اقتراح رؤية لتاريخ الصورة.... في بلاد الشام

26 تشرين الأول 2010

1- وضع المسألة:
عبر مناقشة مسألة تاريخ الفنون، بحديها المتناقضين، بين نظرية «روح الفن»، وبين نظرية «تطور الفن»، حيث تعتمد الأولى، على التقاليد المثالية عند «أفلاطون» الذي يرى «كل فنان وكل عمل فني نسيج وحده، ولا سبيل إلى مضاهاته بغيره، فهو إنتاج مصدره الوحي الإلهي»، وهو مفهوم انتقل إلى الفكر الأوروبي عبر «كانت»، وارتبط ارتباطاً وثيقاًن بالمعتقد الرومانتيكي، الذي يرى «أن الفن شيء روحي بحت خارج نطاق التنازع الطبيعي من أجل البقاء»، والتي يترتب عليها، أن روح الفن كامنة في عمل الفنان العبقري، وهي تستعصي على كل تحليل، ولا يستطيع تمييزها، إلا ذوو الأذواق الرفيعة من الأشخاص، أما ما كان متأثراً بالثقافة المتراكمة، فهو عمل غير فني، أي «فن زائف» حسب تعبير «تولستوي»، مما يجعل المسألة مسألة تقييم اعتقادي أو شخصي، لا مجال فيه للمناقشة الموضوعية.

وأما الحد الثاني فهو نظرية تطور أو تراكمية أو تواصل الفنون والتي تجد سندها، من خلال ما تم في ميدان الدراسات الأنتروبولوجية عند الشعوب، والتي تعتبر حديثة الوجود، إضافة إلى ما تم في دراسة الفنون الغربية، وبعض الفنون، التي أتيح لها الحفظ والتصنيف والدراسة والتحليل، مما جعل البعض يخلصون إلى كون «كل فن، وكل أسلوب، وكل تعاقب من الأساليب تراكمياً إلى حد»، وأن كثيراً من الفنانين «لا يبنون على المنجزات السابقة بصورة شعورية متعمدة، كما أنهم غالباً ما يحبون أن يتصوروا أنفسهم على أصالة كاملة، وقد شجعهم على ذلك نظريات جمالية زائفة، على أن المشاهد الخبير، لا يرى أن هناك شيئاً اسمه فنان كامل الأصالة، أو عمل فني كامل الأصالة».

عبر استعراض هذا الجدل بين الحدين ـ النظريتين، يسوق الفيلسوف الجمالي «توماس مونرو» ملاحظة عابرة، مؤيداً الاتجاه التواصلي، ويقدم دليله بالمثال التالي:
«لقد كشفت أبحاث علم الآثار القديمة بالشرق الأدنى عن العديد الذي لا حصر له من المدن المدمرة، وهي تقوم في طبقة من الحفائر فوق طبقة، واقترن هذا التدمير على الأرجح بقتل معظم السكان أو أخذهم عبيداً. على أن كثيراً من المنتجات الفنية المتينة كالنحائت الحجرية أو العاجية ظلت موجودة بين الأنقاض، أو حملت فيما حمل من مغانم، لكي تقوم بدورها الصامت في فن الفاتحين. ومن ثم كان هناك تواصل أو استمرار عظيم للتقاليد الفنية بمناطق أرض الجزيرة وسورية أثناء الآلاف الثلاثة الأولى من السنين قبل الميلاد».

إن هذه الملاحظة: الشاهد ـ المثال، من قبل الباحث الجمالي «توماس مونرو»، لا ترد، إلا بعد اعترافه بوجود الانقطاع في تاريخ الفنون أحياناً، وأن في هذا التاريخ الكثير من الثغرات و«أن جميع الفنون وعدداً كبيراً من العلوم، اضطرت فعلاً إلى الابتداء من جديد إلى حد كبير»، إلا أنه يحلل هذه الثغرات، ويعيدها إلى عطل أصاب التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، أو تعود إلى تمزق واسع النطاق، أصاب المجتمع بمنطقة معينة، ولكن إذا كان التمزق ضئيلاً، وكان أصحاب الثقافة أو الحكام الجدد متشابهين في خلفياتهم السلالية أو الثقافية، وإذا بقي قلة من مهرة الصناع على قيد الحياة، فإن تواصل الفنون يبدو ممكناً، من خلال التقاط الأجزاء واعتبارها نماذج للمنتج الجديد.

2- الإيديولوجية والمنهج:
1- تنطلق معظم الدراسات الغربية، إن لم نقل كلها، والتي تتعرض لتاريخ الفنون في منطقة الشرق الأدنى، من خلفية نظرية، تعتمد التمييز بين الساميين والآريين، وهي النظرية التي استندت إلى مصطلح «السامي» الذي ابتدعه العالم الألماني أ. ل. شلوتر، في مؤلف له، نشره عام 1781، حيث أعطاه عنواناً «فهرس الأدب التوراتي والشرقي». وإذا كان هذا التقسيم، قد أريد به التمييز بين اللغات السامية، وبين اللغات الهند وأوروبية، فإنه تحول إلى تمييز عرقي بين الشعوب.

وعلى الرغم من أن هذا العنوان يبدو ملتبساً؛ لأنه يميز الشرقي عن التوراتي، فإن مصطلح «السامي» هو توليد من أرضية أسطورية تتعلق بأسطورة نوح وأبنائه.

إن ابتداع المصطلحات هو جهد فكري لتملك الواقع، وهو لا يخلو من الإيديولوجية، مما يجعل بالإمكان نقده. ومع ذلك فقد تحتجب هذه الحقيقة عن بعض الباحثين، حتى يصبح المصطلح لديهم ـ وهو صورة ذهنية ـ هو الواقع، وليس الإشارة إليه.

2- يعتمد أكثر الباحثين عند الحديث، عن الحقبات التاريخية للشعوب التي تقطن منطقة الشرق الأدنى إلى التحليل عبر منطق التجزيء حتى الوصول إلى العناصر، التي شكلت هذه الشعوب، دون أن ترى التحامها الثقافي عبر التاريخ، من خلال البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وعبر هذا التجزيء إلى سومريين وبابليين، وكلدانيين، وآشوريين، وآراميين، وعمونيين، وموآبيين، وعرب، يريدون أن يجدوا مكاناً للعبرانيين.

3- إن علم الآثار في هذه المنطقة، بدأ به المستشرقون توراتياً، أي أنه كان بحثاً، عما روته التوراة، ولذا... كان موجهاً مسبقاً، لا للكشف عن حقائق، وإنما لتصديق روايات أسطورية، مما دعا «بيير روسي» ليقول «إن اليوم الذي يتوقف فيه العهد القديم عن تغذية علمنا التاريخي يغدو فيه شرحنا لأمور الشرق محرراً من إمبراطورية الأفكار المسبقة».

4- في القرن الثامن عشر، أي في قرن الأنوار، قرن العقل، ولدت خرافة «النقاء العنصري». ولئن كانت هذه الخرافة قد جرت على البشرية الكثير من الويلات، إلا أنها اخترقت بعض نظريات الفن، وبعض الفلسفات، وانعكست على دراسة الحضارات القديمة.

5- إن نظريات العلماء، وخاصة في مجال العلوم الإنسانية، تنطلق في غالب الأحوال من قناعات ومعتقدات خفية أو لا شعورية لدى أصحابها، هذا إن لم نقل أن هؤلاء العلماء يخضعون لأيديولوجيات مؤسساتهم ومموليهم، مما استدعى قيام «علم اجتماع العلم» للبحث في المؤسسات المنتجة للعلم والأحوال الاجتماعية المترتبة عليها، وتقول «جانيت وولف» توصل بعض علماء الاجتماع وفلاسفة العلم إلى نتائج تتسم بالنسبية المسرفة، وهي بذلك تضع مزاعم الموضوعية (والحقيقة) التي يدعيها العلماء موضوع التساؤل». «بل.. إن ما يشابه هذا التوجه قد تناول علماء بالدراسة، مثلما فعل أريك فروم» في كتابه «فرويد ـ تحليل لشخصيته وتأثيره» حيث كرس فصلاً فيه لبيان قناعات «فرويد» الدينية والسياسية. وانعكاسها على أفكراه، وذلك بعد أن أبان علاقاته الطفلية والاجتماعية.

وينتقد «كولنجوود» فرويد، قائلاً «ما فعله فرويد هو رد الاختلافات بين الحضارة الأوروبية، والحضارات غير الأوروبية إلى اختلاف بين المرض العقلي والصحة العقلية».

6- إن التحليل والتركيب عمليتان إجرائيتان في كل منهج، وفي كل مجال، ولكن بعض الباحثين، يتوهون في تحليلاتهم الدقيقة والذرية، بحيث تغيب عنهم الصورة العامة، فالحضارة تحت مجاهر هؤلاء، تتحول إلى حضارات إقليمية، ثم تتحول إلى تجمعات عرقية أو عشائرية، ثم تنقسم إلى ذرات طائفية أو عائلية، مما جعل «روسي» يقول:
«إن فن الانقسام قد ذهب بعيداً جداً، بحيث أن الحضارات تحت مجهرنا القاتل، قد انتهت بالانشقاق إلى فتات، لأنه في الوقت نفسه الذي كان فيه سيرنا التحليلي يتطور متقدماً، كان ذوق التركيب يتراجع، ذلك التركيب الذي لا يمكن بدون أن يكون هناك تاريخ ممكن».

7- تسيطر على الباحثين رؤية أحادية الجانب، حسب مواقعهم الأيديولوجية، فقد يميل بعضهم إلى التحليل لإبراز جوانب الاختلاف بين البؤر الحضارية، وهو ما يقع به بعض الباحثين الغربيين، في حين أن الباحثين العرب وبعض الغربيين، يميلون للتركيب لإبراز جوانب التشابه والاتفاق. وكلا الطرفين يقوم بإسقاط تطلعات الحاضر على الماضي، مما يحجب جزءاً من الحقيقة والواقع.

8- إن الإيديولوجية الغربية، التي تخترق الدراسات الحضارية، ومن خلال إحساس بالمركزية، تبدأ تاريخها بالإغريق والرومان، متجاهلة الدول الرافدي والمصري والسوري في نشوء الحضارة الإيجية والإغريقية، كما تتجاهل دور الجزء الشرقي في كيان الإمبراطورية الرومانية.

إن تواشج محاور هذه الأيديولوجيا مع المناهج في الدراسات الإنسانية، ومنها التاريخ العام، ينعكس على تاريخ الفن في العالم، كما ينعكس على تاريخ الفن في منطقة الشرق الأدنى، وعلى ما يمكن أن نسميه تاريخ الصورة في بلاد الشام.

3- معطيات:
1- يطرح بعض الباحثين الغربيين والسوريين صورة عامة وتركيبية للحضارة التي عرفتها منطقة الشرق الأدنى فتارة تتوسع حدودها، وتارة تضيق.

ـ ففيلسوف الحضارة «اشبنغلر» الذي يسمي هذه الحضارة بالحضارة المجوسية أو السحرية، يقول عن أديان هذه المنطقة «فهذه المجموعة تشكل وحدة من روح وتطور، لا يمكن أبداً العزل أو الفصل بين عناصرها... الأديان تتبدل ولكن الروحانية واحدة».

ـ أما «بيير روسي» والذي يسمي هذه الحضارة بالحضارة العربية، فهو يرى أن «بين النيل والقوقاز واليمن والسند تلاقت وتقاطعت وعاشت خلال نسيج متلاحم تيارات صوفية روحية متمازجة أحياناً إلى حد يبدو معه من العبث التفتيش عن خطوط القسمة الجغرافية فيها».
ـ أما «يوسف الحوراني» في دراسته للبنية الذهنية للحضارة في شرق المتوسط، فيقول «لقد شملت هذه الحضارة شعوباً متعددة بثقافة واحدة، فتعددت في ظلها اللغات، ولكن لم تختلف المفاهيم الأساسية للدين أو للكون أو لنظام المجتمع. دمجت التنظيمات الاقتصادية والمسؤوليات السياسية بالدين وطقوسه وعقائده، فنتج عن ذلك وحدة اجتماعية متماسكة عرف التاريخ من استمراريتها ما يزيد على ثلاثة آلاف سنة».

ـ أما «أسد الأشقر» في تاريخ سورية ونشوء العالم العربي، فيرى أن الحضارة السورية كانت «المسيرة التاريخية الفريدة، المعقدة والمتشابكة، لا يجوز النظر إليها كمجموعة أجزاء يستقل الواحد منها على الآخر، لأنها كل حضاري متنام متفاعل، تجربة تاريخية متماسكة».

2- إن هذه النظرة التركيبية للمظاهر الذهنية والثقافية والدينية والسياسية والاقتصادية، للحضارة السورية في بلاد الشام، تتجلى بوضوح من خلال محاولات اختراع الألفباء حوالي 1500ق.م، فهذا الاختراع يشير ـ مادياً ـ إلى النزوع للالتحام، والحاجة إلى تفاهم الشعوب والمجتمعات.

3- إذا كانت الحروب والهجرات قد أدت إلى التمازج، فإن «الأنبياء مثل التجار والعرائس الملكية وآلهة هذه العرائس، كان باستطاعتهم أن يجتازوا الحدود السياسية» للدول والإمارات والمدن، ولكن الأهم من ذلك، وقد ذكره «توينبي» بوضوح هو دور «الفن المنظور» في التواصل والتمازج، بين الديانات والشعوب، فبين عام 48-220م وهي فترة تعتبر «زمن توطيد سياسي وسلام نسبيين كان ايكومين العالم القديم في حال من التواصل غير عادية».

4- إن هذه الرؤية التركيبية لجوانب الحياة الحضارية لبلاد الشام، هي التي تعيدنا إلى ملاحظة «توماس مونرو» لنتساءل عن واقع التواصل والاستمرار فعلاً، وعما إذا لم يكن تاريخ الصورة في بلاد الشام، يتناظر، أويتوازى مع الجوانب الحضارية الأخرى إمكاناً أو احتمالاً.

ـ أو ما يواجهنا ضمن هذا التوجه، هو أن وثائق تاريخ الصورة غير مكتمل، ففي القرن الماضي، تمت معظم المكتشفات في أوغاريت، وماري، وتدمر، وإبلا، ودورا أوروبوس، وتل برسيب، ودير مار موسى الحبشي، ومعرة صيدنايا، وقصر الحير، وقصير عمرة، الخ... علماً أن بلاد الشام ما زالت خزاناً ضخماً للخزين التصويري ولذا... فإن تاريخ الصورة، يبدو مؤجل الاكتمال.

ـ إن الصورة كانت في غالب الأحوال وسيلة تحت تصرف الأديان، وبالتالي.. فقد كانت تقوم بوظيفتين، أو تستجيب لدافعين وهما: الجمالية والسحرية، ولا يتحقق السمو بهذه الصورة إلا بالتوافق المطلق بين الدافعين أو الوظيفتين.

أما ما يقصده «كولنجوود» بالسحري، فهو «استحضار انفعالات معينة دون غيرها لإطلاقها في أمور الحياة العملية».

ـ يرى «توينبي» أن كل مدنيات ايكومين العالم القديم (أي بين المحيط الهادي والمحيط الأطلسي) قد ورثت عدداً من «الصور الأولية» التي تعود إلى ما قبل المدنية في تاريخ البشرية. وأقدم هذه الصور، صورة الأم، وصورة الطفل، وصورة المخلص، وصورة الإله المتجسد كائناً بشرياً، وصورة البذرة، (أي المبعوث بعد الموت).

فالأم هي الموضوع لأقدم تمثيل منظور للشكل البشري. ولا تتعارض فكرة الأمومة مع «العذرية» كما يبدو أن فكر «الأبوة» لم تكن بدائية، وإنما جاءت لاحقاً، لكن الأمومة ارتبطت بالطفل، وسيطرت عليه، أما الذكر فربما تحاشاها، وهذا ما جعل بعض الآلهة الذكور يظلون عزاباً (أتون، آشور، مترا).

إن صورة الأم قد تكون حانية، وبانية، ومخصبة، ومغذية، الأم المشتركة للحياة، وقد تكون صورة الأم مخربة، وهادمة، وطاغية (عشتار، عشتروت، أتارغيتس، سيبيل).

أما الأب فقد يكون عادلاً مثل (شماش) يمنح نوره ودفئه لكل الكائنات، يرى ويسمع كل ما يصنع على وجه الأرض، لكنه قد يكون طاغياً، متقلباً، جشعاً مثل الطقس (حدد) فيتلف المزروعات، وبسبب الفيضانات، ويثير العواصف، ويأتي بالجفاف.

أما البذرة بموتها وبعثها، فيتخذ صورة المبعوث بعد الموت، صورة القائم والمنتظر «وهذه القدرة الإنباتية هي التي يعيش المؤمنون من البشر بأكل لحمها وشرب دمها». تموز في سومر وأكاد، أتيس في آسيا الصغرى، أوزيريس في مصر الفرعونية، أدونيس في بلاد الشام، بعل في أوغاريت.

أما صورة المخلص فهي الصورة التي يحتاجها البشر، وخاصة في أثناء الأزمات والاضطرابات، في حين أن صورة الإله المتجسد تكون ولادته من أم دون تدخل ذكر بشري (الفرعون).

ويقول توينبي «إن الصور البدائية ليست متمايزة بالضرورة، فالإله المتجسد والمخلص والبذرة والابن قد تتوافق هوية واحدها مع هوية الآخر».

ـ جمعت «الزا ذايبرت» قرائنها من الأختام الأسطوانية، فوجدت صورة «الراعي الصالح» بأشكاله المتنوعة، فقبل 3000 آلاف قبل الميلاد، عرفت حضارة أوروك؛ الراعي الملك، والراعي والحمل، والراعي والشجرة.

ـ يمدنا «انطون مورتغارت» في كتابه «تموز» ومن الفترة السومرية، بستة من الأفكار المصورة، التي يسميها خالدة، وهي:
1- شجرة الحياة بين حيوانين.
2- البطل كقاهر للحيوان.
3- ثور وسبع والصراع بينهما.
4- مجلس الشراب.
5- جوقة الحيوانات.
6- مجموعة من المشاهد (العيد في العربات، الشمس المجنحة، الأشباح المجنحة، الحيوانات والمخلوقات الخرافية).
وقد تابع «مورتغارت» هذه الموضوعات عند الأخمينيين، والفينيقيين، والفرجيين، واليونانيين، وحتى عند التدامرة.

4- مقارنات:


من منحوتات معبد بل
في تدمر

ما الذي يمدنا به معرض «فن الأيقونة في بلاد الشام ـ جذوره وتطوره؟..»

قبل الإجابة عن هذا التساؤل أود أن أشير، إلى أن هناك نوعين أو مجالين من الدراسة الفنية:

ـ «الإيقونولوجيا» وهي الدراسة التاريخية للمعنى، والتي تؤكد على استمرار التراث القديم، أي أن «الاتصال وليس القطع هو معيار القيمة في نظر طلاب المعنى»، وإن كانت تستند في بعض الأحيان على النص وتعطيه الأولية.

ـ و«المورفولوجيا» وهي دراسة المفاهيم الخاصة بالأشكال والتراكيب، وتستند على نماذج من التنظيم الشكلي وإدراكها حسياً، وهي تؤكد على الضرورة الداخلية لتطور الشكل.

المفصل الأول:

إن المقارنة بين المنحوتات التدمرية، وبين الصورة المسيحية، تشير إلى تواجد الصور والعناصر التالية:
1- الأم وابنها: التي تتقارب مع العذراء وطفلها، في الوضعية، والنسبة بينهما والمواجهة، وهناك نماذج متعددة تدمرية تعود إلى القرن الثاني ميلادي، بعضها في متحف تدمر، وبعضها الآخر في متحف دمشق.

منحوتات جنائزية
من تدمر

2- الهالة: التي نجدها تحيط برأس إله الشمس من معبد بعلشمين، القرن الثاني ميلادي، والمنحوتتان في متحف تدمر.

وتبدو الهالة تحيط برؤوس الآلهة دائماً، ولا تختلف عن هالة السيد المسيح والقديسين إلا بتفصيلاتها الشعاعية.

3- الرجل والخروف: مجموعة من المنحوتات تمثل شباباً يقدمون خرافاً، وهي من القرن الثاني ميلادي (متحف تدمر)، تنتسب إلى عائلة صورة الراعي الصالح.

4- البورتريهات النصفية: في حركتها النمطية، تتقارب مع بوتريهات القديسين النصفية، حيث يتحول غصن الزيتون، إلى لفافة. وكلها تقريباً من القرن الثاني والثالث ميلادي.

5- أوضاع الكهنة التدامرة تتقارب مع أوضاع القديسين كما في تصوير جداري من دير مار موسى القرن 13.

6- صف الآلهة التدمرية، يتقارب مع أيقونة «الفتية الثلاثة»، من دير سيناء ـ القرن السادس.

7- تماثل وضعية جلوس كاهن ميترا من دورا أوروبوس القرن الثالث، وجلسة آدم من حوارته القرن 5-6م والتي ستستمر كوضعية جلوس في صور مسيحية متعددة مثل أيقونة «قديم الأيام» سيناء القرن العاشر.

8- تشابه النماذج الثنائية التدمرية مع أيقونة «سرجيوس وتيودورس» من سيناء القرن العاشر.

9- تشابه منحوتة الرب أبجال التدمرية مع أيقونة «جاورجيوس»من سيناء القرن العاشر.

10- الوضع الجبهي المواجه دائماً باتجاه المشاهد في كلا الطرفين.

11- وحدة أسلوبية بورتريه «بيت الكتاب» من دورا أوروبوس وأيقونات القديسين.

إن هذه المقارنة تشير، وبشكل جلي، أن الأيقونة المسيحية، ولدت على الأرض السورية، وأنها استمدت صورها من تراث سابق، فلم تأت من عدم، مما يجعلنا نضعها كحلقة من حلقات «متتابعة» يتوجب علينا بناؤها مستلهمين دارون ـ وأن هذا البناء يتطلب منا، أن نفرد لكل موضوع أو صورة متتابعة محورية خاصة، يرافقها تفرعات تشير إلى «الانزياحات» مما يسمح ببناء مخطط نسيجي لكل موضوع، يشير إلى تكوناته وأطيافه، لكن التواتر سوف يدفعنا للاعتراف أن الشكل الذي يولد مرة ـ وفي لحظة افتراضية ـ لا يموت. قد يغيب، لكنه يعود وينبعث مادمنا بحاجة إليه.

أما الثغرات في المتتابعة، فإن النسيج المتشكل حولها، سيكون كفيلاً لنا بتصور ما هو ضائع أو مفقود من هذه المتتابعة.

كما أن هذه المقارنة ـ وهناك العديد من نسخ كل قرينة ـ في كلا الطرفين، ستوجهنا لنكشف سعة «الانزياح» ومقداره، والمتحقق من خلال التنفيذ.

يضاف إلى ذلك، أن ملاحظة إمكانية رحيل الصورة من نوع فني إلى آخر، عبر مادة التنفيذ المتنوعة: نحت، فريسك، فسيفساء، خزف، ورق، سيكشف لنا ما يطرأ على الأسلوب والتعبير من تغيير.

كما تدفعنا هذه المقارنة لتوسيع ساحتها حتى تشمل المزيد من القرائن التي تنتسب إلى فنون أخرى، كالفن المانوي، أو الفن الإسلامي.

الثبات:
يمكننا أن نلاحظ في هذا المجال، إلى أن الأيقونة المسيحية، لها تقاليد خاصة في الإنجاز، وأنها تخضع للتقليد والتكريس، محافظة على ثبات معناها، مما يحيلنا إلى حقيقتين أساسيتين:

1- إن النسخ المسيحي للأيقونة، أو استلهامها، هو استمرار لمفهوم قديم أقدم من المسيحية، لكنه ارتبط بالدين دائماً، لأن التقليد أو النسخ هما محاولة لاستعادة «اللحظة المقدسة» أو ما يسمى بـ «الزمان الذهبي» أو «الحضور الإلهي»، باعتبار أن الفكر القديم كان يتوجه إلى الماضي، أكثر من اتجاهه إلى المستقبل، وأن البنى الاجتماعية في الحضارات القديمة، كانت أكثر ثباتاً، إن لم نقل جموداً.

إن النسخ والتقليد في الفنون التشكيلية، ليسا آلية، تقتصر على هذا المجال في الفكر القديم، بل إن هذه العملية، تخترق كافة المجالات الحياتية للإنسان: عمران، عمارة، نحت، رقص، شعر، أعياد، أزياء، تمثيل، عمل، لأن الحياة العملية واليومية كانت ممتزجة بالدين، ولأن هذا التقليد يتيح تجربة روحية، أو تأملية عبر الأداء والتنفيذ. ولنا في «التقنين» أو «القوننة» الإسلامية لكل حركة أو عمل أو تصرف أو إجراء أو قول، أو ممارسة بيان واضح.

2- إن الدراسات الألسنية، تشير إلى أن العلاقة بين الدال والمدلول في اللغة التصويرية، ليست علاقة اصطلاحية أو اعتباطية، كما في اللغة الصوتية، بل هي علاقة معللة. وبالتالي فإن التقليد يؤدي إلى ثبات المعنى، في حين أن انزياحات الشكل تؤدي إلى انزياحات في المعنى، كما أن التغيير السريع والمستمر يؤدي إلى التشويش.

ولا بد هنا أن نذكر، أن المسيحية إن كانت، قد شغلت بلاهوت الصورة، فإن هذا اللاهوت قد عرف ازدهاره في زمن الإمبراطور «جوليان 331-363م». والذي درس عن اثنين من تلاميذ «يامبلخوس» وهما «مكسيموس» و«فريبا نثيوس»، وأن هؤلاء كانوا من أتباع الأفلاطونية المحدثة، في المدرسة السورية، أمثال «ملك الأرجواني» فورفوريوس الصوري 233-301 أو 305م، الذي تنسب له رسالة في التماثيل، يدافع فيها عن العبادة الوثنية ـ حسب معجم الفلاسفة ـ كما تنسب تارة أخرى إلى «يامبلخوس الخلقيسي 280-330م أو 335م» حسب اشبنغلر.

ولا ننسى «رسالة الجليل»، المنسوبة إلى «لونجينوس قاسيوس» وهو يوناني، كان وزيراً لزنوبيا ملكة تدمر.

المفصل الثاني:

إن كانت المقارنة بين المنحوتات التدمرية وبين الأيقونة المسيحية، قد تمت عبر الأيقونولوجيا، فإن المفصل الثاني سيكون عبر الموفولوجيا، التي تعلق بالشكل والتركيب والتنظيم الشكلي، حيث ستكون مادة وقرائن المقارنة من الصورة المسيحية السريانية، ومن الصورة الإسلامية.

يقول «يحيى بن جرير»وهو طبيب عربي يعقوبي، من القرن الحادي عشر الميلادي، وضع مختصراً في اللاهوت، أسماه «كتاب المصباح المرشد إلى الفلاح والنجاح». يقول:
«عندما قرر المسيحيون تمثيل خطوط المسيح وتثبيتها في نفوسهم، رسموا في المعابد صورة المسيح ومختلف المراحل في حياته الفانية، ولكن لكي لا يأخذها المؤمنون كأصنام، عملت الصور مرسومة مسطحة وليست مجسمة.... وهكذا نحن نمثل صور المسيح والرسل والشهداء».

إن هذا الأسلوب في التمثيل ليس ابتكاراً مسيحياً، بل هو استمرار لتقليد قديم، كما في المعبد الوثني في تدمر، وفي معبد ميترا في دورا أوروبوس، وكما هو عند المانويين، وفي التصوير الآشوري في تل برسيب من القرن الثامن قبل الميلاد، وفي رسوم قصر ماري من القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وفي كل الفنون الشرقية. وهذا يعني أن المسيحية الأولى، كانت تختار أحد حلين أو أسلوبين، وأنها مالت إلى الأسلوب التخطيطي المتواجد على الأرض السورية، مقابل الأسلوب التجسيمي الروماني، والذي نجد المقارب له في قصير عمره من القرن الثامن الميلادي، وهذا يعني أن هناك استمراراً أسلوبياً.

وعبر هذا الاستمرار الأسلوبي، بدأت الصورة الإسلامية تنزاح عن أصولها في المسيحية.

1- لقد استبعد الدافع السحري «الوظيفة السحرية»، علت «الوظيفة الجمالية»، فأصبحت الصورة دنيوية، لا علاقة لها بالدين، تزين القصور، في بادية الشام، والأردن وسامراء.

2- رحلت الصورة عن الجدران في المعابد، ونزلت إلى الكتاب، باعتبار الإسلام، يمثل «حضارة كتاب»، فتواجدت الصورة في الكتب الأدبية والعلمية والتاريخية.

ومع ذلك.. فقد ظلت التقاليد الشكلية تخترق صورة المنمنمة الإسلامية.

3- النسبة الإنسانية، لم تتغير عن النسبة السريانية، وهي تتقارب مع تقاليد التمثيل السومري والحثي والتدمري، بل.. إن هذه النسبة تبدو وكأنها تشمل كل فنون المنطقة، إلا في بعض الاستثناءات مثل الآشوري الحديث، ولوحة التقدمة في تدمر من المعبد الوثني، وبعض الأشكال الفينيقية من البرونز.

4- حصر الصورة من الأسفل والأعلى بالكتابة مع ترك فضاء الصورة مفتوحاً من الجانبين.

5- تشابه رسوم النباتات والأشجار.

6- التأكيد على الفراغ المحايد غير التمثيلي.

7- التوزيع العمودي (قارن منمنمة من إنجيل سرياني 1220م وصفحة من قانون الدنيا 1563م) وهذا لا يعني أن الصورة الإسلامية لم تحقق تحولاتها على مستوى الألوان ومستوى التوزيع الذري للعناصر الزخرفية، ومستوى علاقة الثياب بالجسم الإنساني الحامل لها، وعلاقة الشكل الإنساني بفضاء الصورة، فهذه صيرورات تتجلى من خلال النسخ المتعددة لنفس الكتاب المصور.
التغير:
إذا كان التقليد يؤدي إلى ثبات المعنى، فإن الإشباع أو الكلل الجمالي يؤدي إلى تغير الشكل، لكن هذا التغيير، لا يمكن أن يكون إلا طفيفاً، حيث يكون دافع الصورة دافعاً سحرياً، أو حين تكون الصورة أداة تواصلية. فالمقدار الضئيل من التغيير، يتراكم عبر عملية النسخ أو التقليد حتى يصبح هذا التغيير شكلاً جديداً، في حين أن الدافع الجمالي والذي لا يتطلب إلا عزل بعض الانفعالات عن الحياة العملية يبدو متطلباً للتجديد. وهذا ما يدفعنا لاستكمال المقولة بأن الشكل قد يغيب لكنه لا يموت، بضبطها كالتالي: إن الشكل لايأتي من عدم ولا يذهب إلى عدم، لكنه يتحول.

5- قانون الثبات والتغير:
إذا أخذنا بوجهة نظر «كوبلر» في نظرته لتاريخ الأشياء، وبأن الحاجة البشرية تخلق مشكلة، وأن النشاط الإنساني يحاول حلها، فإن هذا يؤدي إلى سلسلة من الحلول المتتابعة حتى تنتهي المشكلة، وهذا ما ينطبق على الأشياء التي هي إنتاج فني، أو أشياء فنية.

وعبر هذا فإن كل متتابعة، تخضع لقانون الثبات والتغير، وحدا هذا القانون هما «اتجاهان متعاكسان يتنازعان الرغبات البشرية، الرغبة بالنمط المألوف والنزعة للابتكار، وقد كانت الرغبة في تكرار الماضي، تتغلب على حوافز التحرر».

لكن.. ولما كان لا هوية بدون ثبات، ولا تطور بدون تغيير، وكان التقليد الحرفي يؤدي إلى الثبات والتحجر، في حين كان التغيير الدائم والسريع يؤدي إلى التشويش، فإن التوازن بينهما هو الذي يستجيب للحاجة البشرية، وهو ما يوازي التوافق بين الدافعين: السحري، والجمالي، حيث يحقق هذا التوافق التميز الفني، حسب رأي كولنجوود.

==
مصدر المادة
: الحياة التشكيلية العدد 70


د. عبد الله السيد

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق