توفيق أحمد في الأعمال الشعرية: الفارابي علمني أقف على الرصيف

05 آب 2014

.

تطويب المطوّب، ورسم علامة على شعر بدأ مسيرته قبل ستة وعشرين عاماً نشراً، وكان قبل ذلك موجوداً متناثراً ومجموعاً، حتى صدر في مجموعات ست هي: أكسر الوقت وأمشي، لو تعرفين، نشيد لم يكتمل، لا هدنة للماء، جبال الريح، حرير للفضاء العاري، تلك هي الأعمال الشعرية للصديق الشاعر توفيق أحمد الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب منذ أيام، لتضم بين دفتيها ما تناثر من شعر ومجموعات لشاعر يعيش المشهد الشعري بكل تلاوينه وأطيافه وألوانه وموضوعاته..

بين مناهج التذوق والنقد
قد يكون الشاعر- أي شاعر مجلياً وبارزاً في نوع من القصيد، بينما في أنواع أخرى يفتقد هذا الألق والتميز، وأذكر أنني في لقاء نقدي حول تجربة الشاعر مع أستاذي العلامة محمد رضوان الداية، ودون أن نتناقش في أي أمر كنت معجباً بالقصيدة الحرة، أو تلك التي اعتمدت التفعيلة، وأستاذي الداية شهد بأن القصيدة العربية الأصيلة عند توفيق أحمد مميزة، ومما قاله- وأنا على ثقة برأيه وهو غير المضطر لمجاملة- «الشاعر في شعر القصيدة والمقطوعة العربية الأصيلة ممدود اليد، والذوق، والاطلاع اللغوي، إلى أدوات الشعر، أعانه في ذلك ذكاء الشاعر في التقاط ما هو شعري من حوله بحسب رؤيته» ومع ما في العبارة من تحوّط وحذر إلا أنها شهادة من ناقد محسوب على القديم، وهو من أصدر عشرات الكتب والدواوين والحماسات، وخاصة في الشعر وقوافيه ودوائره والعروض.

وإذا ما وقفت عند الدكتور الداية في رأيه، وما رأيته أنا ومن قبل عدد من الذين تناولوا تجربة الشاعر الشعرية أصل إلى الغاية بأن الشاعر متمكن من أدواته وشعره مهما كان نوع هذا الشعر، قد لا يروق موضوع أو طرح لأحدهم، لكن ما أتحدث عنه هو التمكن من الشعر وأوزانه وفنونه، وهذا ما يعطيه القدرة على أن يكتب ويتذوق ويخرج عن هذا المنهج أو ذاك لأن خروجه هو خروج العارف، وهذا ما ألمح إليه الناقد المصري د. محمود الضبع في دراسة له «ليست القصيدة عند توفيق أحمد رفاهاً، ولكنها تجريب مستمر في أبنية الشعر وغاياته...» وراء التجريب قضى توفيق الكثير من وقته وجهده ليصل إلى مرحلة متقدمة، لكنها ليست الغاية برأي الدكتور غسان غنيم «.... ثم كتب التفعيلة ففاضت قصائده رقة.. كما كتب قصيدة النثر فلم يصل فيها إلى منتهى ما يمكن أن تحمله من إمكانات...».

وعلى الرغم مما تحمله هذه العبارة النقدية من امتداح وما شابه، إلا أن فيها رائحة تدل على تقصير في جانب ما، ولكن الناقد لم يشأ أن يقف أمام النص، بل وقف أمام مفهوم قصيدة النشر ليبرئ ذاته وشاعره، فمن الذي يمكن أن يصل في أي فن أو علم إلى المنتهى؟ إنه لأمر عسير، وإنه لحكم فيه من المراوغة ما فيه.

للتاريخ والذكرى
مجموعات توفيق أحمد التي صدرت منجّمة لديّ، وها هي الأعمال الشعرية تجمع تلك المجموعات، وقد أراد توفيق أن يكون أميناً على تجربته الشعرية أمام التاريخ والذكرى والرؤية النقدية، فقد أثبت المجموعات وبالترتيب، وبالتواريخ التي صدرت فيها، وفي ذلك احترام مزدوج لقارئ وناقد، وكذلك للذات والتجربة، فالشاعر لم يعمد في هذه المرحلة إلى التهذيب والتشذيب والشطب، وربما كان ذلك لأسباب جوهرية وعاها الشاعر من قبل، فهو ليس شاعر مناسبات وشخصيات، بقدر ما هو شاعر حالة قد تكون وجدانية خاصة، وقد تكون مجتمعية، وقد تمتد لتصبح وطنية، وهو إن اقترب من الأشخاص- في الشعر تحديداً- فإنه يقف مع المناورات التي لا جدال فيها مطلقاً، والتي تحولت إلى رموز تجاوزت الأوطان مثل المعري وصالح العلي والفارابي، وهو قلّما يفعل ذلك، ووقفته مع الفارابي رحيق زهرة يصلح لبعض عسل، وليست من القصائد المخلصة للفارابي وتجربته وسيرته.

تملأ الموسيقى عليّ حياتي
ولكن تذكروا أيها الأعزاء
أن الفارابي
ذلك الشرقي المدهش
علمني أن أقف على الرصيف
لأنتظر بيتهوفن
القادم في قطار الدرجة التاسعة

لا فرق بين الدرجة والسمفونية، فكلاهما مرحلة من السمو ودرجة من الارتقاء، وبما أنني أشرت إلى قصائده في المنارات يحسن أن أستشهد بشيء مما قاله في العلي والمعري، ومما قاله في العلي:

أأنت على الشعاب شعاع نور
أم إنك أنت وجهك في الشعاب؟
طلعت على فرنسا مستعداً
ومن يدري مغازلة العقاب؟
ومن ولدته أمته شهاباً
قد اكتشفته أكثر من شهاب..

وفي المعري له قطعتان في إحداهما يقول:

فقام من قبره الأعمى يحدثني
وفي يديه عناقيد من الشهب
لمحت في مقلتيه عبرتين أما
تبكي السماء لتسقي ظامئ الترب
يا شاعر الزمن الآتي وغابره
عرفت أنك تبكي آخر العرب

فضاءات من شعر
ليس المجال هنا لدراسة نقدية، بقدر ما هو احتفاء بإصدار جديد لشاعر صديق له نصيب القدح المعلى في الشعر، وإن حاول الإعلام أن يسرق منه بريق الإبداع الشعري، ومع ذلك فإن القارئ لا يتمكن أمام شعر متميز، وعلاقة نبيلة مع الشاعر إلا أن يشرد قليلاً مع المتعة فيقول شيئاً هو إلى النقد أقرب.

في شعر توفيق جنح إلى الذات والأرض والوجدان، فنرى المدائن حاضرة والأصدقاء لا يغادرون القصيدة وإن تهيأ لنا عدم وجودهم لأنه لم يذكر الأشخاص، وتجاربه وأسفاره وعلاقاته كلها قضايا حاضرة راسخة في شعره، فهو يقدم فضاءات من الشعر الذي لا يرتبط بالزمان والمكان والشخص بقدر ما يرتبط بجوهر الشعر والشعور، وهل يتمكن القارئ من تجاوز عنوان «المغربية» دون أن يقرأ؟

أتت من وراء البحر غابة سوسن
فهل عرفت سر الألوهة في الشام؟
توزع في بالي غمامات عطرها
وتسكب ماء الحب في قلبي الظامي
إذا عدت يوماً مثل طير مهاجر
بقيت هنا في ظل شكي وأوهامي

وها هو يخاطب امرأة.. ليس أي امرأة.. فتوفيق أدرى بمن يخاطب:

هل تأذنين لقلبي الصلاة لعينيك
يا امرأة من لهيب وطيب
أنا قادم ملء ناري إليك
فلا تسأليني عن اسمي
لقد غاب عني
وضيعته منذ أن وقعت
عين قلبي عليك

ولامرأة أخرى يقول، ولا أظن امرأة تمنح هاتين الصورتين اللتين تفصلهما ثلاثة عقود:

طويت على سفري وجهها
خفت بعد المسافات
أمزجة الريح والوقت في فلوات
اغترابي
وقلت: أتبدو على غيبها مثلما في الحضور
سراباً وخارج وعي الحقيقة؟
وداخل عمق اتّساع اليباب

لا يخلو من مجاملة
الشعر حياة، ذات وآخر، وما قلته لا يعني أن الشاعر بلغ المدى، فهذا محال لأي عمل إنساني الصفة، ولكن حرص توفيق أحمد على الابتعاد عن الأشخاص لم يستطع أن يستمر فيه، فقرأت في الأعمال الشعرية قصائد لأشخاص في الرثاء لا تعدو أن تكون مناسبة لعزيز أو صديق أو قريب، ولا ينزل تحت هذا البند شعر المدائن، فالمدائن أرواح باقية بعد رحيلنا، وأبيات أخرى سماها «المازنية» وهي من الشعر الإخواني الذي يتعلق بالوظيفة وما فيها كنت أتمنى لو غادرت هذه الأبيات الأعمال الشعرية إلى غير رجعة لافتقادها شروط الشعر الإخواني، وارتباطها بعمل وظيفي آني، وللشاعر الحق في إثبات ما يراه مناسباً، وفي حذف ما لا يراه.

صدرت الأعمال الشعرية لتوفيق أحمد لتطوّب شاعراً عرف بشاعريته، ولكن هذه النشرة تملك القدرة في الكشف عن الشاعر لشريحة أكبر من القراء والنقاد والمتذوقين.


إسماعيل مروة

الوطن السورية

Share/Bookmark

مواضيع ذات صلة:

اسمك

الدولة

التعليق

امين الغرافي:

احسن قصيده للفارابي

yamen