عفيف آغا .. الفنان المبدع في الحياة والفن.. منحوتاته نوافذ مفتوحة على الحوار وكثير من حرج الأسئلة..
28 تشرين الثاني 2016
زاوية تشكيلية لأعماله في معرض الكتاب الدولي ببيروت 2016
تعرفت على أعماله قبل فترة ليست قصيرة، للحقيقة أول ما شدّني مهاراته التقنية التي لابدّ أن تُدهش كل من شاهد عملاً لهذا الفنان الذي تحسبه للوهلة الأولى صائغاً مبدعاً لمجوهرات من الحجر .. هذا الكلام ليس فيه مديح ولا ذمّ بحق عفيف آغا النحات الذي بعد أن تتعرّف أكثر على تجربته تتأكّد أنك ظلمته - على الأقل – تشكيلياً، لأن معظم أعماله تعتمد الواقعية المبسطة التي غالباً ما يغيب فيها الشكل لصالح التعبير، كما في أعمال البورتريه - بينما في التجريد الذي لا يتقصّده الفنان أكثر من إخلاصه لعمل الطبيعة عليه منذ ملايين السنين إلى لحظة اختياره والتقاطه الحجر من مكانه الأساسي، ولماذا اختاره دون غيره ..؟ لإيحاءاته ربما بحكاية ما..! وقد لا يكون هذا الجواب مقنعاً أكثر الأحيان .. إذن هي ستبقى مجرّد أسئلة .. وغالباً ما يحاول الفنان فيما بعد أن يكمل تلك الحكاية لنا على طريقته هو، وبلغته من دون أن تفقد المادة بعض خاصيتها وقوامها، بل ودهشتها الأولى التي ستحمل لا شكّ حرارة مشاعر الفنان وفيض أحاسيسه في تلك اللحظات من الحوار والعلاقة فيما بينهما، هو حوار شاق ومضني لنهاية مختلفة ومفاجئة من حيث نهوض الكتلة وتشكّلها تدريجياً باتجاه حالة راقية من الحضور مع ما يتخلّلها وما يحيطها من فراغ حميم يرسم بالضوء حدود الكتلة والتي غالباً هي خلق لحالة جمالية مختلفة تحفّز بصريتنا قبل العين على الاكتشاف وقراءة ما وراء الشكل المصاغ بعناية فائقة على الرغم من صعوبة تلك المحاولة أدبياً، وهذا ما يجعل أعمال عفيف آغا تنهض بحيوية وحرية مطلقة باتجاه آفاق أكثر رغبة بالصمت رغم الضجيج الذي تثيره في مخيلة المتلقي لكثير من الحوار الذي يبدأ ولا ينتهي.
عفيف آغا الذي يتحضّر لنقل منحوتاته إلى بيروت نهاية هذا الشهر تلبية لدعوة الجهة المنظّمة لمعرض بيروت للكتاب، هو لاشكّ سعيد بهذه الدعوة وهذا التذكّر الجميل من هؤلاء الذين خصّصوا له مساحة كافية ليعرض فيها أعماله هناك أمام جمهور وشريحة من المثقفين والكتاب قد تكون مختلفة في تلقيها وذائقتها عن ما تعوّدنا عليه في المعارض التشكيلية، لاشكّ هي فرصة ستكون استثنائية له من شكل الحوار الذي سينشأ بينه وبين زوار المعرض والمشاركون فيه، حول تجربته والأعمال التي سيعرضها هناك، والتي برأيي ستفاجئ الكثيرين من صياغتها المبدعة وتنوّع الخامة بألوانها وأشكال التعبير المتباينة فيما بينها، والأهم هنا تلك الإضافة التي سيشكلها حضور تلك الأعمال في معرض كتاب دولي مُقام في مكان كبير ومعروف .. «البيال» بيروت من 1- 14/ 12 / 2016.
إن أعمال النحت هذه ستضيف أفاق معرفة جديدة لزوّار المعرض ومتعة بصرية لا يعوّضها الكتاب على أهميته وتنوّع عناوينه، فالمنحوتة الواحدة يمكنها أن تفتح نوافذ مختلفة للحوار وكثير من الأسئلة حول الشكل والمضمون والتقنية، لتشكّل بالنهاية حالة راقية من احتمالات القراءة الممتعة بفضل دعوة كل من النادي الثقافي العربي والمسرح الآخر لهذا النحات أن يكون مشاركاً في هذه التظاهرة بزاوية تشكيلية يقدّم من خلالها رؤاه وفضاءاته وأحلامه المشروعة لشكل آخر من الحياة التي يتمنى أن تتحقّق في يوم ما.
وفي عودة إلى معرضه الأحدث في بهو فندق «الداما روز» بدمشق صيف هذا العام 2016، أكثر ما لفتني حقيقة عنوانه «الصمت»، والذي لا يدفعك للاستسلام بسهولة لتلك الحالة الخاصة من الصياغات التجريدية الناهضة أمامك والتي لابد أن تفاجئك وأنت تستعرضها لأول مرة باحتمالات الدهشة واختلافها من منحوتة لتالية مع احتفاظ كل منها بسرّ متعتها على الرغم من اتفاقها جميعاً على استفزازك بالسؤال حول تلك المهارة التقنية التي يمتلكها هذا النحات بإنجازه تلك الحالات الاستثنائية والمعقّدة من التشكيل بالحجر باختلاف صلابته، ودائماً لصالح التعبير ورشاقة نهوض حجومه وتداخلها مع بعضها وما تستقر عليه بالنهاية من علاقة متوافقة ومنسجمة بين فراغها الداخلي ككتلة مشغولة بعناية فائقة وبين ما يحيطها من فراغ يختلف بدهشة فرجته من جهة إلى اخرى، هذا بالنسبة إلى التجريد في تجربته عموماً وما قدّمه في هذا المعرض المميّز حقيقة من حيث التشكيل والتقنية، والتي وصل فيهما إلى مرحلة متقدّمة من التفاهم في العلاقة ما بينهما على تقاسم الأهمية في العمل النحتي، بحيث لا تتفوق واحدة على الأخرى محافظاً على حالة الدهشة ومضيفاً بعض التأثيرات على السطح اللون والنقوش كزخرفة تشبه أحياناً الثرثرة البصرية الممتعة للبعض، من دون أن تقلّل من أهمية نهوض الكتلة واحتفاظها بصمتها ورهبتها، بل رغبتها بالإفصاح عن دواخلها التي هي لا بدّ أن تعكس إرهاصات ومعاناة الفنان من بداية الاشتغال بالعمل وحتى نهاية الإنجاز وإخراجه بهذا الشكل من الاستقرار الذي غالباً ما يوفّر احتمالات حوار ممتعة بينه وبين المتلقي لا تخلو غالباّ من التشويق لاكتشاف آفاق جديدة في كل محاولة مشاهدة لأحد جهاتها، وهكذا لابدّ أن ندور حول أي منحوتة حتى تكتمل المتعة.
بينما في صياغاته التالية في المعرض «نبض الصمت»، والأقرب بفهمها إلى الواقع والتي غالباً هي محاولة مجتهدة من الفنان لاستحضار بعض وجوه لشخصيات قد لا تشبه أحداً في الواقع لا في شكلها ولا فيما تعكسه من مشاعر وعاطفة، لكنها تتشابه أكثر في صمتها وهي أقرب إلى مخلوقات فضائية قادمة من كوكب آخر تربطها صلة قربى من استقرارها ككتلة أقرب في شكلها إلى الموشور، ومن بساطة وتوحيد شكل الصياغة التي اعتمد فيها الفنان الغائر والنافر على السطح المثلث المصقول الذي يستند على أحد رؤوسه بالدلالة إلى حرج استقرارها وللتعبير عن دهشتها الأولى من خلال إطلالات مبهمة مستهجنة وبليدة أحياناً، وجوه قد تستفزّك من صمتها، وحتى بطريقة تعبيرها عن مبرّرات وجودها بهذا الشكل من الظهور الذي لا يوحي بالاستقرار رغم ما تعكسه من مشاعر متناقضة تُشعرك ولو للوهلة الأولى بسلام داخلي ينتقل إليك باللاشعور حتى تألفها بعد أكثر من مشاهدة، وهكذا هي دائماً لا تكتفي بالدهشة الأولى محتفظة لنفسها وبداخلها حرارة الأسئلة الصعبة المتعلّقة بزمن تشكلّها عبر أحقاب مختلفة، وحتى اللون الازرق الفيروزي الذي يعني للفنان كثيراً ويضيفه أحياناً على بعض المناطق في أعماله هذه وغيرها، لا يستطيع رغم ترميزه ودفق الجماليات أن يقدم إجابات، بل قد يضيف بعض الغرابة على تلك الوجوه التي بقيت تحتفظ بكل هذا وذاك كمحرّضات وأسرار لا تبوح بها سوى لمبدعها وعلى مراحل، هي نفسها ربما مبرّرات ذلك الصمت والغموض المدهش الذي سيبقى يغلّفها، ويفتح للمتلقي نوافذ حوار متعدّدة تبدأ مع أول مشاهدة ولا تنتهي بنهاية المعرض، الذي هو نبض الصمت.. «المطر.. النافذة.. اللّا مرئي.. الخبايا والمكنونات .. الأفئدة التي تنتعش افتتاناً .. للمدى والفراغ المتحرك .. للسلام الداخلي والغنى النفسي والجسدي .. نكتسب السكينة .. نشعر بدفء الداخل المتأجج والمتناغم في أوج الزمن الآخر …».
إن الحديث حول معرض النحات عفيف آغا قد ينتهي هنا، وقد لا ينتهي إذا أردنا أن نخوض في غمار التقنية التي لابدّ أن تقودنا إلى محاور هي أساسية لا شكّ في تجربة إنسان أصبحت شهادتي به مجروحة بعد أن تعرّفت عليه أكثر في معرضه «نبض الصمت»، بعد أقل من لقاء ووقت قصير جداً، اًصبحت أشكّك في أنه الأول ولم نلتقي من قبل ..
كان اللقاء الثاني بعد يومين أو ثلاثة في مشغلي بدمشق القديمة، المهم لم يكن التوقيت موفّقاً ولا الحديث كان هاماً كفاية حول النحت وبعض القضايا الأكثر أهمية، ربما بسبب ضيوف كثر وقتها حضروا من غير موعد، وحالة من الفوضى أربكتني إلى درجة لم أوفّق بالتعرّف أكثر على جوانب تهمّني حول شخصية النحات عفيف آغا.
كان اللقاء الثالث في مضافة الصديق النحات عفيف آغا ..
هي مزرعة .. فيها مشغله وتعبه الجميل، واستراحة .. فيها أشجار وأحجار نادرة، وبئر ماء، وهواء وتنّور.
هذه بعض التفاصيل والتي في شكلها أقرب إلى الواقع، رغم أن كل ما تبقى هو فيض حبّ وكثير من الحلم.
كانت رحلة أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع .. بعدها تأكدت أنّه ربما هناك بعض الجنان على الأرض ..
في تلك الزيارة تعرّفت على الجوانب الأكثر حميمية في شخصية النحات وعلاقته بالنحت والأهم علاقته بكل ما حوله من مؤثّرات وأشياء «بشر، حجر وشجر»، هو يتعامل مع كل هذه العناصر بإنسانية ومحبّة خاصة تصلك من أي تصرّف أو كلمة يتحدّث بها حول أي موضوع ودائماً بروحانية ودفء نادرين يغمرانك ، إن تلك العلاقة التي يقيمها مع الآخر ويؤمن بها كانت دائماً تدهشني من وضوحها وصراحتها وبساطة مفرداتها، كونها مبنية بالأساس على الاحترام المتبادل وتقدير واحترام ثقافة ذلك الآخر أيً كان، يتعامل مع الناس كما يتمنى أن يعاملوه، ودائماً يودّعك بدمعة غير التي يستقبلك بها، من فرحته بلقاء لا يتمنى هو، ولا أنت تتمنى أن ينتهي، في حضرته وسعة ورحابة المكان تحتار كيف ترتّب أولوياتك وأفكارك وغالباً ما تفشل لصعوبة استيعابك تفاصيل ما أنت بصدده .. هل تحدّثه عن النحت وخصوبة وقصة كل حجر وكل منحوتة وتاريخها وتقنيتها ومشاعره في تلك اللحظات التي تفاجئك بسيلها أثناء الحديث عن أي منها، وكيف هو سعيد بوجودها في صالته الزجاجية التي صنعها وجهّزها بنفسه وذائقته لتبدو منحوتاته بأبهى حضورها، يغلفها الضوء وحبّه من جميع جهاتها، تدهشك غيرته وأنت تدور من حولها وهو يدور معك، يحدّثك بمتعة تعادل استمتاعك بتنقلات الضوء من على أطرافها، ولا يستغرب أحد أبداً، إذا كنت أتحدّث عن منحوتة ارتفاعها 3 سم فقط بكل هذه التفاصيل، ربما لو كان الوقت أطول لكان بإمكاننا نقل بعض استمتاعنا بكل جزء من هذا المكان الساحر بما يضم من إبداع وصبر جميل وروح تواقة إلى الحياة بكل تجلّياتها وبما تحتويه من حبّ وسلام.
هو محترف النحات عفيف آغا ..
اللقاء الرابع لن يتم بعد، هو افتراضي بكل المقاييس وأسعى بما أملك من رغبة وقدرة على التصوّر أن أحقّقه لأستدرك ما فاتني من متعة وحبّ للحجر والخشب أساس النحت الذي أحلم أن أنفّذه برفقة هذا العفيف الجميل في ذلك المحترف الحلم.
«من يجد القلب الدافئ لا يهب العواصف»… هذه بعض من كلمات كتبها النحات عفيف آغا في البطاقة التعريفية لمعرضه الأخير « نبض الصمت»… وهي كلمات حاول النحات أن يعبر بها عن منحوتاته الخمسين التي احتضنها المعرض يومها .. كان ذلك بداية شهر آب 2016.
عفيف عمر آغا :
- مواليد أوغاريت 1959.
- درس الفن دراسة خاصة واهتم بالنحت على الحجر والرخام بشكل خاص.
- ( 1986- 1996) أقام ثمان معارض فردية بين دمشق، اللاذقية وحلب، كما شارك في العديد من المعارض الجماعية.
- أعماله مقتناة من قبل وزارة الثقافة وضمن مجموعات خاصة داخل وخارج سورية.
- يعتمد في تنفيذ أعماله على التعبيرية كدلالة وموضوع وتصل إلى التجريد في أكثر الأحيان مراعياً انسجام الفراغ والحجم ، وجماليات نهوض الكتلة في الفراغ.
غازي عانا- نحات وناقد تشكيلي
اكتشف سورية
أعمال نحتية للفنان عفيف آغا |
أعمال نحتية للفنان عفيف آغا |
أعمال نحتية للفنان عفيف آغا |