ريما سلمون تعرض في تجليات بيروت.. فقدان حواس ووجوه تغرق في برودة الاصفر..!

08 تشرين الثاني 2016

.

دمشق..! بيروت..! هي المسافة الكافية للشعور بالأمان وهي ذات المسافة الكافية للشعور بانعدام الإحساس بالأمان، فالأمان ليس مجرد الإحساس بانعدام الخطر، بل عدم الوقوع تحت الاحساس به، وليس لريما أن تنفصل..! وهي كما سبق وقلت فنانة الأرض..!

ذاك المرسم الدمشقي الذي له رائحة الفنانة ريما سلمون، ولا يمتلكها ذاك المرسم البيروتي العالي، الأمر ليس في الإختلاف وحسب، بل في انعدام التشابه، وبالتالي فنحن أمام حالة من انعدام الحميمي واليومي الطبيعي، ليس بسبب المكان وحسب بل بسبب الزمان ايضا، بسبب الكارثة تتغير الصور وحتى الألوان الحارة يمكن أن تصبح ببرودة الأصفر.


من معرض «وجوه» للتشكيلية ريما سلمون في غاليري تجليات بيروت

غياب جغرافيا المكان عن لوحتي لا يعني غياب المكان، المكان ليس مادياً فقط وإلا لكانت كل الأماكن متشابهة!

المكان إذا كان تراب الوطن نكون قد انتقلنا إلى مكان معنوي وروحي، لذا أنا أرسم بلون التراب، أي بلون هذا المكان، هذه الوجوه التي أرسمها تشبه هذا التراب الذي ننتمي إليه، بمعنى الوطن، الذي من أجله كانت الشهادة والموت والألم الذي يرافقني ولوحتي، فكيف يظهر المكان بلوحتي بأكثر من هذا؟! أنا لا أفصل أبداً بين شخوصي وبين المكان، ألا تلاحظ أن شخوصي حافية الأقدام، هذا كي لا أترك فراغاً بينها وبين المكان، إنها أقدام كبيرة وقوية وراسخة فيه.


من معرض «وجوه» للتشكيلية ريما سلمون في غاليري تجليات بيروت

أكثر من ست سنوات مرت على هذه الكلمات التي قالتها الفنانة ريما سلمون لي ذات حوار، بعدها بدأت لوحتها ومع انفجار الكارثة السورية تأخذ أبعاداً تشكيلية وتعبيرية وتقنية، لا بل وتكوينية؛ وأكثر حدة وسيلانا وارتجاجا وتراجيدية، حتى وصلت اليوم إلى الإلغاء وفقد حواس والانكفاء والتراجع خطوات عن اكتمال الشكل وتغييب الجسد والأطراف والقسم الأرضي من اللوحة، لتصبح المواجهة بالرأس فقط، بالوجه وحسب، وصولا الى الغاء حاسة البصر أو جزء منها بالمعنى الحسي المباشر وبالمعنى الرؤيوي، انكار الرؤية ورفضها، ورفضها وعرضها في ذات الوقت..! هذا الصراع بينهما وبين الفنانة لا يعصف باللوحة بقدر ما يعصف بالمتلقي فهل تريد له أن يرى أم يتراجع عن الرؤية في اللحظة الاخيرة، وفي هذا التردد يكمن الحدث والمفارقة والصدم والرؤية وانعدام الوزن البصري، والتحرر من نمطية اللوحة وكتل اللون، والتكوين المضبوط والخط القوي الذي يظهر صلابة الكتلة البشرية في لوحة ريما السابقة مقابل هذا الطوفان التعبيري الذي ينسف اللوحة ويخرجها من مدار الاعتياد والأكاديميات، لتصل ريما باللوحة إلى مدار آخر أكثر فنية وتحرراً ويشبه حالة الفقد والفراغ والفزع الروحي كقطرات مطر تتساقط على زجاج العين المكسور والمفتوح على العتمة..!


من معرض «وجوه» للتشكيلية ريما سلمون في غاليري تجليات بيروت


تحول لوحة ريما التدريجي من اللوحة بمفرداتها التشكيلية الخاصة والمتفردة، الى لوحة الانفجار الواحد أو الدفقه الواحدة كما يصطلح عليه، والخروج أخيراً لتكون اللوحة السكيتش وليس السكيتش وحسب..! وهذا يأخذنا إلى فهم جديد من ترابط الذات مع الموضوع بل ترابط الشخصية مع اللوحة التي تتحول تبعا لعوالم الفنانة الداخلي لتكون شاهدا على شكل رؤيتها للعالم المحيط والعالم الداخلي بأبعاده المختلفة، ولتكون انعكاسا ديناميا لفاعليته الوجدانية المتحركه في الزمان وفاعلية الزمان الحدث فيه بالمقابل وبشكل آني ومباشر مدرك ومحلل ولاشعوري وبالتالي انعكاس كل هذا في اللوحة، اللوحة هنا خاضعه لكل هذه التحولات التي كانت ملامحها تظهر تدريجيا ومتفقة مع الوحدة النفسية والتعبيرية والتشكيلية للفنانة وخطها التشكيلي، ووصولها الى هذه المرحلة من التطور يخلق شكلا من أشكال التحرر من اللوحة لصالح الحالة والحال، لذا نحن أمام مرآة فن ومرارة.

معرض تندلع اللوحة فيه كحدث انفجاري يلخص ويلغي ويختصر كل شيء باحتراق واحد، يظهر كل شيء ويختفي أو يحاول أن يخفيه من صدى الصدم الذي يتردد مع تدفق اللون كصرخة مكتومة ولكنها قادرة على الاختراق والوصول الى اكثر من مداها.

هذا العرض يصل إلى أكثر من مداه، ليس بسبب هذا التحول بحال اللوحة، بل بنوعية هذا التحول، ففي الجانب التشكيلي سنرى الفراغ وقد تحول من مفردة تشكيلية إلى مفردة نفسية بدرجة أكبر، فلم يعد المنظور الفراغي في الكثير من لوحات المعرض هو ذاته، وهذا لصالح الحالة الفنية التي تمردت وتحررت من إغواء البعد الثالث وفعل الملىء اللوني لتكون كما الرصاصة في صدر اللوحة، الفراغ في الوجوه هو ذات الفراغ في خلفية اللوحة، فالفراغ هنا متحرك ومتقدم ومتراجع وبمثابة احتلال للوحة، ما يعني فقدان المكان والتوازن على المستوى الذاتي النفسي والجمعي والتشكيلي، وهذا يأخذنا إلى حال الوجوه التي تطفو وتغرق في الفراغ وقد نراها مقلوبة ومتحررة من الجاذبية ولكن ليس بفعل إرادي، نرى اللوحة هنا كما الصورة الميدياوية المتحركة تموج في الفراغ ومتحررة من الوزن وطاغية التأثير، قوة حضور الفراغ النفسي نراه تشكيليا وحتى بحضور اللون ليس إلا طعماً آخر للفراغ، وهذا إضافة هامه تفضي إلى تأكيد قسوة الفراغ الذي يصل حد الدوران والاختناق.

اللون واللا لون هما الجانب الآخر في التغير الذي سنراه في لوحة ريما، فالأصفر الحار بطبعه هو ليس كذلك في اللوحة عندما يتحول الى فراغ والى لون آخر، وكذلك امتزاج الأحمر مع الأصفر لا يخرجا لوناً برتقالياً بل ناراً ورماداً في شكل الإيقاع اللوني لحضورها معا على رماد الوجه وليست ضربات الريشة العريضة إلا هذا الأثر الحاد والجارح كانعكاس لما ترسب على وجه الروح، الوجوه هنا ليست إلا مرآة لروح فردية وجمعيه وبأقصى حبها وانكسارها وتقشفها ومباشرتها ورغبتها بالسلام تكون هذه اللوحة، هذا السلام الذي صلينا معه ولأجله في معرضها السابق، إلا أن الله لم يستجب بعد..!

العديد من الإشارات اللونية ترمي بالوجه الى مدار آخر من التشظي وهذا أكثر من التعبير المؤلم! لمسة لونية تجمع بين الأحمر البرتقالي الفاتح والجاف على الرقبة ترمي العين في قلب الدوار، إنها تعرف بالضبط أين تلقي لونها، وهذا لا يعكس إلا مقدار المترسب في العمق اللاشعوري والشعوري ليس في لوحة ريما بل في ريما الإنسان «ريما اليوم لا تشهد الشهادة بل تشهد شهداء وترابا نازفا ولا يزال..» هذا يأخذنا الى لوحتها وجوه بأزرق السماء، مجرد تسمية اقتراحها، لأقول إن هذا الوجه هو لوحة ريما، ليس هو بالضبط بل خلاصة لزمن من الفقد والأمل بوقف النزف، وجه يشكله خطوط من موسيقى، ويقطعه في الأسفل كتلة من الحبر الأسود تشبه الدم، حبر يثقب أطراف اللوحة كرصاص، ثم نراه ملفوفاً بلون سماوي، نائم ويحلم..!

لوحة ريما أو عرضها برمته يحمل الكثير من هذه الإشارات، لا بل تصبح لوحتها المتحررة من كلاسيكية اللوحة هي هذه الإشارات، من لون وفراغ وخطوط غائرة وأسود متفشي كما الكابوس الذي قض مضجع الحياة واللوحة، ولا تزال في ذات الوقت تصلي عبر الفن وتطلب السلام.


من معرض «وجوه» للتشكيلية ريما سلمون في غاليري تجليات بيروت

ريما سلمون في سطور:
من مواليد دمشق 1963.
خريجة كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق 1987.
عضو نقابة الفنون الجميلة بسورية.
المعارض الجماعية:
غاليري بلدنا بعمان، الأردن، 1996.
غاليري عالبال بدمشق، سورية، 2000.
معرض «العرب والعالم» بمعرض دمشق الدولي، سورية 2002.
غاليري السيد بدمشق، سورية، 2003.
بينالي مهرجان المحبة باللاذقية، سورية، 2003.
معرض «روافد نسائية» بخان أسعد باشا في دمشق، سورية، 2004.
المركز الثقافي السوري بباريس، فرنسا، 2005.
جوال بين دمشق وباريس، صالة السيد بدمشق والمركز الثقافي السوري بباريس، ضمن احتفالية «حلب عاصمة الثقافة الإسلامية»، 2006.
معرض «3 نماذج» في صالة أوروبيا بباريس، فرنسا، 2007.
معرض «بلاد الشام» في صالة أوروبيا بباريس، فرنسا، 2008.
معرض «الفن السوري» في صالة الدار بهانوفر، ألمانيا، 2008.
معرض في صالة آرسيما بباريس، فرنسا، 2008.
معرض «الفن السوري المعاصر» في مركز واقف للفنون بالدوحة، قطر، 2008.
معرض «الخريف» في صالة الرواق بدمشق، سورية، 2008.
معرض «باريس- دمشق، رؤية مشتركة» في معهد العالم العربي بباريس، فرنسا، 2008.
معرض في صالة كارما بحلب، سورية، 2008.
معرض «إلى أطفال غزة» في صالة الشعب بدمشق، سورية، 2009.
معرض «عيد المرأة العالمي» في صالة السيد بدمشق، سورية، 2009.
معرض شخصي في صالة أوروبيا بباريس، فرنسا، 2006.
معرض شخصي في صالة آرت هاوس بدمشق، سورية، 2009.
- - - -
* جريدة النهضة، العدد : 747


عمار حسن

alnhdah.com

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق