غياث الأخرس
غياث الأخرس رائد فن الحفر
يُعتبر الفنان التشكيلي السوري «غياث الأخرس» الرائد الحقيقي لفن الحفر المطبوع في سورية، وأول الدارسين الأكاديميين المتفرغين كلياً له. فقد درسه في كل من مصر وفرنسا وإسبانيا، وعكف على ممارسة تقاناته المختلفة، منذ نحو نصف قرن من الزمن.
شغل ما بين عامي 1964 و1978 منصب رئيس شعبة الحفر والطباعة في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، وقام بتدريسه خلال هذه المدة، بكثير من الصدق والمحبة والتفاني، ما مكنه من التأسيس لبدايات راسخة وسليمة لهذا الفن في سوريّة، أفرزت فيما بعد، أسماء هامة، تنهض عليها الآن حركة هذا الفن الذي لا زال خجول الحضور في حيواتنا التشكيليّة العربيّة، لأسباب ذاتيّة تتعلق بالفنان الحفار نفسه، وموضوعيّة، تتعلق بمتطلبات ممارسته الباهظة التكاليف.
قاد الفنان غياث الأخرس خلال وجوده في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، وببراعة لافتة، شعبة الحفر المطبوع فيها، وحبَّبَنا «نحن طلابه» بهذا الفن الجميل، حيث كانت الدراسة الإعداديّة «غير التخصصيّة» تستمر في الكلية لمدة سنتين، الأمر الذي مكننا من الإحاطة بغالبية تقاناته.
تجربة غنيّة
المتابع لتجربة الفنان غياث الأخرس، لا بد أن يدهشه غناها وتنوعها التقاني والتعبيري، والتطورات الكبيرة التي شهدتها، ما يؤكد متابعته الدؤوبة والخلاقة، لمسيرة فن الحفر المطبوع في العالم، واستفادته من كل جديد طرأ عليه، ومن ثم الاستفادة منه، بعد أن يخضعه لشخصيته الفنيّة المتميزة الناهضة في الأساس، على عدة مصادر أبرزها: الحياة الشعبيّة السوريّة ومعطياتها المختلفة، هذه الحياة التي طالما شكّّلت همه وهاجسه و ملهمته، إضافة إلى قضية التراث والمعاصرة التي يراها قائمة على فكر قومي جغرافي، ولهذا أعطى للتراث والمعاصرة القيمة قبل عامل الزمان في المكان، وأكد على أن الرؤية الحياتيّة تُشكّل الأساس المتين لتكوين العمل الفني، وهي بالتالي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتسجيل «الفوتوغرافي» للعين المجردة، بيد أن الصورة المسجلة لمكان محدد، بعيدة كل البعد عن أن تكون لوحة فنيّة، إذ لا يمكن «برأيه» أن نسمي عملية إعادة إنتاج المكان وثائقياً عملاً فنياً، حيث لا بد لهذا المكان أن يُضاف إليه، إحساس الفنان الذاتي الذي تشكّل من مداركه وثقافته، والذي ينعكس في موقفه الأخلاقي، أو السياسي، كانتماء حسي حضاري له شكل المعاصرة.
مرجعيات ومقومات
واظب الفنان غياث الأخرس على إنتاج المحفورة المطبوعة بتقاناتها كافة، وقد عاشت هذه المحفورة عدة تحولات وانعطافات قادتها إلى رحاب العالميّة الواسعة، كخبرة وتقنية، لكنها احتفظت في الوقت نفسه، بمرجعياتها السوريّة، والجسور التي تربطها ببداياتها الأولى التي كونتها، فقد نهضت محفورة الفنان الأخرس، على عدة مصادر أبرزها الحياة الشعبيّة السوريّة، وهذه الخصيصة يراها الفنان التشكيلي العراقي المعروف «ضياء العزاوي» فضيلة امتلكها الفنان الأخرس، بحث من خلالها عن الإنسان، عبر هاجس شعبي لا يزال يرهن تصوره بالريف السوري: بعلاقاته الإنسانيّة، وقيمه وأرضه.
والحقيقة، وفي أغلب أعماله، يلح الفنان الأخرس، على جملة من الرموز والإشارات المستلهمة من الحضارات الرافديّة القديمة، إضافة إلى المنمنمات والوجوه التي ارتبطت بتجربته، وكانت ولا تزال، قرينة وجودها المتفرد.
المرئي واللا مرئي
يرى الفنان الأخرس أن اللحظة الحقيقيّة في التعبير هي خلاصة ما بقي مما نُسي من التراكم الثقافي والحسي الحضاري، ليأخذ شكلاً معاصراً. إذ اللاوعي هنا، يستقطب من دون علمنا وإدراكنا لما يهمنا ويثيرنا، إنه ضمانة مجانيّة غير مُرادة لما نرغب فيه ونرفضه.
وحول المنظومة التي يعتمدها في بناء محفورته، يؤكد أن المساحة المقطوعة أفقياً أو شاقولياً «وهو قطع بنائي ثنائي مع مختلف مفرداته» يتناغم أصلاً في كيان المحفورة مع العلاقة بين المرئي واللامرئي، والخير والشر، والبعد الحسي والبعد الضمني، شأنه شأن الإنسان في لحظة الظهيرة، تحت شمس حادة، من أيام آب، حيث ظله تحت قدميه، طبعة طبق الأصل، إذ يبدو وكأنه في لحظة تأمل وتعبد في صحراء صافية بكل عريه أمام الزمان والفضاء المطلق، والخط الفاصل بينهما، الذي يحمل حقيقة الحس الإنساني بشفافيته كلها.
هذا الفضاء، كما يشير الفنان غياث الأخرس، هو سطح الورق الناصع البياض، حيث الأبيض هو اللون المصفر الذي يحمل إشراقات النور على النور.
أعمال الأبيض والأسود
على الرغم من اقتحام عالم الألوان للمحفورة المعاصرة، وانتشار التقانات التي تنقل هذا العالم إلى معمارها، ببراعة وشفافية وتوظيف متقن، ظل عالم الأبيض والأسود ومشتقاتهما من الرماديات، هو السائد في هذا الفن الذي نهض في الأساس، على هذه التقنية التي استخدمها الفنان غياث الأخرس في مراحل تجربته المختلفة، لا سيما خلال عقد الستينات، حيث كرس غالبية محفوراته، لعوالم الريف السوري، وبشكل خاص معلولا عاشقة الصخر والتاريخ. فقد عالج هذا الموضوع في سلسلة من الأعمال المتميزة، زاوج فيها بين الخطوط «الرسم» والمساحة، والصلابة والرقة، والإنسان والبيوت وما يحيط به من موجودات الطبيعة «حيوان، طيور، نباتات، صخور» ضمن تكوينات مدروسة بعناية فائقة، وازن فيها بين الأبيض والأسود، والبنية القوية للتكوين، والخلفية البيضاء المربوطة بإحكام بالتكوين، وبحركية ساحرة تتماهى إلى حد بعيد، بالخصائص المعماريّة والطبيعيّة المتفردة لبلدة معلولا، لا سيما عناق الصخر للبيوت والنبات والشجر وحتى الإنسان، معتمداً على نوع من التشخيص المختزل، لكنه القادر على هدهدة ذاكرة المتلقي وخياله، ووضعه بصراً وبصيرة، في التفاصيل العميقة والمثيرة والمبهجة، لجماليات هذه البلدة، وبشيء من العفوية والبساطة المدهشة، تتماهى إلى حد كبير، مع بكورة معلولا وتلقائية إنسانها والإضافات الحذرة والموفقة، التي أحدثها فيما حوله من أجل تأمين مرافق حياتيّة، شديدة الانسجام والتوافق، مع محيطها الطبيعي، ومن هنا تحديداً، يأتي سحر معلولا وتفردها.
هذا العالم النقي والجميل والفريد، تمكن الفنان غياث الأخرس، من نقله إلى محفورته، عبر رموز وإشارات مرسومة بخطوط رهيفة، ومساحات لونيّة يتوزعها الطلس والتهشير، الأسود والأبيض، وجسور الرماديات الشفيفة المتروكة فوق البياض بحساسيّة عالية، مفعمة بالصدق، مترعة بالشعور، تتعاون الخبرة الكبيرة، والموهبة الفنيّة الأصيلة، في إنجازها.
الأعمال الملونة
خلال عقد السبعينيات، فاضت الألوان، على محفورة الفنان الأخرس، لكن بحذر شديد، ودراسة مسهبة، وتموضع محسوب في بعديه الشكلي والدلالي، لكن دون أن يؤثر هذا الفيض، على المقومات الرئيسة لأسلوبه، وخصائص معمار محفورته، وسطوة وسيطرة علاقة الأبيض والأسود، إذ ظل الخط القوي تارة، والرهيف تارة أخرى، المرسوم بالأسود والرمادي «إضافة إلى المساحة» هو السائد والمسيطر على عمارة المحفورة، حيث أحاط بالأشكال والمساحات الملونة، «قرميدي، أصفر محمر، أحمر، أزرق مرمد، أخضر فاهي، بني شفيف» بكثير من التوافق، وتبادل معها القيم، حيث أبرزت الخطوط السوداء والرماديّة اللون، والعكس صحيح أيضاً، فقد أبرز اللون هذه الخطوط وأكدها، وكل ذلك انضوى ضمن البنية التكوينيّة المتفردة التي ميّزت تجربة الفنان الأخرس، وكانت إحدى أهم قيمها التشكيليّة والتعبيريّة، والقائمة بشكل عام، على توزيع مدروس، لشرائط، أو مساحات هندسيّة «مستطيل، مربع، شكل بيضوي، مثلثات، شرائط» أخضعها الفنان إلى معالجة خاصة، استل بوساطتها، قسوتها وصلابتها، محولاً إياها إلى أشكال إهليلجيّة طافحة بالحساسيّة، والرقة، والحنان، والطراوة، وهي الخصائص الرئيسة لريفنا السوري، وإنساننا الشعبي، وهما الموضوعان الرئيسان لغالبية أعمال الفنان الأخرس.
تجريب وبحث
خلال عقود الثمانينات والتسعينات ومطلع القرن الحادي والعشرين، أوت إلى محفورة الفنان غياث الأخرس، تأثيرات عديدة، وتقانات جديدة، ونزعة بحثيّة تجريديّة طاولت الشكل والصياغة والمفردات وطريقة بناء التكوين، ومع ذلك، ظلت شخصيته الفنيّة دالة عليه، وظلت أيضاً محتفظة بالمقومات الرئيسة لأسلوبه الفني الذي يجمع براعة مدهشة، بين خبرة تقانيّة عالية، دائمة الإضافة والتطور، وبين تلقائية مفعمة بالأحاسيس الرهيفة العاشقة للإنسان والطبيعة، لا سيما الإنسان الشعبي البسيط، والطبيعة البكر غير المنتهكة، أو المشوهة، أو المعطوبة، التي تحيط بهذا الإنسان، مع ملاحظة تأكيد الفنان الأخرس على الاختزال والتلخيص الذي يصل أحياناً إلى حدود التجريد، وإضافة تقانات جديدة «المساحة النافرة بوساطة الضغط على الورق أو الكرتون» والإيغال في استعمال درجات مختلفة من الألوان، إنما ضمن شرائط قوية أحياناً، وضمن مساحات هادئة، متدرجة، ومتناهية الشفافية، يمكن أن تُشكّل كل مساحة منها لوحة قائمة بذاتها.
كما أولى البنية التشخيصيّة للإنسان اهتماماً أكبر، وتفنن في طرائق توزيعها ضمن التكوين، وعلى حدود المساحات أو داخلها، هذه المساحات التي تحوّلت في غالبية أعماله الأخيرة، إلى عنصر أساس فيها، مقلصاً بذلك من حضور الرسم «الخط» والمساحات المهشرة، والموتيفات الناعمة جداً في بنيتها.
ما يلفت أيضاً، في تجربة الفنان الرائد غياث الأخرس عموماً، حرصه الشديد، على أن يبقيها بعيداً عن برودة التكنولوجيا التي جاءت مع الحاسوب، وباتت متكأً أساساً لغالبية الغرافيكيين، في إنجازهم لأعمالهم، بما في ذلك أعمال الحفر، ما جعل محفورته مخلصة للمرجعيات التي كونتها وتكونت فيها، والقائمة على عشق مدنف للإنسان الشعبي وبيئته المعماريّة والطبيعيّة، وتراثه العريق الضارب عميقاً في تربة الحضارة الإنسانيّة، وعلى إعمال الخيال، وإيقاظ الأحاسيس الرهيفة، والتأكيد على العفويّة أثناء اجتراحه لفعل الإبداع المعجون بالخبرة العلمية الرفيعة، والدراسة الأكاديميّة العميقة، المتشعبة والمتعددة المصادر، والانكباب المجتهد على الإنتاج المتواصل. وقبل هذا وذاك، القادم من موهبة فنيّة أصيلة، حقنتها الدربة بحيويّة كبيرة، لتجعل هذا الفعل، في حالة تجدد وإضافة دائمتين.
==
المصدر: ملحق الثورة الثقافي، 23-2-2010
د. محمود شاهين
مواضيع ذات صلة: