نحت الخواء

18 كانون الأول 2010

مقتطفات من رسالة الكاتب الراحل سعد الله ونوس إلى عاصم الباشا

«الصديق العزيز عاصم الباشا، تحية لك، صديقاً ومبدعاً.

هزتني المشاهدة الأولى لشريط الفيديو الذي أرسلته، والذي يصور منحوتاتك الأخيرة، وكانت الانطباعات التي تشكلت لي ذاهلة ومشتتة، احتاج الأمر أن أشاهد الشريط مرة ومرة، كي ألم شتات انطباعاتي، وأنظمها في رؤية يتوفر فيها الحد الأدنى من التناسق. والواقع أني لا أستطيع الحديث إلا عن انطباعات، ورؤى شخصية. إذ أني لا أملك أي زاد أكاديمي أو نقدي، يؤهلني للكتابة عن النحت بمصطلحات النحت.

وما تحمله هذه الرسالة لا يعدو نوعاً من البوح، الذي يتلعثم به تيار من الانفعالات والتخاطرات وشحطات الذاكرة. تسمرت عيناي على المنحوتة الأولى. هذا الوجه الذي اعوج أنفه، واختلت ملامحه، غابت إحدى عينيه في انطفاء معدني بارد. هذا الوجه، ستتوالى رؤوس، وستكون جميعها مفككة الملامح، مزمومة على تعابير يكاد المرء أن يقرأها، لكنها سرعان ما تنحل في الفراغ، قبل أن يجد المرء الكلمة المناسبة، هذه الرؤوس، التي يمكن أن تكون قد استوحيتها من الندوات الثقافية المحشوة بالإدعاء واللغو والصخب. ويمكن أيضاً أن يكون ما حفزك على نحتها، وهو ميل ماكر إلى «الغروتسك» والسخرية الماجنة. ولكن ما تنضح به هذه الوجوه هو أعمق من السخرية وأشد مأساوية. في المشاهدة الأولى، تركت نفسي أنساق مع الانطباع الذي أردت أن توحيه لنا. ولكن في المشاهدات اللاحقة، وجدت أن مثل هذا الانطباع ليس إلا مستوى أول، يكمن خلفه وعلى مسافة منه، مستوى أكثر عمقاً، وأغنى دلالة. وسأكتشف في مشاهدة لاحقة، أن هذا المستوى بالذات هو خيط أريان، الذي يضيء هذه المرحلة الإبداعية الجديدة».

«بعد قليل، سيهطل المطر، وستفتح باب المشغل الذي يطل على بستان حقيقي. وللحظات سأتنفس بعمق، وسيذهلني هذا المنظر الذي ينقض عملك، ويعاكسه. سأنظر إلى العشب الغض والمبلل بالمطر، وإلى الزهر الأبيض الذي يكسو غصون شجرة الكرز أو المشمش، لا يهم. وسأقول.. هي ذي خصوبة طبيعية وبسيطة، تنسكب من السماء، وتفيض من الأرض. للحظات سأفتتن بهذه الخصوبة، وكأنها دوار مسكر ولذيذ. ولكن سرعان ما تتبدد هذه الحالة، وأتذكر أن الفنان، الذي يبصر ما وراء الظواهر والمرئيات، والذي يتوغل في ظلمات الشقاء والخراب والموت بحثاً عن ضوء وإلهام. هذا الفنان الحقيقي لا يمكن أن يستغرق بهرج الكرنفال رؤياه. فهو يتخطى بالبصيرة والرؤيا صخب الملابس والألوان والتزاويق، لينفذ إلى ظلمات الأعماق حيث الحقائق والظلال، وحيث الوجوه العارية والثياب الفعلية، وحيث لا يوجد أحياناً.. إلا الخواء. وعلى كل، ينبغي ألا ننسى أن ما شهدته، ليس هو المنحوتات بالذات، وإنما صور عنها. عن تجريد تلك المنحوتات من ثقل مادتها، وحضور التشكيل الإبداعي فيها، وتحويلها إلى صورة مسطحة على شريط تلفزيوني، ينطوي في حد ذاته على مفارقة وتضليل. ومن يدري! فقد يكون الانطباع الذي أفعمني نابعاً من التخييل الذي يمثله شريط الفيديو، أكثر مما هو نابع من المنحوتات ذاتها أغاني الأسى الذي كسوت روحي بها. وأبهجني أنك تتجدد دائماً، وأنك تواصل رحلة البحث والتجريب دون كلل أو ملل».

==
المصدر:
مقتطفات من رسالة الكاتب الراحل سعد الله ونوس إلى عاصم الباشا، من دليل معرض التشكيلي عاصم الباشا في معرضه بغاليري تجليات 2010 دمشق.


اكتشف سورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق