عندما تتحول اللوحة إلى رأي أو مقترح جمالي جديد بما تعكسه من مشاعر متناقضة
22 تشرين الثاني 2016
«وجوه» .. عنوان المعرض الأحدث للتشكيلية ريما سلمون
ريما سلمون الفنانة التشكيلية التي أرادت أن تقدم ذاتها الفنية كما في كل مرة تعرض فيها لمرحلة من تجربتها في التصوير، وهي هكذا دائماً من غير رتوش، لكن في هذا المعرض «وجوه» المتمايز بتقنيته، فكانت أن قدّمت تلك الذات بشفافية قلّ نظيرها في الرسم من خلال الأحبار ومواد مختلفة، هو وجه ولكنه لا يشبه الآخرين، أو على الأقلّ ما اعتدنا مشاهدته، هي مجموعة وجوه غالباً ما تفكر بصوت عال، من اللهجة التعبيرية العالية في لوحتها رغم الاختزال الشديد في الرسم تاركة لخيالها وحَدسها صياغة ما تبقى من الشكل بخطوط واثقة تميّزها الرشاقة والقوّة لمنح شخصيتها تلك الخصوصية الشديدة، وتعكس بالتالي سيرتها الذاتية بكامل وعيها وصراحة لم نعهدها من قبل وإن كلّفها ذلك بالبوح عن القبح أحياناً، ولكنه القبح الجميل الذي لا يختلف عن الحقيقة التي غالباً ما نهرب منها لعريّها.
الوجهية أو «البورتريه» .. الموضوع الذي بإمكانه أن يكثف تاريخ مدينة من كونه يعكس في تضاريسه صفات الزمان والمكان، والوجه دائماً يفتح على الفنان أسئلة عديدة، وعلى المتلقي أسئلة مغايرة ومختلفة لإعادة النظر ربما بمفهوم الجماليات وما تعنيه باللاوعي في ذاكرته، وجه يستفزّه فيقترب أكثر من جسم اللوحة، ليكتشف ربما أكثر من أي وقت أو مشاهدة بأنه معني بما يدور حوله من أحداث، صراخ وضجيج لا ينافسه في التعبير سوى لغة الصمت المطبق على شفاه تلك الوجوه التي هي أقرب إلى الحقيقة فيما نحن عليه اليوم من حالة يصعب وصفها بالكلمات فجاء الرسم أبلغ من الكلام، وريما سلمون الفنانة التي مازالت تبحث في لوحاتها عن إجابات لأسئلتها، ربما هي نفسها او تتقاطع باللاوعي مع سيل الأسئلة التي تبدو على شفاه شخصياتها التي بقيت مضمومة : «ولا أزال أفاجأ من الأشكال التي تظهر على اللوحة بفعل يدي، ولكني أحاول أن أرجع بعض الأسئلة إلى داخلي وذاكرتي وأيامي السابقة لأجد التفسير لما أرسم، وما زلت في حالة سؤال، فأنا أنظر إلى لوحتي كأي متلق محايد، أطرح الأسئلة وأنتظر الإجابات، وأنا أطلب من النقاد والمتلقين مساعدتي في تفسير لوحاتي، فربما أكتشف عبر ذلك الأجوبة المناسبة».
وريما التي كانت دائماً تواجه صعوبة تلك الأسئلة في ذلك الوجه، حتى عندما كانت ترسم سابقاً الشخصية بالكامل من قناعتها بأن كثير من المشاعر لابدّ أن تصلنا من العيون في وجوه شخصياتها .. وفي هذا المعرض الذي قدمته بصالة تجليات – بيروت - لابدّ من ملاحظة شكل العينين المختلفتين في التعبير لنفس الوجه مما يوحي بانفصام في الشخصية وتأزّم مريب قد يعكس بعضاً من واقعنا المزيّف الذي نعيشه اليوم، وهذا ما عبّرت عنه الفنانة في سطورها على دليل المعرض: «التغيير الحاصل في شكل الزمان والمكان بمضامينه الرئيسية وهو الإنسان أولاً، والإنسانية ومتغيراتها وانعكاساتها على طريقتي في التعاطي مع أدواتي، ليحل مكان تلك الفرشاة المتحررة بسهولة وانسياب حركتها، أدوات تصنع قراراً يسابق اللحظة، يشبه هذا الزمن .. يكشف عُريَه.. قتامة معناه.. متناقضاته ..».
إن النظر بتأمّل إلى أي من أعمال المعرض المشغولة بالأحبار وبعض المواد ودائماً بصياغات مدهشة من بساطتها، لابدّ أن يتأكّد بأن اللوحة هنا هي رأي أو مقترح جمالي جديد بما تحمله من مآسي وما تعكسه من مشاعر متناقضة، أو ما تطرحه من أسئلة مستفزّة تكرّرت في معظم الوجوه وبجميع حالاتها، والتي تحاول الفنانة أحياناً تلوين بعض الكوادر أو أجزاء منها، للتخفيف من حالة الذعر والخوف أو الارتباك الذي يظهر أكثر باللون الأسود على الأبيض، وكانت عرضت العديد منها من غير ألوان والتي قد تتفوّق أحياناً على مثيلاتها بشدة التعبير وفيض المؤثرات الجمالية التي تضيف إلى العمل قيمة ودفقاً روحانياً وإنسانياً عميقاً.
ومن سطورها أيضاً: «ما يشبهني أكثر هو لوحتي ..
مفاجأتي لذاتي ..
الدهشة التي أشتاقها ..
فبات الحبر الذي اعتدناه للكتابة، مادتي الرئيسة لصناعة قبحٍ جميل .. صناعة وجه غير كل الوجوه ..
يروي حكايته باللون الوحيد والقصبة ..».
مهما بلغت الكاميرا بتعقيداتها من تطوّر هي بالتأكيد لا تستطيع أن تقدم جوهر الإنسان، بينما الفنان بإمكانه وبخطوط مختزلة أن يدخل في أعماق الشخصية وتاريخه ومن ثم تكثيف أي نوع من التعبير الذي يجسّده لنا من خلال وجه، والذي تكتفي الكاميرا بتسجيل ما هو سطحي من مشاعر أو نقل الانطباع بجزء من اللحظة، الذي قد يحتاج إلى وقت ومعرفة أو من خلال معاناة شخصية ينقل الفنان بالرسم تلك المشاعر المتناقضة للناس الموجودين في أي زمان ومكان.
«وجوه» .. المعرض الذي كان مختلفاً بشكله ومضمونه، هو أقرب من حيث الفهم إلى «السهل الممتنع»، من بساطة الرسم بخطوط سريعة أو على الأقل هكذا تبدو من رشاقتها، تذكّرنا أحياناً بقصبة الخطّاط الذي يبدأ برسم الكلمة ولا تغادر يده الورقة قبل أن ينهي الكتابة بما علق عليها من حبر، وبنفس الرشاقة والحيوية ترسم خطوطها من غير تردّد حتى تبدو عفوية ومتحرّرة من قيود الاكاديمية، من الخبرة بالممارسة التي تجعلها أكثر عقلانية، يقول الفنان بيكاسو: «إنه احتاج إلى خمس سنوات لدراسة الفن بشكل عام وعشـرين عاماً أخرى لكي يرسم بعفوية الأطفال»، وهذا الكلام يلخّص حجم معاناة الفنانة ريما سلمون التي هي اختزال لثلاثين عاماً من التجربة، وهذا المعرض؛ وجوه، خاصة الذي قدّمت فيه خلاصة تلك السنوات من الاجتهاد والاشتغال على موضوع الإنسان كقيمة عليا في الحياة، ولا شيء يساويه في الأهمية، فخصّصت معارضها الأربعة الشخصية له «كان الأول بصالة أورنينا – باريس 2006/ الثاني بالآرت هاوس بدمشق 2009 / الثالث كان بصالة أيام بدمشق 2011 / وهذا الرابع "وجوه" بصالة تجليات بيروت 2016».
في هذا المعرض كما في معارضها السابقة نلاحظ أن الفنانة التشكيلية ريما سلمون، وهي المعروفة بانشغالها الدائم بتقنيات اللوحة وما يمكن أن تضيفه من خلال تلك المواد إلى التعبير، الذي هو الأساس في عملها التشكيلي خلال مراحل تجربتها المختلفة، والتي تتصف لوحاتها عموماً بتقشـّفها اللوني وثراء سطحها الغرافيكي، والذي توليه الفنانة أهمية قصوى ليغتني بالمؤثرات البصرية العالية في قيمها التعبيرية والجمالية، إن من خلال الحضور البهي للشكل – أو الغائب بنقائه ونبله والحاضر ببشاعته؛ والأصح حقيقته، وهي تصيغه بتفاصيله البديعة المكثّفة بخطوط مختزلة وبعض الأثر لفرشاة عبرت بخفّة من الأسود أو مشتقات الأحمر متداخلاً مع الأصفر ودائماً على خلفية بيضاء توشح جزءً منها بالأوكر أو مشتقات الأزرق محتفظة ببعض البياض كشاهد أو معادل لكل ذلك الخراب الذي حصل قبل قليل ولم يعد بالإمكان تداركه ولا حتى التخفيف منه، كونها تعتمد دائماً بالرسم على لحظة التعبير بصدقها وحرارتها التي تخشى أن تفقدهما إذا ما تكرّرت تلك اللمسة أو ذلك الخط أو أُعيد النطر فيهما، وهذا ما ظهر واضحا بما قدّمته اليوم في معرض «وجوه»، خاصة في مناطق محدّدة بذاتها من الوجه الذي يبدو في أقصى حالات تعبيره المكثّف بقوة في شكل العيون المختزلة لكل السيرة الذاتية لذلك الشخص الذي غالباً هو يجمع ما بين الأنثى والذكر في صفاته، وهي المؤمنة في تكامل تلك العلاقة ما بين الرجل والمرأة في الحياة.
وجوه .. هذا المعرض الذي اكتفت فيه بالرسم لتقول ما تريد بصراحة وصوت عال من خلال الوجه:
«هذا الوجه ..
الغائب الحاضر.. الحاضر الغائب..
الذي قصدت العمل لتقديمه..
قصدني بهذا الشكل».
فعلى الرغم من تداخل واشتباك تلك الخطوط وما ينتج عنها من سيولات لونية ترسم مسارات عشوائية وهي تسقط باتجاه الأسفل، تترك خلفها أثراً مختلفاً وهي تغادر اللوحة، الذي خصّصت له الفنانة مربعاً يساوي في مساحته وأهميته باقي اللوحات من نفس المجموعة، فصلّت من خلاله خصوصية ذلك الأثر وأهميته بالنسبة للوحتها، من علاقة الخط على اختلاف نسبة وعيه لحظة التقائه بما تركته فرشاة أو قصبة من لون اسفل الكادر على شكل قوس ينتهيان بمساحة داكنة من البني تختم فيها طرفي الكادر من الجهتين، وهذا التقدير برأيي من الفنانة لكل تفصيل في لوحتها هو احترام لذائقة المتلقي واهتمام منها بثقافته، وهذا ما يدفعها دائماً لكثير من الاجتهاد على ذاتها الفنية لتشاركه ولو بالإجابة على بعض الأسئلة وغيرها من الإشارات العالقة في لوحاتها وخاصة على تلك الوجوه التي ستبقى تنظر إلينا بنفس الدهشة والرغبة، إلى أن تقابلنا مرة ثانية بما ستقدّمه الفنانة في معرضها القادم الذي لاشكّ سيكون ومثلما كان دائماً، مختلفاً بتقنيته، مفاجئاً بجديته ومدهشاً بأشكال تعبيره وخصائصها الجمالية.
غازي عانا- فنان تشكيلي
اكتشف سورية
الفنانة التشكيلية ريما سلمون |
الفنانة التشكيلية ريما سلمون |
من معرض «وجوه» للتشكيلية ريما سلمون بغاليري تجليات في بيروت |