرقة على أماكن التجمعات البشرية والسكانية، وحذر البلاغ الطيارين من الانخفاض كثيراً أثناء الطيران بطائراتهم لأن المعلومات لدى الإدارة الفرنسية تفيد بأن المواطنين يملكون أسلحة متوسطة تستطيع إسقاط الطائرات.

وختمت الإدارة الفرنسية بلاغها محذرة جنودها في حال تفوقت القوات السورية عليهم في بعض الأماكن، بأن يتلفوا أسلحتهم إذا لم يتمكنوا من استعمالها، خشية أن يستولي عليها المقاومون ويسددوها إلى صدور الفرنسيين.

بلاغ آخر للجنرال أوليفا روجيه:
وفي 26 أيار عام 1945 أصدر الجنرال أوليفا روجيه بلاغاً جديداً للفرنسيين استعرض فيه أحداث المقاومة العربية في بعض الأماكن من المناطق السورية، وأشار إلى أن بعض الجنود الفرنسيين أصيبوا بطعنات الخناجر في دمشق وحماة ودير الزور، وأن بعض الضباط حوصروا، وتم القضاء على بعضهم وكاد أن يتم القضاء على البعض الآخر، وحذر البلاغ الفرنسيين من الابتعاد عن الأماكن المخصصة لتمركزهم حتى لا يعرّضوا أنفسهم لأخطار محدقة دون أن يكون في وسعهم الدفاع عن أنفسهم، وأوصى البلاغ الضباط والجنود الفرنسيين أن يتحلَّوا بالصبر وقوة الأعصاب ريثما تنتهي الأزمة التي لا يمكن التغلب عليها إلا بارتكاب مجزرة كبيرة.

وكانت المعارك في هذا الوقت قد اشتدت في حمص وحماة وحلب واللاذقية وديرالزور بين الفرنسيين والأهالي وسقط فيها العديد من القتلى والجرحى.‏

أثر القصف الفرنسي على أحياء دمشق

النية المبيتة للعدوان على دمشق:
كانت نية الفرنسيين في العدوان على دمشق قد غدت جلية للعيان، حيث نقل العسكريون الفرنسيون عائلاتهم إلى ثكنات المطار والمعسكرات، واستقدموا قوات جديدة نزلت على الشواطئ اللبنانية، وبدؤوا بنشر المصفحات والدبابات في الأماكن الرئيسية الحساسة في دمشق.

الخطة الفرنسية في العدوان على دمشق:
كانت الخطة الفرنسية التي وضعها الجنرال الحاقد أوليفا روجيه تهدف إلى ضرب المجلس النيابي السوري وقتل كافة الوزراء والنواب من أجل إحداث فراغ دستوري يسمح للفرنسيين أن يأتوا بأعوانهم إلى سدة السلطة، وضرب مركز الشرطة والدرك في القلعة واحتلال جميع دوائر الدولة وتجريد الشعب من السلاح وفرض الحكم العسكري الفرنسي المباشر.

وحدد يوم 29 أيار لبدء العدوان حيث كان مقرراً عقد جلسة للمجلس النيابي يحضرها الوزراء في الساعة السادسة من مساء اليوم نفسه، ومن أجل إيجاد ذريعة لبدء العدوان طلب الفرنسيون من حامية المجلس النيابي أن تصطف لتحية العلم الفرنسي عند إنزاله مساءاً من فوق سارية دارالأركان الفرنسية (دار المندوبية) التي كانت تقع مقابل البرلمان مباشرة (في الموضع الذي شيد عليه بناء السكري فيما بعد).

العسكريون السوريون يعلنون التمرد:
في ذلك الوقت كان العسكريون السوريون العاملون تحت إمرة القوات الفرنسية في حالة تململ وتوتر بسبب خطورة الوضع الذي اتضحت أبعاده، وأخذت أعداد كبيرة من الضباط وصف الضباط والجنود يفرون من ثكناتهم ويلتحقون بالقوات الوطنية، فيما رفض أولئك الذين لم يتمكنوا من الفرار تنفيذ الأوامر، مما حدا بالقيادة الفرنسية إلى استشعار الخطر وارتأت القيام بتحرك سريع وحاسم قبل أن يفلت من أيديها زمام الأمور.

الجنود السنغاليين في الجيش الفرنسي
أمام مدخل مبنى البرلمان بعد دماره


وقائع العدوان:
في تمام الساعة الثالثة والنصف من بعد ظهر يوم 29 أيار 1945، وجه الجنرال روجيه إنذاراً إلى رئيس المجلس النيابي يهدده فيه بانتقام فرنسا من المواطنين السوريين الذين يعتدون على الجنود الفرنسيين، ويطلب إليه أن تقوم قوات الشرطة والدرك السورية المرابطة حول المجلس بتحية العلم الفرنسي عند إنزاله في المساء عن دار أركان الحرب الفرنسية المواجهة للمجلس.

وكان عدد قليل من النواب قد جاؤوا لحضور جلسة البرلمان ولما لم يكتمل النصاب طلب رئيس المجلس النيابي سعد الله الجابري من النواب الانصراف، وقد ألغيت جلسة مجلس النواب في تمام الساعة الخامسة من بعد ظهر اليوم نفسه، وكذلك انصرف الوزراء الذين حضروا إلى المجلس.

وعقدت الحكومة الوطنية اجتماعاً سرياً طارئاً في منزل أحد الوزراء لبحث الوضع، بعد أن طوقت المصفحات الفرنسية دار الحكومة والمجلس النيابي، وكانت حشود من جماهير دمشق قد خرجت إلى الشوارع للإعراب عن غضبها على التصرفات الفرنسية في محاولة لفك الحصار عن المجلس النيابي، فوجدت نفسها في مواجهة القوات الفرنسية.

وقد رفضت حامية مبنى المجلس النيابي (البرلمان) أداء التحية للعلم الفرنسي أثناء إنزاله من على ساريته في دار الأركان الفرنسية الذي يقع في مقابل مبنى المجلس، بعد أن تلقى قائدهم مفوض الشرطة سعيد القهوجي أمراً بالرفض من رئيس المجلس النيابي سعد الله الجابري، فاتخذ الفرنسيون ذلك ذريعة لمهاجمة حامية البرلمان، مستخدمين قوات السنغال، المزودة بالأسلحة الفتاكة من مدافع هاون ورشاشات كبيرة وصغيرة ودبابات ومصفحات.

بعد قصف البرلمان وتدمير معظم مبانيه
تم تخريب ونهب ما سلم من الأثاث ومكاتب البرلمان

في تمام الساعة السادسة وخمسين دقيقة فتح جنود الحامية الفرنسية المرابطون في شارع النصر النار على المواطنين الذين خرجوا في مظاهرات احتجاجية، وفي نفس اللحظة دوى صوت القنابل وطلقات الرصاص وهي تنطلق من دار الأركان الفرنسية تجاه البرلمان، ولم يطل الوقت حتى كانت جميع المراكز الفرنسية في دمشق تشارك في إطلاق الرصاص والقنابل، فيما تقدمت المدرعات الفرنسية لتوجه نيرانها باتجاه مبنى البرلمان بكامل قوتها، بينما استحكم رجال الدرك السوري ورجال الشرطة المولجون بالدفاع عن البرلمان وراء متاريسهم، وشرعوا في مقاومة ضارية لوقف تقدم القوات الفرنسية، معتمدين على أسلحتهم المتواضعة، رافضين الاستسلام لقوات المستعمر، ومدفوعين بحب الوطن والدفاع عن عزته وكرامته، ولم يمر وقتاً طويلاً حتى أخذت ذخيرة المقاومين تنفذ، والخسائر بين صفوفهم تزداد، وهم يقاتلون في مواجهة آلة عسكرية تفوقهم قدرة على نحو كبير، واستمروا بالقتال حتى نفذت ذخيرتهم، عندها اقتحمت القوات الفرنسية مبنى البرلمان لتنفذ أبشع جرائمها الوحشية، بتمزيق أجساد الناجين من المقاومين بالسواطير والحراب، والتمثيل بجثث من استشهدوا، ومن بين المدافعين الذين كان عددهم ثلاثين مقاوماً، استشهد ثمانية وعشرون، وبقي اثنان من عناصر أمن المجلس النيابي، هما شهير الشراباتي (ورد في بعض المراجع باسم شهير الترياقي أو الشراياتي) وإحسان بهاء الدين اللذان استطاعا الفرار والنجاة من الموت المحقق بأعجوبة، بالإضافة إلى الشرطيين إبراهيم الشلاح ومحمد مدور، اللذين تظاهرا بالموت بعد أن رميا نفسيهما بين القتلى، ليصبحا الشهيدين الحيّين، وليرويا فيما بعد وقائع هذه المجزرة الرهيبة، (كما يذكر أبناء عائلة برنية أن شقيق الشهيد عبد النبي برنية – محمد برنية - كان موجوداً وتعرض لنفس المعاملة، ولكن الله كتب له النجاة وأصبح مختاراً لحي برنية فيما بعد). وقد تم التمثيل بأجساد الشهداء أشنع تمثيل وقد شوهدت بعض الجثث بلا آذان وبعضها مقطعة الأيدي وبعضها مفقودة العينين كما شوهدت آثار السواطير على أجسامهم بشكل تقشعر له الأبدان.

محمد مدور
شاهد عيان على المجزرة

شهادة الشهيد الحي محمد مدور:
وقد روى الشهيد الحي محمد مدور فيما بعد شهادته التي تقشعر لها الأبدان، ومما قاله في تقريره:
«حوالي الساعة السابعة تماماً من مساء يوم الثلاثاء الواقع في 29 أيار 1945، أنزل الفرنسيون علمهم دون أن نحييه كما كانوا قد طلبوا منا، لذلك فتحوا النار من جميع الجهات، وكنت واقفاً مع ثلاثة من زملائي هم: ياسين البقاعي وأحمد القصار ويحيى اليافي، فما شعرت إلا وهم يسقطون صرعى، فألقيت بنفسي من سدة السلك الدبلوماسي إلى بهو المجلس، وقد كسرت ساقي وزحفت قليلاً حيث شاهدت المفوض سعيد القهوجي ومحمود الجبيلي ومشهور المهايني وإبراهيم الشلاح وهم يطلقون النار على المهاجمين من بنادقهم ويصيحون: «الله أكبر، الله أكبر»، وعندما شاهدوني حاولوا إسعافي، ثم تراجعوا إلى القبو، وبعد لمحة شاهدت العريف عبد الله باش إمام وبيده رشاش كان يطلق منه النار على زمرة من الجنود السنغال لكنهم تغلبوا عليه وطلبوا منه أن يحيي فرنسا والجنرال ديغول، فرفض فقتلوه شر قتلة، ثم مثلوا بجثته. بعدئذ اندفعوا إلى القبو حيث عثروا على المفوض سعيد القهوجي ورفاقه، وبعد أن قتلوهم جميعاً وقطعوهم إرباً إرباً بواسطة السواطير، سلبوا نقودهم وساعاتهم، وأثناء عودتهم مروا بي وأنا ملقى على الأرض مضرجاً بالدماء ،الأمر الذي جعلهم يظنون بأني من الموتى. ثم ساد السكون بعد ذلك وشعرت بأربعة جنود يحملونني ثم يلقون بي بين الجثث في سيارة شحن كبيرة، سارت مدة ثم توقفت، ولا أعلم أين كان ذلك، ثم صعد جندي فرنسي أخذ يركل الجثث واحدة تلو الأخرى، وهو يعدهم، وقد وصل ذلك العدد إلى ثمانية وعشرين جثة، ولما جاء دوري في الركل بدرت مني بادرة حياة، الأمر الذي دعاه إلى إلقائي على الأرض ثم مناداة المشرف على عملية دفن الموتى في حفرة كبيرة، وكان هذا لحسن الحظ من الضباط، فأمر بنقلي إلى المستشفى العسكري الذي كان قريباً من المجلس النيابي، حيث تماثلت بعد مدة للشفاء وعلمت أن ما حصل لي، قد حصل لزميلي إبراهيم الشلاح».

إبراهيم الشلاح
شاهد حي على المجزرة

شهادة الشهيد الحي إبراهيم الشلاح:
في التاسع من حزيران عام 1945 استدعى المفوض يوسف سقاباشي الضابط في الضابطة العدلية ومساعد نائب الجمهورية بدمشق الشرطي إبراهيم الشلاح إلى مقر شرطة دمشق، مخفر المركز بناء على أمر من مديرية الشرطة العامة القاضي بالتحقيق مع الشرطي السيد إبراهيم الشلاح، وأعد المفوض يوسف سقاباشي التقرير التالي:

«في الساعة التاسعة من صباح يوم السبت الموافق في التاسع من شهر حزيران 1945 نحن مفوض المركز يوسف سقاباشي الضابط في الضابطة العدلية ومساعد نائب الجمهورية بدمشق نثبت ما يلي: بناء على أمر مديرية الشرطة العامة، القاضي بالتحقيق مع الشرطي السيد إبراهيم شلاح رقم 287 الذي أصيب بجروح مختلفة ضمن البرلمان أثناء الحوادث الأخيرة، وعليه فقد ذهبت إلى مستشفى الإيطالي وقد شاهدته ممدداً على فراشه وهو مصاب بجروح في رأسه وأنفه ويده وساقه وعليه فقد بوشر بالتحقيق معه على الوجه التالي:

هويته: اسمي إبراهيم إلياس الشلاح من سكان محلة باب توما رقمي 287 شرطي في مجلس النواب عمري 35 سنه متأهل ولي أولاد متعلم سوري.

إفادته: حدثنا عن كيفية مصرع المفوض سعيد القهوجي ورفاقه وأسباب الحادث الذي أصبت فيه.

فأجاب: في مساء يوم الثلاثاء الواقع في التاسع والعشرين من شهر أيار 1945 بينما كنت في البرلمان مع بقية المراتب وعلى رأسنا المفوض سعيد القهوجي، وكان اجتماع لمجلس النواب يعقد بالبرلمان في الساعة الخامسة، وإذ بسلطة إفرنسية من الأركان الحربية ترسل إنذاراً إلى الحامية الموجودة في البرلمان من الدرك والشرطة بوجوب أخذ التحية الرسمية للعلم الفرنسي حين إنزاله من على بناء الأركان الحربية وإلا فالسلطة المذكورة مضطرة لإطلاق النار وبالحال انفضت جلسة مجلس النواب لأنه لم يكتمل النصاب القانوني.

وفي الساعة التاسعة عشرة أنزل العلم الفرنسي ولم يأخذ الشرطة أو الدرك التحية الرسمية للعلم الفرنسي، وبعد برهة عشر دقائق بوشر بإطلاق الرصاص والقنابل وغيرها من الأسلحة المتفجرة على البرلمان من جميع أطرافه، أخذنا بالرد عليهم بالمثل حتى نفدت الذخيرة فدخلنا إلى قاعة البرلمان الداخلية ودام إطلاق الرصاص والمتفجرات حتى الساعة العشرين والنصف تقريباً بشكل متواصل.

جثث ضحايا القصف الفرنسي لدمشق

وفي هذه الأثناء طلب مني السيد شفيق المملوك قائد الدرك الصعود إلى الطابق العلوي لإسعاف الجرحى فأخذت معي ثلاثة من الدرك وبينهم السيد ياسين البقاعي وزحفنا كي لا نصاب بشظايا القنابل، أنزلنا الجرحى وأثناء نزولنا أصيب السيد ياسين البقاعي بطلقة رصاص في رأسه وتوفي في الحال، وأخذنا بإسعاف الجرحى في الصالون بوسائل بدائية ومن بين الجرحى زميلي السيد محمد مدور الذي أصيب بشظايا قنبلة، واستمر إطلاق النار حتى تهدمت واجهة بناء المجلس النيابي فسألت عن المفوض السيد سعيد القهوجي فقالوا إنه خرج إلى الحديقة فتبعته ووجدته مع اثنين من الشرطة وهما السيدان مشهور المهايني ومحمود الجبيلي، وإذ بالدبابات والمصفحات تهجم من الباب الخلفي الحديدي وبرفقتها مشاة من السنغال وهم يطلقون النار وكنا أربعة، مشهور المهايني ومحمود الجبيلي وسعيد القهوجي وأنا، واتجهت الدبابات إلى باب المجلس الداخلي وأخذوا يطلقون النار عليه حتى تهدم فخرج رجال الدرك والشرطة الموجودون في المجلس فإذا بالجنود الفرنسيين يطلقون عليهم الرصاص والرشاشات، وما زلنا نسمع أصوات الاستغاثة والأنين وإذ بخمسة من رجال الدرك يدخلون إلى القبو حيث نحن موجودون من النافذة الخلفية، وقد شوهدوا من قبل الجنود الفرنسيين فاتجهت أنظارهم إلينا وأخذوا يطلقون نيران أسلحتهم وكانت ذخيرتنا قد نفدت وطلب منا قائد الحامية الفرنسية الخروج فخرجنا رافعين أيدينا إلى الأعلى فتقدموا منا وأخذوا ينحروننا ويفتشوننا وكانوا يأخذون الأشياء الثمينة كالساعات والخواتم والنقود وغيرها وحاول أحد الجنود أن يخرج خاتماً من إصبع أحد الدرك فلم يستطع إخراجه فما كان منه إلا أن ضربه بساطور على مفصل إصبعه فقطعه وأخرج الخاتم وصاح الدركي من الألم وللحال ضربوه بالرصاص من الرشاشات وما زلنا ننتظر مصيرنا حتى فرغوا من تفتيشهم، وصفونا نحن الثمانية: أربعة من الشرطة وأربعة من الدرك، صفاً واحداً وأخذوا يطلقون الرصاص من بنادقهم وسقطنا جميعاً على الأرض وكانوا يضربون كل فرد يتحرك إذا وجدوه لا يزال حياً.

ضحايا المجزرة

وكان نصيبي من هذه الرصاصات رصاصة دخلت في ثديي الأيسر وخرجت من ثديي الأيمن وأخرى في خاصرتي والثالثة في يدي حطمت عظم مشط الكف وحين حركت رأسي ضربني أحد الجنود السنغال على رأسي محاولاً قطعه فأصابني في أنفي وأخذ الدم يسيل على وجهي وحين حركت يدي من دون شعور داس أحدهم عليها بحذائه العسكري فلم أعد أتحرك أبداً وضربني ضربة أخيرة من بسطاره على رأسي لكي يتأكد من موتي وبقيت محافظاً على وعيي الكامل على الرغم من كل هذه الإصابات التي أصبت بها وذلك حفاظاً على حياتي.

وتوجهوا إلى المفوض السيد سعيد القهوجي فقطعوا يده ورجله وفقؤوا عينه فتوفي في الحال كما قام الجنود بربط أحدهم في شباك البرلمان وأخذوا يضربونه بالحراب في كل أنحاء جسمه حتى فارق الحياة، ثم دخلوا إلى مبنى المجلس فوجدوا السيد عبد اللـه برهان ابن حسين باش إمام فأخرجوه وسألوه عن بقية الأفراد، فقال قتلتوهم اللـه يقتلكم فصاح الجنود تحيا فرنسا فقال فلتسقط فرنسا فما كان من أحد الجنود إلا أن قطع رأسه بضربة ساطور فتدحرج رأسه على الأرض ونفر الدم على باب المجلس ولا يزال أثره موجوداً، وخطا خطوة ونصف الخطوة من دون رأسه ثم سقط على الأرض وكان بدني يقشعر من هول هذه المناظر الوحشية، ثم تركونا وذهبوا إلى جهة البرلمان اليسرى فلويت رأسي إلى الجهة اليسرى، وشاهد حركتي هذه أحد الجنود فأطلق رصاصة على رأسي ولكن اللـه لم يرد إصابتي فلم تنطلق الرصاصة فتركني وذهب.

وفي نحو الساعة الرابعة والنصف صباحاً جاء بعض الجنود ومعهم سيارة كبيرة وأخذوا ينقلون جثث القتلى من الدرك والشرطة فشعرت أنني بينهم وجثث القتلى فوقي وتحتي وسارت بنا السيارة إلى حيث لا أدري وتوقفت السيارة وأخذوا يلقون الجثث في حفرة كبيرة وحينما وصل دوري بدرت مني حركة، فصاح الجندي هذا حي وألقاني على الأرض، وجاء آخر ومد يده إلى عنقي وحسبته يريد خنقي فصرخت فقال هذا حي حقاً خذوه إلى المستشفى وقال آخر ما فائدة نقله إلى المستشفى؟ وطلب أن يصب عدة رصاصات في رأسي حتى يريحني ولكن اللـه سلمني وذهب صوت الجندي هباء، ونقلت إلى السيارة ثم إلى المستشفى العسكري الفرنسي حيث وجدت نفسي بين يدي الأطباء الدكتور صباغ والدكتور شارل والدكتور بيرقدار وبعدها غبت عن الوعي.

وفي اليوم التالي شاهدت الدركي عبد النبي برنية مضروب برأسه بضربة ساطور وفارق الحياة بعد مدة وجيزة. ثم جاءت سيارة الجيش البريطاني ونقلوني إلى المستشفى الإيطالي، وهكذا استطعت أن أروي قصة البرلمان لأنني الوحيد الذي بقي حياً من هذه المجزرة الرهيبة والعمل الإجرامي من قوم يدعون المدنية وينادون بشعار الحرية».

هذا التقرير محفوظ لدى وزاره الداخلية، ونشر بحرفيته.

شهداء الدفاع عن المجلس النيابي من رجال الدرك والشرطة السورية:

شهداء 29 أيار

شهداء الدرك:

1- وكيل الضابط محمد طيب شربك.
2- العريف برهان باش إمام.
3- العريف طارق أحمد مدحت.
4- الدركي شحادة إلياس الأمير.
5- الدركي خليل جاد الله.
6- الدركي إبراهيم فضة.
7- الدركي محمد حسن هيكل.
8- الدركي يحيى محمد اليافي.
9- الدركي زهير منير خزنة كاتبي.
10- الدركي ممدوح تيسير الطرابيشي.
11- الدركي محمد أحمد أومري.
12- الدركي محمد خليل البيطار.
13- الدركي سعد الدين الصفدي.
14- الدركي ياسين نسيب البقاعي.
15- الدركي زين محمد ضبعان.
16- الدركي عيد فلاح شحادة.
17- الدركي إبراهيم عبد السلام.
18- الدركي أحمد محمد القصار.
19- الدركي جورج أحمر.
20- الدركي محمد عادل المدني.
21- الدركي واصف إبراهيم هيتو.
22- الدركي عبد النبي برنية.
23- الدركي سليمان أبو سعد.
24- الدركي أحمد مصطفى سعيد.

شهداء الشرطة:

1- المفوض سعيد القهوجي.
2- الشرطي مشهور المهايني.
3- الشرطي محمود الجبيلي.

ويضاف إلى هؤلاء الشهيد الدكتور حكمت التسابحجي الذي أصيب وهو يحاول إسعاف المصابين من مبنى المجلس النيابي.

وكي تبقى أسماء أولئك الشهداء الأبطال راسخة في أذهاننا، تم اعتبار يوم 29 أيار من كل عام يوماً خاصاً لتخليد ذكرى رجال الأمن الداخلي الذين استشهدوا في ذلك اليوم الأغر، وجميع رجال الأمن الداخلي الذين تتجلى بطولتهم في ميادين الشرف والدفاع عن الوطن وأبنائه.

جريدة الكفاح
2 حزيران 1945

وقد تناقلت الروايات والشهادات بطولات هؤلاء المدافعين الأبطال، ومنهم وكيل الضابط محمد طيب شربك وكان له من العمر 22 عاماً فقط، حيث ظل يدافع عن البرلمان مع جنوده حتى نفذت الذخيرة، فأمر جنوده أن يقاتلوا بالمسدسات حتى نفذت آخر طلقة منهم. وكذلك فعل الشهيد البطل محمد سعيد القهوجي رئيس قوة الشرطة التي كانت تحمي البرلمان. لقد دخل الفرنسيون مبنى البرلمان المدمر على أجساد هؤلاء الأبطال، وعثر على جثثهم المشوهة لاحقاً في حفرة كبيرة في المزة من بين خمسة وعشرين جثة، ثم بعد ذلك شيعوا إلى مقرهم الأخير في مقبرة بلال الحبشي، وتقديراً لبطولتهم الفائقة وتفانيهم المطلق، خرج سكان دمشق إلى قبورهم وهم يذرفون الدموع وينثرون الورود والزهور إجلالاً لعظمة تضحيتهم. وكان هناك اقتراح بنقل رفاتهم إلى حديقة البرلمان وأن يقام لهم تماثيل أمام البرلمان رمزاً لبطولتهم.

جريدة الكفاح
3 حزيران 1945

في تلك الأثناء راحت المدفعية الفرنسية تقذف المدينة بالقنابل مركزة القصف على قلعة دمشق لوجود قوى الدرك والشرطة فيها، واستمر القصف وإطلاق النار حتى الصباح، وقد نتج عن هذا القصف الشديد هدم العديد من الأبنية ومهاجع السجن في القلعة وظلت الجثث تحت الأنقاض ويقال أن عدد الشهداء من درك ومواطنين وسجناء يزيد عن ثلاثمئة قتيل وأصيب هرانت بك قائد الدرك السوري بجراح كما أصيب القادة عبد الغني القضماني وعبد الرزاق قولي وفخري البارودي بجراح أيضاً ولم تنم عين دمشق في تلك الليلة المشؤومة.‏

جريدة البلد
5 حزيران 1945

مذكرة الحكومة السورية:
وقد أبلغ الاجتماع السري الطارئ للحكومة ممثلي الدول الأجنبية في دمشق المذكرة التالية، التي سلمها إليهم وزير الخارجية:

«أتشرف بأن أطلعكم على التطور الخطير الذي طرأ على الموقف بسبب الاستفزازات المتواصلة الصادرة عن الجنود التابعين للقيادة الفرنسية.

إن الأعمال التي ارتكبها هؤلاء الجنود قد تجاوزت كثيراً درجة العنف التي عرفتها البلاد من قبل، فقد صبت المدفعية الفرنسية نيرانها في مدينتي حمص وحماة فقُتل وجرح الكثيرون، وسددت الرشاشات نيرانها دون انقطاع إلى عابري السبيل في دمشق وحلب، وأفضى استفزاز الأهالي في درعا إلى الاصطدام بالقوات الفرنسية وصبت الطائرات نيرانها على الأهالي، والدماء تسفك في جميع المدن السورية تقريباً، والحكومة السورية ترفع صوتها بأشد الاحتجاج على هذه المجازر التي يصاب بها الأهالي الذين لا ذنب لهم سوى تمسكهم بحرية بلادهم واستقلالها، مناشدةً ممثلي الدول الصديقة أن يشهدوا بالوقائع، وأن يتدخلوا لمصلحة قضية سورية العادلة التي هي في الوقت ذاته قضية الشعوب الديمقراطية والمحبة للحرية.

دمشق في 29-5-1945
وزير الخارجية».

إلا أن الوقت كان قد فات لأي تحرك جدي فقد أعملت آلة القتل والدمار الاستعمارية في دماء وجثث المقاومين الحرق والتمزيق والتشويه، بأبشع طريقة يمكن تخيلها، على يد من ادعوا أن قاتلوا النازية للدفاع عن الحرية والديمقراطية وتحقيق كرامة الإنسان.

تصريح لمطران الأرمن
جريدة البلد 5 حزيران 1945

استمرار العدوان في اليوم التالي، 30 أيار 1945:
مع بزوغ صبيحة اليوم التالي، كان العدوان الفرنسي مستمراً في تدمير مدينة دمشق التي تحول أفقها إلى جحيم، وصبت المدفعية والدبابات والرشاشات حممها على المدينة المسالمة الحرة، فلم يكن يسمع إلا دوي الانفجارات، ودمدمة الرشاشات، واشتعلت الحرائق في كل مكان من المدينة، فامتدت من شارع رامي الذي التهمته النيران بأكمله، إلى المرجة التي احترقت حوانيتها ومكاتبها، وفي ناحية أخرى كان شارع النصر قد شاعت فيه النيران التي وصلت إلى جامع دنكز، وشب حريق كبير آخر في زقاق المغسلة وامتد إلى شارع فؤاد الأول حتى بوابة الصالحية كذلك شبت النار في العصرونية وسوق الخياطين فالتهمت عشرات المخازن والحوانيت وبعض الكراجات على ضفة بردى عند بداية طريق بيروت ودمرتها بالكامل.

الليلة الثانية من العدوان:
لم تنم عين دمشق في الليلة الثانية من العدوان، وقد بدأ نزوح الأهالي من الأحياء التي يكثر فيها القصف والحرائق تحت جنح الليل إلى الأحياء البعيدة وبعض قرى الغوطة، حيث استقبلهم أبناء بلدهم بالترحاب محاولين التخفيف عن مصابهم العظيم، كما عملت الجمعيات الإنسانية والطبية كجمعية الهلال الأحمر وطلاب كلية الطب على نقل الجرحى إلى المستشفيات التي لم تسلم هي بدورها من الاعتداءات الدنيئة، فيما تعرض المسعفون والأطقم الطبية إلى خطر الموت، ومنذ ذلك استشهاد الدكتور مسلم البارودي أثناء أدائه واجبه في إسعاف المصابين وكان يرفع علماً أبيض على سيارته، مظهراً مدى الوحشية التي وصل إليها المحتلون.

الفعاليات السياسية الوطنية في مواجهة العدوان:
لقد انخرط الشعب السوري بكافة طبقاته وفئاته الاجتماعية والسورية في رد العدوان والدفاع عن الوطن الغالي، وكان لكل منهم دوره في هذه الملحمة الوطنية الكبيرة، وقد اندفع الساسة السوريون إلى مقاومة العدوان بوسائلهم السياسية والدبلوماسية، وبما يتمتعون به من إمكانيات تنظيمية ومادية.

فقد استدعى رئيس الجمهورية آنذاك شكري القوتلي الذي كان يتعافى من مرض أصابه ممثلي الدول الكبرى وأبلغهم بأنه سينزل إلى الشوارع على نقالة ليستشهد مع أبناء شعبه إذا لم تتحرك دولهم لإيقاف هذه المجزرة المروعة، كما رفض عرضاً من السلطات البريطانية بأن يذهب تحت حماية الدبابات البريطانية إلى الأردن، وقال للسفير البريطاني: «سأموت مع شعبي هنا في دمشق»، وقد نقل السفراء والدبلوماسيون كلامه وطلباته إلى حكوماتهم.

أما رئيس مجلس النواب سعد الله الجابري فقد غادر البرلمان بعد إلغاء الجلسة وذهب إلى فندق الشرق حيث يقيم، وفور وصوله استهدف الفرنسيون الفندق بنيرانهم بغية اغتياله، إلا أن وجود بطريرك موسكو والاتحاد السوفييتي أنقذه من موت محقق، إذ جاء السفير السوفييتي لأخذه من الفندق وأوصله إلى الحدود اللبنانية، ومنها تمكن من الوصول إلى بيروت، حيث فضح العدوان الفرنسي وأعلم العالم بما يجري، ومن هناك غادر إلى مصر حيث طالب بعقد اجتماع طارئ لجامعة الدول العربية.

جريدة البلد
10 حزيران 1945

وكان الوزراء والعديد من النواب قد غادروا إلى دار الحكومة (السراي) في ساحة المرجة، حيث استهدفهم جنود الاحتلال المتمركزون في شارع النصر بالقنابل والرصاص، وقد استبسل رجال الشرطة والدرك في الدفاع عن مقر الحكومة وردوا عدة موجات من الهجوم لاحتلال السراي، ومع مجيء الليل، استطاع الوزراء والعديد من النواب مغادرة مقر الحكومة بحماية رجال الدرك السوري واللجوء إلى دار السيد خالد العظم في سوق ساروجة حيث الأزقة ضيقة ولا تسمح بتقدم العربات الفرنسية، لكن قوات الاحتلال أمطرت المنطقة بقنابلها وأصابت عدداً من الدور القريبة في حي السمانة، حيث مات جميع من كان في هذه الدور وتناثرت أشلاؤهم بتأثير ضرب القنابل وكذلك أصيبت بعض الدور في حي العمارة، وقتل قاطنوها.‏


سورية ترد على العدوان:
اندلعت أعمال المقاومة في جميع أنحاء سورية ترد على العدوان الفرنسي الشرس، فشهدت أنحاء سورية بشمالها وجنوبها وشرقها وغربها أعمالاً بطولية عظيمة، فقد هزمت القوات الفرنسية في حوران وجبل العرب، كما أظهرت حماة مقاومة ضارية وأوقعت الهزيمة بالقوات الفرنسية وتمكنت من قتل قائدها والكثير من جنودها وأسرت العديد منهم وتم إسقاط طائرتين حربيتين، وفي دير الزور حوصر الفرنسيون في ثكناتهم وهاجم أفراد الشعب كافة المراكز العسكرية في المدينة ودمروها، وكذلك في حلب واللاذقية، كما التحق حوالي 70 % من ضباط القطعات الخاصة و40 % من الجنود بقوى الدرك الوطنية وانضموا إلى قوى الشعب.

الخسائر المادية والبشرية‏:
صرح رئيس مجلس الوزراء آنذاك في اجتماع صحفي أن مديرية الصحة في دمشق أصدرت تقريراً رسمياً جاء فيه: أن عدد القتلى من المدنيين بدمشق بلغ 600 شهيد، وأن الجرحى والمشوهين بلغوا 500 جريح، والذين أصيبوا بجراح يمكن معالجتها بلغوا 1000 جريح، وهناك 120 شخصاً من الدرك بحكم المفقودين أما الخسائر المادية فهي جسيمة جداً.

المظاهرات في بيروت بعد أحداث أيار

التداعيات الدولية، التدخل البريطاني لوقف العدوان:
بتاريخ 31-5-1945، أبرق رئيس الوزراء البريطاني تشرشل إلى الجنرال ديغول يطلب منه إصدار الأوامر لقواته بوقف إطلاق النار، وأبرق في نفس الوقت إلى الجنرال باجيت القائد العام البريطاني يأمره باستلام القيادة العليا في الشرق، وإنذار الجنرال الفرنسي بينيه بأن كل عمل عسكري يجب أن يتوقف وأن على القوات الفرنسية الانسحاب فوراً إلى ثكناتها. وقد نصت البرقية التي أرسلها الرئيس تشرشل إلى الجنرال ديغول على ما يلي: «بالنظر للحالة الخطيرة التي آل إليها الأمر في سورية ولبنان، وبالنظر للقتال الدامي، وللحيلولة دون إراقة دماء أخرى، فقد اتخذنا هذه الخطوة حرصاً على الأمن في ربوع الشرق الأوسط كله، وتحاشياً لأي اصطدام بين القوات الإنكليزية والفرنسية، نطلب إليكم أن تأمروا الجنود التابعين لكم التوقف عن إطلاق النار في الحال».

الدبابات البريطانية في شوارع دمشق

بعد ذلك وصلت القوات البريطانية من البقاع في لبنان، واستلم الجنرال باجيت القيادة الفعلية وأبرق إلى لندن يقول: «لقد أبيحت المدن للنار والنهب وإن عمل القوات الفرنسية والسنغالية هو تخريب اعتباطي»، ووصل المستر ألن شو وزير بريطانيا المفوض والجنرال البريطاني باجيت ترافقهما أربع مصفحات بريطانية ضخمة إلى منزل رئيس الجمهورية شكري القوتلي، وجاء إلى المنزل أعضاء الوزارة السورية وبعض النواب لاستلام الدوائر السورية ورفع العلم السوري على بناء البرلمان، وخرج الأهالي بمظاهرات رائعة مشت في الشوارع الرئيسية وهم يهتفون للعدل والحرية والاستقلال، واخترقوا أسواق العاصمة وهم يلوحون بالأعلام السورية هاتفين بحياة سورية والاستقلال.

وقد بعث الرئيس شكري القوتلي برقية شكر إلى تشرشل يشكره على جهوده لوقف العدوان، ولكن الجواب الذي تلقاه من تشرشل كان مستفزاً وخالياً من اللباقة، حيث قال: «الآن وقد أتينا لمساعدتكم، لا تجعلوا مهمتنا أكثر صعوبة بسبب الغضب والمغالاة، إن الفرنسيين يجب أن يعاملوا بالعدل ونحن البريطانيين لا نريد شيئاً مما تملكونه إلا الاعتدال»، وقد ذهب تشرشل إلى أبعد من ذلك في برقيته لرئيس الوزراء العراقي، حيث قال فيها: «لقد أنقذناهم من خطر عظيم وهم يقولون أن هذا واجبنا، إن نظرتهم المتهورة هذه يجب أن تناقش، ليس من واجبنا حفظ الأمن في وسط هذه الزمرة المشاغبة، بل يجب أن نقول لهم : إن السلطة التي خنقت الفرنسيين يمكن بسهولة أن تستخدم ضدهم فيما إذا وضعوا أنفسهم في موقف من أجل نصرة الشعب السوري»، وكما هو متوقع فإن الاستعمار واحد مهما تلونت أشكاله.

الاجتماع الأول لمجلس الجامعة العربية

ردود الفعل في البلدان العربية، وموقف الجامعة العربية:
في لبنان عمت المظاهرات الصاخبة جميع المدن اللبنانية، وعقد المجلس النيابي جلسة طارئة تبرع فيها النواب برواتبهم لعائلات الضحايا، وأعلنت الأحزاب اللبنانية الإضراب خمسة أيام احتجاجاً على ما يجري في سورية. وفي مصر كان الاهتمام بالعدوان على سورية عظيماً جداً، وغادرت بعثتان من الهلال الأحمر المصري مصر إلى سورية لإسعاف المصابين والضحايا. وفي العراق عقد المجلس النيابي العراقي جلسة طارئة، وهدد رئيس الحكومة العراقية البريطانيين أنهم إذا لم يتدخلوا لوقف نزيف الدم فإن حكومته سترسل قوات لمساعدة السوريين. وفي الأردن بلغت المظاهرات الصاخبة أوجها في عمان، وقد تعرض السفير الأردني في دمشق إلى إطلاق نار من الجنود الفرنسيين أدت إلى بتر ساقه في درعا، فيما عقدت الجامعة العربية جلسة طارئة في الرابع من حزيران هدفها نصرة سورية.‏

نتائج العدوان:

جرت محاولات عديدة سواء من فرنسا وبريطانيا للإبقاء على المصالح الفرنسية في سورية ولبنان لكنها كانت تقابل بالرفض مع إصرار السوريين على انسحاب جميع القوات الأجنبية من أراضيهم وعدم منح أي امتياز أو وضع خاص لأي قوة مهما كانت، ولما لم يجد الفرنسيون أي أمل في بقائهم قرروا الرحيل لكنهم اشترطوا أن يرحل البريطانيين معهم، وهذا ما حصل بالفعل.

وهكذا اضطرت الحكومة الفرنسية لإصدار بيان في بيروت وباريس بتاريخ 8 تموز 1945 جاء فيه:

«لما كانت الحكومة المؤقتة للجمهورية الفرنسية ترغب في إجابة الطلب الذي تقدمت به الحكومتان السورية واللبنانية فيما يتعلق بتسليم الوحدات العسكرية المتطوعة محلياً، ورغبة منها أن تظهر لحكومتي سورية ولبنان نيتها الطيبة عن طريق إرضاءهما إرضاء تاماً بهذه الوحدات، وبما أن الحرب قد انتهت في أوربا ولم يعد هناك أي اعتراض حول الرغبة المشروعة التي أبدتها الحكومتان السورية واللبنانية بشأن تشكيل جيوش وطنية لها.‏

لذلك نصرح بتسليم هذه القوات إلى الحكومتين السورية واللبنانية وفق تشكيلات ستحدد خلال 45 يوماً على أبعد حد».

وهكذا سلمت فرنسا خلال شهر تموز 1945 جميع الثكنات العسكرية إلى الحكومة السورية.

وفي 22 تموز استلمت الحكومة السورية جميع ثكنات الحميدية والعباسية (الجامعة السورية) باحتفال مهيب، وكان آخر الثكنات المسلمة المستشفى العسكري ومبنى الأركان العامة في الصالحية ونادي الضباط، حيث رفع العلم السوري عليها وأصبح الجيش كله تابعاً للحكم الوطني. وتم تعيين اللواء عبد الله عطفه قائداً لهذا الجيش، وشرع مع رفاقه الضباط أركان الجيش بإعادة تنظيمه من جديد.

وقد تم الاتفاق بين القيادتين في يوم 27 تموز 1945 على نقل مسؤولية الإشراف على القطاعات العسكرية الخاصة إلى الحكومة السورية منذ الساعة صفر من اليوم الأول من شهر آب 1945 الذي كان تاريخ ميلاد الجيش الوطني السوري، ولهذا أصبح اليوم المذكور عيداً للجيش يحتفل به كل عام!‏‏

وقد عرضت قضية جلاء القوات الأجنبية عن سورية على الأمم المتحدة بتأييد من الاتحاد السوفييتي فاضطرت فرنسا وبريطانيا التعهد بسحب قواتهما بالتدريج، وقد تم ذلك في الساعة العاشرة من يوم الخامس عشر من نيسان عام 1946، واحتفلت سورية بهذه المناسبة السعيدة بتاريخ 17 نيسان عام 1946، واعتبر هذا اليوم – الذي سمي بعيد الجلاء – عيداً قومياً تحتفل فيه سورية بذكرى حريتها واستقلالها.

وهكذا حققت سورية الاستقلال التام دون أن ترتبط بأي معاهدة تنتقص من سيادتها، ولم ترتبط إلا بميثاق الجامعة العربية وميثاق الأمم المتحدة، فكان لها السبق على كل الدول العربية في نيل الاستقلال التام.

مصادر:

* 29 أيار رمز خالد للتضحية والفداء، موقع الأبجدية الجديدة، إعداد: محمود شبلي.
* من ذاكرة دمشق 29 أيار 1945، مجلة بانوراما، د. محمد أنور الفرا.
* نحن الشباب لنا الغد، ذكرى 29 أيار، موقع سوريا دوت كوم، محمد عماد حمودة.
* ننحني أمام قامتكم الشامخة ونقول لكم وداعاً، الوطن، شمس الدين العجلاني.
* ذكرى تأسيس الجيش العربي السوري، الوحدة، العميد المتقاعد وليد عاروض.
* التاسع والعشرون من أيار ذكرى العدوان الفرنسي الغادر على دمشق وكافة المدن السورية ماهي قصة العدوان الوحشي الذي كان نهاية الاستعمار الفرنسي لسورية ولبنان ? !، الفرات، العميد المتقاعد وليد عاروض.
* 29 أيار شاهد حي وملحمة بطولية كتب حروفها رجال حامية البرلمان بدمائهم، موقع الأبجدية الجديدة، جمال حمامة.
* قصة الجلاء من الألف إلى الياء، الثورة، الدكتور إحسان الهندي.
* نشأة الشرطة وتاريخها في سورية، تأليف: العميد المتقاعد إبراهيم غازي.

اكتشف سورية

مواضيع ذات صلة: