الهيلنستية

هي الحضارة اليونانية القديمة (الإغريقية) ككل، أو بتعبير أدق: هي الحضارة التي حملت كل عناصر الفكر والثقافة الإغريقيين إلى خارج اليونان.


الإسكندر المقدوني

بدأت الهيلنستية بالظهور حينما فتح الإسكندر الكبير المقدوني سورية ومصر وآسيا منذ سنة 333 ق.م. وتميزت بانتشار اللغة اليونانية في هذه البلاد وبتكوين ثقافة خاصة وفلسفة جديدة ما لبثت أن عمَّت الامبراطورية الرومانية بكاملها، ثم ضعف تأثيرها في العصور المظلمة التي عاشتها أوروبا خلال القرنين الرابع والخامس الميلاديين وعادت للانتعاش من جديد في إيطاليا وإسبانيا منذ القرن الرابع عشر الميلاد.

اتفق المؤرخون على أن العصر الهلنيستي، يبدأ بموت الإسكندر المقدوني وينتهي باستيلاء روما على مصر وسورية، ولكن المؤرخين يختلفون في تعريف العصر الهيلنستي. ولعل من الأقرب إلى الصحة القول: إنه في هذا العصر استمرت الحضارة الهيلينية القديمة على أسسها السالفة في جوهرها، لكن داخلتها بعض العناصر الشرقية. وكانت نتيجة هذا التمازج أو التفاعل الحضاري ظهور حضارة جديدة، جمعت بين مظاهر الحضارتين الإغريقية والشرقية، لذلك وجدنا حضارة السلوقيين مزيجاً حضارياً، تألف من حضارات سورية القديمة ومن حضارات الإغريق. وهذه الحضارة الجديدة، هي التي أطلق عليها مؤرخو الحضارات اسم «الحضارة الهيلنستية» وانتشرت هذه الحضارة في ربوع الشرق، وبذلك انتقلت مراكزها من بلاد الإغريق القديمة إلى عواصم الممالك الجديدة كأنطاكية والاسكندرية وسلوقية.

لوحة فسيفسائية لتخليد الإسكندر في انتصاره على الفرس

كانت باكوة أعمال الإسكندر، إيعازه إلى كبار ضباط جيشه بالزواج من نساء البلاد، التي خضعت لحكمه، وتشجيعاً لعملية الزواج هذه، أقام قران تسعين من كبار قادته وأصدقائه على تسعين فتاة من عذارى الفرس، وقد ضرب لقادته وأصدقائه المثل بنفسه وذلك بزواجه من إحدى بنات العاهل الفارسي (دارا)، مع أنه كان قد تزوج قبلها روكسانا، ابنة ملك سمرقند، سعياً وراء تحقيق الهدف نفسه وهو صهر جميع سكان إمبراطوريته في بوتقة واحدة.

لم يؤت مشروع الإسكندر في تشكيل إمبراطورية عالمية، ثماره، فقد حال دون ذلك موت هذا العاهل المبكر عام 323ق.م ولم يكن قد تجاوز الثالثة والثلاثين من عمره.

سلوقوس الأول نيكاتور
مؤسس الدولة السلوقية في سورية

تمزقت الإمبراطورية المقدونية وتسابق قواد الإسكندر للفوز بنصيب منها، وكان على رأسهم بطليموس في مصر وأنطيوخس في آسيا الصغرى، وسلوقس في بابل وأنتيباتر في مقدونية. ولاشك بأن سلوقس، كان أقواهم وهو الذي أسس في سورية سلالة، امتد حكمها جغرافياً إلى الهند، وتاريخياً دامت ثلاثة قرون.

بعد موت الإسكندر المقدوني، وظهور الحضارة الهلنيستية وازدهارها في عواصم الممالك الجديدة، غدت كل من أنطاكية في سورية والإسكندرية في مصر، من أهم المراكز الحضارية في ذلك العصر. ووصل إشعاع الحضارة الهلنيستية إلى مختلف المناطق، وأسهم في ظهور كثير من المدن (مثل نصيبين والرّها وحرّان ورأس العين وغيرها)، كمراكز حضارية تميّزت بالنشاطات الفكرية، مما شكَّل تراثاً حضارياً باللغة السريانية واليونانية، ترجم كثير منه فيما بعد إلى اللغة العربية.

وقد أنجبت سورية في العصر الهلنيستي رجال فكر وعلم وفن. فهناك زينون الصيداوي الذي وصفه شيشرون بأنه أعظم عظماء العصر، وديودور الصوري، الذي تحدّث عنه شيشرون في كتابه، وأنطيوخس العسقلاني، الذي وصفه بلوتارخ بأنه خطيب قوي، وبوسيدون الأفامي، الذي غدت مؤلفاته مرجعاً للمؤرخين الأوائل، واعتبره شيشرون آخر عقل أنجبته الحضارة الهلنيستية، وهناك أنتيبات الصيداوي وفيلوديموس، وميلياجر (من جدرة/أم قوس). وغيرهم من رجال الفكر في ذلك العصر.

أفاميا

وشهدت سورية آنئذٍ نهضة عمرانية ومعمارية وفنية متميّزة. فقد شيدت مدن جديدة (مثل أنطاكية واللاذقية والسويدية وأفاميا ودورا أوروبوس) في مواقع مناسبة للدفاع عنها، تتوفر الموارد الطبيعية لسكانها، وتؤسس بموجب مخطط منتظم يشبه سطحه رقعة الشطرنج، وتتقاطع فيها الشوارع المستقيمة بزوايا قائمة، وقد حدّدت أماكن المباني العامة، مثل المعابد والقصور والمسارح العامة والأسواق وغيرها. وأقيمت أعمدة تذكارية أو أقواس عند تقاطع الشوارع، قائمة على أربع دعائم، يرتاح لها البصر عوضهاً عن النظر في امتداد الشوارع إلى ما لا نهاية. وكانت الأسوار المنيعة تحيط بالمدن (مثل مدينة دورا أوروبوس) ولها بوابات تتميَّز بالقوة الجمال.
كما شيدت أحياء سكنية جديدة في جوار المدن القديمة (مثل دمشق وحلب)، كما أظهرت التنقيبات الأثرية أحياء سكنية جديدة في موقع ابن هانئ، تعود إلى العصر الهلنيستي. وتميزت الهندسة المعمارية في ذلك العصر ببناء أروقة، تحمي المارَّة من أشعة الشمس صيفاً والأمطار شتاءًَ.
وهكذا فقد تطوّرت العمارة المحلية الدينية والمدنية والعسكرية والثقافية في العصر الهلنيستي، معتمدة على تقاليد معمارية، توارثتها الأجيال وأسهمت في إغنائها.

كما ظهرت روائع فن النحت ونخص بالذكر منها، تمثال ربة الحظ (تيكه) للفنان أوتيخيدس، إذ تبدو الربة حسناء جميلة (ربما كانت إيماتية) جالسة ويعلو رأسها تاج بشكل أسوار مدينة بيدها سنابل، وعند قدميها شخص في حركة سباحة يرمز إلى نهر العاصي. ويعتبر هذا التمثال من روائع الفن العالمي، كما أخذ الفنانون يبدعون تماثيل آلهة وحكام محليين وأبطال رياضيين. وورث الفنانون تقاليد فن الرسم الجداري (الفريسك)، وزيّنوا بروائعهم الفنية جدران المباني (كمباني معابد دورا أوروبوس في حوض الفرات الأوسط). وقد تميّزت رسومهم الجدارية بالمهارة اليدوية والخبرة التقنية والذوق الفني والحسّ الجمالي.

فسيفساء من متحف حماة

وإذا كانت مدينة أوروك، أول من ابتكر فن الفسيفساء من الأصابع الطينية المختلفة الألوان، فإن فناني سورية في العصر الهلنيستي، أبدعوا روائعهم من مكعبات حجرية صغيرة الأبعاد ومختلفة الألوان، تمثِّل مواضيع ميتولوجية ووحدات زخرفية.

وأبدع الصائغ السوري في العصر الهلنيستي روائع فن الصياغة من عقود وأطواق وأقراط وأساور وخواتم ومشابك ووريقات جنائزية، ليلبّي متطلبات أفراد مجتمعه الجمالية، معتمداً على تقاليد تقنية، توارثتها الأجيال وأسهمت في إغنائها.

وتابع الفنانون إبداع أجمل التماثيل الفخارية، التي تمثل آلهة وفرقاً موسيقية وراقصة، كما أبدعوا أجمل التماثيل الحيوانية (جمل، حصان، كلب)، التي تدل على مهارة يدوية ودقة ملاحظة ورغبة في إبداع كل ما هو جميل وجديد ومفيد. وهناك الأواني الفخارية، المختلفة الأشكال والأنواع والاستعمالات، وهناك السرج الفخارية الصغيرة المزيّنة بزخارف هندسية وعناصر نباتية، أضف الجمال عليها، ودلت على متطلبات ذلك الإنسان النفعية والجمالية.

وتجدر الإشارة إلى صناعة النسيج المحليّة وتفنّن ذلك الصانع الفنان في عمله، معتمداًَ على تقاليد مهنية ورغبة في إبداع وابتكار كلّ ما من شأنه أن يؤكِّد مهارته ويرضي ذوقه الفني. وإن بقايا منسوجات تدمر الكتانية والصوفية والحريرية، وبقايا ثوب أميرة بانياس، الذي زالت خيوطه النسيجية وبقيت خيوطه الذهبية، تدل على أهمية هذه الصناعة الفنية عصرئذٍ.

وهناك روائع صناعة الزجاج وبخاصة الزجاج الفسيفسائي وزجاج الملفيوري، الذي يدل على ذوق ذلك الصانع الفنان وابتكاراته المتجدّدة.

وتميّزت نقود سورية في العصر الهيلنستي بالجمال والكثرة، مما يدلّ على أهمية تلك الفعاليات الاقتصادية والمبادلات التجارية، التي تطلّبت سك نقود كثيرة تتميّز بالجمال الفني.

مواضيع ذات صلة: