تحركات العامة الدمشقية

22 05

في عقود ما قبل النهضة (1700-1832)

العامة هي خلاف الخاصة. وقد اختلف مدلولهما من عصر لآخر ومن مؤرخ لآخر منذ دخول لفظ العوام اللغة في العصر العباسي.
والمقصود بالعامة في مدن بلاد الشام في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الفئات التالية:
1 ـ الحرفيون وهم عماد العامة وروحها، وهم بمنزلة عمال الصناعة بالنسبة إلى الطبقة العاملة في عصر الرأسمالية.
2 ـ الخدم، وكانوا رقيقاً وأحراراً عملوا في قصور الحكام والأغنياء.
3 ـالجند المتحدرة من مدن بلاد الشام.
4 ـ الباعة.
5 ـ التجار ويضعهم البعض بسبب ثروتهم في صف الخاصة في حين يعتبروهم الآخرون من العامة. والتجار أصناف. وقد مثلت الفئات التجارية ذات العلاقة الوثيقة مع الإنتاج الحرفي المتطور والمتطلعة إلى إقامة بعض الصناعات، بداية التفكير البورجوازي في أمهات مدن بلاد الشام.
6 ـ العامة الرثة المؤلفة من اللصوص، والمجرمين، والشحاذين والقوادين، والمومسات، والمتسكعين في أزقة المدن وساحاتها، والغرباء العاطلين عن العمل، والمهرجين والمغنين والطبالين، والراقصات، والمجاذيب... الخ. وهؤلاء هم نتاج المجتمع الإقطاعي المتفسخ، وأحد مظاهره وثماره المرة.
أما الخاصة فتألفت من حكام مدينة دمشق بصفتها ولاية من ولايات السلطنة العثمانية وهم: الوالي، المتسلم (نائب الوالي)، القاضي، المفتي، الدفتردار (جابي الضرائب ومسؤول المالية)، وآغا الإنكشارية ومن معه من كبار الضباط. وهؤلاء استأثروا بالقسم الأكبر من واردات الضرائب المجبية من الريف والمدينة، كما كان للوالي والدفتردار وآغا الإنكشارية باع طويل في مصادرة أموال الآخرين والتصرف بها كملكية خاصة. وهذا المصادرات المتكررة وعدم استتباب الأمن وكثرة الضرائب كانت أحد الأسباب التي أرهقت الحرف ومنعت التراكم النقدي لدى التجار وأسهمت بالتالي، بالإضافة إلى العوامل الخارجية، في منع مدن بلاد الشام من الانتقال من العمل اليدوي والاقتصاد نصف الطبيعي إلى العمل الآلي والاقتصاد النقدي وبالتالي الدخول في مرحلة الرأسمالية.
إن أجمل وصف للحرف الدمشقية، أو بالأصح للعلاقات الاجتماعية الحرفية نجده في مؤلف «نبذة تاريخية عن الحرف الدمشقية» في كتاب المؤتمر السادس للمستشرقين لعام 1883 الصادر في ليدن 1885 لمؤلفه الياس بن عبده بك القدسي، الذي عاش في دمشق واطلع عن كثب على الحرف وجمع مادة البحث لتقديمها لمؤتمر المستشرقين. ويتبين من دراسة القدسي أن التدرج في الحرف سار وفق المخطط التالي:

من يحسن صنعة ولم يصل إلى مهارة المعلم، يبيع قوة عمله إلى المعلم.
الصناع: «هم العدد الأكبر والسواد الأعظم في كل الحرف والكارات وهم كالأرض ينبوع ثروة البلاد. الصانع والفلاح هما القوتان الماديتان للتطور» قدسي ص 18.
وقد دُعيت مراسم انتقال الأجير (المبتدئ) إلى صانع بـ «شدّ الصانع» ومراسم الانتقال من صانع إلى معلم دعيت «شدّ المعلم». والشدّ إلى الحرفة لا يجري إلا بعد إتقان المهنة إتقاناً تاماً وفحص إنتاج المرشح وعدم اعتراض أي فرد على إنتاجه وجودته.
على الرغم من أهمية دراسة القدسي فإن الوثيقة العربية الأهم التي تعالج الإنتاج الحرفي الدمشقي هي «قاموس الصناعات الشامية» الموضوع في أواخر القرن التاسع عشر والمنشور في باريز عام 1960. وهو من إنتاج آل القاسمي العائلة الدمشقية. ألف الجزء الأول محمد سعيد القاسمي، ووضع الجزء الثاني محمد جمال الدين القاسمي بالاشتراك مع خليل العظم. وقام ظافر القاسمي بنشر الكتاب وتحقيقه.
ويقدم القاموس معلومات غنية ودقيقة عن النشاطات الاقتصادية والمظاهر الاجتماعية ويفصّل في الحِرَف ومشكلاتها في القرن التاسع عشر.
وقد قام الدكتور بدر الدين السباعي بدراسة حديثة نشرت في عام 1983 تحت عنوان: «أضواء على قاموس الصناعات الشامية». ودراسة السباعي اعتمدت على المنهج الماركسي في التحليل وتوصلت إلى نتائج شيقة لمعرفة اقتصاد مدينة دمشق القائم على القطاعات الاقتصادية التالية:
1 ـ القطاع الحرفي المتسع والمتشعب، والذي شكل في المدينة القطاع الرئيسي.
2 ـ قطاع التبادل بين المدينة والريف.
3 ـ قطاع تجارة الاستيراد والتصدير.
4 ـ قطاع التبادل مع المناطق المنتجة للحبوب والبوادي المنتجة للمواشي وحيوانات الركوب.
5 ـ قطاع التبادل مع العالم الخارجي.
6 ـ وثمة نشاط اقتصادي من نوع خاص فرضه موقع دمشق على طريق الحج وما تحتاجه قوافل الحجيج من منتجات حرفية ومواد غذائية.
تأثر المناخ الفكري والنفسي ومستوى الثقافة للعامة الدمشقية وسائر مدن بلاد الشام بجملة عوامل رئيسية وأخرى ثانوية أهمها:
1 ـ نظام ملكية الأرض حيث الرتبة للدولة مما أدى إلى عدم وجود طبقة إقطاعية مستقرة لفترة من الزمن. واستقرار، أي إقامة، هذه الطبقة القلقة في المدن دون الريف.
2 ـ العلاقات التجارية المتسمة بتبادل المواد الخام، التي انتزعتها الطبقة الحاكمة من منتجيها كريع عيني، بسلع الترف والأبهة المستوردة. كما لم تسهم التجارة الداخلية في تطوير الإنتاج البضاعي البسيط والسير باتجاه الإنتاج البضاعي الرأسمالي.
3 ـ الصناعات الحرفية الطوائفية المبنية على العمل اليدوي وتنظيم الحرفيين في طوائف ذات تسلسل هرمي وارتباط هذه الطوائف بالطرق الصوفية.
4 ـ التراث القومي والديني وما ضم في ثناياه من عناصر ثورية نيّرة وأخرى رجعية متزمتة.
5 ـ أثَّرَ الفكر البورجوازي الأوروبي بتياراته المتنوعة تأثيراً واضحاً في المثقفين المستنيرين، الذين كانوا في معظمهم من المسيحيين. ولم يستطع هؤلاء أن يتغلغلوا في قلوب العامة، بأكثريتها المسلمة. وعندما شرع المثقفون المستنيرون المسلمون في الربع الأخير من القرن التاسع عشر في حمل بعض ألوية التطور البورجوازي مستعينين في مقارعة الرجعية الفكرية والسياسية بالرجوع إلى الجوانب المضيئة من التراث لم يستطيعوا كسب العامة إلى جانبهم.
وقد اتهم رجال التنوير بدمشق بالوهابية أحياناً وبالماسونية التي دخلت دمشق سنة 1864 أحياناً أخرى.
أرّخ فكرياً لدمشق في هذه الفترة عدد من المؤرخين والكتّاب مثل المحبي في «خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر» والمرادي في «أعيان القرن الثاني عشر»، وابن شاشو في «تراجم بعض أعيان دمشق» والحصني في «منتخبات التواريخ لدمشق» والشيخ عبد الرزاق البيطار في «حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر»، خليل مردم بك في «أعيان القرن الثالث عشر في الفكر والسياسة والاجتماع»، ومحمد جميل الشطي في «أعيان دمشق في القرن الثالث عشر ونصف القرن الرابع عشر».
كانت الأوصاف التي تطلق على الأعيان في القرن الثالث عشر، كما وردت في الشطي هي: فاضل ـ طبيب ـ معتقد ـ مرشد ـ فقيه ـ وجيه ـ شاعر ـ محدث ـ مفتي ـ قاضي ـ رئيس مؤذنين ـ خطاط ـ ذكي ـ فلكي ـ محدث أكبر ـ صالح ـ فرضي (الذي أتقن علم الفرائض وتقسيم المواريث) ـ عالم محدث ـ عالم ـ شيخ قراء ـ شيخ الشام ـ إمام ـ خطيب ـ خطاط ـ تاجر ومدرس ـ صوفي ـ مجذوب ـ زاهد ـ عابد ـ نقشبندي ـ رفاعي ـ شاذلي ـ قادري ـ دسوقي ـ مقرئ ـ عالم مرشد.
في ذلك الجو الفكري السقيم كان من الطبيعي «أن تقلّ»كما قال نعمان القساطلي عام 1880 ـ «بضاعة المعارف لرواج بضاعة السيوف والعصي».
والشيخ محمد بهجت البيطار يصف عصر جده الشيخ المستنير عبد الرزاق البيطار بأنه «كان عصر جمود على القديم وتلقي الأقوال بالتسليم من دون تمحيص لصحيح من السقيم».
وقد حمل مشعل النهضة في دمشق الشيخ طاهر الجزائري المتوفي عام 1920، الذي سعى إلى التوفيق بين الدين والعلم والعمران، وتحلق حول الجزائري عدد من التلاميذ الشبان، الذين شكلوا فيما بعد نواة الحركة الوطنية العربية.
تألفت القوى السياسية في دمشق (مركز الولاية) من المنظمات الحرفية المنضوية تحت ألوية الطرق الصوفية، والقوى الدينية والسلطة الحاكمة والقوى العسكرية.
ويمكن تصنيف تحركات العامة الدمشقية حسب المراحل التالية:
ـ التحركات بين عام 1700-1743.
ـ تحركات العامة أيام أسعد باشا العظم 1743-1757.
ـ تحركات العامة (1757-1830).
ويمكن تلخيص الأهداف والأشكال والنتائج والمحتوى العام لتحركات العامة هذه في إطار التطور الاجتماعي في النقاط التالية:
ـ تأثرت تحركات العامة في دمشق بالمستوى المتدني لتطور القوى المنتجة.
ـ سيادة الإنتاج اليدوي الصغير والبسيط وبطء تطور العلاقات القائمة على تبادل البضائع بالنقود أثَّرَ، بالإضافة إلى طبيعة الحكم الإقطاعي العثماني، في انتفاضات العامة في مركز ولاية بعيدة عن العاصمة.
ـ لم توجه انتفاضات العامة مباشرة ضد السلطة المركزية في استنبول بل وجهت نار غضبها إلى ممثلي السلطة الإقطاعية في الولاية.
ـ سرعة قيام التحرك وسرعة خموده واتصاف معظم التحركات بالعفوية وعدم التنظيم والفردية. وهذه الظواهر انعكاس لمستوى القوى المنتجة.
ـ قامت التحركات نتيجة للأسباب التالية: كثرة الضرائب أو زيادتها، ارتفاع الأسعار، احتكار المواد الغذائية أو قلّتها، تعسف رجال السلطة الإقطاعية الشرقية العثمانية.
ـ اشتراك الفرق الصوفية علناً في كثير من التحركات. وهنا بدا واضحاً الارتباط العميق بين فرق الصوفية والعامة، وبخاصة جناحها الثوري المتمثل في الحرف. وكانت فرق الصوفية بمثابة الأحزاب السياسية للعامة، حيث امتزج في بوتقة واحدة النضال الاجتماعي والديني والسياسي.
ـ تأرجح الفئات العليا من العامة واستعدادها للتفاهم مع رجال السلطة الإقطاعية الشرقية العثمانية، في حين كانت الفئات الدنيا من العامة أكثر اندفاعاً وراديكالية، وكثيراً ما أجبرت الفئات العليا على إلغاء الصفقات وإجراء المساومات مع السلطة الإقطاعية.
ـ بقاء العامة في معظم الأحيان على الحياد عندما نشبت المعارك بين قوى السلطة الإقطاعية المختلفة العسكرية والمدنية، على اقتسام الغنائم.
ـ تحالف العامة مع إحدى قوى السلطة لضرب القوى الأخرى الأكثر عدوانية وشراً وتعسفاً وظلماً. وهذا الوضع كان يخلق جواً جديداً وتحالفات جديدة.
ـ سعي عدد من الحكام إلى التزلف إلى العامة وكسب رضاها وبخاصة عندما يكون هؤلاء الحكام ضعفاء، أو هم في صراع مع خصومهم داخل الولاية أو خارجها.
ـ استخدمت العامة في كثير من الأحيان المقاومة السلبية، عند تعذر اندلاع المقاومة العلنية المكشوفة.
ـ ردة الفعل ضد أعوان الولاة الظالمين، عند زوالهم، كانت عنيفة وتتناسب مع عنف الظلم وشدته.
ـ لم تكن ثمة حركات زندقة (هرطقة حسب التعبير الأوروبي) ذات شأن في تلك الفترة ويرجع سبب ذلك إلى عاملين رئيسيين:
آ ـ كان الجو الديني المتمثل في الفرق الصوفية وطقوسها مؤيداً في معظمه لتحرك العامة ضد الطبقة الحاكمة العليا. ولم يكن رجال الدين مؤيدين، كما هو الأمر في أوروبا الوسيطة، بصورة مكشوفة للسلطة الإقطاعية.
ب ـ لم يكن ثمة وجود ملحوظ للقوى الاجتماعية الجديدة بسبب ركود المجتمع. فالطبقات أو الفئات الاجتماعية التي تغلف مطالبها الاجتماعية أو السياسية بغلاف ديني لم تكن حتى منتصف القرن التاسع عشر قد ظهرت بعد.
ـ انفصال المدينة عن الريف في مجال التآزر والتعاضد في أثناء قيام الانتفاضة العامية أو الفلاحية ضد العدو المشترك، الحكم الإقطاعي الشرقي. وكانت أخبار اضطهاد الولاة أو ممثليهم للفلاحين تصل إلى المدينة عن طريق الجند العائد من عملية عصر الفلاحين أو قمع انتفاضاتهم. ولم يكن أمام العامة إزاء هذه الأخبار إلاّ الدعاء بالفرج والخلاص من الكربة.
في أيلول 1831 اندلعت في دمشق ثورة (انتفاضة) استولت على السرايا وحاصرت الوالي سليم باشا في قلعة دمشق مدة أربعين يوماً ثم قتلته بعد استسلامه. و«تقلد الحكم أولاد البلد» من الأغوات زعماء العساكر المحلية. وألف الثائرون حكومة وطنية شامية كان لأهل الميدان معقل العساكر المحلية اليد الطولى فيها. ولا نعلم مدى مشاركة العلماء من رجال الدين في هذه الحكومة. وبعد مراسلات مع السلطات في استنبول دخل الوالي الجديد دمشق في 28 كانون الأول 1831 دون أن يكون له سلطة فعلية إلى أن دخل من الجنوب إبراهيم باشا المصري في 2 حزيران 1832 حيث دخلت دمشق وبلاد الشام في مرحلة جديدة.
إن الموقع التاريخي لثورة أيلول ينبع من الظروف الاقتصادية الاجتماعية، التي اندلعت في أحشائها الثورة. فخلافاً لما كان عليه الحال في أوروبا الإقطاعية، فإن رجال السلطة الإقطاعية العثمانية تواجدوا في قلب المدينة وعاشوا إلى جانب سكانها يستثمرونهم مباشرة كما يستثمرون الفلاحين في الريف. ونجم عن ذلك احتكاك مباشر تحول في كثير من الأحيان إلى صدام بين الحرفيين (الوجه الآخر للنظام الإقطاعي) وبين السلطة الإقطاعية المتمثلة بالوالي ونائبه (المتسلم) ودفترداره (المسؤول عن المالية) وحاشيتهم والقوى العسكرية الإقطاعية الانكشارية بفرقها المتصارعة والمتخاصمة (من اليرلية محلية وقابيقول ودالاتية وغيرهم من المرتزقة).
إن إقامة هذه القوى في قلب المدينة واستثمارها الوحشي لسكانها عرقل عملية تطور الحرف إلى المانيفاكتورات والرأسمالية المُبَكِّرة، وحدّ من استقلال المؤسسات الحرفية وضيّق الخناق على التنظيمات الحرفية الطامعة في الاستقلال وحرية التحرك الاقتصادي والراغبة في الخلاص من سيف المصادرة والضرائب المرهقة ومختلف أساليب الابتزاز و«البلص» المعروفة آنذاك.
وقد منع أسلوب الإنتاج الإقطاعي الشرقي العثماني هذا من تراكم الأموال في يد التجار ومنعهم من استثمار أموالهم في مشاريع جديدة وقضى على روح الإبداع لدى الحرفيين وعرقل بالتالي عملية إنتاش البذور الرأسمالية ونموها. ونرى أن المدن الشرقية العثمانية عاشت ظروفاً تختلف إلى حد بعيد عن حياة المدن الأوروبية في العصر الوسيط، حيث عاش الإقطاعيون في قصور محصنة في قلب الريف بعيداً عن المدن. ولذا فإن المدن تمتعت بنوع من الاستقلال الذاتي. وعندما وجدت الظروف لتطور الحرف إلى المانيفاكتورات والرأسمالية المبكرة دخلت المدن الأوروبية الغربية في صراع عنيف مع الإقطاعية أدى في نهاية الأمر إلى انتصار المدينة البورجوازية على الريف الإقطاعي. وقد تُوج انتصار المدنية البورجوازية على الإقطاعية باندلاع الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، التي انضم فيها الفلاحون إلى جانب البورجوازية ضد مستثمريهم من الإقطاعيين. ثم تطورت الأمور بسرعة في القرن التاسع عشر وأخذ العمال في أوروبا ينفصلون فكرياً وسياسياً عن البورجوازية، وقاموا بثوراتهم المعروفة في أعوام 1830 و1848 و1871.
في الوقت الذي كانت المدن الأوروبية، وبخاصة الغربية، تثور ضد الإقطاعية ومن ثم ضد البورجوازية، كانت المدن الشرقية العثمانية (الشامية) تعيش حياة مغايرة تماماً لما جرى في الغرب، على الرغم من الصراع الناشب أحياناً بين السلطة الإقطاعية والحرفيين ومن حالفهم، كما جرى في ثورة أيلول 1831. وقد نجم عن سيطرة السلطة العثمانية على المنظمات الحرفية والتجار وعرقلة تطورهم النتائج التالية:
1 ـ عرقلة تطور الحرف إلى المانيفاكتورات فالرأسمالية المبكرة بسبب جشع السلطة الإقطاعية واستنزافها للفائض المادي لدى الحرفيين والتجار ومنع هؤلاء من التمتع بثمرة أتعابهم أو توسيع أعمالهم ودفعهم للعيش عيشة ظاهرها التقشف والفقر والابتعاد عن كل مظهر من مظاهر النعيم والرفاه خوفاً من سيف المصادرة المسلط على رقابهم، أو تحسباً من اللصوص بسبب فقدان الأمن. فهم كانوا يعلمون علم اليقين أن أرباحهم، إذا أظهروها، ستذهب عن طريق الضرائب والمصادرة والابتزاز إلى جيوب موظفي الدولة الإقطاعية. وهذا ما أوجد لديهم ميلاً فطرياً لمقاومة السلطة الإقطاعية، على الرغم من أنهم جزء متمم لها. وهم إذا ثاروا لا يثورون ضد قمة السلطة الإقطاعية القابعة في استنبول، بل يثورون ضد ممثلي هذه السلطة في الولايات. ومع أن القوى الثائرة في دمشق عام 1831 حشدت قواتها وهيأتها لملاقاة الجيش القادم من الشمال من استنبول أو حلب للانتقام من الثائرين، إلا أنها سرعان ما أعلنت ولاءها للسلطة المركزية بمجرد عفو هذه السلطة عن الثائرين وتغاضيها عن تمردهم. وهذا التناقض بين موقف ثائر وموقف خاضع هو حصيلة النظام الحرفي المتمم للنظام الإقطاعي من جهة والمتناقض معه من جهة أخرى.
2 ـ هذا الموقف المتناقض وجد تعبيره في موقف الفرق الصوفية، التي أيدت الثورة من جهة وكانت تدعو للخضوع للسلطان من جهة أخرى. ولا عجب في ذلك، فالفرق الصوفية كانت، في الواقع، أحد وجوه التنظيم الفكري للحرفيين والتجار وفق معطيات ذلك العصر ومنطلقاته الاجتماعية والفكرية.
3 ـ من أجل ضمان النجاح للمقاومة الفعّالة الناجحة ضد السلطة الإقطاعية في مركز ولاية الشام ـ دمشق ـ سعت التنظيمات الحرفية للاستفادة من الصراع الدائر بين مراكز القوى في الولاية وجذب القوى الناقمة إلى جانبها، وهي قوى الإنكشارية المحلية (البرلية). وهذا مما أكسب الثورة زخماً عسكرياً مدرباً تمكنت بفضله من الاستيلاء على السراي ومحاصرة القلعة واحتلالها وتشكيل حكومة محلية. ولكن تأييد الإنكشارية المحلية للثورة حمل بين جنباته بذور الضعف والتفكك. لأن هذه العناصر العسكرية، التي اعتادت على السلب والنهب والابتزاز ومشاركة السلطة الإقطاعية الحكم، سرعان ما فككت قوى الثورة وبعثت الفساد والفوضى في الصفوف، وبخاصة بعد انتصار الثورة، وبعد أن شرعت هذه القوى في استثمار السكان كما كان الأمر في السابق.
4 ـ بسبب تلك الظروف وتخلف القوى المنتجة لم يكن لدى الحكومة الوطنية الشامية المشكّلة بعد انتصار الثورة أهداف واضحة ولم تضع أي خطة للعمل. وكان من الطبيعي، بسبب سيطرة الإنكشارية المحلية عليها، ألا تختلف في ممارساتها عن الحكم الإقطاعي الشرقي العثماني السائد. ويعود أحد أسباب ذلك أن القوى الاجتماعية الثائرة من الحرفيين لم تثر ضد النظام الإقطاعي كنظام ـ وهي الوجه الآخر لذلك النظام ـ بل ثارت ضد الظلم والتعسف اللاحق بها من السلطة الإقطاعية وصدها لتخفيف وطأة الاستثمار الإقطاعي عن كاهلها وجعلها تشارك في جزء من الحياة السياسية بما يخدم وضعها الاقتصادي ويصون كرامتها من التعديات. وهذا ما يفسر سرعة ثورتها ضد الضريبة الجديدة المفروضة عليها.
5 ـ لم يكن لدى الثائرين في دمشق عام 1831 نزعة قومية تسعى لاستقلال العرب عن الحكم العثماني. فمفهوم العروبة لم يكن له أثر آنذاك في نفوس الثائرين. ومعروف أن حركة النهضة العربية بدأت في لبنان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ولم تنتشر في دمشق إلا في مستهل القرن العشرين.
وقصارى القول لم تحمل ثورة أيلول 1831 بين جنباتها أهدافاً قومية تسعى لاستقلال العرب عن الحكم العثماني، على الرغم من وجود النزعة المحلية العادية. كما لم يكن للثورة أهداف اجتماعية ترمي إلى تغيير النظام الإقطاعي الشرقي واستبداله بنظام آخر، لأن القوى الاجتماعية (البورجوازية) الساعية لمثل هذا الهدف، لم تكن قد وجدت بعد في قلب ذلك المجتمع. ومع ذلك فإن ثورة أيلول هزّت أركان المجتمع الإقطاعي في بلاد الشام دون أن تؤدي إلى تصدعه. ويعود سبب ذلك إلى موقف القوى الثائرة من الحرفيين والإنكشارية المحلية الشامية، التي كانت إحدى إفرازات النظام الإقطاعي. وقد أدى تراجع السلطة المركزية في استنبول وعفوها عن الثائرين إلى إجهاض الثورة وخضوع سكان دمشق خضوعاً اسمياً مهزوزاً للسلطة المركزية. ولم يكن بالإمكان معرفة نتائج ذلك، لأن حملة إبراهيم باشا على سورية عام 1832 طمست النتائج المترتبة على ثورة أيلول ومهدت السبيل أمام حملة إبراهيم باشا لاحتلال بلاد الشام دون مقاومة تذكر.
* إن عملية الشد تضرب بجذورها في أعماق التاريخ. فقد ذكر هادي العلوي في كتابه القيم «من قاموس التراث» إصدار دار الأهالي ـ دمشق 1988، ص 120، أن العيَّارين الذين برزوا في العصر العباسي احتفلوا بمراسم الشدّ في عهد الناصر لدين الله (570-622هـ)، حيث تشكلت منظمة للفتوة ضمت شبان مدينة بغداد وجوارها. «وكان انضمام الفتى يتم بمراسم تؤدى بحضور أعضاء فرع المنظمة المحلي يقوم عريفهم في أثنائها بشدّ المنتمي الجديد. ويُقصد بالشد تحزيمه بنطاق الفتوة وهذا ما يتميز به الفتى المنظم عن سواه...».


عبد الله حنا

دمشق أقدم مدينة في التاريخ|ندوة آذار الفكرية في مكتبة الأسد|دمشق-سوريا-1991

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق