أبو فراس الحمداني
04 شباط 2013
المحتويات
.
مقدمة:
يعدُّ أبو فراس الحمداني واحداً من أبرز الشعراء العباسيين الذين اتسمت قصائدهم بالرقي الجمالي، وهو شاعر وجداني من الطراز الأول، ولاسيما في رومياته التي امتزج فيها ذلك الرقي بالحزن والأسى.
له ديوان من الشعر الجيد، العذب الأنغام، المألوف الألفاظ، الذي يسجل تاريخ حياته ويصور فروسيته ويفخر بمآثره، ويحتوي ديوانه أشهر الفنون الشعرية التقليدية المعروفة إلا المدح التكسبي، وما كان بحاجة إلى التكسب في شعره لأنه كان أميراً كما كان ابن عم الأمير الذي تقصده الشعراء من كل حدب وصوب.
شعره من النوع الوجداني الرقيق الذي تجاوز فيه تجربته الشخصية الأليمة، كفارس عربي، فذاق في أسره مرارة السجن، فأرسل صرخة ضمنها أعمق المشاعر الإنسانية وأنبلها مقصداً وأقدرها على استثارة النفس في توقها إلى الحرية، فاستحق معها مرتبة الشاعر الخالد، إذ لا تزال الأجيال العربية المتعاقبة ـوستبقى ـ مرردة رائعته الغنائية الوجدانية:
أقولُ وقد ناحت بقربي حمامة ..|.. أيا جارتاه هل تشعرين بحالي
ولادته وأصله:
هو أبو فراس الحارث بن أبي العلاء سعيد بن حمدان بن حمدون الحمداني، عربي يعود نسبه إلى قبيلة تغلب من ناحية عمومته تلك القبيلة المليء تاريخها بالفروسية والفرسان.. وبالمآثر والأمجاد والتي أنجبت روائع الفرسان من أمثال السَّفاح التغلبي وكليب والزير سالم وعمرو بن كلثوم.. وغيرهم كثير، وإلى تميم من جهة خؤولته، وهو فارس أسرة بني حمدان وشاعرهم والتي لها الإمارة في الشام ولها الصدارة بين العائلات، ولد هذا الغصن الوارف سنة 932م-320هـ بالموصل وكني بأبي فراس لأن العرب كانت تتوسم فيه الشجاعة والبطولة، وقد قيل قتل والده وهو طفل صغير لم يبلغ الثالثة من عمره، على يد ابن أخيه ناصر الدولة صاحب الموصل، وأخ سيف الدولة لأنه زاحمه على ولاية الموصل، فعاش يتيماً برفقة والدته الرؤوم فكان شديد التعلق بأمه، وباراً لها، ثم ما لبث أن احتضنه ورباه ابن عمه وزوج أخته سيف الدولة علي بن حمدان رأس الدولة الحمداني، فأحاطه بالعطف والحنان والرعاية التامة، وهيأ له الأرض الخصبة لينشأ فارسا وأميراً وشاعراً، وعن هذه الأسرة قال الثعالبي صاحب كتاب يتيمة الدهر 1/27 «كان بنو حمدان ملوكاً وأمراء أوجههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة، وأيديهم للسماحة، وعقولهم للرجاحة».
نشأ أبو فراس في رعاية ابن عمه سيف الدولة الذي ضمه إلى عائلته وحمله معه إلى بلاطه في حلب، حيث اتصل بالعلماء والأدباء فأخذ عنهم. وتدرب على الفروسية والقتال، فرافق ابن عمه في غزواته وحارب الروم، وأخضع القبائل الثائرة، مما جعل سيف الدولة يثق به فيوليه إمارة منبج وهو في السادسة عشر من عمره. وكانت هذه الإمارة أخطر ثغر من ثغور الدولة الحمدانية وأسهل طريق ينفذ منه البيزنطيون إلى بلاد الشام، فسهر عليها يدفع عنها أطماع الروم، ويرد عنها غارات القبائل التي ثارات على الحمدانيين بفعل دعاية القرامطة، ونخالها مهمة خطيرة تحملها الأمير الصغير في منبج، وكان أهلا لها بفضل ما تحلى به من أخلاق سامية، وآداب رفيعة وذكاء ثاقب، وحنكة سياسية رصينة، كيف لا وقد واجه البيزنطيين؟ وأظهر شجاعة لا مثيل لها، وفي ذلك يقول:
ديارهم انتزعنا عناها اقتسارا ..|.. وأرضهم اغتصبناها اغتصابا
ولكن النصر الذي حالف أبا فراس في حروبه خانه ذات يوم فوقع أسيراً بين أيدي الروم الذي ساقوه إلى خرشنة ثم إلى القسطنطينية، وهناك طال أسره.
أسره:
أسر أبو فراس، فاختلفت الروايات حول السنة التي أسر فيها، وعدد المرات، فابن خلكان يروي أن أبا فراس أسر مرتين، المرة الأولى كانت سنة 348هـ وقع فيها جريحا، فأخذ إلى خرشه في مغارة الكحل وهي قلعة ببلاد الروم يجري نهر الفرات بجانبها ويقال أّنه أخذ فرساً في القلعة وقفز به من أعلى الحصن إلى النهر، هذا ما أورده ابن خلكان ودائرة المعارف الإسلامية 1/,387.
والمرة الثانية سنة 351هـ إذ خرج أبو فراس للصيد مع صُحبته في مكان قريب من "منيح" فشبت معركة عنيفة سقط فيها الأمير جريحا أصابه سهم بقي نصله في فخذه، فحمل إلى خرشنة ثم إلى القسنطينية.
بينما يروي بن خالوية أن الشاعر أسر مرة واحدة وكانت سنة 351هـ ويؤيد هذا الرأي الثعالبي وهذا هو المتفق عليه بحكم معاصرتها له، فلو أسر قبل ذلك.. وخلَّص نفسه بتلك الطريقة الأسطورية لذكر هذا في شعره وفخر به فخراً شديداً، ولذكره الثعالبي أيضاً فقد كان شديد الاعجاب ببني حمدان عامة.. وأبي فراس خاصة.
لقد عزّ على الشاعر أن يعيش بعيداً عن أهله وخلانه، فراح ينظم أشعاراً تترجم مآسيه وجراحه النفسية سميت بـ"الروميات" نسبة إلى الروم و"الأسريات" نسبة إلى الأسر وتقدر مدة الأسر زهاء أربع سنوات.
وكانت سنوات أسره كفيلة بأن تنقل لنا وقائع الفارس، المقيد، والأمير الأسير، والشاعر المغترب زين بني حمدان الذي يجمع بين قسوة السيف ورقة القافية بين أبهة الإمارة وذلّ الأسر، فلم يجد الشاعر من سلوى وهو رهين المحبس، فاقد الأهل. معذب الفؤاد، آمل الفداء إلا شذوه الحزين الذي صور فيه نفسه وواقعه، معبرا عما كان يختلج في ثنايا أحشائه، وطيات وجدانه من مشاعر صادقة لاشك في ذلك.
لقد كان لأسره أثر إيجابي على شعره وأدبه، فرقّ شعره في الأسر وزاد فيه الأسى، والنوح، والعذاب والحزن، وإن كل ما بقى لأبي فراس من الشهرة والصيت في كتب الأدب والتواريخ لا يرتبط بأنه كان بطلاً فارساً أو قائداً يسوق الجيوش في الحروب والمعارك، بل بقي لأنه كان شاعراً من كبار شعراء العرب وبني حمدان، وطارت شهرته في الآفاق حتى قال عنه صاحب بن عباد: «بدأ الشعر بملك وختم بملك»، بمعني امرء القيس وأبا فراس الحمداني.
لماذا تأخّر سيف الدولة في تحريره؟
تباطأ سيف الدولة في تحرير أبو فراس لأّنه من جهة لم يكن يريد أن يفديه لقاء إطلاق سراح ابن أخت ملك الروم، مدعيا أّنه يرغب في افتداء أسرى المسلمين دفعة واحدة ومن جهة أخرى كثرة الشامتين والحساد الذين كانوا يمقتون الشاعر، فأحبوا أن يبقى في أسر الروم.
علم سيف الدولة أن أبا فراس فارس طموح، فخاف على إمارته منه، فعلى الرغم من أن أبا فراس كان مطيعاً له، إلا انه كان ذا طموح واعتداد شديد بنفسه، يقول لسيف الدولة وهو أميره:
بنا وبكم يا سيف دولة هاشم ..|.. يطول بنو أعمامنا ويُفَاخر!
فيقدم نفسه على أميره، ولهذا أراد سيف الدولة أن يحطّ من قدره وأن يكسر شوكته ويخذله ويذلّه بإبقائه أطول فترة ممكنة في الأسر، فقام بمساواته مع باقي الأسرى، رغم أنه ابن عمه، وله صولات وجولات في الكرم والدفاع عن حدود الدولة وخدمة سيف الدولة الحمداني.
سقوط الفارس في ساحة الميدان:
عانى الشاعر كثيراً وطلب الفداء أكثر من مرة، غير أن الأمر طال حتى سنة 354 هـ بتحديد ابن العديم ولم تدم حياته بعد الأسر طويلاً عندما حاول ردّ اعتباره واستعادة مجده لكنّ يد الموت كانت أطول، فسقط شاعرنا في معركة غير متكافئة سقط فيها، ومات وهو يلفظ الشعر الصادق، فهو لم يكن يكتب الشعر للتكسّب مثل شعراء العصر العباسي.
فبعد أن توفي سيف الدولة (967) م خلفه ابنه أبو المعالي سعد الدولة، وهو ابن أخت الشاعر، وكان أبو المعالي صغير السن فجعل غلامه التركي فرعويه وصياً عليه.
وعندها عزم أبو فراس الحمداني على الاستيلاء على حمص، فوجّه إليه أبو المعالي مولاه فرعويه، فسقط الشاعر في أوّل اشتباك وكان ذلك يوم الأربعاء الثامن من ربيع الأول سنة 357ه الموافق الرابع من نيسان سنة 968 م وهو في السادسة والثلاثين من عمره.
وهكذا نجد أنّ رأي سيف الدولة الحمداني فيه كان صادقاً وفي محله، فقد كان أبو فراس الحمداني طموحاً الأمر الذي جرّ عليه الويلات.
شاعرية أبو فراس:
تفتّقت شاعرية أبي فراس منذ صباه، فنظم الشعر مبكراً، وبرزت إرهاصات النضج الفني في شعره ولا فرق في ذلك، فقد كانت الأرضية مهيأة لتخلق منه شاعراً أصيلاً، يتمه وهو صبي وعناية أمه به، ونشأته في بلاط الأمير، ونسبه العريق وبيئته وموهبته وأسره... كّلها عوامل كانت كفيلة ليصبح أبو فراس أشعر الشعراء، على الرغم من أن الشاعر لم يشأ أن يكون شاعراً لغرض مدح الأمراء وكثيراً ما نفر أميرنا من لقب المستجدين، فقال بعد أن بين أنه ينظم الشعر في مفاخره ومفاخر أبائه، وأّنه في نفسه غاية لا وسيلة، وبلسماً يداوي به كلومه وقد أغناه الله عن السؤال بعزة الملك، ونعيم الدولة، فلم يصطنع المدح ولا الهجاء وإّنما مدح قومه من باب الفخر يقول:
نطقت بفضلي وامتدحت عشيرتي ..|.. فما أنا مداح ولا أنا شاعر
والحق يقال، أن الشعر في الأمراء صفة ثانوية لا يعول عليها ولكن أبا فراس انفرد بشعره ليكون لسانه الفصيح وترجمانه البليغ في كلّ الميادين وإلا كيف يعبر عن فخره بنفسه وقومه ومديحه لسيف الدولة الحمداني ورثائه لأمه والكثير من أحيائه وغزله ووصفه لربوع البقاع التي عاش فيها والطبيعة التي كانت تحيط به بنوعيها الصامتة والحية ومجالس الأنس والترف... ولا غرابة في ذلك فهو الأمير والأسير في نفس الوقت بقدر ما عاش رغد الحياة عاش كذلك جور الزمن وجفاء الخلان... وهي ازدواجية قلما نجدها في الشعر العربي ولعل الحديث سيقتصر على الفترة التي قضاها وهو رهين الأسر لأنها فترة تستحق الوقوف، وتختلف جذرياً من فترات الحرية التي عاشها الأمير وتمتع فيها برغد الحياة، فمرحلة الأسر هذه تشد الانتباه وتثير التساؤل لما تميزت به من أهوال ومآسي، وكلوم، تتخللها عواطف القوة واللين.
بلغت روميات أبي فراس، زهاء خمس وأربعين قصيدة ومقطوعة، صور فيها حالة أسره ونفسيته المنكسرة وآلامه وجراحه، وحنينه إلى أهله وأمه، وطلب الفداء من سيف الدولة، وعتابه إلى بعض أصدقاءه، وافتخاره بماضيه، فكانت أشبه بسجل عّذاب وديوان نفس بائسة متمردة تعيش القلق، والانتظار، وتحب الحرية شأنها في ذلك شأن بقية المخلوقات.
وبهذا استطاعت أن تتميز عن باقي الأشعار، وتضع لنفسها طابعاً فريداً وذوقاً خاصاً يتلذذها القارئ والسامع معاً، ونالت رومياته شهرة واسعة جعلت الأدباء يتحدثون عنها بإسهاب كبير فقد روي ابن خالوية «بأن أبا فراس نفح الشعر العربي برومياته التي نظمها، وهو أسير بلون عاطفي لم يعرف من ذي قبل، يرشح بصدق الإحساس، والتصوير الواقعي، والشكوى والتألم، وهذا اللون هو الذي ضمن له الخلود الأدبي»، واعتبرها القيرواني «قصائداً لا تناهض ويصعب الإتيان بمثلها»، ولا عجب في ذلك، فلقد كان الألم ينطق الشاعر، بل ينطق الأمير الأسير، فيرسل أشعاراً عذبة رقيقة تتنازعها عواطف شتى، عاطفة افتخار وإجلال، وعاطفة اعتصام وآمال وعاطفة شكوى وآلام ولهذا جاءت متسمة بالشعور الأليم والحنين إلى الوطن، وقد لا يستطيع ناثر أن يشرح ما فيها من العواطف فهي من أرق أشعار أبي فراس، وقد مهرت الأدب نوعا مميزاً من الشعر الوجداني.
ولم يكن وصف الأدباء لروميات أبي فراس من باب المجاملة أو المبالغة، وإنما هي الحقيقة، فقد عبر الشاعر عن نفسه التواقة إلى الحرية والسكينة، خالية من الأميال الحادة الجبارة، لأن الألم لم يضعف منها بل زادها إباء وصبراً وجمالاً وإن هو اتخذ التغني كوسيلة للتعبير عن جراحه فهو غاية في حدِّ ذاته يحمل دلائل الصبر على البلاء، والاستعطاف لأجل الفداء، والحنين إلى الأم والأحباء، والتفريج عن عقدة الأهواء.
كان إذن صادقاً في تعبيره، مستجيباً لسجتيه، مسترسلاً في أقواله ويشهد له بجودة رومياته وما اشتملت عليه من صدق العاطفة، وإيحاء الألفاظ، ورصانة الأسلوب، وحسن السلوك، وهي الخصائص التي جعلته يستوي عرش الوجدانيات، ويحتل مكانة رفيعة بين شعراء العصر العباسي، أو كلّ العصور ولعّلها عوامل تضافرت لتخلق هذا النَفس المُميز وهذا اللون الرائع من الشعر العربي الأصيل، اللون الباكي الحزين، وقد يكون هذا الحزن والأنين من جراء الأسر هما اللذان ضمنا خلود الروميات، فانفردت بطابع خاص واصطبغت بألوان الحضارة والثقافة والطبيعة وفي هذا المعنى يقول سامي الكيلاني: «إن جمال الروميات واختلاط أبي فراس بالقياصرة، ورؤيته آثار العمران، ومطارف النعيم... وما إلى ذلك مما هو أقرب إلى الحضارة منه إلى البداوة كان من الوسائل التي أنضجت شاعريته الخصبة بمعاني الوحي والآلام».
وربما هذه الألوان نادرة جداً في الروميات، إذ اكتفى الشاعر بتصوير حالته النفسية وما تشتمل عليه من حنين وشوق، وألم وشكوى وصبر وتجّلد، سعياً وراء خير الوطن وطلبا في الحرية، فالألم بنوعيه النفسي والجسدي، هو مصدر روميات الشاعر، وهو الذي أكسبها صبغة جمالية فريدة، وبعداً نفسياً عميقاً، فجعلها تتنوع تنوع نزعاته النفسية من فخر وحنين إلى مناجاة وصبر، وأنين «فيها لنفسه ذكرى وحرقة ولهب ولأمه تعزية وعبره، ولأصدقائه وأنسابه شوق وتحنان».
ولكننا أينما تطلعنا، رأينا وجه الشاعر مفاخراً بنفسه وقومه، متحملاً للصعاب، غير مستسلم للقدر ثابتاً، صامداً جامعاً بين عزة النفس ونخوة العروبة ومن أمثلة ما قاله وهو جريح:
وقد عرفت وقَع المسامير مُهجتي وشُقق عن زُرقي الَنصول إهابي
وعندما نقل إلى خرشنة أسيراً، قال مواسياً نفسه:
إنْ زُرْتُ خَرْشَنَة أسِيرَاً ..|.. فَلَكَمْ أحَطْتُ بها مُغِيرا
وَلَقَدْ رَأيْتُ النّارَ تَنْـ ..|.. ـتَهِبُ المَنَازِلَ وَالقُصُورَا
وَلَقَدْ رَأيْتُ السّبْيَ يُجْ ..|.. ـلبُ نحونا حوَّا، وحورا
نَخْتَارُ مِنْهُ الغَادَة َ الْـ ..|.. حسناءَ، والظبيَ الغريرَا
إنْ طالَ ليلي في ذُرا ..|.. كِ فقدْ نعمتُ بهِ قصيرا
ولئنْ لقيتُ الحزن فيـ ..|.. كَ فقدْ لقيتُ بكِ السرورا
وَلَئِنْ رُمِيتُ بِحادِثٍ، ..|.. فلألفينَّ لهُ صبورا
صبرا ً لعلَّ اللهَ يفـ ..|.. تحُ بعدهُ فتحاً يسيراً
منْ كانَ مثلي لمْ يبتْ ..|.. إلاّ أسِيراً، أوْ أمِيرا
لَيْسَتْ تَحُلّ سَرَاتُنَا ..|.. إلا الصدورَ أو القبورا
ويترّفع أبو فراس عن ذلِّ القيد وتحضره إمارة المجد المؤثل فيجمع بين شاعرية اللغة، وفروسية الميدان، ليرسم لنا صورته الحربية أيام أغار على خرشنة فأحرق القصور وسبى الحور... فلا بأس إذن أن يؤسر فيها، وإّنه على ذلك لصبوراً إما أسيراً أو اميراً.
هكذا يحاول الشاعر أن يخفي مشاعره فيتظاهر بالاعتصام ويفخر بحسن المقام، ولكّنه لم يكن يعلم أن الطريق لا يزال طويلاً، وأن أمر الفداء لا يزال عسيراً، فراح يطلب الفداء من سيف الدولة، وللمرة الأولى معتقداً أن نداءه سيُلبى وأن الأمير سيف الدولة لن يتخلى عنه، يقول في داليته الرائعة:
دعوُتك للجفْنِ القريح المسهد ..|.. لديَّ وللّنوم القليل المشردِ
وما ذاك بخْلا بالحياة، وإنَّها ..|.. لأولُ مبذولٍ لأول مجتد
وما الأسر مما ضقتْ ذرعا بحمله ..|.. وما الخطْب مما أن أقول له: قدي
..ولكنني أختار موت بني أبي ..|.. على صهوات الخيل غير موسد
وتأبى وآبى أن أموت موسدا ..|.. بأيدي النصارى موت أكْمد أكْبدِ
نضوت على الأيام ثوب جلادتي ..|.. ولكّنني لم أنْض ثوب التجّلُد
..دعوتك، والأبواب ترتج دوننا ..|.. فكُن خَير مدعو وأكرم مُنْجد
ويزداد الشاعر تألماً، ومرارة وتأبى نفسه القوية أن تتذلل فينتفض انتفاضة فخر واعتزاز وهو فخر -لا شك في صدقه- كما قال الدكتور شوقي ضيف: «يمتلأ فخره بالحيوية، لأنه يصور واقعاً لا وهماً من أوهام الخيال».
ولا غرو أن يتحلى أبو فراس بهذه المزيا، فهو الأمير الأسير الذي جمع المجد من أطرفه، فكيف يضحي بإمارته وما يتبعها من صفات العز والأنفة والإباء، وكيف يستغني عنه قومه والظلمة تحتاج إلى البدر، يقول:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم ..|.. وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
ولو سد غيري ما سددتُ اكتفوا به ..|.. وما كان يغلو الّتبر لو نفق الصفر
ويزداد فخر أبو فراس الحمداني لما بلغه أن الروم قالوا «ما أسرنا أحداً لم نسلب ثيابه غير أبي فراس» فقال:
يمنُّون أن خّلو ثيابي وإّنما ..|.. علي ثياب من دمائهم حمرُ
قائم سيفي فيهم اندق نصله ..|.. وأعقاب رمحي فيهم حُطم الصدرُ
وعلى الرغمَ من تنكر سيف الدولة له، وصمت قومه عنه، فإنه لا ينسى أنه الأمجد بن الأماجد وأّنه ثمرة طيبة لشجرة عريقة، وأّنه من قوم كرام يفضلون الموت على الذل والهوان، يقول في ذلك:
ونحن أناس لا توسط بيننا ..|.. لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا ..|.. ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر
أعز بني الدنيا واعلى ذوي العلى ..|.. وأكرم من فوق الّتراب ولا فخر
ويفتخر كذلك في مناظراته مع دمستق الروم، عندما قال له: أنتم كتاب أصحاب أقلام، ولستم أصحاب سيوف، ومن أين تعرفون الحروب، فقال له أبو فراس: نحن نطأ أرضك منذ سنين بالسيوف أم بالأقلام، وأجابه بقصيدة مطلعها:
أتَزْعُمُ، يا ضخمَ اللّغَادِيدِ، أنّنَا ..|.. وَنحن أُسودُ الحرْبِ لا نَعرِفُ الحرْبَا
فويلكَ؛ منْ للحربِ إنْ لمْ نكنْ لها ؟ ..|.. ومنْ ذا الذي يمسي ويضحي لها تربا؟
ومن ذا يقود الجيش من جنباته ..|.. ومن ذا يقود العين أو يصدم القلبا
وويلك من أردى أخاك بمرعشٍ ..|.. وجلل ضربا وجه والدك العصبا
وويلك من خّلى ابن اختك موثقا ..|.. وخلاك "باللقان" تبتدر الشعبا
أتوعدنا بالحرب حتى كأّننا ..|.. وإياك لم يعصب بها قلبناعصبا
ليصل إلى قوله:
بأقلامِنَا أُجْحِرْتَ أمْ بِسُيُوفِنَا؟ ..|.. وأسدَ الشرى قدنا إليكَ أمِ الكتبا؟
وهذه القصيدة مفخرة للحمدانيين، حاول الشاعر بها أن يسمو بقبيلته ذرى المجد ويحطّ من قيمة الروم معّللاً ذلك بذكر أسماء قوادهم، ومواقعهم، غير مبالٍ بالوضعية التي هو عليها ... هي إذن روح القبلية تجري في عروقه وعنفوان الشباب يملي عليه عباراته.
ولكن الوطأة زادت بشدة على أبي فراس، فامتدت غربة الشاعر سنوات، واضطربت روحه النبيلة في نفس ظن صاحبها أنه حبيب أميره وقرة عينه ليستلسلم أخيرا لقضاء الله موجها شوقه وحنينه إلى أمه «الأمومة الساهرة التي لا تخون وإن خان الجميع ولا تنسى، وإن نسي الناس أجمعون ولا تتهاون، وإن تهاون النسيب والقريب».
ومن جملة ما أرسله إلى أمه قوله:
مصابي جليل، والعزاء جميل ..|.. وظني بأن الله سوف يديلُ
جراح تحاماها الأساة مخوفة ..|.. وسقمان: باد منهما ودخيل
وأسر أقاسيه وليل نجومه ..|.. أرى كلّ شيء غيرهن يزول
على قدر المعاناة التي كان يعانيها الشاعر، فإنه يبث في أمه روح الصبر ويضرب لها أمثلة إسلامية عُرفت بالصبر الجميل أمثال أسماء وصفيّة ... وهو في كلّ ذلك يحاول أن يعزي نفسه ويطمئن امه العجوز، وان السبيل الوحيد هو الرجوع إلى الله عز وجل، يظهر هذا في خاتمة قصيدته:
وما لم يُرده الله في الأمر كّله ..|.. فليس لمخلوق إليه سبيل
ويشتعل قلب الشاعر شوًقا إلى مكان إمارته «منبج» ومستقر أهله وأحبابه ولا عجب في ذلك، فثمة صلة تربط النفس بالظرف والمكان بالحدث، يقول:
قفْ في رسوم المستجا ..|.. بِ وحي أكناف المصّلى
.. تلك المنازل والملا ..|.. عبُ لا أراها الله مَحلا
أوطنتها زمنُ الصبا ..|.. وجعلت منبج لي محلا
ويشتد شوقه إلى أهله، فتسكنه الوحشة بهم فيقول:
يا وحشة الدار التي ربها ..|.. أصبح في أثوابِ مَربوبِ
وهذا الشعور بالغربة سار مع الشاعر في كل رومياته، فحتى في تلك القصائد التي كان يبعث بها إلى سيف الدولة كقوله:
فكيف وفيما بيننا ملك قيصر ..|.. ولا أمل يحي الّنفوس ولا وعد
وإذا كان أبو فراس قد تذلل أحيانا في طلبه الفداء فلأجل الترفق بأمه، ونزولا عند رغبتها، وفي ذلك يقول:
لولا العجوز بمنبج ..|.. ما خفتُ أسباب المنية
ولكان لي عمّا سألت ..|.. من الفداء نفس أبيّة
لكن أردت مُرادها ..|.. ولو انجذبت إلى الدنية
وفي سؤالها عن ابنها بل عن الأسد الهصور يقول:
تسأل عّنا الركبان جاهدة ..|.. بأدمعٍ ما تكاد تمهلها
يا منْ رأى لي بحصن خرشةٍ ..|.. أسد ثريّ في القيود أرجلها
يا أيها الراكبان هل لكما ..|.. في حمل نجوى يخفّ محملها
ولكن الشاعر يحاول أن يطمئنها ويخفف عنها رغم الآلام التي تقطع نياط قلبه، فيقول:
قولا لها إن وعت مقالكما ..|.. وإن ذكري لها ليُذهُلها
يا أمتا هذه منازلنا ..|.. نتركها تارة وننزُلها
ومن أحسن قصائده في العتاب لسيف الدولة تلك التي بعث بها إليه بعدما ذهبت أمة ترجوه الفداء فردها خائبة وأعز عليه ذلك فقال:
بأي عذر رددتُ والهةً ..|.. عليك دون الورى مُعوُلها
جاءتك تمتاح رد واحدها ..|.. ينتظر الّناس كيف تقفلُها
إن كنت لم تبذل الفداء لها ..|.. فلم ازل في رضاك أبُذلها
تلك الموداتُ كيف تُمهلها ..|.. تلك المواعيد كيف تغفُلها
تلك العقود التي عقدت لنا ..|.. كيف وقد أحكمت تُحّللها
أرجامنا منك لم تُقطعها ..|.. ولمْ تَزلْ دائباً تُوصُلها
ولم يقتصر أبو فراس في كتابه على سيف الدولة فحسب، بل عتب كذلك على قومه، وشكا منهم جفاءهم فقال:
تمنيتم أن تفقدوني وإّنما ..|.. تمنيتم أن تفقدوا العزأ صيدا
ونراه في قصيدة أخرى، يشكو من الوشاه والحساد الذين وشوا به لدى سيف الدولة فامتنع عن فدائه كما جاء في قوله:
لمنْ جاهد الحساد أجر المجاهد ..|.. وأعجز ما حاولتُ إرضاء حاسد
ولم أر مثلي اليوم أكثر حاسدا ..|.. كأن قلوب الّناس لي قلب واحد
ألم ير هذا الدهر غيري فاضلاً ..|.. ولم يظفر الحساد قبلي بما جد
ثم يعود أبو فراس، ليستعطف سيف الدولة مرة أخرى، ومرات، ومرات يشكو سوء حاله، مستعملا كلّ أساليب العطف والحب والمدح والفخر للتقرب منه وعدم حرمانه من رؤيته مجددا متمنيا أن يعود الصفاء والوئام بينهما فيقول:
لم يبق في الناس أمةٌ عرَفتْ ..|.. وإلا وفضل الأمير يشملها
نحن أحق الورى برأفته ..|.. فأين عّنا؟ وأين معدِلها
يا مُنفق المال لا يدير به ..|.. إلا المعالي التي يؤشُلها
أصبحت تشْري مكارما فضلاً ..|.. فداؤنا قدْ علمت أفضلها
لا يقبل الله قبل فرضك ذا ..|.. نافلة عنده تُنفلها
لقد أصاب أبو فراس في وصفه هذا، وتفوق كثيرا في جمعه بين العتاب والمديح، فجاءت أبياته رصينة الأسلوب، قوية المعنى، ولعّلها أثرت كثيرا في سيف الدولة وكانت من بين أسباب فدائه.
غير أن جراح أبي فراس لم تقتصر على الحنين والفخر والشكوى والاستعطاف، بل تعدت ذلك إلى الرثاء، وهو غرض يفيض باللوعة والأسى، طرقه الأمير، لأن بُعده وأسره جعلاه يفقد أعز الّناس لديه وإلى الأبد، وأروع ما قاله في هذا المضمار قصيدة رثاء أمه التي تمنت رؤيته وتمّنى رؤيتها «هو رثاء الترديد والتكرير والمناداة أكثر مما هو رثاء الفيض الوجداني» يقول فيها:
أيّا ام الأسير سقاك غيث ..|.. بكُره منك ما لقي الأسيرُ
أيا أم الأسير، سقاك غيث ..|.. تحير لا يقيمُ، ولا يسيرُ
أيا ام الأسير، سقاك غيث ..|.. إلى من بالفدا يأتي البشيرُ؟
أيا أم الأسير لمن تربى ..|.. وقدمت الّذوائب و الشعور!
إذا ابنك سار في برٍّ وبحرٍ ..|.. فمن يدعو له أو يستجير؟
حرام ان بيت قرير عينٍ ..|.. وُلؤْمٌ أن يلِّم به السرور!
وقد ذُقت المنايا والرزايا ..|.. ولا ولدٌ لديك ولا عشيرُ!
وغاب حبيب قلبك عن مكانٍ ..|.. ملائكة السماء به حضور
وبعد الّنداء ينتقل الشاعر إلى الأمر ليقصد به حث الّنفس على التحمل والعين على البكاء منوها بخصال أمه الرفيعة فيقول:
ليبكِكَ كلّ يومٍ، صمتِ فيه ..|.. مُصابرة وقدْ حمى الهجيرُ
ليبكك كلّ يومٍ قمتِ فيه ..|.. إلى أن يبتدي الفجرُ المنير
ليبكك كلّ مضطهدٍ مخوف ..|.. أجرتيه، وقد قلّ المجُير
ليبكك كلّ مسكين فقير ..|.. أغثتيه وما في العظم ريرُ
جميل جداً ما قاله أبو فراس في مرثيته هذه، التي تزخر بالمشاعر الصادقة والعواطف الجياشة الصادرة عن نفس حزينة متكسرة كسرها الزمن وظلمها القضاء وأبى إلا أن تعيش وحيدة.
ويبدو جلياً أسى الشاعر وتأثره الشديد بموت والدته الرؤوم التي لم ير مثيلاً لها، مستهلاً قصيدته بنداء ودعاء ثم معدداً لمناقبها، فخاتما إياها بالحسرة كما رثى الشاعر أخت سيف الدولة.
ولم تخلو روميات أبي فراس من الاخوانيات، فقلب الشاعر مرهف حساس رغم معاناته واقتصرت اخوانياته على أخويه أبي الهجاء وأبي الفضل وبعض غلمانه، وابني أختيه، وتعددت أغراض الإخوانيات وكثرت وامتزجت بالحسرة والحكمة والفخر، ومجمل مراثي أبي فراس صدرت عن عاطفة صادقة قوية لأنه لم يرث فيها إلا أقرب الأقربين، وكلها أشعار تشع حكمة وتعتصر ألما وشكوى.
وتسيطر على أبى فراس الّنزعة الحربية فيتذكر حروب سيف الدولة مع الروم، وما أحرزه من نصر عظيم، وفوز كبير، مفتخراً بنفسه ونسبه وأميره (سيف الدولة) ولعلّ أجمل ملحمة مثلت هذا الغرض أحسن تمثيل «قصيدته الرائية الكبرى التي مطلعها:
لعل خيال العامرية زائرُ ..|.. فيسعد مهجورٌ ويسعد هاجرُ
وقد سكبها على روي الراء، كلها من بحر واحد في مائتين وخمسة عشر بيتاً، فكانت قصيدته هذه قد جاءت إلى عهده أطول قصيدة محكمة في شعر الحرب، يفيض بها شاعر ملء الشوط في معان قوية ولفظ مكين.
فيتدرج في قصيدته المطولة هذه يستهلها بمقدمة غزلية، لينتقل إلى فخره بأجداده، وعمومته، ثم يتوقف طويلاً عند سيف الدولة، يفخر بمواقفه ومحطاته الحربية وتلك الانتصارات التي حققها على أعدائه، مشيراً إلى أهم الصفات الحميدة التي اشتمل عليها أهله، وقومه كالكرم والشجاعة والنجدة والمروءة... ويختم قصيدته بحكمة جليلة يقول فيها:
وهل تجحد الشمس المنيرة ضوءها ..|.. ويستر نُور اليدر والبدرُ زاهر
أما إذا تحدثنا عن غزل أبي فراس، فإنه قد تمثل في بعض المقدمات التقليدية ناهجا نهج القدامى وكثيرا ما استهل الشاعر قصائده بالنسيب والوقوف على الأطلال والرسوم الدارسة، مخاطبا إياهاً متذكرا الحبيبة وطيفها قائلا:
فرض عليّ لكل دارٍ وقفةٌ ..|.. تقضي حقوقَ الدارِ والأجفانِ
لو تذكّر منْ هويتُ بحاجر ..|.. لم أبكِ فيه مواقد النيران
ولقد أراه قُبيل طارقة لنوى ..|.. مأوى الحسان ومن زل الضيفان
غير أنَّ حب الشاعر، وغزله اقتصر على المقدمات الطليعة وكّلها كانت قبل الأسر، فلم يفرد الشاعر قصيده في الغزل (من أولها إلى آخرها) لا قبل الأسر ولا في الأسر ولا بعد الأسر، ويهمنا كثيراً ما قاله من الغزل وهو أسير فذلك أشد لوعة وأكثر إيلاما وإن كان مختصراً.
وإذا ما نظرنا في روميات أبي فراس فإننا لا نعثر إلا على النزر القليل من الغزل وقد بث معظمه في رائيته المشهورة:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر ..|.. أما للهوى نهيا عليك ولا أمر
بلى أنا مشتاق وعندي لوعة ..|.. ولكنّ مثلي لا يذاع له سرُّ
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى ..|.. وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر
تكاد تضيء النار بين جوانحي ..|.. إذا هي أذكتها الصبابة والفكْر
وكل روميات أبي فراس اشتملت هذا الغرض كما اشتملت الأغراض الأخرى وكثيرا ما كانت تنتهي بالحكمة وكيف لا يصبح الأمير الأسير حكيما وقد عضه الدهر بأنيابه، وهذا النوع من الشّعر لا نجده في قصائد موحدة إنما عبارة عن أبيات متفرقة هنا وهناك. لقوله مفتخرا:
سيذكرني قومي إذا جدَّ جدّهم ..|.. وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
هكذا تنوعت روميات أبي فراس وعدت من غرر الشعر وقد حّقت فيها هذه التسمية نظراً لروعة تعبير الشاعر وفصاحة لسانه ومعايشته للظرف، إّنها صورة ناطقة، شخّص فيها الشاعر نفسه المتألمة الكلمة وواقعه المزري وحياته القاسية، إّنها زبدة تجاربه الحية الحقيقية، وخلاصة معاركته للحياة التي اقتصت منه، فأشربته العلقم قطرة قطرة وجرعته الموت أنفاسا، وما بثه الشاعر في قصائده من حنين وشوق ولوعة حب إلى فخر ورثاء وشكوى قلْب أكبر دليل على ما قاساه أميرنا وهو رهين يتخبط بين القضبان الرومية وبين ضلوعه الحمدانية وتمة بؤرة الأسى وفوهة العذاب.
كثرت الدراسات حول روميات أبي فراس الحمداني فتناولتها من نواحي كثيرة وبكل مستويات الخطاب الشعري فيها، ابتداءً من المستوى الصوتي ومروراً بالمستوى التركيبي، وانتهاءً بالمستوى الدلالي.
لقد نهج أبا فراس نهج الشعراء القدماء الذين كانوا يميلون إلى الأوزان الطويلة الكثيرة المقاطع، وظهر ذلك من خلال استخدامه للطويل والبسيط والكامل بشكل لافتٍ للنظر إذ إن الطويل وحده قد شكّل ما نسبته 60% من مجموع أبيات الروميات، وربما يرجع عدم مواكبة الشاعر للتطور الذي طرأ على أوزان الشعر العربي منذ العصر العباسي، وعدم اكتراثه بما أظهره الشعراء العباسيون من اهتمام وعناية بالأوزان القصيرة والمجزوئة التي تلائم نمط الحياة الجديدة وما استجدفيها من غناء ولهو وطرب، إلا أن هذه الأسباب التي دعت الشعراء العباسيون للتجديد في الأوزان قد انتفت في حاضرة الإمارة الحمدانية التي عاش فيها الشاعر وكانت تتطلع إلى إحياء كل ما هو قديم وجميل، علاوة على أن الشاعر قد عزل عن محيطه الاجتماعي بسبب أسره.
وبيَّنت الدراسة أثر التكرار، بوصفه أحد أشكال الموسيقى الداخلية، في الإيقاع الشعري في الروميات وذلك من خلال تسليط الضوء عليه بكل أنماطه وأشكاله من ترديد وتصدير وجناس كما أبرزت الدراسة ما لهذه الأشكال التكرارية من موسيقى، وما ارتبط بها من دلالات مستوحاة من السياقات المتعددة التي وردت فيها.
أما ما يتعلق بالمستوى التركيبي فقد تفنّن أبو فراس في استخدام أساليب العدول التركيبي كالتقديم والتأخير والحذف ليخدم المعنى الشعري، وجاء الاعتراض علامة مميزة في البنية التركيبية للروميات في تنوعه وكثرته وكأنه يشير إلى غنى التجربة لدى الشاعر، فتتنوع لديه دلالات الاعتراض، بين الإبانة والمبالغة والتخصيص، بتنوع حاجات النفس.
كما كثف أبو فراس من استخدام الأساليب الإنشائية في رومياته من استفهام ونداء وأمر ونهي وتمني، وهي أساليب تفرضها الوجدانية الغالبة على رومياته من جهة ومن جهة ثانية أن هذه الأساليب تقيم حواراً مع الآخر الذي يتطلع إليه الشاعر الأسير ليبثه حزنه وشوقه، أو ليعاتبه تركه وحيداً في الأسر أو ليطلب مساعدته في الخروج من مأزق الأسر.
وأظهرت الدراسات أن التراكيب اللغوية في الروميات ـ بشكل عام ـ قد اتسمت بالبساطة التي تؤثر في القلوب وتجذب النفوس إليها.
وبيَّنت الدراسات للصورة الشعرية (مجالاتها ومصدرها) اتكاء الصورة على مجال الحياة الإنسانية الذي تشكلت الصورة فيه من ذات الشاعر بآلامها وآمالها وعلاقاتها بمن حولها وما كان يشغل ذهنه كالموت، كما تشكلت من الإنسان الآخر أهله وأصحابه وسجانيه بشكل لافت للنظر. ويبدو أن الذات المبدعة وما تحمله من هموم وأحزان قد ألقت بنفسها على الشاعر، وتملَّكت مخيلته الشعرية.
وقد جاء مجال الطبيعة ثانياً من حيث عدد صوره إلا أن هنالك تراجعاً واضحاً في مجالي الحياة اليومية والحيوان، وربما يرجع السبب وراء تراجع هذين المجالين إلى حياة السجن الرتيبة والعزلة عن العالم الآخر اللتين عاشهما الشاعر.
ثم إن المتأمل في مصادر الصورة سيرى أن الشاعر قد استعار الكثير من الصفات السلبية من مجال الإنسان ومن مجال الحيوان ومن الحشرات والطيور وأصبغها على صورة الدهر والأهل والأعداء مما يعكس بشكل أو بآخر العلاقة المتأزمة بين الشاعر، وهذا الآخر.
وإذا كانت بنية الصورة الاستعارية ـ وخاصة المكنيةـ بوصفها أداة تصويرية يغلب مجيؤها عند الشعراء الوجدانيين، فقد أظهرت الدراسة أن أبا فراس استطاع أن يوظف هذه البنية التصويرية ببناها المعقدة وقدرتها على ملامسة الأشياء، في تصوير ما يلقاه من عذابات الأسر والبعد عن الأهل والأصحاب وقسوة الأصدقاء وتناسيهم إياه، وأن يكثر من استخدامها في الرُّوميات للوفاء بحاجاته النفسية.
البناء الفني للرومية الحمدانية
الألفاظ الدالة على الحزن والأسى:
روميات أبي فراس الحمداني تعج بالألفاظ الدالة على الحزن والأسى بل تكاد تكون كلها حزًنا وألما لما انطوت عليه من أحداث مريرة أّثرت عليه ويشكل كبير خاصة من الناحية النفسية، فبات الأسى يكتنفه ولم يجد من سلوى إلا شذوه الحزين الذي صور فيه تجربته الحية، وألفاظ الحزن هذه التي امتلأت بها قصائده أضفيت عليها جمالا وزادتها روعة ورونقا وكان به يوظف الجانب الاستاطيقي على مأساته، فكّلما عبرت اللفظة عن الأنين وأحدثت التأثير اللازم حققت الهدف الجمالي وخدمت النص من الناحية الجمالية أكثر.
وأبو فراس من بين الشعراء الذين يتخيرون لغتهم ويحسنون انتقاء ألفاظهم وتوظيفها في محّلها فنجد اللفظة تعبر أحسن تعبير عن المأساة التي حّلت به، فأضحى يعيش حياة مزرية قاهرة بعدما كان أميرا يعيش في بلاط الملك ويتمتع بخيرات الملك لذلك عدت «رومياته من غرر شعره».
ويقول أبو فراس الحمداني:
جراح تحاماها الأساة مخوفة ..|.. وسقمان بادٍ منهما ودخيلُ
وأسر أقاسيه وليل نجومه ..|.. أرى كل شيء غيرهن يزولُ
تطول بي الساعات وهي قصيرة ..|.. وفي كلّ دهر لا يسرك طولُ
كثيرة هي ألفاظ الحزن التي جادت بها قريحة الشاعر، فأبى إلا أن يسمعنا إياها لنشاركه لوعة الأسى وتقاسمه الهموم مثلما قاسمته جارته الحمامة فلفظة «العليل والأسير والقتيل، والليل، والطويل، الهموم، روحاً، ضعيفة، يعذب، الدمع، الشكوى» تحمل الكثير من الشكوى والألم وُتصور واقعه أحسن تصوير، وإن كان الشاعر قد اختار البسيط والسهل منها فلأنه يريد أن يجعل الن ? ص قريبا إلى الأذهان وهذا ما جعلها تصطبع بصبغة جمالية تميل النفوس إليها وتطرب الأذن إليها لمجرد الاستماع.
الألفاظ الدالة على الحنين والغربة:
يكاد يكون الحنين هو المحور الرئيسي لروميات أبي فراس الحمداني، إذ من الطبيعي جدا أن يحن إلى بلده وأهله وقد فارقهما وابتعد كل البعد عنهما وهو الأمير الذي لم يفارق يوما أمه.
لاشك أن الخطب عظيم على الشاعر وان قلبه يعتصر قيحاً وغيضاً وما قاله في الأسر يدل على ما يقول في قصيدته البائية:
إن في الأسر لصبا ..|.. دمعه في الخد صبُّ
هو في الروم مقيم ..|.. وله في الشام قلبُ
مستجدّ لم يصادف ..|.. عوضاً عمن يحبُّ
ويرسل إلى أمه قائلا:
مصاني جليل والعزاء جميل ..|.. وظني بأ ن الله سوف يُزيلُ
تناساني الأصحاب إلا عصيبة ..|.. ستلحقُ بالأخرى غدا وتحولُ
وإن وراء الستر أما بكاؤها ..|.. عليَّ وإن طال الزمان طويل
هكذا نجد ألفاظه صريحة للدلالة عن إحساسه العميق وشعوره الوجداني حيث تؤدي الكلمة الدور المنوط بها لا من حيث الوضوح والإشراق فحسب بل من حيث المقصد والبعد الجمالي كذلك.
والواقع أن تشكيل اللفظ الجمالي في قصائد أبي فراس الحنينية هو الذي جعلها تبلغ الذروة وتحقق القصد لأن طبيعة الألفاظ التعبير الجمالي والسمو الروحي فلفظة «عصيّ» مثلا تحمل معنى الحنين الوجداني، وتشير إلى عزة نفس الشاعر وكبريائه وثباته، ولكنها في ذات الوقت ترمز رمزا جماليا محضا لأن الشاعر أجاد اختيار الكلمة، بل وأسقطها مسقطها الصحيح، فأعطت المعنى بعدا جماليا.
الألفاظ الدالة على الصبر والثبات:
لقد تنوعت بواعث الصبر عند أبي فراس الحمداني وزادت هذه البواعث عندما وجد نفسه مقيدا بأغلال الأسر بعد ما كان حرا طليًقا، فارسا شجاعا تناديه الفوارس عندما يحمى وطيس المعركة فيهب إليها ولا يهدأ له بال إلا لما ترتوي البيض ويشبع الذئب. وصفة الفروسية هذه التي تأصلت في نفس الأمير جعلته يثبت امام المحن ويدفع الخطوب ويؤمن بقضاء الله وقدره.
لقد كان أبو فراس الحمداني صابرا متجلدا أمام نوائب الدهر وفي جميع الظروف، على الرغم من أن الصعاب لم تفارقه لحظة من لحظات عمره ويتضح ذلك فيما قاله وهو رهين الأسر.
صبرت على الأهواء صبر ابن حرة ..|.. كثير العدا فيها قليل المساعد
ثم يضيف في موضع مخاطباً أمه:
فيا أمتا لا تعدمي الصبر إنه ..|.. إلى الخير والنجح القريب رسول
ويا امتا لا تحبطي الأجر أنه ..|.. على قدر الصبر الجميل جزيل
إن توظيف الشاعر لهذه القيم الأخلاقية «الصبر، الأجر، الخبر، النجح، الزمان، الموت، الجميل..» أعطى الروميات ذوًقا جماليا جعلها تنحاز عن بقية الأشعار، فالصبر مثلاً قيمة أخلاقية جمالية، وهي خصلة تسري في عروق العربي، اكتسبها من البيئة التي عاش فيها ومن أمه المثل الأعلى ولا ننسى أن الأمير ذاق اليتم وهو صبي، وتجرع مرارته أكثر عندما شب فلم يجد السند فاكتفى بصورة أمه المثالية التي بذلت لأجله كل شيء وبحب سيف الدولة له، فقد اعتنى به وأكثرت له أشد الاكتراث مما رسخ هذه الصفة فيه فأضحت مطبوعة في تصرفاته، ورأينا كيف يحث أمه بعد أن كانت توصيه هي.
ولا شك أن الصبر يوحي بدلالات أخرى اكثر عمًقا فالشجاعة وعزة النفس والأباء والنخوة العربية والرزانة والكرم... كّلها فروعع تنبعث من الأصل ذاته.
الألفاظ الدالة على الحب والهوى:
لقد وظف الشاعر ألفاظاً صريحة للدلالة عن مكنونه وخبايا وجدانه ولا غرو في ذلك فقد كان الوجد والصبابة حميميه في الأسر بعد أن فارق الأهل والخلان فبات محروم النوم باكي العين، منفطر القلب، آملا اللقاء راجيا الفرج القريب وكلما عبرت الألفاظ عن عمق المعاني وبعد الدلالات كانت اجمل وأروع.
والشاعر يدرك تماما ما تعنيه ألفاظه وما توحي إليه في إثارة الاهتمام وجلب النظر وجعل المتلقي يتذوق جماليات هذه الألفاظ وما تدل عليه.
ونستشف ذلك من خلال هذه الأبيات يقول:
أبيت كأني للصبابة صاحب ..|.. وللنوم مذ بان الخليط مُجانبُ
ويخاطب حبيبته فيقول:
وما كان للأحزان لولاك مسك ..|.. إلى القلبِ لكن الهوى للبلى جسرُ
وكثيرة هي الأبيات التي اشتملت على ألفاظ الحب والهوى والمجال لا يتسع لذكرها كّلها، ولكن ما جاء في هذه النماذج او الشواهد كاف لأن نحكم على جمالية اللفظ عند أبي فراس فقوله:( الصبابة، والنوم، مجانب، تذكر، الليل، الهوى، مكنون، الحب، حزن، العاشقين، القلب، النار، أبك...) يرمز إلى حياته الداخلية وكيف كان يعيشها شاعرنا، ويصارع لحظات الحب فيها، إن رمزية هذا الحب لا يستطيع تفكيكها إلا المتأمل المتمعن في قصائده لأنها دلالات توحي بحبه العظيم وولعه الشديد وشدة شوقه، وغن كان أبو فراس يذرف الدمع ليلا فلأنه حاجة نفسية تشفي بعض ما في قلبه، كما تصور حركة الداخل واضطراب الباطن.
هذا التصوير الجميل أعطى التعبير رونًقا وجمالاً رغم صدق الشاعر وتناقض القيم، اذ اتسم أبو فراس بالصبر، والصبر يرافق الراحة وخلو العقل في حين الهوى والشوق يوقد العواطف ويحرك الفؤاد وهل يستطيع الصبر أن يرافق الحب؟؟
لقد استطاع أن يرافقه عند أبي فراس الحمداني وقوله «عصي الدمع شميتك الصبر» أكبر دليل على ذلك، وإن كان الضعف يستوليه ليلا، وهذا من جمال أسلوب أبي فراس حيث تستمتع بمعانيه المنسجمة تفننيته الجمالية المستعملة وكأنك تلذذ قطعة حلوى سائغة او تشاهد زخرفة لا مثيل لها.
كلمة أخيرة
أبو فراس الحمداني الشاعر والفارس الذي لا يهاب الموت عاني الكثير من سيف الدولة الذي خاف من فروسيته وشعبيته فأحبّ أن يبقيه في أسر الروم. أما نحن القراء فأمتعنا ما كتبه الشاعر من كتابةٍ صادقة في الحب والفخر والرثاء والشكوى والتي تؤكد على قوة عاطفة أبي فراس، والتي نتجت عن معاناته وتجربته في أسره، الأمر الذي كان لها الأثر الكبير في تميز شعر الروميات، ما أكسبها البقاء والخلود ضمن أعلى مراتب الشعر العربي على مرِّ العصور.
يقول:
لم أعدُ فيـه مفاخـري ..|.. ومديح آبائـي النُّجُـبْ
لا في المديح ولا الهجاءِ ..|.. ولا المجونِ ولا اللعبْ
المراجع:
1. ديوان أبي فراس الحمداني رواية أبي عبد الله بن الحسين بن خالوية، دار الطباعة والنشر، بيروت 1979.
2. ديوان أبي فراس، شرح الدكتور يوسف شكري فرحات دار الجيل بيروت، 1993، الطبعة الأولى.
3. أسلوب أبو فراس في رومياته: فضل أحمد محمد صالح القطيبي- رسالة ماجستير-جامعة عدن-2007.
4. روميات أبي فراس الحمداني.. دراسة جمالية: فضيلة بن عيسى- رسالة ماجستير- جامعة أبي بكر بلقايد - تلمسان – الجزائر-2004.
5. أبو فراس الحمداني وراكان بن حثلين: فروسية وشعر وأسْر: عبدالله الجعيثن- صحيفة الرياض، العدد 13776تاريخ 13 آذار 2006، والعدد 13784 تاريخ 21 آذار 2006.
6. روميات أبو فراس وحبسيات مسعود سعد سلمان.. دراسة مقارنة: محمد هادي مرادي وصبحت الله حسنوند، مجلة التراث العربي، السنة الأولى- العدد الثاني.
علاء أوسي
اكتشف سورية
تمثال أبو فراس في الحديقة العامة بحلب |
الفارس أبو فراس الحمداني |
تمثال أبو فراس في الحديقة العامة بحلب |
خديجة زكريا خوجلي:
اخي واستاذي الكريم <علاء>تحية من قلب مفعم بحب الشعر العربي من هنا من السودان ابعث سلامي وتقديري لما اتحفتمونا به من جهد مقدر والذي اسال الله سبحانه وتعالى ان يجعله في ميزان حسناتكم ولعل اكثر ما ادهشنفي هذه الاطروحة تلك الصور التي جعلتني اشعر كما لو انني اعايش زمانا ماهو كالزمان فلله درك اخي الكريم
السودان
صديق السماء:
بارك الله جهودكم لقد استفدنا كثيرا نرجو كتابة بيانات الكتاب كالطبعة ومكانها تاننا بحاجة اليها ودمتم بخير
العراق
ابوفراس عبدالله هيات:
نتمنى ان نقرأ ابيات ابوفراس في عشقه المعروف لاهل بيت النبوه. وهل فعلا اغرمت به اميرة الروم عند سجنهر.
البحرين
هالة محمد:
من يوم يومنا غدّارين حتى يومنا هذا من المحيط الى الخليج .........كل النبلاء والشعراء والعلماء في التاريخ الاسلامي .. عُذَّبوا أو قُتلوا ... سنين وسنين مضوا .. لكننا الى الآن لا نعرف معنى الانتماء لأوطاننا ولا معنى الحرية ولا معنى الديمقراطية .. !
رجاءا نشر تعليقي .. وليس مسحه .. رجاءا
سعدالله بركات:
فأوفد أبو المعالي جيشاً بقيادة قرغويه، فدارت معركةٌ قُتل فيها أبو فراس. وكان ذلك في ربيع الأول سنة 357 هـ (968م) 4-نيسان في بلدة صدد جنوب شرق حمص.
"عن الموسوعة"
سورية
سعدالله بركات:
جهد مشكور ،ولكن حبذا لو تمت الاشارة الى مقتله ودفنه في اراضي صدد التي اجارته ،وتفخر باحتضان رفاته في ،،قبر الامير المعروف شمالي البادة ،قبل ان تنقل رفاته غفلة اواخر التسعينات الى قلعة حمص.
، ومن مشروع الاحتفالية السنوية به ، بناء نصب تذكاري في البلدة وبناء القبى وتسيييجه.
سعدالله بركات
سورية
محمد جاسم مجبل:
جميل جدا ونستفيد من ادب الحمداني الكثير
العراق