كلمة الأب الياس زحلاوي مؤسس فرقة جوقة الفرح

19 03

أطفال يفتحون الطريق

مئة وثمانية عشر طفلاً من سورية، يغنّون في «مركز جون كندي» بواشنطن، وفي ديترويت وفلوريدا، فتُفتح العيون دهشةً، وتُطرح أسئلة، محيّرة، محرجة!.
يبدو الأمر أشبه بالحلم. ولكنه الواقع بعينه.
بدأ كل شيء، يوم زارني في دمشق، منذ أكثر من ثلاث سنوات، مدير مركز جون كندي بواشنطن، السيد مايكل كايزر، برفقة الملحق الثقافي الأميركي بدمشق ومترجم السفارة. وقد حدّثني عن قراره في تنظيم مهرجان خاص بالعالم العربي، في شهري شباط وآذار من عام 2009، وعن رغبته في اشتراك أطفال جوقة الفرح فيه. تساءلت: ما عسى أن يكون وراء هذه «الأكمة»؟ وصارحته برفضي الاشتراك في أي نشاط يتقاطع مع سياسة الرئيس بوش. فصارحني بدوره بأن هدفه من المهرجان، أولاً وأخيراً، يرمي إلى فتح حوار ثقافي، ومن ثم إنساني، بين العالم العربي والمجتمع الأميركي، بقصد بناء جسور التعارف والتفاهم. فأبديتُ كامل موافقتي، دون العودة إلى اللجنة العليا للجوقة. وبعد أكثر من سنة، أقيم مؤتمر في القاهرة، غايته الإعداد لهذا المهرجان، فاشتركت فيه قائدة جوقة الأطفال، السيدة كلوديا توما نخلة.
ومنذ سنة ونيف، قدمتْ إلى دمشق، سيدتان أميركيتان، هما أليشيا آدم، نائبة مدير مركز جون كندي، وجيلدا ألمَيدا، المسؤولة عن تنظيم المهرجان. وتمّ الاتفاق معهما على كافة شروط مشاركة أطفال «جوقة الفرح» في هذا المهرجان، من حيث البرنامج وتاريخ السفر والعودة، ومن حيث العدد والعمر، ومن حيث الإقامة والزيارات والتنقلات، وخصوصاً من حيث منح تأشيرات الدخول. وقد تكفّل مركز جون كندي بكافة النفقات. وبالمقابل، لم تطلب جوقة الفرح أي أجر، عملاً بسياسة المجانية التي انتهجناها دائماً في الجوقة، منذ تأسيسها عام 1977. كل ذلك كان يخصّ اشتراكنا في المهرجان حصراً.

إلا أننا أحببنا -في جوقة الفرح- أن نوسّع حدود جولتنا في الولايات المتحدة، سعياً وراء تأثير أوسع وأعمق. وتمّ الاتصال بعدد من شخصيات الجالية السورية هناك، منهم الدكتور ناجي قروشان، قنصل سورية في مدينة ديترويت، والدكتور الطبيب وائل خوري في كليفلند، والدكتور الطبيب يزن أحمد الخطيب في مدينة جاكسونفيل بفلوريدا. وبعد أشهر من المداولات، تمّ الاتفاق على الانطلاق، بعد المهرجان، إلى ديترويت، ثم إلى مدينتي أورلندو وجاكسونفيل بولاية فلوريدا. وكان علينا أن نتدبّر أمر النفقات الباهظة المتوقعة، وقد قُدّرت بثلاثمئة وخمسين ألف دولار. وعمدنا إلى تغطيتها بوسيلتين: الأولى كانت طلب مساهمة من كل طفل مشترك وقادر، لا تتجاوز 700 دولار، والثانية كانت سؤال بعض المقتدرين من أبناء سورية، المقيمين في دمشق أو المهاجرين، من مسلمين ومسيحيين. فجاءنا الجواب، كما توقّعنا، سخياً، مشجعاً، إذ قد رأى الجميع في عملنا هذا، كما فهمناه وأردناه، مهمّة وطنية وقومية، بالغة الأهمية، في هذا الوقت بالذات. وقد جاءنا تبرع آخر من اسمين كبيرين، هما المطران المناضل إيلاريون كبوجي، والأب اللبناني، المقيم في ألمانيا منذ أربعين عاماً، الدكتور اللاهوتي عادل تيودور خوري، المعروف بدراساته حول العلاقات الإسلامية المسيحية.
ومنذ مغادرة السيدتين الأميركيتين لدمشق، بدأنا الإعداد لهذه المهمّة الخطيرة، على أصعدة أربعة: أولها هو الصعيد الفني، من حيث اختيار الترانيم والأغاني، ومن حيث التدريب المكثّف والمتواصل حتى اللحظة الأخيرة. ثانيها هو الصعيد الإداري، للحصول على جميع الموافقات المطلوبة من المراجع المسؤولة في سورية. ثالثها هو الصعيد التنظيمي، كي لا تحدث أية ثغرة في عملنا المسؤول هذا. رابعها هو الصعيد المركزي، أي التنسيق الدائم والدقيق مع مسؤولي مركز جون كندي من جهة، ومع المسؤولين عن رحلتينا إلى ديترويت وفلوريدا من جهة أخرى.
وفي 20 شباط 2009، انطلقت من مطار دمشق، أول مجموعة، وكانت تضم 84 شخصاً بين طفل ومرافق وموسيقي. وفي 21 شباط 2009، انطلقت المجموعة الثانية، وكانت تضم 67 شخصاً بين طفل ومرافق وموسيقي.
كانت رحلتنا تشمل ثلاث ولايات: واشنطن العاصمة (21-26 شباط)، مدينة ديترويت (26-28 شباط)، ومدينتي أورلندو وجاكسونفيل بفلوريدا (28 شباط-5 آذار).

في واشنطن كان لنا نشاطان: الأول يوم الأحد 22 شباط 2009، وقد أقمنا فيه قداساً احتفالياً في كنيسة تحمل اسم السيدة العذراء وتُدعى «الشراين» أي المزار. أما نشاطنا الثاني في العاصمة، فكان يضم مشاركاتنا الثلاث ضمن فعاليات مهرجان العالم العربي. أولاها، كانت لا تتجاوز السبع دقائق، وكانت الفقرة الأولى من افتتاح المهرجان، يوم الاثنين 22 شباط، على المسرح الكبير في مركز جون كندي. وفي اليوم التالي، قدّم الأطفال عرضاً خاصاً استغرق ساعة كاملة، على مسرح الميلينيوم في المركز ذاته. وقد حضره عدد من الشخصيات الرسمية والثقافية، الأميركية والعربية، منهم الرئيس الأسبق جيمي كارتر، وأمين عام الجامعة العربية السيد عمرو موسى. أما المشاركة الثالثة، فكانت على مسرح المدرسة الموسيقية، وقد أُطلق عليها اسم العازف الزنجي الشهير ديوك ألينكتون. وكان معظم الحضور يومها من الزنوج، ولا سيما من طلاب المدرسة.
وفي مدينة ديترويت، استقبلنا قنصل سورية فيها، في المطار، وقد أعدّ لنا أمسية في اليوم التالي، ضمّت عدداً كبيراً جداً من أبناء الجاليات العربية هناك، وبعض الشخصيات الأميركية.
أما في ولاية فلوريدا، فكان لنا برنامج حافل، بدأناه يوم الأحد 1 آذار في مدينة جاكسونفيل، بقداس احتفالي قبل الظهر في كنيسة مار أفرام للسريان الكاثوليك، وختمناه بأمسية في أحد مسارح المدينة، ضمّت عدداً لا يستهان به من الأميركيين، فضلاً عن حشد كبير من العرب المغتربين. أما في مدينة أورلندو، التي تضم أبرز ما في عالم الألعاب، أعني به مدينة ديزني لاند الشهيرة، فقد قدّم الأطفال على مسرحها الكبير في الهواء الطلق، وفي الساعة الثانية عشرة ظهراً، عرضاً غنائياً مدهشاً، وصفه المسؤول عن هذا المسرح بأنه كان من أجمل ما رأى وسمع في حياته. وكان الجمهور في نشوة من الفرح والتصفيق، وقد عقد بعضهم حلقات رقص تماوجت على إيقاع أغاني الأطفال.
مثل هذا التجاوب لدى العرب والأميركيين، لاحظناه في كل مسرح غنى فيه الأطفال، وفي كل كنيسة أنشدوا فيها، وكثيراً ما ترافق بدموع غزيرة. ولكم من مرّة سمعنا هذا القول: «ما بتعرفوا شو حرّكتوا فينا!». ومن أجمل ما نُقل إلينا، عبارة قالتها طفلة في الخامسة من عمرها –من مواليد أميركا–لأمّها، خلال الأمسية التي أقيمت في مدينة ديترويت: «ماما، حطّيني بالشنتة الصغيرة، وابعتيني مع الكورال لسورية». إلا أن أروع ما سمعتُ، كلمة قالها الرجل الأبيض الوحيد الذي حضر العرض الذي قُدّم في المدرسة الموسيقية، حيث قال: «لقد أخرجتم السوريّ الساكن فيّ!». فذكّرتني كلمته بكلمة شهيرة، قالها العالم الفرنسي أندريه بارو: «لكل إنسان وطنان: وطنه الأصلي، وسورية!».
إلا أن ما هو أعمق من كل ذلك، كانت الأسئلة التي طُرحت علينا، وأسئلة أخرى كثيرة طُرحت عبر الإنترنت. في المطارات الفرنسية أولاً، ثم في المطارات الأميركية. وفي الطرقات، وفي الأسواق الكبرى، وفي المعالم التاريخية مثل ضريح الرئيس لينكولن. من أنتم؟ من هؤلاء الأطفال؟ أحقاً أنتم من سورية؟ أطفال سوريون يغنون في مركز جون كندي؟ نحن لم نعرف اسم سورية إلا على القائمة السوداء، وما نراه لا يمتّ إلى القائمة السوداء بصِلة! ليت سياسيينا يرون ما نرى، ويسمعون ما نسمع! أحقاً معكم موسيقيون مسلمون؟ إذن أنتم فرقة مسيحية ومسلمة، فكيف تمّ ذلك؟ إذن أنتم تتعايشون مسيحيين ومسلمين في سورية؟! كيف ذلك وإعلامنا يصوّركم كأبشع ما تكون الصورة؟! أين نبتت هذه الطاقات المدهشة في ما يسمّونه لنا «محور الشر»؟ كيف سمح أهل هؤلاء الأطفال لهم، على صغر سنّهم، بالاشتراك في مثل هذه الرحلة؟ من يرعى هذه الجوقة؟ هل حقاً الذين غطّوا نفقات هذه الرحلة الباهظة، هم مسلمون ومسيحيون من سورية؟ ما هذه التعددية الدينية، المتحابة والمتعاونة، التي تعيشها سورية، في حين أن إعلامنا يخفيها بالكلية علينا؟!
هذه أسئلة ليست من اختراعي، ولا من اختراع أفراد جوقة الفرح الذين يتقنون الإنكليزية أكثر مني بكثير، والذين أتيح لهم أن يسترسلوا في أحاديث مطوّلة مع بعض الأميركيين. لقد سمعناها بأنفسنا، وقرأنا بعضها في ما تناقلته الإنترنت من اعترافات، فيها من الدهشة بقدر ما فيها من الفرح لاكتشاف الحقيقة الكبرى القائلة بإمكان قيام عيش حقيقي بين المسيحيين والمسلمين في العالم.
كل ذلك والكثير غيره، سأرويه في كتاب وافٍ عن جوقة الفرح عامة ورحلتها إلى الولايات المتحدة خاصة، بدأت بكتابته أثناء الرحلة، وأرجو ألا يتأخر صدوره.
ثمّة سؤال طرحه عليّ عبر الهاتف، صحفي أميركي مسلم من أصل باكستاني، أختم به هذا المقال السريع: لم أسميتَ الجوقة، جوقة الفرح؟ قلتُ: «لأن عالم اليوم بات عالم حزن ويأس وموت. فيما الإنسان بحاجة دائماً إلى فرح أكثر حتى من حاجته إلى الأكل والشرب! فهل لديك اسم أفضل؟».

الأب الياس زحلاوي



اكتشف سورية

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق

hala:

الرب يقويك ابونا فعلا انت كنز ثمين لمجتمعنا اقول كنز لانك شخص مليء بالحب والعطاء

london

فادي قباني :

يعني شي اكبر من اني اوصفو بتجننو
ابونا الله يقويك وتعمل افضل وافضل

دمشق

دمشق