الفنان الراحل الفرد حتمل

27 تشرين الأول 2010

لقد رحل الفنان ألفرد حتمل عنا، في لحظة اكتمل فيها، ونضجت تجربته، وأعطت العطاء الجديد الموثر، وذلك في لوحات فنية أعدها لإقامة معرض فني، أو أكثر من معرض في آن واحد، وقدم الرؤية الفنية الخاصة، به، والتي تملك دسامة اللون، وتأليف الموضوع والتكوين المنسجم مع موضوعاته.. وكانت هذه اللوحات مفاجأة لكل من عرف ألفرد حتمل، إذ أنه تجاوز كل ما قدمه، في الماضي.

وكانت هذه التجارب الجديدة، نتيجة جهد واضح بذله، وذلك بعد سفره إلى باريس، وما تكون لديه من إحساس بأن عليه أن يرسم، ويبيع إنتاجه الفني، وذلك لكي يتمكن من تأمين نفقات العلاج، وكانت أزمة المرض تلاحقه مادياً ومعنوياً، فكأنه في سباق مع القدر، الذي يواجه الإنسان فيه شبح الموت، ويحاول بكل جهده أن يتغلب عليه بالإنتاج الفني، الذي أصبح بالنسبة له وسيلة الحياة الوحيدة، فالفن يملك القدرة على تخليصه من الوقوع تحت براثن القدر الذي يلوح له في كل لحظة من لحظات، وفي كل مناسبة من المناسبات، ولن يجد خلاصاً إلا بالفن الذي سينقذه حادياً، والذي سيجعله يحس بأنه قادر على الحياة إن عمل، وبذل الجهود وذلك سينعكس على نفسيته، وعلى حياته كلها.

وهكذا أتقن صناعة اللوحة، والعناية بها، لكي يقدم لنا معرضاً ناجحاً تماماً، وعرف من خلال الاحتكاك مع الناس الذين شاهدوا معرضه في باريس، أن على الفنان أن يهتم باللوحة، قائلاً:
ـ إن صناعة اللوحة، وتأمين مستلزماتها، شيء ضروري جداً، حتى يضمن الفنان للوحته القبول، وبالتالي تأمين التسويق لها.

وبالتالي تجاوز ألفرد، نفسه، بكل وضوح، وذلك لأنه انتقال من مرحلة الرسم السريع، وبأية مواد، إلى مرحلة الرسم على قماش، جيد، وبألوان متميزة، وهكذا وضعه القدر أمام الأزمة وجهاً لوجه، وجعله يدرك بكل وضوح أن أهمية اللوحة ترجع إلى الإضافة الضرورية الفنية والتقنية.


من أعمال التشكيلي الراحل
ألفريد حتمل

وحتى نستطيع أن نعرف كيف كانت البداية بالنسبة له، وكيف توصل إلى تحقيق ما حقق، من إبداع فني، ومن تطور، لابد لنا من أن نرجع إلى البداية الأولى، وإلى المرحلة الابتدائية.

كان طفلاً موهوباً، وكان يرسم باستمرار... منذ المرحلة الابتدائية، ولكنه لم يكن يلقى التشجيع الذي كان ينتظره، ولقد وجد هذا التشجيع في المرحلة الثانوية، وذلك حين تتلمذ على يد الفنان ناظم الجعفري، أولاً، الذي عرفه على الدراسة الواقعية، ورسم لوحات عديدة من الواقع، وبنفس الطريقة المألوفة لدى الواقعيين، رسم المناظر، وقدم الوجوه، والموضوعات الأخرى التي كانت البداية الأولى.

ثم التقى بالفنان أدهم إسماعيل، وتتلمذ على يديه، وشجعه أدهم إسماعيل على الرسم، ونظم له، ولبعض الموهوبين الشباب معرضاً في المتحف الوطني بدمشق، وكانت تلك هي البداية الأولى للتشجيع الذي عرفه، والمنطلق الرئيسي الذي أحس الفرد فيه بالموهبة إذ كتبت عنه الصحافة، وأشارت إلى موهبته، وهكذا فتح هذا المعرض الباب على مصراعيه، أمامه ليعمل، ويشارك في المعارض الفنية الرسمية المختلفة، والبداية لتكون شخصية ألفرد الفنية، التي كانت واقعية تبحث لنفسها عن شخصية، وتعتمد على الجانب الإنساني، الذي تعرف عليه من خلال صلاته بالفنان الراحل أدهم إسماعيل، الذي كان يشجعه على رسم هذه الموضوعات.

في العام 1962 عمل في وزارة الثقافة، مشرفاً فنياً، وكانت هذه هي البداية التي تعرفت فيها عليه، وكنت أعرف أعماله الماضية، لكنني اكتشفت فيه شيئاً نادراً، وهو أنه فنان صادق في تعامله مع لوحته، ومع الآخرين، يسعى إلى تطوير نفسه، فنياً، ويريد أن يشجع، كان طبيباً إلى حدود لا متناهية، وإنساناً لا يتقن إلا الصدق، وهكذا عمل في (مديرية الفنون الجميلة) نشرف على تنظيم المعارض، ويساعد في كل ما يُطلب منه، وكان دائماً يُعتمد عليه في كثير من الأعمال التي تتطلب الجهد، وكان يقابل ذلك كله [بضحكة] مأثورة عنه، وبكلمات معروفة كان يقولها:
ـ يا الله؟
ولقد كان في الكويت حين نظم الأسبوع الثقافي العربي السوري، وكلك كان في الرباط، ليشرف على جناح نقابة الفنون الجميلة، ضمن معرض اتحاد الفنانين التشكيليين العرب، وكان دائماً ملبياً لكل الطلبات، مساعداً لنا على إنجاز الكثير من الأعمال بروح صادقة، وبنفس متفانية.


من أعمال ألفريد حتمل

وإذا انتقالنا إلى دراسة تطور إنتاجه الفني، نلاحظ بأن تجربته قد مرت بثلاث مراحل حتى توصلت إلى ما وصلت إليه.

المرحلة الأولى: الواقعية

ومن يشاهد لوحاته الأولى التي عرضها، ومنها لوحة (الخريف) لعام 1960، ولوحة (نظرة صامتة) التي قدمها لمعرض الربيع 1960، وكذلك لوحة (منظر) رسمها هي الأخرى بنفس العام نستطيع أن ندرك أنه كان يرسم الأشجار بانفعال واضح، وبضربات فرشاة عريضة، ويؤثر أن يحسسنا بأن المنظر الذي يرسمه ليس هادئاً، رغم الهدوء الظاهر مما يكشف لنا عن النفسية الإنسانية أخذت شكلاً خاصاً، فالتعبير الإنساني عن الحالة يكون بحركات ضربات الفرشاة، وليس بغيرها، ودسامة اللون الموحد هي الأساس، ولوحته (نظرة صامتة) تعطي فكرة عن بداية رسم وجود الأشخاص بالدقة الواقعية، مع إضافة هامة، تكمن في أسلوب التعبير عن الأعماق، وهكذا يجعلنا نترك الفعل المباشر للموضوع في سبيل البحث عن النفسية التي تقدم لنا مفهوماً جديداً لرسم وجه فتاة.

وهكذا كان واقعياً، يضيق ذرعاً بأن يقف عند النقل التسجيلي لما يراه، باحثاً عما يختفي خلف المنظر، أو خلف النظرة، أو يؤكد على تطاول شجرة، وتفردها، ليعطي الموضوع أحياناً ويوحي بأن الموضوع ليس نقلاً مباشراً عن الطبيعة، وإنما الوصول إلى تعبير إنساني من خلال عناصر المنظر.. وأشجاره.

وقد ازدادت هذه التحويرات للواقع مع الزمن، وهذا ما نراه في معرضه الذي نظمه في المركز الثقافي العربي بدمشق في العام 1961، وكذلك اللوحات التي عرضها في معرض الربيع والخريف للعام 1961، وهناك لوحة (الفتاة الريفية) التي رسمت في نفس المرحلة.

إن لوحة ألفرد حتمل [العاصفة] التي عرضها في المركز الثقافي بدمشق، تعطي الفكرة عن التجاوز، وعن القدرة على معالجة كلها حيوية وحركة، وفيها الصياغة العبيرية المعبرة عن الموضوع، وهكذا أعطى الطبيعة الديناميكية، وجعلها تنطق بما في أعماقه.

أما لوحته (من الريف) التي قدمها لمعرض الخريف عام 1961 فقد تحولت اللوحة إلى تأليف غريب، أهم ما فيه التضاد بين حيوية الشجر المتداخل الموضوع، وحركة هاتان الشجرتان تدلان على إضفاء الروح الإنسانية على الطبيعة وتداخلها، بحيث أصبحنا أكثر أهمية من كل الموجودات، فالخطوط مستقيمة في البيوت، لكن الأشجار تلتف، لتوحي بالطبيعة المأساوية للواقع المرسوم.
أما لوحته (القروية) التي رسمها تتحرك عائدة إلى القرية، فقد عبرت عن الموضوع الريفي، ونحس بالانسجام والتآلف بين المرأة، والشجرتين، فالمرأة تستظل بإحداهما، وقد تضخمت الأولى معبرة عن هذا الموضوع.


من أعمال التشكيلي الراحل
ألفريد حتمل

وفي المعرض الذي نظمه (ألفرد حتمل) في صالة الشعب عام 1974 نحس بأنه يسير بنفس الاتجاه، لكنه يركز على المواضيع الإنسانية والشعبية، ولقد كتبت في دليل معرضه الكلمات التالية:
ـ [كان ولوعاً بالمواضيع الشعبية والحارات القديمة، ورسوم الفلاحين في الريف، والصناعات اليدوية التي تربط إنتاجه بكل ما هو أصيل من المواضيع].

ومازلت أذكر لوحة (الحصاد) التي رسم الفلاح فيها والثور يكافحان معاً الأرض، ويتغلبان على كل عقبات الطبيعة القاسية، وكذلك كانت المفاجأة تلك الروح الجديدة التي يعالج بها مواضيعه في ضربات الفرشاة السريعة، التي أصبحت أكثر دقة، وأقدر على التعبير عن الموضوع، والتي تلخص لها الجانب التعبيري الذي بدأ يتعاظم تأثيره عليه، كلما أوغل في رسم مواضيعه من الواقع الريفي، وهكذا لخص لنا موضوعه بضربات الفرشاة، ولم ينقل حرفياً مشاهده، وكذلك تطور من حيث الألوان، فلم تعد تنقل ألوان الريف، بل أصبحت لها مضمونها المرتبط بالموضع، وهكذا تكامل بحثه اللوني والشكلي.

وقد كتب عنه الفنان الراحل نعيم إسماعيل قائلاً:

تظهر محاولات ألفرد حتمل على أنها محاولات جادة وصافية للاستبقاء على الواقع، والاحتفاظ في العلاقة المتينة الوطيدة بحياة الجماهير، ومعالجة المشاهد المألوفة والقريبة والتي تحس بشكل واضح وصريح مشاكل الشعب بمحبة عميقة، وإحساسات فنية غنية بعيدة عن التكلف والإدعاء.
وكتب الفنان ممدود قشلان:
ـ والموضوع عنده لا يعبر عن مشاكل خاصة، ترتبط بذاتية الفنان فقط، بل يندمج في موضوع الإنسان الذي يكدح ويعمل متناسباً حتى نفسه.
وكتب الفنان عيد يعقوبي:
ـ كنت أحس بثورة فرشاته، وهي تنتقل على سطح اللوحة ليخاطب بها البسطاء، بلغة الفن البسيطة، لغة هذا الشعب الذي تتمثل فيه صفة الطيبة والبراءة والبساطة أيضاً.
وهكذا أعطى في هذا المعرض عدة موضوعات، كشفت عن عمق ارتباطه بالمواضيع الشعبية، وعن بساطة نقله... لما يرى مع إحساس بأنه لا ينقل ما يرى، بل يحوره ليصبح أكثر درامية، وأكثر تعبيراً، عن طريق الحركة التي يعطيها للأشياء، والموجودات، وهذا يكشف عن فنان تداخلت شخصيته مع مشكلات الناس، فأصبحت ريشته تتحرك بكل صدق لنقل مشكلاتهم، من خلال تحويرات الأشكال، واللون الذي يقدم الموضوع.


من أعمال التشكيلي الراحل
ألفريد حتمل

المرحلة الثانية: ملحمة الإنسان والأرض

وفي العام 1978، نظم ألفرد حتمل معرضه الثالث في صالة الشعب للفنون الجميلة، وفي هذا المعرض تجلت النقلة النوعية الكبيرة التي قدمها، والتي أثارت إعجاب من شاهد المعرض.
ولقد غمرني هذا الإحساس، حين شاهدت لوحاته، وكتبت يومها:
ـ «ضم معرض الفنان ألفرد حتمل الذي أقيم في صالة الشعب للفنون الجميلة، مجموعة من الأعمال الفنية، التي تعالج موضوعاً يكاد يكون واحداً، رغم تعدد طرق المعالجة، وهذا الموضوع يرتبط بالريف والحياة اليومية، ومعاناة الإنسان في هذا الريف، وآلامه، وتتجلى هذه المعانة من خلال الحركات والوجوه ونحس بأنها شاملة، لأن كل ما يرسمه ألفرد، يضعه ضمن حركة من الخطوط التي تجعل الإنسان يعيش المأساة، والتي تنبعث من الأرض، والتي تجعل عمل الإنسان، وجهده المضني، مؤلماً غاية الإيلام.

ولهذا قلت بأن معرضه يمثل (ملحمة الإنسان والأرض)، والمواضيع هي عن [المرأة] و[الريف] و[الأرض]، ومعاناة الإنسان من خلال علاقته مع الأرض، وفرحته بتجديد الحياة والولادة متغلباً على الآلام والمآسي، وذلك لأن الفنان، عرف أن الحياة دوماً تعطي البعث والتجديد، ولهذا الأهمية الكبيرة.. طالما أن الموت موجود وكذلك الآلام، وهكذا يتم الخلق والتجديد.

وفي الحقيقة استطاع ألفرد أن يحقق في معرضه، عدة أمور هامة جداً.
ومن أهمها أنه يرسم (الإنسان) ليس بالصناعة الواقعية المعروفة، وليس الشخص العياني المشخص، بل الإنسان على نحو رمزي، يرسمه من الذاكرة، فالأجساد أطول... مما هي عليه في الواقع وكذلك الأيدي، ولهذا فهي رموز فلاحية، وهكذا لم يعد يهتم بالتدقيق على رسم إنسان محدد، بل رسم الإنسان الريفي، كما يتصوره طويلاً، وقوياً، وله من طوله ما يساعده على مغالبة المشاكل، وهكذا تطورت الفكرة الواقعية عنده.
وكذلك اللون، فاللون قريب من لون تربة الأرض، ويوهج هذا اللون بالضوء، ولا يدرجه إلا نادراً، وهكذا يتلاعب بالألوان ليقدم الفكرة، ولهذا لم يعد اللون واقعياً، بل أصبح يعكس الحزن، أو المأساة، أو حتى الفرح، ولهذا فالمرأة التي تفرح لولادة طفل تختلف في ألونها عن (المرأة) التي يسيطر عليها الحزن، وهكذا عكس من خلال الأشكال والألوان المآسي، وقدم لنا المقاومة الإنسانية المشروعة للمآسي، عن طريق الولادة والحياة.

أما تأليف اللوحات، فهو يلجأ إلى تكوينات بعيدة عن الواقع التسجيلي من أجل تأليفات بين الأشكال والسماحات، وهذا يجعل عمله أكثر تحرراً وحيوية من التقديم بما هو واقعي، ويخلق التأليفات المختلفة المنسجمة مع المضمون الذي يريد، وهناك لوحة يصور فيها (الفلاحة) وقد تحولت إلى مصدر إشعاعي ضوئي، وهكذا تطورت المفاهيم الفنية وذلك وفق الإلحاح على الإنسان بالصياغة الرمزية والتعبيرية مع المحافظة على الواقع.

ورسم ألفرد عدة لوحات بعد المعرض، وشارك في عدة معارض هامة، وقد أتيحت له فرصة السفر إلى إيطاليا عام 1980، ونظم معرضاً لأعماله هناك، وكانت التجارب التي عرضها فيها الحركة والتعبير وفيها التأليف الأكثر جرأة، والتي جعلته أكثر ثقة بنفسه مما كان، ولعل وجوده في روما، والاحتكاك مع الفن الإيطالي قد جعله يقدم لوحة أكثر بساطة، وذلك عن طريق رسم امرأة أو أكثر في الطريق، والتركيز على المرأة، وعلاقتها بالأرض، والطفل، والأمومة، والنسوة تتحاور مع بعضها، وهكذا أصبحت المواضيع تنفذ مباشرة، ودون تمحيص أو إعادة رسم لما كان قد رسم، إنه أصبح قادراً على الإنجاز للوحة بخطوط صريحة، وبشكل مباشرة مما يدل على مدى التحسن الذي حققه في روما.

وعاد ألفرد من روما وهو يمتلئ حماسة لرسم اللوحات، وقد شجعته الكلمات التي كتبت عنه، وبدأ يطور لوحته وذلك عن طريق البحث عن أسس هندسية، ليربط اللوحة، ويؤكد على أهمية هذه العناصر في تأليف العمل الفني، ويقدمه على أسس هندسية، وهكذا خلق أشكالاً جديدة، لها طابعها المتين، الذي يختلف عن التأليف العفوي للمرأة والأرض، إن الأرض أصبحت عبارة عن كتل هندسية، والأشكال الإنسانية أخذت صورة متناقضة مع طبيعة الأرض، وهكذا نقل الصراع والمعاناة من شكلها الأدبي، إلى الشكل الفني، فالأشكال العفوية تتقابل مع التحويرات الهندسية، وهكذا توصل إلى مفهوم جديد لتكوين اللوحة، التي لم تختلف موضوعاتها، ولكن اختلفت أساليب التعبير، ليؤكد على العلاقة بين المرأة والأرض بشكل جديد.

وتتنوع التجارب الفنية، وتزداد الموضوعات متانة وقوة، وتزداد قدرته على التلاعب بالأشكال الإنسانية، ويصل إلى الصياغة المميزة في عدة لوحات رسمها في بداية الثمانينات، وكلها تدور حول موضوع الإنسان في علاقته مع الأرض، ونحس بأن البحث عن الصياغة الفنية المتجددة هي الأساس، وخلق علاقة فنية خاصة هي المنطلق.

ومن أهم هذه اللوحات لوحة تمثل امرأة تقف على قدميها، وحولها جثث القتلى، من الأطفال، وقد أصبحت التأليف له أساس كلاسيكي، الهرم الذي يعبر عن أهم هذه التأليفات المعروفة، ولكن اللوحة تعطي الفكرة ذاتها عن أن الحياة تنبعث من الموت، وهكذا يكون التجديد، ونحن من خلال الكتل التي تحورت إليها الشخصيات بأن الأمل موجود رغم المحن، وكذلك اللون الذي يلعب دوراً هاماً، صحيح أن اللوحة لها لون واحد من تدرجات الأحمر الوردي، لكن تلك الوحدة في اللون من وجود لون أزرق في الأفق له جمالية خاصة تنسجم من ألوان الأشخاص، إن لوحته التي تصور القيام بعد الموت تعطي الصورة عن الرؤية الجديدة للمعالجة الفنية التي قدمها.

وفي لوحة أخرى تصور مجموعة من النسوة التقين معاً أمام فرشاة عريضة، تعالج سكرات الموت، نرى التأليف الفني للوحة قد أخذ شكلاً عضوياً، وقوامه الحركة في الخط التي تربط النسوة برباط متحرك، وهكذا تحقق الوحدة للموضوع عبر الحركة والتلاعب بالخطوط اللينة التي تعطي المشاهد شكلاً من التكوين على صلة بالخط اللامتناهي في الأرابسك، وهكذا تنسجم اللوحة.

وكذلك فعل في لوحته عن الاستراحة والمرأة النائمة، فالاستراحة تتطلب علاقة حركية بين خطوط جسم المرأة، واليدان اللتان استطالتا، مع الرجلين، لتؤلف جميعها تكويناً عضوياً، حركياً، ووجه المرأة قد بدا متعباً معبراً عن المشكلة، وتعكس حركة اليدين اللتين تقاربتا مفهوماً حركياً، واستمرارية، فكأن المرأة التي استراحت لا تريد هذه الراحة بل ترغب في مزاولة النشاط، أما المرأة النائمة والتي تمددت على الأرض بلون هو ضوء تترابط مع الأرض، وتشع، فكأن هذا النوم، والاطمئنان إلى الأرض هو الذي يعطيها الحياة، وهكذا تتجدد من خلال النوم من أجل يقظة جديدة وعودة إلى العمل والحياة.

المرحلة الثالثة: مرحلة النضج

وكما نوهنا إن المرحلة الثالثة هي مرحلة النضج عن ألفرد حتمل، وهذه المرحلة أخذ أبعادها في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات وقد تميزت بالقدرة على السيطرة على اللوحة، والبساطة المتناهية في المعالجة، فالأرض هي التي تتوهج، وهي التي تأخذ الأهمية الكبيرة في مساحة اللوحة، والناس يعملون في هذه الأرض، بدرجة إضاءة إضافية، واللون يكتمل عن طريق خلق جديد يتجلى في أن الأشخاص قد أصبحوا ظلالاً، كأننا نراهم والضوء ينبعث من ورائهم من الأرض، وهكذا تكامل البحث وأعطى فيه ألفرد حتمل خلاصة مكثفة لكل تجربته.

وأخيراً؟

وهنا، لابد لنا إذا أردنا أن ننصف ألفرد حتمل من أن نقول بأنه فنان استطاع أن يصل إلى تحقيق ما وصل إليه مكافحاً، وأعطى ما أعطاه معتمداً على نفسه، ومن خلال الجهود الكبيرة التي بذلها، إنه عصامي بكل معنى الكلمة، شق الطريق وتغلب على العقبات مكافحاً، ورغم ظروف الفقر التي عاشها، والحرمان، والمشاكل.. يظل يعمل ويعمل بلا كلل، وحقق ما حققه بجهده، واستمرارية عمله، وكانت كل الرموز التي استخدمها، والمواضيع التي قدمها لنا، معبرة تماماً عن رؤيته للحياة، إنها في التجديد للحياة، وهي العمل المتواصل للوصول، وكل امرأة رسمها تمثل نفسه، وكل أرض قدمها تعكس أرض بلاده، فكأنه يريد أن يقول إن الارتباط بالأرض، والعمل المتواصل هما أساس الحياة في الكون، ولن نبقى إن لم نعمل؟ وإن تجديد الحياة يرتبط بعملنا، وقدرتنا على الوقوف مرة أخرى، ومتابعة العمل، والإنتاج.

==
مصدر المادة
: الحياة التشكيلية العدد 49 - 50.


طارق الشريف

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق