التصوير السوري قبل الإسلام

27 تشرين الأول 2010

تقتصر هذه الدراسة على التصوير والرسم التي شملت بلاد الشام في العصور التي سبقت ظهور الإسلام، وتحديداً منذ العصر الحجري الحديث وحتى أواخر العصر البيزنطي، وهي فنون رافقت تطور الإنسان في هذه البلاد إلى جانب فنون النحت والفسيفساء والجداريات الحجرية والأختام والرقم المسمارية المصوّرة، وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الفنون لم تكن بعيدة عن المؤثرات المحيطة بها، فقد أفادت من فنون بلاد الرافدين ومصر والإغريق، لا سيما في العهود المتأخرة التي ساد فيها الآشوريون والحثيون والفرس والإغريق وغيرهم ممن كانت لهم مصالح تجارية واقتصادية في هذه البلاد.


التصوير في العصر الحجري 8000-2900ق.م


رسومات من كهوف ما قبل التاريخ بفرنسا

لم يعثر الباحثون على كهوف ومغاور في ربوع الشام، تتضمن أعمالاً تصويرية تعود للعصور الحجرية. كتلك التي وجدت للعصور الحجرية، كتلك التي وجدت في منطقة (البيره نه) في فرنسا، أو مغاور الكهوف التي تمّ اكتشافها في أوربا وإفريقيا، لكن التنقيبات الأثرية التي تمت في سورية أسفرت عن مجموعة من الدمى الطينية والحجرية، وبعض اللقى الأثرية التي تعود إلى العصر الحجري الحديث 8000-2900ق.م كالأواني الفخارية والأدوات التي نقشت عليها رسوم تزيينية مستمدة من البيئة الرعوية، تصور بعض المشاهد اليومية والحيوانات التي كان يستخدمها، ويستعين بها في مأكله وملبسه ومسكنه، فظهرت في رسوم ملونة على الآنية الفخارية التي كان يصنعها ببراعة واضحة.

واجهة متحف حلب
من آثار تل حلف

لقد صوّر الخزّاف في الجزيرة السورية وتل حلف، أشكالاً مبتكرة للحيوانات المحلية، وبرع في تصوير الثيران والخيول والطيور والزواحف بوضعيات مختلفة، وبالغ في تلخيص أشكالها ضمن صيغ جمالية ورمزية متنوعة، فجاءت صوره متميزة في دقتها ورهافة صياغتها، وابتعادها عن محاكاة الأشكال الطبيعية، ونزوعها نحو الاختزال والتبسيط، لتأخذ أبعاداً تزيينية وروحية، تختلف عن تلك الرسوم التي وجدت في كهوف الإنسان البدائي في (تميرا) والصحراء الليبية، التي تسعى إلى محاكاة الأشكال الطبيعية والوضعيات الحيوية للحيوانات المصورة التي تأخذ أشكالاً تمثيلية، إذ أن سعي الإنسان البدائي وراء طرائده في العصور الحجرية المبكرة، وخوفه من أعدائه، جعلاه شديد الانتباه، بالغ الملاحظة، فتمت حواسه المادية، وانعكس إلى السيطرة على الحيوانات من خلال حيلة سحرية زعمها في نفسه فلجأ إلى رسمها بصيغة واقعية دون أن يعمد إلى التفكير في تحوير أشكالها وإعادة صياغتها على نحو هندسي مبتكر.

لقد بدأ الإنسان مصوراً واقعياً يرسم ما تراه عينه، فجاءت رسومه أقرب إلى أشكالها الواقعية، لكنه ما لبث أن أخذ في تحويرها وتبسيطها كي تكتسب أبعاداً تزيينية وروحية، تخضع لقيمه الجمالية ومعتقداته الروحية. فقد كان الجانب المادي الظاهري هدف إنجازاته التصويرية في العصور الحجرية الأولى، لكن هذا الموقف تبدّل في العصر الحجري الحديث حين حظي الجانب الروحي والمعنوي باهتمامه، وبلغ بعداً واضحاً في تطوره، ثم أخذ ينظر إلى عالم ظاهري منظور أو آخر روحاني مستتر، ورأى أن الجسم فانٍ، والنفس خالدة «وهذا هو السبب الرئيسي الذي جعل من العصر الحجري الحديث يضع مقابل الواقع التجريبي المعتاد عالماً أعلى مصمما ًتصميماً مثالياً» لذلك أخذ الفن يتسم الروحانية، ويستعيض عن الأشكال المرئية بالرموز والمصطلحات، ويميل إلى التلخيص والتكثيف والتجريد في صياغة الشكل كما كان الأمر بالنسبة للكتابة حين حاول تحويل الأفكار والكلام إلى مصطلحات كتابية.


التصوير في العصر الآرامي (2900-612)ق.م
حين استوطن الكنعانيون بلاد الشام أقاموا فيها عدداً من الممالك، شملت ماري، وإبلا، ويمحاض، وأوغاريت، وقطنا، وإيمار، وموكيش، ودمشق بالإضافة إلى مواقع مختلفة، كشفت التنقيبات عن بعضها، وما زال بعضها ينتظر البحث والتنقيب.

امتد وجود هذه الممالك منذ 2900 إلى 612ق.م، وقد زخرت القصور الملكية والمعابد الدينية فيها بكنوز فنية مختلفة، تمثلت بالصور الجدارية والمنحوتات الحجري والطينية والخشبية والعاجية إلى جانب الأختام والرقم المسمارية المزدانة بالرسوم التزيينية التوضيحية. ولاشك أن العوامل الطبيعية والمسافة الزمنية لم تكن لتحفظ لنا تلك اللوحات التي تعتمد مادة الطين أساساً في تركيبها وتحضيرها، ولابدّ أن معظم هذه اللوحات تعرضت للفساد والتلف بفعل الزلازل والحرائق وغيرها من العوامل التي تعرضت لها عبر آلاف السنين، بينما حفظت لنا الأعمال النحتية الطينية ذات الحجوم الصغيرة، وظلّت النصب الحجرية صامدة أمام تلك العوامل.


من الرسومات الجدارية التي عثر عليها في القصر الملكي

ففي مملكة ماري الواقعة على الفرات الأوسط قرب مدينة البوكمال حفل القصر الملكي بمجموعة من الألواح الجدارية التصويرية التي تعود للألف الثاني قبيل الميلاد، وبالرغم من أن معظم هذه الألواح تعرضت للتخريب والتحطيم نتيجة الحروب والعوامل الطبيعية، إلاّ أن ما سلم منها يعطينا فكرة عن تطور فن الرسم الجداري لدى العموريين الذي يتسم بعراقته ونضوجه، وابتعاده عن المؤثرات الخارجية المباشرة، ولعل قيمه التشكيلية المتطورة في التكوين والتلوين تؤكد على خبرة ناضجة لدى الفنان في ميدان التصوير الجداري الذي انتشر في مصر القديمة وبلاد الرافدين.

وبالرغم من أن موضوعات هذا الفن اقتصرت على تصوير حياة الملوك وحروبهم وعلاقتهم بالآلهة، والطبيعة المحيطة بهم، إلاّ أنها شملت مفردات متنوعة تتصل بالعقائد والأفكار المتداولة، وبعض مظاهر الحياة العامة لذلك العصر.

استخدم الفنان الطين في تحضير الألواح التي أعدها للرسم وطلاها باللون الأبيض، ثم رسم عليها بالأصباغ الملونة (الأحمر ـ البني ـ الأصفر ـ الأسود ـ الأزرق) وأحاطها بإطارات مزخرفة من نفس المادة.

احتفظ متحف دمشق ببعض هذه الألواح، ومن أشهرها لوح يمثل (تقديم الأضاحي للآلهة) وآخر يمثل (تتويج الملك زمري ليم).

واللوح الأول لم يبق منه سوى قطعة أبعادها 175×85سم، وفيه يبدو الملك بملابسه الملكية الموشاة بالزخارف، يتقدم موكب الضحية نحو الآلهة ويتبعه خدم يقودون ثوراً لذبحه أمام الآلهة، وقد اعتمروا القلنسوات المكوّرة، وتزينوا بالقلائد، وهم يرفلون بالملابس الفاخرة المزوقة.

أما اللوح الثاني (تتويج الملك زمري ليم) فقد صوّر على رقعة أبعادها 175×250سم وقد أصاب التشويه بعض أطرافها، وهي تصوّر مشهداً عاماً للبيئة والحياة يتوسطها مشهدان مؤطران على شكل مستطيلين متصلين الأول في الأعلى وفيه يبدو الملك (زمري ليم) بملابسه الملكية الفاخرة الموشاة بالزخارف، وقد اعتمر قلنسوة كبيرة، يتقدم بوقار من الربة عشتار، ربة السموات التي وقفت منتصبة بكامل ملابسها الحربية، وهي تتقلد كنانة السهام، وتمسك بيسراها القوس، بينما مدّت يدها اليمنى إلى الملك، تقدم له خاتم الملك، ومن ورائها يقف كاهنان بملابسهما التقليدية، ولحيتيهما الطويلتين، في حين وقف خلف الملك أحد أتباعه برداء طويل فضفاض، يشارك مليكه بتقديم الطاعة للربة.


من الرسومات الجدارية بالقصر الملكي في ماري

وفي الأسفل صورة لربتي الينبوع تحملان إناءين ينبثق من كل منهما أربعة حبال ترمز إلى الأنهار، ويحيد بالمشهدين الرئيسيين مشاهد من الطبيعة متمثلة بأشجار النخيل الباسقة التي يتسلقها بعض الأشخاص، بالإضافة إلى طير في أعلى إحدى الأشجار، يهمّ بالطيران، بينما ربضت في الأرض بعض الحيوانات الخرافية المجنحة، وهي ترمز للحماية والدفاع وإلقاء الرعب في قلوب الأعداء، وتذكر ببعض النصب الحجرية في مصر القديمة وبابل أما أوراق النخيل فقد عولجت بأسلوب تزييني جميل، بالإضافة إلى الإطار الذي أحاط باللوح على شكل جديلة لولبية.

لقد صورت الشخوص والحيوانات في هاتين اللوحتين بنسب جيدة تقترب من النسب الطبيعية، وفي أوضاع جانبية، تشمل الأجساد والوجوه، وقد غطّيت معظم الأجسام بملابس تكاد لا تظهر فيها إلا الأطراف عارية وقد صبغت باللون الأحمر الداكن، بينما اعتمرت الرؤوس بقلنسوات وتيجان مقببة تخلو من الشعارات التي قد نجدها في القلنسوات والتيجان الفرعونية، أما الملابس فقد كانت أكثر تنوعاً في أشكالها وألوانها، وهي تتفاوت ما بين ملك وأمير وإله وكاهن وتابع، وقد اتخذت الأشكال تكوينات متراصفة ومنبسطة في أوضاع جانبية نمطية، بينما ظهرت بعض التأثيرات المصرية في تشكيلات أوراق النخيل وتزيينها، في حين تميل أشكال الأسود والسباع المجنحة إلى الرشاقة والحيوية.

وثمة صورة صغيرة موجودة في متحف حلب، تعود إلى نفس ألواح قصر (زمري ليم) وتمثل أحد أتباع الملك يجرّ ثوراً كبيراً ليقدمه للآلهة، يُلاحظ فيها اعتماد الفنان على الخط الأسود في رسم الأشكال الأساسية قبل معالجة سطوحها بالألوان، كما يضمّ متحف حلب مجموعة من اللوحات الجدارية الصغيرة التي أحضرها المكتشفون تل بارسيب/تل أحمر وهي تعود إلى العهد الآشوري حين خضع الآراميون لسيطرة الإمبراطور الآشوري (سلما نصر الثالث 824-858ق.م)، وهي صورة جدارية ملونة تتضمن موضوعات تصور انتصارات الملك الآشوري وحروبه مع الممالك التي أخضعها لنفوذه، كما تصور بعض أفراد حاشيته موظفيه، بالإضافة إلى عناصر هندسية وزخرفية. من أبرز هذه اللوحات صورة لجنود مسلحين في قارب تعود لعصر الإمبراطور (تغلات بيلصر الثالث 727-744ق.م).

وهناك لوحة في متحف حلب رسمت حديثاً بأبعاد 150×600سم تقريباً تصور مشهد صيد الأسود، قيل أنها كانت لوحة حيّة تعود لعهد آشور بانيبال وهي غنية بالألوان والحركة على نحو ما نشاهده في المنحوتات البارزة في الفن الآشوري، بيد أنها كانت في حالة سيئة، مما دفع بالمتشفين إلى إعادة رسمها.

والحقيقة أن هذه الصور الجدارية تبرز التطور الواضح في التصوير الجداري الذي عاد إلى صيغة المحاكاة والمماثلة للأصل عبر تكوينات واضحة المعالم وغنية بالتفاصيل الدقيقة والزخارف المتنوعة، وهي تعطي صورةً عن سيطرة المؤثرات الآشورية في تكوين ملامح الوجوه وزخرفة الأشياء وتلوينها على نحو يثير الدهشة والإعجاب، وتنم عن إدراك عميق للنسب والأبعاد الرياضية التي لا نجد لها مثيلاً في الفنون التي تلت هذه الحقبة، لاسيما في العصرين الهيلنستي والروماني. ولم تكتشف حتى الآن أعمال تصويرية ذات أهمية تذكر في إبلا وغيرها من الممالك الآرامية في سورية، وقد رأى (هورست كلينكل) في كتابه (آثار سورية القديمة) أن حضارة بلاد الشام خلال العصور الشرقية القديمة أفسحت مجالاً رحباً للتأثيرات الخارجية والتطورات المحلية الخاصة، وبالتالي أثمرت تنوعاً كبيراً في الأشكال الفنية.

فإذا تتبعنا النتاج التشكيلي السوري منذ الألف الثالث قبل الميلاد ولغاية سيطرة الفرس الأخمنيين على البلاد عام 612ق.م لوجدنا أن فنون مملكة ماري ترتبط بالفن السومري الذي ظهر في بلاد الرافدين في عصر الأسرة الملكية السومرية الأولى، وتشير الآثار التي عثر عليها في مدينة ماري التي قضى حمورابي على آخر ملوكها سنة 1700ق.م إلى قوة تأثير الطابع السومري.


من آثار عين دارا

أما المؤثرات الفرعونية فقد ظهرت في فنون أوغاريت وسواها من الممالك الفينيقية في سواحل بلاد الشام، بينما ظهر التأثير الحثي والآشوري في فنون الممالك التي نهضت شمال الجزيرة السورية (تل حلف، تل أحمر،ـ تل براك،ـ أرسلان طاش،ـ عين دارا ومع ذلك فنحن لا نعثر على آثار تصويرية تذكر في هذه المواقع التي حفلت بالإنجازات النحتية والألواح الحجرية ذات النحت البارز.

وقد خلت فنون إبلا رغم قلتها من المؤثرات الخارجية نتيجة موقعها الجغرافي الذي جعلها في منأى عن هذه المؤثرات، ومن هنا فإن فنون إبلا تمثل الفنون الآرامية بصورتها الفطرية النقية، ولعل ما فيها من تكوينات بسيطة مكسوة بزخارف فائضة تؤكد نصويتها وخلوها من التأثيرات الخارجية.

ومن المدهش حقاً خلو الآثار الفنية السورية من تأثيرات الفن الفارسي رغم سيطرة الفرس على البلاد طيلة حقبة تزيد على ثلاثة قرون.

التصوير في العصرين الهيلنستي والروماني 333ق.م-395م
بسط الإغريق نفوذهم على سورية منذ 333ق.م، وشرعوا ينشرون لغتهم وثقافتهم في البلاد من خلال عشرات المدن التي أسسوها كالاسكندرونة وأنطاكية وسلوقية واللاذقية وأفاميا، وتوافدوا بكثرة إلى المدن الجديدة، وأخذوا ينتشرون في البلاد ويختلطون بسكانها، فأنشؤوا المدارس لنشر حضارتهم وفنونهم وبنوا المسارح والمعابد والقصور، وأحضروا معهم عدداً من العلماء والفنانين الذين ساهموا في نشر الثقافة وتزيين المعابد والقصور والساحات بإبداعاتهم التي تجلّت بصورة رائعة في فن النحت الذي أعدت له الورشات الخاصة وأنشأت له المتاحف.

ولعل انصراف الإغريق إلى فن النحت كان سبباً في ندرة فنون التصوير، وقد تكون الآثار التصويرية تعرضت للدمار والتلف بعد خضوع البلاد للنفوذ الروماني عام 56ق.م، وهذا ما يفسّره ندرة المنحوتات التي عثر عليها في المدن السورية التي أسسها الإغريق.

ومع ذلك فقد شهدت دورا أوربوس التي أقامها الإغريق على الفرات الأوسط نشاطاً كبيراً في فن التصوير الجداري (الفريسك) في العصر الروماني مما يدل على عراقة هذا الفن وازدهاره في العصر الهيلنستي. لقد كشفت التنقيبات الأثرية في دورا أوربوس (صالحية الفرات) عن لوحات جدارية تمثل موضوعات دينية في أحد المعابد التابعة للتدمريين.

وتمثل إحداها مشهد (تقديم الأضاحي) وهي تعود للقرن الأول قبل الميلاد «حيث نشاهد المدعو كونون بن نيكوستراتوس يقوم مع اثنين من الكهنة بتقديم ذبيحة بحضور كافة أفراد عائلته. يمسك كونون بشريط زهري اللون ذي نهايات زرقاء، وبرباط آخر لعلهما كانا يزينان قرني الذبيحة. يتقدم كونون بخطوة كاهن يعتمر قبعة عالية بيضاء اللون ويرتدي ثوباً طويلاً أبيض اللون أيضاً، وأمامه مزهرية زرقاء من الخزف، ويظهر منها غصن نباتي. يحمل الكاهن بيده اليسرى طاسة وجرّة من الخزف لأزرق، نلاحظ وجود خنجرين في باطن الطاسة، ولابدّ أنهما كانا مخصصين لذبح الأضحية، هناك كاهن ثالث بجانب الأول يقف أمام مذبح للبخور أما بقية أرجاء المنظر فيملؤه أفراد عائلة كونون.

ونحن لا نجد في هذه اللوحة تأثيرات خارجية بارزة، إذ لا يمكن أن ننسبها إلا إلى العرب التدمريين، فالشخوص يظهرون بوقفات أمامية في مواجهة الرسام، وهي مواقف لا نجد لها مثيلاً في العصور السابقة، فهي عربية التشكيل، شرقية السمات، تمتاز باستطالة الأبدان والقلنسوات، أما الملابس، فهي عربية بسيطة تخلو من الزخارف، بيد أنها تمتاز بكثرة الثنايا التي تجسدت بخطوط بسيطة باهتة.

وفي معبد آخر عثر على لوحة يرجع تاريخها إلى سنة 250م وهي تمثل قصة النبي موسى «عندما وضع في سلة في النهر وهو رضيع، ورأته ابنة فرعون فأمرت خادمتها بإحضار السلة، وتظهر الأميرة مرة أخرى تستعطف فرعون مصر في عدم قتل الطفل وفي إعطائها إياه».

وقد ارتصفت شخوص اللوحة إلى جانب بعضها في وقفات أمامية استعراضية، حيث ترتدي النسوة ملابس شرقية فضفاضة طويلة، لا تُظهر عريها، وتجسدت الأشكال بخطوط قاتمة تحيط بها، ثم طليت بالألوان، وهي تظهر تأثراً واضحاً بالتيارات الهيلينستية أو الرومانية إلا في أنماط الأزياء فهي شرقية في موضوعها، وعربية في سماتها ومعالجتها مما يشير إلى ظهور الأفكار الدينية الجديدة على النتاج الفني في ذلك العصر. ويلاحظ استخدام أشكال العمارة والأعمدة في خلفيات اللوحة مما يحدد البيئة المكانية ويمنحها بُعداً ثالثاً يميزها عن جاريات الممالك القديمة في سورية.


رسومات على جدران
مدفن الأخوة الثلاث في تدمر

ولا يختلف أسلوب الرسوم الجدارية التي عثر عليها في المدافن التدمرية عن جداريات دورا أوربوس، فالرسوم التي وجدت في مدفن الأخوة الثلاث (ملأ ـ سعدى ـ نعمعين) تتضمن صوراً نصفية للأخوة ضمن دوائر تحملها ربات النصر المجنحة فوق كرات أرضية، وتحتها صور حيوانات، وقد أحيطت الأشكال بخطوط قاتمة، وطليت بالألوان (الأحمر ـ الأخضر ـ البني ـ الأزرق ـ الأسود) وهي ترجع إلى النصف الثاني للقرن الثاني الميلادي.

وفي الجناح الرئيسي للمدفن صورة جدارية تمثل .

وفي مدفن (حيران) بتدمر صورتان لصاحب المدفن حيران وزوجته، وقد وقف كل منهما محاطاً بأغصان الكرمة ذات الأوراق الخضراء والعناقيد البنفسجية، وقد ارتدى ثوباً طويلاً فضفاضاً بلون بني، وتميزت صورة الزوجة بقميص أخضر موشّى بحاشية حمراء، وتبدو خصائص الفن التدمري ظاهرة بثنايا الثوب التي اتخذت مسارات متوازية تبعدها عن واقعية الفن الهيلينستي. كما وجدت في هذا المدفن صورة نسر مبسوط الجناحين، يمثل لدى التدمريين (طير الشمس الكلّف بحمل الأرواح).

ويمكننا أن نستنتج من هذا العرض كثرة شيوع فن التصوير الجداري في ذلك العصر بيد أن معظم نتاجه دمرته الحروب وعاديات الزمن، وحفظت لنا الأرض القليل منه.

التصوير في العصر البيزنطي (395ق.م-639م)
تعرض فن التصوير في العصر البيزنطي إلى بعض النكسات التي أعاقت انتشاره نتيجة المواقف المتشددة في تحريم التصوير والنحت، فقد نشأت لدى الكنيسة البيزنطية وبعض الأباطرة والحكام المحليين في سورية عداوة ظاهرة نحو التصوير التشخيصي وتبلورت ظاهرة تحطيم الصور التي تصور الإنسان وتجسد الآلهة، ولم تكن تسمح بالصور إلا في المدافن ضمن شروط محددة، منعت النحت واقتصرت على التصوير الرمزي، لكن هذا الموقف أخذ يتغير حين شرع الرهبان في رسم الأيقونات التي يصورون فيها السيد المسيح ومريم العذراء والقديسين لخلق نوع من الحماية السحرية من تأثير الأرواح الشريرة، وإحلال البركات في النفوس والبيوت متجاوزين بذلك كل تحذير سابق في التصوير.

بينما توجه الفن في القصور والكنائس والأديرة نحو الصيغ التزيينية التي تعتمد على الزخرفة النباتية والهندسة من خلال اللوحات الفسيفسائية التي تطورت إلى حد كبير، وشملت مواقع عديدة سورية، بيد أن هذا الفن أضحى مفرطاً في الشكلية، ومتكرراً إلى حد الإملال، ومع ذلك فإن (هربرت ريد) يرى أنه من أنقى أشكال الفن الديني الذي خبرته المسيحية.

وقد ذكر الفنان الياس الزيات أن الأثر الفني الأول المسيحي في سورية يعود إلى أوائل القرن الثالث، وتحديداً سنة 240م، وقد وجد هذا الأثر في دورا أوربوس في بيت للتبشير والعماد مزين بصور جدارية تعالج مواضيع من الإنجيل كقصة (النبي موسى) التي أشرنا إليها سابقاً.

ولعل المتأمل للصور التي تزين الإنجيل الذي نسخه بالسريانية (رابولا الراهب) سنة 586م في دير (زغبة) قرب (الرها) يدرك طبيعة الأسلوب الفني الذي جرى عليه التصوير في العصر البيزنطي، ويلمس صلته بفنون التصوير الجداري في سورية، خاصة تلك الجداريات التي وجدت في دورا أوربوس، حيث يضم الإنجيل /26/ لوحة تمثل أبرز الأحداث في حياة السيد المسيح. قياس /25×33/سم.

«استخدم الفنان في لوحات إنجيل رابولا الأزهار والأشجار والحمامة والطاووس والسمك والغزال والأغنام والحصان والديك والبط والعصفور والحجل، ولم يكن لها وظائف دينية، بل كانت مجرد وحدات زخرفية».

ولعل من أجمل اللوحات التي جسدت ملامح من حياة السيد المسيح، (متى الرسول ـ الصلب والقيامة ـ الصعود ـ المسيح الملك ـ العنصرة) وتعتبر صورة (الصعود) من الأعمال التصويرية الرائعة التي تمتاز بالتكوين المتين والصياغة الشكلية الناضجة التي تظهر دقة الأشكال وحيويتها في التأليف بين العناصر الآدمية على نحو مثير للإعجاب والدهشة.

فاللوحة تنقسم إلى برزخين أحدهما سماوي علوي، يضم موكباً للسيد المسيح وهو يصعد إلى السماء، وقد أحاطت به الملائكة في تشكيل متناظر، والبرزخ الآخر أرضي سفلي تتوسطه مريم العذراء، وقد رفعت يديها نحو السماء، وأحاط بها رسولان، يوقفان تدفق الناس والأتباع من خلال كتلتين متوازيتين، تنبضان بالحركة، وإذا كانت صورة المسيح اتخذت وضعاً جبهوياً إلى جانب الملائكة الذين يحيطون به، فإن وجوه الرسل والأتباع اتخذت أوضاعاً متنوعة مائلة، باستثناء وجه العذراء الذي ظلّ في وضع جبهوي، وهذا ما يشير إلى قدرة الفنان في تنويع الأوضاع، وإخضاعها للقيم الدينية، فضلاً عن القدرة التعبيرية التي تجلت في ملامح الوجوه وتنوع الأزياء، وحركتها، وتناسب الأشكال وخضوعها للقيم الواقعية بما في ذلك ثنايا الملابس التي برزت من خلال التظليل اللوني الذي لجأ إليه الفنان لإبراز البعد الثالث المادي إلى جانب البعد الروحي، وهذا ما جعل إنجيل رابولا يمثل المهد الأول للتصوير المسيحي الذي انتشر في العالم.

==
مصدر هذه المادة
: من الحياة التشكيلية العدد 75


طاهر البني

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق