حوران


ظهر الاسم «حوران» وجبل حوران، لأول مرة، في حوليات الملك الآشوري سلمانصر الثالث 858-824ق.م. من غير تحديد لجغرافيتهما. وفي عصر الملك الآشوري تجلات فلصر الثالث 742-727ق.م، أنشأت ولاية حوران في عام 732ق.م. ومركزها درعا، وشملت على السهل الممتد شرقي النقرة، وجبل حوران. وسهل النقرة يمتد إلى الغرب من طريق الصنمين-درعا على وجه التقريب، أما حوران فهو السهل الممتد إلى الشرق من النقرة، والغرب من جبل حوران، وإلى الجنوب من اللجاة حتى إلى ما وراء الرمثا والمفرق في الجنوب.

أطلق الجغرافيون والمؤرخون العرب على جبل حوران اسم جبل بني هلال، نسبة إلى قبيلة بني هلال، التي مرت بالجب في النصف الأول من القرن الحادي عشر، ثم اتجهت إلى شمال أفريقيا عام 1052 عبر مصر. وبعد هجرة أسر من طائفة الموحدين الدروز إلى الجبل، بدءاً من القرن السابع عشر وحتى مطلع القرن العشرين، أصبح يعرف باسم جبل الدروز. وفي الثلاثينات من هذا القرن سمي الجبل باسم جبل العرب، والجبل يشمخ في وسط أراضي محافظة السويداء، التي يحدها من الغرب محافظة درعا، ومن الشمال أراضي محافظة ريف دمشق، ومن الشرق سهوب البادية الممتدة حتى الحدود العراقية، ومن الجنوب المملكة الأردنية الهاشمية.

أسهمت هذه المنطقة في حضارات بلاد الشام عبر العصور، واحتلت مكانة عالية في العصرين النبطي والغساني، وقد قصدها الرحالة والباحثون الأوربيون لدراسة حضارتها، نذكر منهم المهندس الفرنسي دي فوكي الذي كرس أوقات رحلاته العلمية المتقطعة من عام 1865-1788 لدراسة الأوابد المعمارية مثل المعابد والكنائس والبيوت... الخ. أما جامعة برنستونفي الولايات المتحدة الأمريكية فقد أرسلت بعثة أثرية برئاسة بتلر لدراسة الأوابد المعمارية في سورية خلال الأعوام 1904-1905 و1909. اهتمت البعثة بمناطق حوران فوصفت آثارها المعمارية على اختلاف صنوفها وأعدت لها مخططات تفصيلية. ليس هذا وحسب بل اهتم العالمان الألمانيان برينو ودوماس فيسكي بآثار الولاية العربية التي أحدثها الرومان عام 106. وخصصوا جزءاً كبيراً من وقتهم لدراسة آثار جبل حوران من عام 1900-1903، فوصفوا بعض الأوابد المعمارية، ووضعوا لها المخططات.

وفي عهد الإنتداب الفرنسي عهد إلى الأستاذ الفرنسية موريس دونان بإنشاء متحف في مدينة السويداء. فقام خلال عامي 1924 و1925 بجمع الآثار من جميع القرى، وحفظها في صلخد، والكفر، والسويداء، ففي السويداء أقام متحفاً عادياً عرض فيه المنحوتات الحجرية التي جمعها، أما في صلخد والكفر فقد خزن الآثار التي جمعها في مستودعين، تضررت كلها حين قيام الثورة عام 1925.

وفي عام 1927 أعيد بناء المتحف، ولكن في موقع آخر، إلى الغرب من دار الحكومة الحالية، بينما قام المتحف الأول إلى الجنوب من مبنى مديرية التربية في السويداء. وخلال الحرب العالمية الثانية أكمل السيد ماسكل ما كان قد بدأ به دونان من جهد في جمع الآثار وتسجيلها في سجلات رسمية خاصة.

لقد بذل هؤلاء جهداً في دراسة الآثار، فوصفوا الأوابد المعمارية وصفاً دقيقاً، ووضعوا لها المخططات المعمارية الشاملة، وتصوروا هيئتها قبل أن تتهدم، وثبتوا ذلك في مخططات هيكلية، صورت واقع البناء وأبرزت جماليته. وما زلنا إلى يومنا هذا، تعتمد على هذه الدراسات التوثيقية الهامة في البحث بآثار جبل حوران. وفي رأيي أن أهمية هذه الأعمال تكمن في كونها قد جرت في وقت بدأت فيه حقبة جديدة في تاريخ الجبل، تتمثل في إعادة إعمار القرى التي كانت قد هجرت لعشرات السنين. فوثقت الأوابد المعمارية قبل أن يعاد بناؤها عشوائياً في بعض الأحيان، أو تتغير معالمها من جراء الاستفادة من حجارتها المنحوتة المتهدمة في تشييد بيوت سكنية حديثة.

إن عطاء هؤلاء الناس كان كبيراً وضخماً، ولكنهم لم يكشفوا عن الأوابد المعمارية التي كانت مطمورة، ولم ينقبوا في التلال والخرائب. فعلم الآثار لم يكن قد تطور وقتئذ ليشمل هذه النواحي، فكان لابد من متابعة أعمالهم بأساليب وطرق حديثة. ففي عام 1966 أُقيمت جولة ميدانية في محافظتي درعا والسويداء، هدفت إلى إحصاء التلال والخرائب الأثرية، وإلى تقدير أهميتها، وعصرها. ومن ثم تسجيلها. لم نستطع التجول في جميع أرجاء محافظة السويداء لصعوبة المواصلات، فاكتفينا بزيارة المواقع الأثرية التي أمكننا الوصول إليها، إن الجولة الميدانية حدث كبير في حد ذاتها، فقد تعرفنا إلى التلال والخرائب القديمة، ولم نكتف بذلك، بل ربطنا بين الماضي والحاضر، ليصبح الماضي حقيقة، وهدفنا في ذلك التحقق من المعلومات التي دونها القدماء حول المنطقة. ومنها ما ذكره تحوتمس الثالث (1504-1450ق.م) عن حملة قام بها إلى سورية من شمالها إلى جنوبها، ماراً بمدنها وضياعها، فكرسنا بحثاً خاصاً عن الطريق التي سلكها في حوران. مقارنين بين أسماء المواقع الأثرية التي لا تزال شائعة حتى الآن، والأسماء التي ذكرت في كتاباته، فتوصلنا إلى تحديد مواقعها، ورسم معالم الطريق التي سلكها من دمشق حتى امتان ومن ثم عودته إلى بلاده عن طريق فلسطين.


مدرج بصرى
قبل كشفه في منتصف القرن السابق

وبعد ذلك بحوالي عشرين عاماً قام الباحث الفرنسي فرانك بريمر في الأعوام 1983-1987 بجولة ميدانية في حوران، شملت محافظة السويداء، وأطراف البادية المجاورة لها. فحقق عملاً علمياً رائعاً تجلى في رسم خارطة شبه تامة للمواقع الأثري في محافظة السويداء، وفي تحديد عصورها. فعرفنا على مواقع العصور الحجرية والعصر الحجري النحاسي والبرونزي والحديدي، ثم اختار موقع خربة الأمباشي لينقب فيه منذ عام 1989 ولعدة سنوات.

وبالإضافة إلى ذلك، نذكر التنقيبات التي أجراها ميشيل مقدسي في قرية المتونه، عام 1984-1985، وكشف بوساطتها على مقبرة تعود إلى العصر البرونزي الوسيط (2100-1600ق.م). ونشير كذلك إلى أعمال التنقيب في خربة سيع النبطية، التي يقودها (جان ماري دينزر)، منذ عام 1986بهدف الكشف عن حضارتها، وإلى أعمال الكشف عن حمامات قنوات التي تقوم بها دائرة آثار السويداء.

ومن الأعمال الهامة في هذا المجال، دراسة المعابد في حوران، التي يجريها فراي بركر مدير المعهد الأثري الألماني بدمشق، ويهدف من ورائها. إبراز خصائصها الفنية، والعناصر التي تمتاز بها عن قرائنها في سورية، وفي اليونان وروما. ولئن اقتصرت على ذكر هذه الأعمال، وهي الأهم، فإنه لا يفوتني القول، بأن التنقيبات الأثرية في سورية، تتركز في الجزيرة وحوض الفرات، على نطاق واسع. وتجري بعضها في محافظات حلب، وإدلب، واللاذقية، وحماة، وحمص. أما في الجنوب فهي قليلة جداً، وحديثة العهد.

ومرد ذلك، إلى أن التلال الأثرية التي تشكلت من أطلال المدن والقرى القديمة، هي في الشمال أكثر منها في الجنوب، وهي في الشمال -على الغالب- واسعة كبيرة، تخفي في طبقاتها تراثنا الحضاري منذ الألف الثامن ق.م. وحتى العصر الهيلنستي، وعلى الأخص وثائق الممالك القديمة، مادة كتابة التاريخ القديم. أما في الجنوب فهي صغيرة، ولم تكشف التنقيبات الواسعة التي جرت وتجري في فلسطين وشرقي الأردن، وفي حوران، إلا عن نصوص قليلة جداً. إن هذه الصورة تصبح أكثر وضوحاً إذا عرفنا إن بجانب كل مدينة وقرية، وعلى ضفاف الأنهار والوديان، تنتشر التلال الأثرية في المحافظات الشمالية، بينما تحتضن مدن وقرى وضياع المحافظات الجنوبية الأوابد المعمارية من العصور النبطية -اليونانية والنبطية- الرومانية والغسانية-البيزنطية. ولاشك بأن الزائر لسورية تسترعي انتباهه هذه الظاهرة، ويدرك أن هناك توافق بين آثار جبال الزاوية، وباريشا، والأعلى، وجبل حوران وحوران، من حيث الإنشاء بمواد حجرية.

الآثار في جبل حوران
محافظة السويداء

الدكتور علي أبو عساف