لا تقولوا لدمشق كنتِ

14 05

قولوا لها: أنتِ

هذه الندوة تمثل موقف وفاء لهذه المدينة التي تعطي ساكنيها الفخار بأنهم في بلد العراقة والغنى والثقافة أي في عب التاريخ، ثم تعطيهم الفخار بأنهم في ملتقى الجبل بالسهل بالنهر بالواحة بالصحراء، أي في عب الجغرافيا.
ومن المؤكد أن المشاركين في هذه الندوة وهم من نجوم المعرفة سيلقون إضاءات جديدة على تاريخ دمشق وجغرافيتها وسائر معانيها ومزاياها، ولكن الوفاء يقتضي أن تكون هذه الإضاءات حافزاً لنا، في النهاية، للعمل على حماية مكتسبات الماضي وخيرات الأرض والمعرفة، وإلا فما حاجة التاريخ والجغرافيا لكل هذا المجهود؟
ولقد أسعدني أنني دعيت لإلقاء كلمة في مفتتح هذه الدورة فوافقت وأنا أعرف مكاني. فأنا بوجه عام لا أحفر في العمق في أي اتجاه ولكنني أنداح على عرض الثقافة والساحة الإنسانية بحثاً عن الروابط بين الأشياء والاتجاهات. هذا أنا وهذا عملي المعتاد وأراه مفيداً لأنه يحاول أن يلملم أشتات المعارف ويوحدها في منظومة متكاملة. ولذلك فإن دمشق كانت دائماً تعنيني ليس فقط لأنها مدينتي ومولدي ولكن لأنها هي أيضاً منظومة متكاملة من سكان فيهم دائماً الأصيل والنزيل والزائر والمجاور والغازي، ومجموعة كاملة من المزايا والصفات يجب التنقيب عنها ليس في بطون التلال كما يفعل الأثريون وإنما في معالم الحياة كلها. فإذا سرنا في هذا الاتجاه ماذا وجدنا؟ مدينةً بنت نهر، أي فيها ندى وطراوة في الطباع والسلوك. واحةً في بادية أي ملتقى لكل القاصدين يحطون فيها تعبهم وأسفارهم وثرواتهم. همزة وصل بين الجنوب والشمال والشرق والغرب في رحلات الشتاء والصيف والربيع والخريف أي مركز كبير للتجارة، وكما كانت في الماضي معبر القوافل المحمولة على ظهور الجمال فما زالت إلى اليوم معبر القوافل المحمولة على كميونات الترانزيت وعقدة التواصل بين ثلاث قارات هي كل العالم القديم وأكثر عالم اليوم. وهي بعد ذلك وفوقه سوق أدبية وملتقى فكر وعقيدة ومنبت اتجاهات.
ولعل مسألة النهر أول ما يجدر بحثه. فقد عشت مع فروعه التي تتشعب بدقة عجيبة ووزعت مياهه على دورها في براعة هندسية تشهد على فكر نظري وعملي ومن أجل ذلك نقبت الصخر على بُعد عشرات الكيلومترات ودوزنت المقادير وزرعت الأشجار فصارت جنة وملتقى الأفئدة ونقطة الجذب، وشربت طباعها من مائه الشروب وترقرقت مثله عواطف أهلها حتى صارت الدمشقة علماً على سلوك الحضارة والندى والانسياب والإيروديناميكية التي تستوعب كل الصدمات وتحرفها دون أذى. إن عدالة توزيع المياه بين الشفة والأرض وبين المستحقين لا يمكن أن تكون إلا في مجتمع يحترم القيم، ودمشق كانت كذلك وإلا لزالت كل الترتيبات أمام العدوان والتزاحم على أثمن ثروات البشرية، أعني الماء. ومن هذه الدَوْزنة والإدراك الهندسي بمعانيه الخلقية والعلمية جاء التوجيه الدمشقي للبيوت نحو القبلة. ففي منتصف الكرة الشمالي وخط العرض الذي نحن عليه تكون الشمس عالية المدار في الصيف حين تحتد الحرارة فلا تدخل البيوت لأنها لا تميل الميل الكافي الذي يسمح بذلك. أما في الشتاء فمدارها منخفض ومتجه من الجنوب نحو الشمال فتدخل الشمس إلى قلب الغرف وتدفئها. إن كل بيت في دمشق من البيوت الجميلة التي بناها صناعها من النجارين وهم مهندسو الزمن الماضي، ومنهم أبي رحمه الله، كان موجهاً نحو القبلة في جانب منه، وما كان منه نحو الشمال جعل قاعة للصيف حيث تطيب البرودة والبعد عن الشمس. ثم كان من ذكاء هؤلاء البناة أنهم استخدموا من مواد البناء قليلاً من الحجارة للأساس وجدران التحمل، مع توفر الحجارة في بلد يتكئ على جبل، ولكنهم جعلوا الباقي والتقسيمات من مادتي الخشب واللبن الموفورتين في المحيط ـ وليس من يجهل جمال الحور في دمشق ـ وهذه مانعة للحرارة والبرودة، خفيفة لا تزن كثيراً وتتفق مع هشاشة التربة في أرض أصلها للزراعة.
ومن كونها ملتقى القوافل ومحطة الراحة بعد السفر الطويل ونقطة التقاطع والواحة نشأ مجالها التجاري، والتجارة متى كانت أخذاً وعطاء صارت أخلاقاً متميزة بالرغبة في الكسب والتوجس من النهب وطراوة في المعاملة وميل إلى الاستقرار وكرم بمقدار، فلو فتح التاجر كيسه لكل قاصد لأملق بسرعة. ولذلك كان التاجر الدمشقي أو الدمشقي عامة معروفاً بأنه لا يغلق يده ولا يبسطها كل البسط، ولا تنتظروا من كل تاجر أن يكون حاتم الطائي. وإذا كان الدمشقي كريماً فإنه محبوب، لاسيما وأنه مقصود دائماً، وما أزال أذكر في صغري كيف كانت تأتي إلى دارنا جموع من ضيوف الإقامة فيأتي الرجل وزوجه وأولاده ومعهم رمدهم وأمراضهم يتداوون منها وكان أبي لأنه نجار وليس تاجراً يحتمل ويحمّلنا ذلك ولكن الأمر كان تحملاً لا مسرة. وأما موقعها الأدبي فإنها تتقاسمه مع عدد من المدن العربية المشابهة، وقد ظلت مركزاً للإشعاع الفكري ولاسيما حين صارت العاصمة العربية الأولى في وقت مبكر من التاريخ.
ماذا أقول أيضاً عن سماتها الفكرية والمعنوية، وأعني أهلها؟ لقد كانوا مقتدرين في الهندسة وتشهد على ذلك أمور مياههم، فكيف كانت حارات دمشق معوجة؟ قلت أنا لعل ذلك ناشئ عن أمرين أولهما سهولة الدفاع عن أزقة متعرجة في أيام الخوف ـ وما أكثرها في تاريخ دمشق المطموع بها ـ والثاني سهولة تنقل النساء بين البيوت إذ كان الرجال الذين يسيرون فيها يعلنون عن قدومهم بصوت مرتفع بقولهم يا الله يا ستار. وقد أشار محمد كرد علي إلى طباع الدمشقيين بقوله أنهم كانوا لا يظهرون النعمة وهذه من صفاتهم وطباعهم لأن الدمشقي كان إذا ظهرت عليه النعمة سجن أو نهب أو قتل، وربما كان هذا أيضاً من الأسباب في أن البيت الدمشقي خامل المنظر من الخارج جميل من الداخل.
والحياة الإسلامية تركت طابعها على ترتيب البيوت فكان فيها مكان للرجال قريب من الباب ومكان للحرم داخل الدار، وكان إيوانها موجهاً دائماً إلى الشمال ليكون ملاذاً من الحر، وكانت بحرات الماء وسط القاعات وفيها نوافيرها الصغيرة، وكانت بيوت المؤونة في نوع من الأقبية يصلح جداً لحفظ المؤونة من الصيف إلى الشتاء، ولعل الجيل الجديد الذي يشتري حوائجه من الدكاكين والسوبرماركيتات حسب الحال نسي كيف كان القدامى يصنعون القاورمة أي اللحم المحفوظ بالملح ويقلى بدهنه فيأخذون منه كل الشتاء، ويجففون الكوسا والباذنجان والبندورة ويشرشون ورق العنب بالماء والملح ويصنعون الزيتون والمكدوس والمعقود لأيام الشتاء الطويلة.
ثم ماذا؟ إن ساكني دمشق وفيهم الأصيل ـ وهذا يُباد من حين إلى حين كما جرى مرات عديدة وأقربها في مذبحة تيمورلنك ويأتي من سكان سورية من يحل محله، ثم النزيل والمجاور والمهاجر، قد جعل دمشق خاصة ـ لأنها كمركز تجاري لا تحتمي ولا تتقوقع ـ مصلبة لأبناء الشعوب الأخرى. ولذلك سيروا في شوارعها اليوم تجدوا وجوهاً مغولية وتترية وهندية وصينية وأوروبية وزنجية وغيرها، ثم افتحوا دفتر الهاتف تجدوا آثار هذا الاختلاط في أسماء العائلات العريقة. ففي دمشق عائلات الهندي والأفغاني والإيراني والعجمي والبغدادي والموصلي والعاني والأورفلي والمارديني والاسطنبولي والقونيه لي والكردي والشركسي والداغستاني والقزويني والرومي والروماني والططري والقبرصلي والأرناؤط... هل أمضي أكثر فأذكر من يحملون أسماء البلاد العربية الكثيرة الأخرى؟ إن مدينة فيها كل هذا الخليط الهائل من الشعوب بالهجرة والإقامة والتزاوج لابد أن تحمل فضائل هذا الخليط وربما نقائصه، ولكن علم الأقوام فيما أعلم أميل إلى اعتبار الخلطة جالبة للحسن والذكاء مطورة للحضارات.
ومثل هذا التنوع في الأصول ترك آثاره في اللغات التي تداولها الناس في ماضي دمشق قبل العربية وفي أسماء المدن والقرى. ففيها السرياني وفيها الفارسي وفيها الرومي. إن محمد كرد علي في كتابه عن غوطة الشام قال إن كل ما بدأ بكلمة كفر وتعني القرية في السريانية، وجرمانا تعني العظمى، وجوبر من جويبار الفارسية أي النهر العظيم وهناك توازن في أسماء القرى مثل صيدنايا وصحنايا وتعلبايا وجمرايا وسرغايا ومضايا وأوتايا، أو مثل قرحتا وحرستا وبقعاتا وعيناتا. وحدثني العلامة عثمان كعاك حين أطلعته على أسماء القرى حول دمشق أن عرطوز موجودة في تونس أيضاً واسمها هناك عرطز وهي مشتقة من هورتوس اللاتينية وتعني البستان.
هذه لمحات دمشقية. وأضيف إليها ما ذكرته في كتابي (حديث دمشقي) من أنني كنت إذا سألني سائل أنت دمشقي؟ أجيب نعم ولكن بعد تيمورلنك، وأحسب أن في جوابي رداً ضاحكاً على الذين يصفون الدمشقيين دعابة بأنهم بناديق تيمورلنك. وأضفت أنني حين قرأت قصة تيمورلنك وكيف حاصر مدينةدمشق وعجز عن دخولها حرباً ثم تسلل إليها بالخدعة وهنا أخذ منها كل عالم وكل معلم وكل صانع ماهر مع أسرهم وأولادهم وأعمل في الآخرين قتلاً حتى لم يبق في دمشق ديّار ولا نافخ نار، لم يترك في دمشق أحداً ولا حفظت الأرحام أثراً من آثار إباحته للنساء فيها: إن إباحة النساء للغازي المنتصر في المدن المهزومة مشتركة بين كل بلاد العالم حتى في العصر المتمدن إثر الحروب، وقلت إذا كان المقصود ما تركه تيمورلنك وجماعته من نسل في سورية فإن الحلال في مئات القرون ينجب ألف مرة أكثر مما يتركه الحرام في بضعة أيام. ثم أضفت أنني إذا سألني السؤال نفسه أحد الناس الآن أجبت: نعم فأنا من بلد ما أحنى رأسه للغازي ولا دخله الغزاة سلماً من أقدم أيام التاريخ ولا خرج رجاله ونساؤه يهللون للفاتحين الأجانب. أنا من دمشق.
وأخيراً فإن دمشق الآن مظلومة. إن هذه الندوة تأتي في وقت تعاني فيه دمشق من أنها بلد التكاثر الناشئ ـ ليس عن التولد وإنما عن التوافد، حتى صار سكانها الآن اثني عشر ضعفاً عما كانوا عليه في الثلاثينات مع أن تكاثر السكان العام في سورية هو ستة أضعاف أو أقل في الفترة نفسها. والقادمون في طلب الرزق أو لأن دمشق قريبة من الجبهة فهي بلد مواجهة أو بسبب طردهم من ديارهم في فلسطين والجولان كلهم من الفقراء فارتجلوا في أطراف المدينة أعشاشاً لا يمكن تصور فوضاها وليس في سورية قرية إلا وهي أجمل منها وأكثر انتظاماً، ومن عجب أن كل أطراف دمشق صنفت مناطق مخالفات ومع ذلك لا تهدم. وحدثني أحد رجال بلدية دمشق زاره ألماني فسأله مواطننا ما هو نظام المخالفات عندكم فاستغرب الألماني وقال:
وهل للمخالفات نظام؟ المخالفة لا يجوز أصلاً أن تكون ولا حل لها إلا بأن تزال. إن الضغط على دمشق ليس فقط بالعمران الرديء القميء وبالاعتداء على شبكات المياه والكهرباء وبالضغط على التموين وعلى سوق العمل والمواصلات وبزحف الإسمنت على المناطق الخضراء مما لا تعرف مثله المدن الأخرى بهذه النسبة على الأقل، إن الضغط وصل إلى حد النظافة التي ساءت والجو الذي تلوث والمياه التي اتسخت.
وذات مرة فاجأت المستمعين على التلفزيون بأنني الآن وأنا أدخل المبنى رأيت صديقاً قديماً لي أعرفه منذ فتحت عيني على الحياة، وكان شاباً نظيفاً نشيطاً قوياً بشوشاً يحب النزهات ويحيط نفسه بالورود وبالشباب والصبايا والغناء، رأيته الآن وقد شاخ وهرم وظهرت عليه آثار القذارة وفاحت منه روائح لا تحتمل، وهو يمشي متثاقلاً يجر خطواته جراً، فإذا سألتموني من هو؟ أجبتكم إنه بردى... الصديق الذي تهاوى بعد عز.
ليس بردى وحده وإنما شوارعنا أيضاً. صحيح أننا أمرنا الناس بجدران حجرية في قسم من البلد ولكن الناس نفذوا والبلدية تركت الأرض بلا أرصفة. بل المحافظة نظمت أمام بابها رخاماً على الأرض ولم تكلف نفسها إتمامه أمام بقية البناء التابع لها فجاء الجديد الجميل ففضح القديم. وحين خاطبت أحد أصحاب الدكاكين الغالية هناك لماذا لم يرتب هو الرصيف أمام محله؟ شكرني لأنني بادرته ـ وأنا مبادر في كل الأمور العامة ـ وقال لي لقد قبضت المحافظة من كل صاحب محل ستة آلاف ليرة ولم تصنع شيئاً. المحافظة تبدل القنديل الشاعل بآخر ربما كان أجمل، لا أدري لماذا، ولكنها تترك الأرض المحفرة كما هي. أنا على بعد 300 متر من المحافظة وأمام بيتي كوم تراب من ثلاث سنوات لم يرفع. هل تذكرون حبال زينة الكهرباء حول ساحة الأمويين التي كانت آية في الجمال؟ من أمر برفعها وأبدل بها كهرباء مسطحة على أرض هي في النهار كومة حديد لا تراها إلا الحوامات، في حين أن أموراً أكثر أهمية كفتح المجاري حتى لا تطوف الشوارع أيام المطر تنتظرنا؟
أيها السادة، لا أحب أن أجعل من كلمة الافتتاح مقالاً نقدياً من مقالات المطالبة، ولكنني أرجوكم ألا تجعلوا من هذه الندوة العالمة مجرد بحث نظري عن فضائل دمشق العريقة. لا تقولوا لدمشق كنتِ، قولوا لها أنتِ. وليشعر الناس جميعاً أن هناك ضغطاً يمارسه التاريخ لتبقى دمشق الجميلة... مدينة جميلة، ولتحمى أحياؤها القديمة التي هي صورة الماضي البهية والصالحة للمستقبل، ولنمنع عدوان الهادمين على أجمل بنات التاريخ.


نجاة قصاب حسن

دمشق أقدم مدينة في التاريخ|ندوة آذار الفكرية في مكتبة الأسد|دمشق، سورية، 1991

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق