«2012»: عنوان لمعرض فيه كثير من التجريد

14 أيلول 2011

انطباعات تشكيلية لكل من: مهند عرابي، قيس سلمان، نهاد الترك، أسامة دياب

«2012» .. مهند عرابي، قيس سلمان، نهاد الترك، أسامة دياب .. عنوان المعرض الذي ضمّ أعمال أربعة من مجموعة فناني شباب أيام غاليري، والذي اختارته هذه الصالة ليشكـّل البداية في سلسلة معارضها لهذا الموسم.

إن أهمية هذا المعرض برأيي تكمن في إعادة الحيوية للمشهد التشكيلي السوري في وقت شهدت فيه العاصمة دمشق ومختلف المحافظات منذ فترة غياباً كاملاً لمثل هذا النوع من النشاط، بحيث شكـّل افتتاح المعرض بالإضافة إلى غايته الثقافية، حالة اجتماعية التقى فيها الفنانون من كافة الفئات العمرية ليعيدوا من خلال مناقشاتهم وآرائهم المتباينة في القضايا التشكيلية الراهنة بما في ذلك تجارب الفنانين الأربعة - المختلفة هي أيضاً في وسائل تعبيرها عما يجري اليوم في سورية من أحداث - أن يعيدوا الحيوية للحوار الذي لابد أن يستمر من أجل تطوير تجاربهم ورؤاهم التشكيلية في عالم يشهد مزيداً من التغيير على كافة الأصعدة.

«2012» .. عنوان فيه كثير من التجريد من حيث المعنى، وبعيداً عما تضمنته تجارب التشكيليين العارضين، الذين كانوا بالمجمل تعبيريين أكثر, تستند تجربة كل منهم إلى الواقع بأشكال ونسب مختلفة، لابدّ لذلك العنوان أن يشكـّل وبخاصة للتشكيليين الشباب من الذين حضروا المعرض ليعيدوا التفكير فيما ينوون عمله في المستقبل بالنسبة إلى تجاربهم التي تواجه اليوم أكثر من صعوبة تبدأ في فرص العرض ولا تنتهي بأزمة التسويق التي تهدّد استمرار معظم تلك التجارب.


من أجواء افتتاح معرض 2012 بغاليري أيام بدمشق

وجولة سريعة على أعمال المعرض .. نلقي من خلالها بعض الضوء على أحدث نتاج في تجربة كل منهم: التشكيلي مهند عرابي الذي عُرف عنه أسلوبه المميّز في الرسم بخطوط واضحة غالباً ما تعلن عن وجه، هو بالنهاية وبما يعكس من تعبير ليس سوى فصل من سيرة ذاتية لأحلام طفولته هو، والتي قد لا تختلف كثيراً عن أي طفل في هذا العالم بسعادة مؤجـّلة وأمنيات أقل تشاؤماً بالقادم من الأيام، كل هذا وذاك من الأشياء المفترضة لابد نلاحظها في عيون أطفاله التي تلاحقنا بمشاعر يكتنفها الغموض رغم وضوح تعبيرها، وكأنها تحاول الخروج من تلك الكوادر الكبيرة نسبياً في مقاساتها، وربما كانت هكذا لتتسع لتلك الأحلام أو الأمنيات التي كثـّفها الفنان وبمقدرة واضحة في الرسم كما في التلوين الذي يأتي دائماً مدروساً ومكمّلاً للغاية التعبيرية، خدمة للموضوع أو الحالة المُراد إيصالها من وراء هذا الرسم البسيط والمثير للتوتـّر والدهشة أو الانتظار والترقـّب، وهي في صياغاتها تبدو أقرب لمفهوم السهل الممتنع في الأداء، من شدة تكثيف التشكيلي للحدث بأقل جهد وتكلّف وأوضح دلالة بالإيحاء على نفس المربع.

من الأعمال المشاركة بمعرض 2012

لم يشكـّل اللون في لوحات مهند عرابي في هذا المعرض كما في أي وقت هاجساً جمالياً بحدّ ذاته، أكثر منه حالة نفسية ورمزية فلسفية تصعّد من حدة التعبير في شخوصه التي لا جنس محدّد لها عموماً، فجميعها تطلّ من وجوه مدوّرة تشبه بعضها إلى حدّ كبير بشكل الرسم على الأقلّ، وإن تباينت في تعبيرها عن الحالة الداخلية لهؤلاء الصبية في أحيان كثيرة، والتي غالباً ما تساهم خلفية العمل التي تأخذ مساحة لونية واحدة والسوداء بخاصة، كونه يحدّد أيضاً خطوط الوجه وتفاصيله القليلة بنفس اللون مع طبقات شفيفة للون أو أكثر على ما تبقى من الوجه، الذي غالباً ما تضيق به مساحة اللوحة على رحابتها بالعموم.

والتشكيلي مهند عرابي من مواليد دمشق 1977، ماجستير من قسم التصوير في كلية الفنون الجميلة بدمشق، أقام أكثر من ثلاثة معارض فردية، كما شارك في عدد كبير من المعارض والتظاهرات الفنية داخل وخارج سورية، كما حصل على الجائزة الأولى من معرض الشباب العام 2006 بدمشق.

من أجواء افتتاح معرض 2012 بغاليري أيام بدمشق

قيس سلمان .. التشكيلي الذي تخلـّص مبكراً من عباءة التقاليد الفنية الأكاديمية بعد تخرجه من كلية الفنون الجميلة بدمشق مباشرة، ظهر ذلك واضحاً في مشاركته بمعرض الشباب الرابع ونيله الجائزة الأولى منه في التصوير، كان ذلك في العام 2003 حيث كان عمله منفـّذاً بمواد مختلفة حمل انطباعاً تجريدياً من حيث صياغاته التي تجاوزت يومها برأيي مفاهيم الحداثة التي كان يدور الحديث حولها بخجل في ذلك الوقت.

من الأعمال المشاركة بمعرض 2012

إذن من تلك المشاركة الرسمية الأولى له، كانت البداية وكانت الجائزة التي لابد شكـّلت بالنسبة للتشكيلي تحدياً قوياً، دفعه للاشتغال على ذاته الفنية ليحافظ على تميّزه وجدية بحثه دائماً عن المختلف خلال العشر سنوات التالية لتخرجه، حيث سجل فيها نقلات نوعية على صعيد الموضوع الذي تطلـّب صياغات جديدة استعاض فيها عن الكولاج باختلاف المادة المستخدمة، بالإضافة إلى اعتماده تقنية عالية تواكب رؤاه التشكيلية الجريئة، مستفيداً من رمزية الألوان وأدائها التعبيري، مختاراً موضوع المرأة التي ملأت الكادر وهي تعكس خواءها الداخلي من خلال تقمّصها لأنماط غريبة عن جلدتها من اللباس والأزياء تُظهر بعض الوشم على أجزاء من جسدها العاري، حتى لتبدو معظم تلك النسوة وكأنهن يعانين من انفصام في الشخصية من التشوه الكبير الذي أصابهن، وهذا ظهر واضحاً وإن بشكل غير مباشر في رسم بعض التفاصيل والإضافات التي تُظهر هذا التقليد الأعمى للآخر في كل شيء يتعلق بالمظهر الخارجي دون الاهتمام بخصوصية الثقافة والعادات التي لابد ان تحكم بعض تصرفاتهن.

وفي موضوع المعرض كانت لوحات التشكيلي تعكس بعضاً من مشهد الموت اليومي الذي تمارسه تلك العصابات المجرمة بحق المواطنين الآمنين، مستضيفة بذلك نفس الشخصيات بهلوساتها وبنبرة عالية أظهرت ذلك الخواء في الشخصية التي أرادها الضحية في لوحة فاضت بالأحمر، وفي تالية كانت القاتل بحملها لمنجل بيدها، وقد بدت مظاهر الحقد واضحة على وجه تجاوز في توصيفه حدود البشاعة.

قيس سلمان قدم رؤيته التشكيلية فيما يخصّ اشتغاله، ومن خلال نفس الشخصيات التي اعتاد توظيفها في كوادر ربما عكست أكثر ما أراد الفنان التعبير عنه حول ما يدور حوله من أحداث، وبصياغات وفـّقت بين رمزية الأوان والمباشرة في عرض الشكل الذي حضر قاسياً ومؤثـّراً، يفيض بالمشاعر المختلفة التي تصدم المتلقي من شدّة واقعيتها التعبيرية.

من أجواء افتتاح معرض 2012 بغاليري أيام بدمشق

التشكيلي نهاد الترك المشارك الثالث في معرض 2012 ضمن مجموعة شباب أيام غاليري، حيث عرض أربع لوحات بمساحات كبيرة من جديد تجربته، وإن لم تختلف كثيراً عن الذي نعرفه عنها من جرأة وحرية وخيال، إلاّ أن ما قدمه اليوم كان هاماً من حيث حلولها التشكيلية التي اعتمدت على مهارات التشكيلي التقنية التي ربما بدت أكثر غنىً في مشاهده الأربعة هذه على اختلاف موضوعها، وهذا الجانب الذي غالباً ما يحتل الأفضلية في لوحات التشكيلي الترك، يعتبر برأيي ميزة دفعت بلوحات التشكيلي خلال فترة قصيرة نسبياً إلى أهم صالات العرض في المنطقة والعالم، كما ساهمت بشكل أساسي في بناء الثقة بهذه التجربة التي باتت اليوم تتمتع بمقومات الخصوصية المُميِّزة لصياغات التشكيلي منذ فترة ليست قصيرة، جعلت من لوحاته حالة خاصة تعكس ذاته الفنية وتطلعاته وتحقق بعضأ من أحلامه الصغيرة.

من الأعمال المشاركة بمعرض 2012


أهم ما ميّز أعمال التشكيلي نهاد الترك في هذا المعرض الجماليات المتزنة والتي أصبحت تمتلك من القيم التشكيلية ما يجعلها تتجاوز حالة التزيين، لتعوض بذلك عن ضرورة الشكل والمضمون المباشر وإن احتوت مفردات غاية في البساطة مستفيداً من تحويرها أو إعادة صياغاتها بالكامل للتحول إلى أشياء تجريدية غريبة، ولكنها تبدو بالعموم لطيفة ومثيرة للدهشة، تدغدغ بصيرة المتلقي ليتواصل معها روحياً قبل أن يتعرف عليها مادياً، وهذه الحالة في الفن تقترب من الصوفية «وإن عن غير قصد» التي غالباً لا يدركها العديد من المصورين على الرغم من شهرتهم.

التشكيلي نهاد الترك - الذي أقام خمسة معارض فردية بين العام 1999و2007 قبل أن ينضم إلى مجموعة «شباب أيام غاليري»، هو وإلى اليوم مازال ملوّناً أكثر منه رساماً، وهذه الميزة قد لا يكون لها علاقة مباشرة بكونه تعلـّم الفن بنفسه وباجتهاده، بل إرضاءً لهواية تحوّلت بالممارسة إلى حب وغواية لونية متفرّدة، وهذا ما ساهم بتأكيد وقوفه واثقاً أمام لوحته مبتِكراً لها تكوينات غرائبية تعكس من شكلها كثيراً من الخصوصية التي تستند إلى الخيال والأسطورة وحكايا الأقدمين حول الجنّ وحواراتهم المفترضة مع الإنسان فيما يخصّ أحلامه وكوابيسه التي حالت دون التمييز أحياناً بين الخير والشر، هذين النقيضين الأساسيين الذين قامت على أساسهما معظم فلسفة الأديان عبر العصور، لذلك تحضر شخصيات التشكيلي مثل مسوخ تنهض من وسط المشهد وكأنها خيالات لتلك المخلوقات على جدار الذاكرة الذي يمثل هنا سطح اللوحة باختلاف المادة الحاملة للألوان وكل هذا القصّ والثرثرة البصرية العالية في نبرتها، والتي تصل إلى المتلقي على شكل ارتدادات وردود فعل سلبية سريعة أحياناً في تلك اللحظة من المشاهدة بما يساهم بالتقاط الفكرة والتفاعل معها كل بحسب ثقافته ووعيه ومعارفه لتصل المتعة البصرية بسبب غنى العمل التشكيلي والتقني إلى كل المتلقين، وهذا يعود إلى افتنان التشكيلي ذاته بالعمل الذي يظهر واضحاً من الصياغة المتأنية، بعد فوضى ومزاج لا يؤثر على معرفته متى وكيف يرتـّب هذه الفوضى بما فيها تقنيات اللصق والإضافة ببعض المواد كورق المجلات والتي يصعب تمييزها بعد معالجتها لتدخل ضمن نسيج اللوحة بما يغني العمل ويزيده تألـّقاً وسحراً ودهشة.

من أجواء افتتاح معرض 2012 بغاليري أيام بدمشق

أسامة دياب المشارك الرابع في معرض 2012 لغاليري أيام بدمشق، وهو من الذين حقّقوا حضوراً طيباً في حركة التشكيليين الشباب، حيث عُرف بتميّز شخصيته الفنية المرتبطة أكثر بصياغات لوحته وتعدّد وسائل تعبيره، بالإضافة إلى تنقلاته النوعية في الأساليب والأشكال الفنية التي اعتدنا تقلّباتها في تجربته عموماً، وهو تشكيلي فلسطيني من مواليد دمشق ومقيم فيها، حصل على الجائزة الأولى في التصوير من معرض الشباب الخامس 2004 بدمشق، كما عُرف التشكيلي بنزقه في التعبير عن أفكاره وهواجسه وتطوّر تلك الأفكار وفرزها لموضوعات جديدة ولحظية بحسب الزمن وما يرافقه من أحداث سياسية واجتماعية تستفزّ مشاعره وأحاسيسه التي لابد أن تلبي رغباته في الحياة والتي يعتبر اللوحة هي المساحة الأكثر رحابة فيها، لذلك غالباً ما نلاحظ أشكالاً ورسومات بسيطة في خطوطها تلتقي مع مفهوم الأطفال للرسم والعبث بالألوان، وهي بالنهاية أشياء نصادفها في الشارع والبيت وصولاً إلى حالة الحلم، وهذه جميعها تشكل جزءاً من خيال التشكيلي وعبثه الجميل والواعي لما يحصل أو قد ينضج تباعاً على سطح لوحته التي تنتشي بالرمز وتفيض بالدلالات، وإن اقتضى الأمر منه أحياناً أن يضع بعض الكلمات الغير مفهومة للوهلة الأولى، هي بالنسبة له قد لا تعني أكثر من خربشات تضيف إلى غرافيك اللوحة غناً وحيوية، ولكنها بالنتيجة ربما تضيف للمتلقي من خلال ربطها ببعض الرسوم أو الرموز معاني تقرّبه من القصد أو الغاية التي أرادها التشكيلي من كل هذا الحشد في المفردات والتي يمكن التعرف إليها من أي اتجاه في اللوحة وباختلاف ثقافة المتلقي ووعيه التشكيلي.

من الأعمال المشاركة بمعرض 2012

التشكيلي أسامة دياب يقدم اليوم في معرض 2012 رؤية جديدة للأحداث التي تحيط بعالمه وما يدور منها في المنطقة العربية، استخدم لغة تشكيلية سهلة من حيث إيصال الفكرة التي قصدها وهي الدور الأمريكي وأدواته المتنوعة والمدهشة ببساطتها من أجل الاقتتال فيما بين الشعوب، كان أسلوبه في الطرح يحمل فلسفة واقعية ومباشرة استفاد من خبرته الأكاديمية لتقديم مجموعة من الأشخاص دون الاهتمام بجنسهم، ملثمون يشتبكون فيما بينهم بالأيدي وكأنهم يمثلون مشهداً درامياً على خشبة المسرح، إنها اللوحة وبامتياز تمثّل مسرح الحياة الذي يضمّنا جميعاً، ولكن لابدّ برأيه من الانتباه إلى خطورة الأدوات التي نستخدمها أو نهدّد بعضنا من خلالها والتي تحوّلت اليوم إلى أدوات من القتل الحقيقي التي أرادتها أمريكا لتكون وسيلة للاختلاف والإلهاء عن حقيقة ما تخطط له لضمان أمن الكيان الصهيوني ومصالحها في المنطقة العربية.

يمكن اعتبار لوحات أسامة دياب في هذا المعرض بمثابة بيان سياسي أراد من خلاله التنبيه إلى المشكلة وبصياغات بصرية لطيفة ومؤثـّرة، وبأسلوب أقرب إلى الواقعية في شكله وإلى الرمزية في مضمونه وإلى الحلمية في ألوانه ومباشرته.

هذا المعرض «2012» .. يعتبر بمثابة الوثيقة البصرية الصادقة، أو يمكن اعتبارها شهادات حقيقية لأربعة من التشكيليين الشباب المميزين باجتهادهم وحيويتهم، تراوحت تلك الآراء في مدى شدة تعبيرها بين تشكيلي وآخر، حول انطباعات كل منهم على حدا، بعد ركود أو هدوء شهدته العاصمة دمشق للنشاط التشكيلي في فترة الصيف الذي جاء مختلفاً على المشهد السوري هذه المرة ثقافياً واجتماعياً وسياسياً نتيجة الأحداث التي عاشتها المنطقة العربية وسورية مؤخّراً.


غازي عانا
تصوير: عبدالله رضا

اكتشف سورية

Share/Bookmark

مواضيع ذات صلة:

صور الخبر

من أجواء افتتاح معرض 2012 بغاليري أيام بدمشق

من أجواء افتتاح معرض 2012 بغاليري أيام بدمشق

من أجواء افتتاح معرض 2012 بغاليري أيام بدمشق

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق