هو النحات

18 كانون الأول 2010

لم أعرف مبدعاً يجاري عاصم الباشا في زهده الحقيقي بنتاج شغله الإبداعي سوى الراحل الكبير سعد الله ونوس. فرغم تفردهما، كل في مجاله، سمعت كلاً منهما على انفراد يصف أعماله بأنها «محاولات». وقد قال لي عاصم غير مرة: «ما أنا سوى نحات ينتقل من إخفاق إلى آخر». «لست سوى أعور في بلد العميان».

من المعروف أن عاصم أمضى أكثر من ثلثي عمره خارج سورية لكن إحساسه بهويته العربية السورية وانغماسه في تراث المنطقة يسطعان في داخله وعبر فنه بحيوية لا تخفى، لأنه تلمس الكون فوق هذا التراب ومن خلاله عاش يقظة الفكر.

كتب أحد النقاد يقول إن منحوتات عاصم غير صالحة سوى للمجموعات العامة أو للعرض في المتاحف، نظراً لازدحامها بالأفكار والرؤى، لكن هذا ليس صحيحاً برأيي، فقد روت لي الدكتورة حنان قصاب حسن أنها قامت هي وشقيقتيها بشراء منحوتة لعاصم الباشا من معرضه الأول وقد ظلت تلك المنحوتة لسنوات طوال تنتقل بين بيوت الأخوات الثلاث بمعدل عشرة أيام في الشهر لكل بيت.

في بدء تجربته الإبداعية قيل إن عاصم الباشا كان يجاري النحات السويسري ألبرتو جياكومتي في التركيز على الحياة الجوانية للشخص أو الشيء وإبراز الحركة الداخلية للكتلة، لكن عاصم يرى أن ما يجمعه بجياكوميتي هو أن كلاً منهما يمتح من النبع العالي ذاته في بلاد الرافدين ومصر القديمة.

لا يخفي عاصم احتقاره للنحت الزخرفي الذي يقف عند الحدود البرانية للكتلة دون أن يستنطقها، فخلال تجربته الطويلة طور أسلوباً فريداً في ضغط المسافة بين داخل وخارج الأشخاص والأشياء، بحيث يعبر كل منهما عن حقيقة الآخر الخبيئة. وقد استطاع في أعماله الأخيرة أن يحقق حلمه في «نحت الفراغ» فهو يصوغ الكتلة بحيث يستدرج خيال المشاهد لاستكمال أبعادها الخفية الممتدة في الفراغ، التي لا يكتمل المعنى بدونها.

يميز عاصم بدقة بين النظر والرؤية؛ فبالنظر نتواصل مع الحركة الخارجية للكتلة، أما الحركة الداخلية فنتواصل معها بالرؤية، وهو يبدي أسفه لأن «غالبية البشر أعادوا النظر دون أن يتمكنوا من الرؤية.

أخطر فكرة سمعتها من عاصم هي اتصال الجمال بالحب فهو يرى أن الأول لا يمكن الوصول إليه إلا عن طريق الثاني.

يقيم عاصم حالياً في قرية (بورشيل) ـ برج هلال ـ القريبة من غرناطة. وقد مرت على عاصم في منفاه الاختياري سنوات من الضجر واليأس فشارك في عدد من ملتقيات النحت وحقق حضوراً قوياً فيها، فقد فاز بالجائزة الأولى في ملتقى دبي الدولي عام 2004، وفي العام نفسه فاز بالجائزة الأولى في الملتقى الدولي للنحت في الهواء الطلق في مدريد، إسبانيا، لكنه انقطع منذ ذلك الوقت عن المشاركة في الملتقيات الدولية لأنه بات يعتبرها ضرباً من «الاسترزاق».

في عمل عاصم غالباً ما تتصل مادة المنحوتة بمقولتها الفكرية. فقد استخدم البوليستر الخفيف في منحوتاته التي تجسد الخواء، كما نفذ بالحديد نخلة دبي، التي جلبت له الجائزة الذهبية، وفي المعدن هنا إحالة غير مباشرة إلى افتراق «حضارة» تلك البلاد عن الطبيعة الأم، وهذا ينطوي على نبوءة مضمرة تذكرنا بالنبوءة التي أطلقها الراحل الكبير عبد الرحمن منيف في رائعته «مدن الملح». ليس عاصم مجرد نحات بل هو أديب له تجارب إبداعية شديدة التميز في الرواية والقصة، وهو مفكر يقدم شهادته على عصرنا بالكلمة والكتلة والفراغ.

يكاد عاصم يكون متصوفاً من نوع جديد، فهو يمارس في حياته مقولة النفري «العلم المستقر هو الجهل المستقر» ولا يفوت فرصة لتأكيد خشيته من الجمود في الرؤية والرأي.

في عمله يختصر عاصم صفوة تجارب النحاتين خلال صراعهم مع الكتلة الذي بدأ منذ أكثر من ثلاثين ألف سنة. ليس عاصم معنياً بإبداع منحوتات جميلة تحقق التوازن الإبداعي بين الفراغ والكتلة، والحجم والخط، والحركة والضوء واللون، والظل والملمس وحسب، بل هو معني بإبداع أعمال تحفزنا على التفكير بجوهر الجميل المنفي في هامش حياتنا. وعاصم لا يكتفي بإحالتنا إلى الجميل المهمش فينا وحولنا فقط، بل يدرجنا ضمن محاولته لاستعادته إلى المتن.

نعم في سورية نحاتون بارزون كثيرون بعضهم عاش ومات قبل آلاف السنين لكن عاصم الباشا بالنسبة لغالبية أبناء جيلنا ليس أحد النحاتين بل هو النحات.

==
المصدر:
نص بقلم الكاتب حسن م يوسف، من دليل معرض التشكيلي عاصم الباشا في غاليري تجليات بدمشق، 2010.


حسن م يوسف

اكتشف سورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق