دمشق بين تراثها وإشعاعها الديني المسيحي

18 05

رغب إلي الأخ العميد إنعام أن أحدثكم في هذه الندوة عن موضوع قلما تطرق إلى الاهتمام به الباحثون ـ المؤرخون العرب والأجانب مع أنه جليل الأهمية متوفر الأصول وعميق الأبعاد الحضارية لا بل والسياسية العامة منها.
هو الموضوع التالي:

دمشق بين تراثها وإشعاعها الديني المسيحي

سأحاول اليوم أن أضع الأسس الأولية لهذا البحث الشيق على ما يواجه من إشكاليات وما يعترض تحليل عناصره من صعوبات. وذلك في لمحة سريعة مقتضبة من الناحية التاريخية البحتة تبعاً للنهج الكتابي العلمي وتماشياً مع الروح المسكونية المنفتحة على الحوار، بمقتضى الوقت الضيق المتاح لي في هذه الجلسة.
غني عن البيان ما لدمشق العاصمة العربية لبلاد الشام من تاريخ عميق الجذور يصل في طبقاتها الأخيرة الملموسة إلى المظاهر الأولى للنمو وللتدرج الإنساني الحضاري في الشرق العربي. فقد قام ويقوم الأساتذة الزملاء بتبيان هذا الواقع في شتى نواحيه. أما فيما يخص الناحية الدينية المسيحية فإن الموضوع الذي كلفت بدراسة يتصل اتصالاً أولياً وثيقاً بالعلاقات بين أهل الكتاب والتي ترجع إلى عهد التوراة أو ما نسميه بالعهد القديم. إذ بدأت منذ سيرة إبراهيم (ملوك يهوذا وملوك إسرائيل) وملوك دمشق والبلاد الآرامية الشامية. أما هذا الاتصال القديم فإنه يتسم عادة بالصفة السياسية البحتة وهي ناحية لا أريد أن أتطرق إليها في هذه العجالة.
إن ما يضفي على موضوع دراستي الخاص أهميته النوعية القصوى والثابتة فهو ما يتعلق بالعهد الجديد أو المسيحي. وكان بودي أن أتوقف اليوم عند فترتين متميزتين من العلاقات التاريخية بين المسيحية والعروبة وبين المسيحية والإسلام في دمشق وفي فجر بزوغ نور وهدى الدعوة المسيحية ونور وهدى الدعوة الإسلامية في بلادنا المشرقية المقدسة. ولكني أكتفي بالتطرق إلى النقطة الأولى راجياً أن تتاح لي فرصة أخرى ملائمة للتحدث عن النقطة الثانية التي لا تقل أهمية لا بل تزيد أهمية عن الأولى ولكنها تتطلب متسعاً أوفى من الوقت للتعمق الجدي في نواحيها البارزة.
العلاقة بين المسيحية والعروبة عند فجر المسيحية ـ في دمشق وديار العرب
تعني هذه الفترة بنشأة المسيحية وبانتشار رسالتها على أيدي الرسل والحواريين ومنهم بالأخص شاول المدعو بولص تبعاً لأوامر السيد المسيح لهم بعد بعثه حياً وصعوده إلى حضن الأب إذ أوصاهم قائلاً اذهبوا وبشروا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس وعلموهم جميع ما أوصيتكم به وهاأنذا معكم طوال الأيام إلى نهاية العالم.
ففي هذه الفترة المتميزة من فجر المسيحية وبدء انتشار دعوتها الإلهية لعبت مدينة دمشق بعد مدينة القدس/أورشليم دوراً فريداً وأصيلاً ذلك وقبل أنطاكية عاصمة سورية الرومانية وقبل روما عاصمة الإمبراطورية. فانطلاقاً من دمشق أبرز بولص البشارة المسيحية ونزعتها المسكونية الشاملة وطابعها التاريخي الخاص. ففي دمشق تجلت أولاً معالم شخصية هذا الرسول الفذة والمتسامية منذ تحوله من موقف العداء التهجمي والمثير إلى موقف الولاء الإيماني الملتزم والمطلق سواء في مسيرة حياته الجهادية أو في سطور رسائله العقائدية والرعوية الرائعة.
اذهبوا وبشروا جميع الأمم هذه هي المهمة التبشيرية التي عُهدت إلى الرسل الحواريين الاثني عشر وإلى من تتلمذ على أيديهم ـ القاعدة الأولية والأساسية لهذه الرسالة هي الحفاظ على التعاليم الإلهية كما تسلمها هؤلاء الرسل بالتأهيل وبالتدريب في حلقة معيشية مغلقة خلال السنوات القليلة من حياة رسالته العامة. وما وصل إلينا من الأناجيل الأربعة المقدسة ومن بعض الأسفار أو رسائل العهد الجديد فهو يحتوي على ملخص أو مجمل بشارة الخلاص التي تلقنها هؤلاء الرسل الحواريون وأودعوها بالكتابة للكنائس أو الجماعات المسيحية الأولى المنظمة، فمنها ما أنشئ للكنائس التي انبثقت من البيئة الفلسطينية ـ اليهودية والآرامية ـ كما هي الحالة لإنجيلي متى ومرقص ـ ومنها ما أودع في الكنائس التي تنظمت بين الأمم سواء في البلاد السورية وفي مدنها ذات الثقافة الهيلينية ولاسيما في عاصمتها أنطاكية ـ كما هي الحالة لإنجيل لوقا الطبيب السوري الأنطاكي وسواء في البلاد الأخرى التابعة للإمبراطورية الرومانية ولاسيما في كنائس آسيا الصغرى ذات النزعة الفلسفية والتصوفية المتأثرة بتعاليم أفلوطين Aplotin كما هي الحالة لإنجيل يوحنا الرسول.
فعلاوة على هذه الأناجيل الأربعة المقدسة المتكاملة في مواضيعها التي تحتضن سيرة السيد المسيح وتعاليمه الإلهية للخلاص حفظت الكنائس منذ فجر المسيحية الرسائل التي أنشأها بولص الرسول الثالث عشر الذي دُعي في ظروف خارقة مباشرة من قبل رؤية المعلم الإلهي الذي أسند إليه انطلاقاً من دمشق ومن ديار العرب مهمة البشارة المسيحية لدى الأمم بعد أن عجز بطرس أول الرسل الحواريين عن القيام بها (أي بهذه المهمة). وهنا نصل إلى صلب موضوع بحثنا ومعه تدخل مدينتنا دمشق في مسيرة التاريخ المسيحي والعالمي من بابه النيّر والواسع، إذ تتصل الدعوة التي أنيطت إلى بولص بالمدينة وبالمحيط العربي حيث تم هذا الاتصال بين الوحي الإلهي وبين الإرادة البشرية بين التأكيد على شمولية الخلاص وبين العزم على الإعلان والعمل به. وإذ بالرسالة التي دعي بولص إلى السير بهديها تنشأ في إطار البيئة الجديدة البيئة الدمشقية والعربية إذ ستتكون فيها الاستراتيجية التبشيرية الجديدة المتفتحة إلى العالم في شموليته الواسعة خارج حدود الشوفينية اليهودية المحضة وهي العقلية المتحجرة حول الهيكل الأورشليمي بقيادة رؤساء الكهنة وعلماء الناموس والاتجاه العقائدي والتلمودي الفريسي، وإذا بدمشق الآرامية وبديار العرب السورية تحمل مشعل الدعوة الإلهية للخلاص العالمي مكان أورشليم اليهودية وديار إسرائيل العبرية، فيتم هذا التحول النوعي في التاريخ المسيحي وفي فجر مسيرته المسكونية في دمشق بعد أو وهنت أورشليم في الالتزام به.
وعندما يرجع المرء إلى قراءة صفحات الأناجيل الأربعة المقدسة ويتوقف مليّاً عند مواقف الرسل الحواريين الاثني عشر تتضح لديه ثوابت العقلية التقليدية اليهودية عندهم منذ بدء دعوتهم إلى ما بعد القيامة. السؤال ذاته يطرح في جميع الظروف وأهمها: «متى ستعيد الملك أو الدولة لإسرائيل» بينما الجواب يتكرر من قبل المعلم الإلهي «أن مملكتي ليست من هذا العالم... يا قليلي الفهم وبطيئي القلب عن الإيمان بكل ما تكلم به الأنبياء. أما كان يجب على المسيح أن يعاني تلك الآلام فيدخل في مجده».
وإذا بشاول اليهودي المولود في طرسوس من ولاية قيليقية التابعة لسورية الرومانية والروماني الجنسية المدنية ولو أنه فريسي المربى والاتجاه الديني المتزمت، إذا به يتقبل في دمشق المهمة الداعية إلى التفتح المسكوني إلى العالم الوثني إلى أهل القلف ـ فتنقلب شخصيته الفكرية الدينية رأساً على عقب. ويدعى منذئذٍ ببولص الرسول الحواري الثالث عشر. يتم هذا التحول الحياتي الجذري في دمشق إذ يبدأ الاتجاه التبشيري المسكوني في هذه المدينة بعد عزلة تصوفية للتفكير والتدريب المعنوي في ديار العرب، تعتبر دمشق وبحق في التاريخ الكنسي بالمدينة المقدسة الثانية بعد القدس/ أورشليم وتصبح رحلة الصحراء والانزواء الروحي والفكري من أسمى أدوات التجديد الديني في مسيرة الحياة الرسولية المسيحية، وتقوم عظمة دمشق الدينية المسيحية في نظرتنا وممارستنا العقائدية والروحية المشرقية على أساس كونها النقطة المركزية الثانية للانطلاق الرسولي. دمشق ليس من حيث مكانها الجغرافي وحسب بل ولاسيما من حيث بيئتها الاجتماعية والفكرية والدينية قد أضفت بعداً جديداً على طبيعة الرسالة المسيحية وعلى مضامين أصولها العقائدية وعلى مقومات أركانها الروحية: كلها نواح قلما توقف عندها وحاول تحليلها والتركيز على أهميتها عامة مؤرخو الكنيسة ومفسرو الكتب المقدسة الموحاة للعهد الجديد.
ويجدر بنا والحالة هذه أن تتوقف قليلاً فنقيّم هذه الظاهرة الدينية حق قدرها ونعي سمو المكانة التي ترتقي إلى مستواها الرفيع سواء شخصية ببولص الرسول المصطفى الثالث عشر أو دمشق والبيئة العربية التي انطلقت منها المهمة التي انتدب للقيام بها.
1 ـ شخصية بولص الإنسانية والدينية:
فهي فريدة فذة من نوعها تمتاز عن شخصية بقية الرسل الحواريين الاثني عشر في ظروف اختيارها وفي عمق خبرتها الروحية وفي مضامين التعاليم اللاهوتية والاتجاهات المسلكية التي أغنت توضيحاً ونظرياً ما جاء في أسفار الأناجيل الأربعة. ففي هذا الإطار من التحليل يمكننا أن نعتبر هذه الشخصية الرسولية بمثابة الكاتب الإنجيلي الخامس الملهم بوحي من الرب يسوع المسيح. وقد دافع هو ذاته عن هذه الصفة الرسولية المتميزة: عن حقيقة اختياره العجيب وعن إحالة تعاليمه وبشارته وعن شرعية نهجه الرسولي مصرحاً ومؤكداً أن منزلته تضاهي منزلة الرسل الحواريين الاثني عشر الذي اختارهم المعلم الإلهي خلال حياته البشرية التاريخية ولو أنه دُعي بعدئذٍ من المعلم بعد صعوده إلى السماء على مقربة من أبواب دمشق. فيدخل هذه المدينة ويتقبل سر العماد على يد أسقف لها هو حنانيا ثم يتلقى في عزلته وهو في «ديار العرب» أي في ضواحي دمشق وفي دمشق العربية الثقافة المسيحية ويُدعى للبشارة لدى الأمم أي لدى الشعوب الوثنية البعيدة عن التعاليم الموسوية اليهودية. فهو رسول الأمم وليس فقط رسول اليهود وحسب، لأن كنيسة المسيح تتعدى حدود المجتمع العبري الضيق.
وإليكم بعض ما كتبه وأعلنه حول شرعية وإحالة تعاليمه وحول نهجه الرسولي:
«إن البشارة (أعني الإنجيل) التي بشرتكم بها ليست على سنّة البشر لأني ما تلقيتها ولا أخذتها عن إنسان بل بوحي من يسوع المسيح».
وفي نقاش حادٍّ مع مناوئيه يكتب أيضاً مدافعاً عن صحة وثبات هذه التعاليم المسيحية:
«لو بشرناكم نحن أو بشركم ملاك من السماء بخلاف ما بشرناكم به (سابقاً) فليكن محروماً وإن بشركم أحد بخلاف ما بشرناكم به فليكن محروماً». أما صفته الرسولية الخاصة والمتميزة فهي كونه رسول الأمم أي جميع الذين لا يمتون إلى العرق العبري بالدم وباللحم. وقد جاءت هذه الدعوة الخاصة من قبل السيد المسيح بالذات حيث يعلنها لعميد الجماعة أو الكنيسة المسيحية الدمشقية حنانيا وهو أول أساقفتها. إذ تساءل هذا عن جدوى الاتصال بمن عُرف بعدائه للمسيحيين وقد أتى إلى دمشق ليسيء إلى أبناء رعيته، فيجيبه الرب بالرؤيا:
«إني قد اخترته داعياً (أو أداة) يحمل اسمي إلى الوثنيين (أولاً) والملوك وبني إسرائيل. وإني سأريه ما يجب عليه أن يعاني من الألم في سبيل اسمي».
2 ـ البيئة الدمشقية الآرامية العربية:
فهي المكان المتميز الذي حصل فيه هذا التحول الفكري والروحي وهي مهبط الوحي الذي أوصل سر الدعوة الإلهية إلى الرسول المصطفى الجديد وهي الجماعة البشرية والمسيحية الأولى التي احتضنت هذا الإنجيل الجديد الخامس الذي أُوصي أصلاً لصالحها ولمنفعتها. فإن إنجيل بولص هو أنجيل دمشق والعرب في مستهل انتشاره هو رسم وإشارة الانفتاح العقلي والديني الذي يتسم به الفكر الدمشقي والسوري العربي متخطياً بتسامحه وآفاقه العالمية عقم الحرف وتعصب الشوفينية في التزام حيٍّ وعزيمة صامدة تفرض اليقين بسيف المحبة والوداعة والأناة والصبر الجميل.
إن الشواهد كثيرة التي توضح هذا الوضع الجديد في التاريخ المسيحي والبشري عند فجر مسيرته العالمية. فهي تدلل على العلاقة الوثيقة التي تربط بين دعوة بولص إلى الرسالة العظمى بين الأمم وبين عروبة البيئة الاجتماعية التاريخية التي اختبر الرسول الجديد في إطارها معرفة سر المسيح وتيقّن من خلال تراثها أبعاد الإشعاع الملازم لطبيعة هذه البشرى الإنجيلية نحو آفاق جديدة تصل أبعادها إلى حدود العالم أجمع ولا تقتصر على حدود العرق والعنصرية اليهودية الضيقة الغاشمة.
ففي دمشق وفي عهد ملك الأنباط الحارث الرابع وفي الديار العربية الشامية قامت الدعوة المسيحية التي عُهد إلى بولص الرسول الحواري الالتزام بها وانتشارها. هذه الدعوة المسكونية هي إعلان دمشق المسيحي انطلق من الأرض الشامية الخصبة بمثابة حركة دينامية تتقدم بخطى وئيدة ثابتة تحطم الحواجز التي تعترض مسيرتها مهما كانت طبيعتها من طبقية أو اجتماعية، دينية أو سياسية، إثنية أو عرقية. بدءاً من دمشق مروراً بالقدس/أورشليم إلى روما وإلى حدود الإمبراطورية الرومانية ـ بعد أن تتمركز في أنطاكية ـ عاصمة سورية الرومانية، حيث دُعي التلاميذ لأول مرة باسم المسيحيين فتصبح هذه العاصمة السورية القديمة المحور المركزي لرحلات بولص التبشيرية ومعاونيه الذين كرسوا ذواتهم مثله لهذه الرسالة الخلاصية الشاملة.
لنستمع إلى بولص ذاته يدلي بشهادته الصادقة حول هذا الحدث التاريخي الجليل الذي غيّر بانعطاف نوعي مجرى المسيرة المسيحية الأولى في فجر عهدها انطلاقاً من دمشق وبعد عزلةِ استنارةٍ فاصلة قاطعة في ديار العرب حيث رسمت بوحي إلهي هذه الخطة أو الإستراتيجية التبشيرية المسيحية الحقة وتأصلت في يقين وعزم وجرأة دعت بولص مرة إلى مناظرة بطرس المدعو أولاً وأول رسل السيد المسيح كالند للند. فإذا بهما يكملان كل في نهجه الخاص ورسالته المتميزة العمل المسيحي الواحد في الجوهر والمتشعب في المنهج والسلوك الفردي.
«لما شاء ذلك الذي اصطفاني منذ كنت في بطن أمي فدعاني بنعمته أن يكشف لي ابنه لأبشر به بين الوثنيين، لم استشر اللحم والدم ولا صعدت إلى أورشليم قاصداً من رسل قبلي بل ذهبت من ساعتي إلى ديار العرب ثم عدت إلى دمشق وبعد ثلاث سنوات صعدت إلى أورشليم للتعرف إلى بطرس فأقمت عنده خمسة عشر يوماً... وما أكتبه إليكم فالله أشهد على أني لا أكذب فيه...».
وظل بولص يتابع جاهداً ومُضطهداً مجرى هذه المسيرة الجديدة مدة أربعة عشر عاماً، وبعدئذٍ رجع إلى أورشليم وعرض على بطرس وعلى بقية الرسل الحواريين ـ منهم يعقوب ويوحنا ـ وهم يعدّون بمنزلة أعمدة (أو أساطين) الكنيسة. عرض عليهم جميعاً نهجه وتعليمه المتميز الذي استمد أصوله من وحي الرب في دمشق وجرب فعاليته في امتحان الخبرة والعمل الدؤوب، فاعتمدوه على خصائصه وأيدوا بولص، فإذا بشرعية وأصالة رسالة بولص التي انطلقت من دمشق ومن ديار العرب تلتحم بشرعية وأصالة الرسالة التي انطلقت من أورشليم وسلكها بطرس ورسل آخرون، فيصبح بطرس وبولص كلاهما معاً قاعدة الكنيسة الواحدة على حد سواء. فهذا هو المعنى العميق الذي تصوره الأيقونة الشهيرة القديمة العهد والمعترف بها شرقاً وغرباً في الكنائس والتي تمثل صرح البناء الكنسي الواحد قائم على أيدي الرسولين بطرس وبولص معاً: «إن الذي أيّد بطرس للرسالة ـ لدى المختونين أيّدني أنا أيضاً في رسالتي لدى الوثنيين».
فنداء بولص من دمشق للرسالة المسيحية المسكونية العامة ينسجم في أصالته وتساميه مع نداء وممارسة بطرس من القدس أورشليم ضمن حدود العنصرية اليهودية. ويبقى هذا التمايز بين الاتجاهين العنصري والعالمي إلى أن يجتمع بطرس وبولص في روما بعد أن تخاصما حول هذا الموضوع وملابساته في أنطاكية. وإذا بالدعوة المسكونية الصادرة أصلاً من دمشق تفرض ذاتها وتُتوج في إعلان صحتها النظري من عاصمة الإمبراطورية الرومانية. ويُجمع علماء التاريخ الكنسي إلى أن تأسيس الكنيسة في روما يعود إلى العمل الرسولي المتضافر وإن غير المشترك القائم بين بطرس وبولص. واعتاد الباباوات إلى وقت قريب أن يذكروا هذا الواقع التاريخي عند التوقيع على وثائق تعاليمهم اللاهوتية أو على وثائق منشوراتهم الإدارية والتنظيمية Ex Aedibus sedis Petri et pauli وإذا بدمشق الآرامية العربية التي كانت المحور المركزي للاتجاه العالمي الذي دعا إليه بولص وحده بمعزل عن بقية الرسل الحواريين عملاً بأوامر السيد المسيح إذا بها تغدو الآن وكأنها أهملت في المسار التاريخي العام الذي يدور تحت القيادة المسكونية الجديدة في روما.
كما أهملت أيضاً مدينة القدس/أورشليم مهد المسيحية التي ما لبثت أن دُمرت في أول السبعينات بعد الانتفاضة ضد الحكم الروماني على أيدي جيوش الإمبراطور تيطوس.
الخاتمة
أما العرب المسيحيون الأوائل فإن تاريخهم الذي بدأ يوم العنصرة حيث ذُكر اسمهم بين الرجال الأتقياء الذين سمعوا الرسل الحواريين يتكلمون لغتهم العربية فإنهم ما زالوا ينشرون رسالة الإنجيل انطلاقاً من دمشق ومن ديار العرب حيث نشأ بولص على الإيمان وعلى آفاقه المسكونية الواسعة. فيتتبع المؤرخ ملامح مواقفهم الرائدة في شتى مجالات التنظيم الكنسي والتعليم اللاهوتي والقانون الإداري في البلاد الشامية والسورية ولاسيما في عاصمتها أنطاكية خلال القرون الأولى التي سبقت إعلان حرية ممارسة شعائر المسيحية في عهد الإمبراطور قسطنطين (312م) فتبدأ عندئذ صفحة جديدة ناصعة في تاريخ التراث والإشعاع السوري المسيحي. وتصبح أنطاكية ـ وهي العاصمة المدنية والسياسية والإدارية للبلاد السورية الرومانية.. (Diocése d’orient) العاصمة الدينية والكنيسة البطريركية ـ هي إحدى البطريركيات الخمسة في المسيحية جمعاء ـ لعبت دوراً مهماً لا بل وأساسياً في تاريخ المسيحية الشرقية والغربية في ظروف ومنعطفات تاريخية حاسمة. يكفي اليوم أن تتاح لنا الفرصة قريباً لدراسة مستفيضة لهذه الناحية من تاريخ بلادنا الأصيل والمجيد.
وشكراً لكم على متابعتكم والسلام عليكم.


جوزيف موسى حجار

دمشق أقدم مدينة في التاريخ|ندوة آذار الفكرية في مكتبة الأسد|دمشق، سورية، 1991

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق