معلولا.. قرية أحبها التشكيليون

14 تشرين الأول 2010

لم تعرف قرية استأثرت بحب الفنانين كما استأثرت معلولا ولم يتفاعل الفنانون مع بلدة كما تفاعلوا معها، حيث سعى كل فنان إلى تجسيدها في لوحة أو أكثر، وانتقل حبها إلى الفنانين الزائرين لبلادنا، فكل فنان وجد فيها شيئاً يساعده على التعبير عما كان يحلم به.

ولقد اكتشفها الفنانون في الأربعينات، ومنذ ذلك التاريخ، وأفواج طلاب الفن والفنانين تتوافد عليها، وهي تجد في كل فترة عاشقاً جديداً، ومحباً مخلصاً لها.. لا يمل من رسمها، ومشاهدتها المرة... تلو المرة.

«حين ذهبت إليها لأول مرة شدهت لما وجدت فيها من جمال، وما رأيت فيها من مشاهد موحية للفنان».

هذا ما قاله الفنان نصير شورى عن أول زيارة له إليها، حين ذهب مع الفنان صليبا الدويهي قبل أربعين عاماً، فكانا أول من رسمها وأول من نقل إلى الفنانين الآخرين... روعة هذه البلدة.

ومنذ ذلك الحين، وهي لا تكف عن استقبال الزوار، وعن إظهار ما تملكه من روائع، حتى أننا نستطيع القول بأنه لا يوجد فنان واحد لم يرسم معلولا ولم يكتشف فيها مصدر وحي لا ينفد معينه.

لكن أين يكمن موطن السحر فيها، أهو في البيوت التي تتداخل مع بعضها وترتفع على الجبل متعانقة، أم في الجبل الشاهق الذي يحمي بيوتها، أم هو في زرقة السماء في الأعلى، السماء الصافية، أم أن جمالها في أزقتها الضيقة والمتعرجة المتصاعدة، بين البيوت التي تتداخل على نحو عجيب في قدرته على إعطاء التنوع الفني؟

لقد اكتشف... نصير شورى وميشيل كرشة فيها الانطباعية رأوها كعلاقات متناغمة ملونة ساحرة، البيوت والجبل والسماء تتداخل ألوانها المتضادة تحت تأثير الضباب الكثيف الذي شاهدوها من خلاله، فحللوها لوناً ودمجوها معاً في تناغمات لونية يعكسها الضوء الخافت، وهكذا عكسوا عبرها رؤيتهم بأن الأشياء تتناغم بين أزرق صاف تتداخل فيه حمرة الجبل وبين بياض مُزرق يسيطر على البيوت، فأعطوا عبر هذه التناغمات... رؤيتهم اللونية للطبيعة.. فكانت مصدر وحي لهم، كأنهم رسموها في الصباح... أو عند المغيب.

وهناك من شاهدها في الضوء الغامر، في ضوء نصف النهار الذي يغمر كل شيء، فشاهدوا الجبل الشاهق ملوناً بالبني الصحراوي، والبيوت بيضاء تتداخل الزرقة مع البياض، والسماء زرقاء أيضاً، فأعدت تجربة الواقعيين عبرها نماذج عكستها لنا أعمال ميلاد الشايب وعبد المنان شما، وسواهما من الفنانين الواقعيين من أمثال ناظم الجعفري أو خليل عكاري أو غازي الخالدي أو رشاد مصطفى وغيرهم.


من أعمال التشكيلي نشأت الزعبي

ولكن ثمة تجارب فنية أخرى تركت مشهد القرية من خارجها، واقتربت من البيوت. تركت علاقة الجبل بالبيت والسماء، واقتطعت جزءاً منها كمشاهد صغيرة جمالية، رأوا فيها شاعرية في التفاصيل الصغيرة، أحبوا البيت وعلاقته مع الشرفة، وأصيص الأزهار، فكانت (معلولا) مشاهد ساحرة متقطعة لا تنفد لما تملكه من تفاصيل، وهكذا رسمها علي الحمصي ونشأت الزعبي ووليد عزت.. وغيرهم.


من أعمال التشكيلي لؤي كيالي

ومنه من أسرته البيوت في علاقاتها، حذف الألوان وأحب هذه العلاقات ضم لون واحد، فأعطى المشهد تعبيرية خاصة استوحاها من علاقات الأشياء مع بعضها كما رأينا عند الياس الزيات ولؤي كيالي ولبيب رسلان، وهناك عكست القرية أعمق أعماق الفنان، وأكثر أحاسيسه دقة وخصوصية، إذ وجد فيها عالمه الداخلي فأعطاه عبرها، وهذا ما فعله فاتح المدرس في لوحاته عنها.
.
وقد تكون اللوحة أكثر تعبيرية.. حين بدأ الفنان يبحث وينقب عن أسرار هذه القرية... بدأ يبحث عن الإنسان الذي عاش فيها منذ قديم الزمان، وهكذا بدأ يدخل إلى (المغاور) المحفورة في الصخر، والصاعدة إلى أعلى الجبل، بدأ ينقب عن أسرار الناس الذين عاشوا هنا، ورسموا على الجدران، وحفروا الرموز، وتداخلت الصيغة الفنية مع التراث العريق للقرية، دخل الفنان إلى الدير، وشاهد (الفج)، و(المغاور)، وسمع أساطير عن حياة أهلها في هذه المغاور، وقرأ بعض كتابات عنها، عن أحداث الماضي، فأعطى عبر عمله خلاصة مكثفة عن حياتها، وجذورها في التاريخ، وهكذا فعل غياث مكثفة عن حياتها، وجذورها في التاريخ، وهكذا فعل غياث الأخرس حين حفر على النحاس وطبع مجموعة من الأعمال عنها.

وقد تنوعت أشكال الرؤية اليوم، والرموز التي رسمت بها، تارة نرى الجبل قد تحول إلى مردة من الأشخاص... فأعطى رمزاً للجبل ولمشهد البيوت، هذا ما فعله مأمون الحمصي، وتارة نرى ذلك التضاد بين عظمة الجبل الشاهق، وسلام البيت الوادع، وأمن الإنسان في ذلك البيت... إلى آخر ما هنالك من الأشكال والتعابير الفنية التي لا تنفد لغناها، ولما تملكه من قدرة على التجدد.... وهكذا أصبحت معلولا قرية الفنانين ومصدر وحي لهم عبر كل المراحل... ومختلف الاتجاهات والتيارات.

==
مصدر المقالة:
مجلة سورية السياحية، العدد 2، المجلد 1، وزارة السياحة في دمشق، 1984


اكتشف سورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق