الشيخ عبد الغني النابلسي، شاعرٌ هامَ في حب الشام
23 أيلول 2013
الشيخ عبد الغني النابلسي شاعر متصوف عالم رحالة، لم يتوقف عن طلب العلم، ولم يتوقف عن منح طلابه ومريديه، وهو من المتصوفة الذين ذاع صيتهم، وعرفت جلائل أعمالهم، وسارت أعمالهم وكتاباتهم، وفي كل بلد زاره كانت له حكايات وذكريات، شغل بتدوين رحلاته ومشاهداته، فكانت كتبه منارة علمية، وكانت حياته منهج حياة للزاهدين.
رحل إلى مكة، رحل إلى بيت المقدس، فكانت له رحلته القدسية، ومن منطلقه في دمشق الشام، وإلى عودته كان قلمه مدوناً كل لحظة من اللحظات.. وعبد العني النابلسي بقي قلبه معلقاً بشامه التي ولد فيها 1050هـ ونشأ فيها، وجال في كل بلدان الشام، وقصد مصر وزار الحجاز، وبعد كل تطوافه استقر في الشام وبقي فيها حتى توفي فيها ودفن في ثراها 1143هـ بعد أن ملأ الأصقاع كلها علماً ومعرفة، وبعد أن قال أدباً كثيراً، وشعراً عذباً مطبوعاً.
عرف عن الشيخ عبد الغني النابلسي إكثاره من التصنيف، وذلك يعود إلى طبيعة حياته، فهو عالم وحافظ ومتصوف وتفرغ للتدريس والعلم، وتبصرة الناس بأمور دينهم ودنياهم، لذلك كثرت مصنفاته، إضافة إلى حياته المديدة التي استطاع فيها أن يعطي الكثير مما تعلمه، هذا إلى خبرته ومعرفته التي زادت مع الأيام فمكنته أن يقدم الكثير من آرائه.
والشيخ عبد الغني النابلسي عرف كذلك شاعراً، وهو في شعره وإن كان فقيهاً، يبارز الشعراء والأدباء، ولولا تفرغه لشؤون الدين والعمل لكان من أغزر الناس شعراً، وقارئ شعره يجد شعره أقرب إلى الكلام العادي، فقد بلغ تمكنه من الشعر مبلغاً كبيراً، فحين تقرأ شعره تشعر أن كلام الشيخ كله من الشعر، وهذه خصيصة لا تتهيأ للكثيرين، وكتابته النثرية تغصّ بالبلاغة ومحسناتها، وهو بذلك ابن عصره، ولكنه خرج من إطار المحسنات الممجوجة، ليكون كلامه سهلاً عذباً، ورحلته القدسية خير مثال على نثره.
وفي رحلاته وكتبه حفظ لنا الشيخ النابلسي الكثير من الشعر والأدب والمواقع لم نكن نعرف عنها لولا ما حفظه الشيخ الجليل.
أما الشام المكان والمواقع والزيارات والفضائل فهي عند الشيخ النابلسي أمر غير قابل للجدال والنقاش، وأخص وقفتي معه شعرياً في إجلاله للشام كما جاء في «البرق المتألق في محاسن جلق» من تأليف محمد بن مصطفى ابن الراعي الدمشقي بتحقيق الأستاذ الفاضل محمد أديب الجادر.. ومن عيون شعر النابلسي في الشام قافيته على الكامل التي يقرأ فيها مواقع الشام مسبغاً عليها ما تستحقه من إجلال وتقديس، وها هو يخاطب السامع:
إن سامك الخطب المهول فأقلقا
أنزل بأرض الشام واسكن جلقا
تجد المرام بها وكل منال بل
وترى بها عزاً وتفصح منطقا
بلد سمت بين البلاد محاسناً
ونمت بهاء واستزادت رونقا
لا ينبغي حث الركاب لغيرها
هام الفؤاد بحسنها وتعلقا
وفي إشارة إلى قداستها وكثرة مواقعها:
حسبي وآويناها فضلاً لها
قد جاء في القرآن ذاك محققا
إن تعشقوا وطناً فذا أولى لكم
دون البلاد بأن تحب وتعشقا
وعن حسن طبيعتها يقول النابلسي:
يا حسن واديها وطيب شميمه
قد فاح عرف الزهر فيه وعبقا
وتراسلت أطياره بين الربا
سحراً فهيجت القلوب الشيقا
عذبت جداولها فطابت مورداً
تحكي الصوارم صيقلا وتألقا
كيف اتجهت يخر نحوك ماؤه
واليك يركع كل غصن أورقا
وعن معلمي الشام قاسيون والربوة، يقف الشاعر خاشعاً:
والربوة الفيحاء يا نسماتها
مرّي علي ورفرفي عند اللقا
أيام قطع النهر يوصل شملنا
بأحبة ألفوا الخلاعة مطلقا
بالقاسيون مست قلوب أحبتي
ولكم سرى فيه الصبا فترفقا
جبل كثير الخير كلمه الإله
فجال في ذاك اللسان وأنطقا
كم من ولي قد توسد سفحه
بل من نبي حل فيه محققا
وكذلك الشهداء فيه تخالهم
أحياء من عدم البلاء ورزقا
ومغارة الدم والمحاريب التي
للأربعين من الرجال ومن رقا
وأمام الجامع الأموي يقف الشيخ الشاعر ليعد فضائله ومشاهده ومحاسنه فنعرف عنه ما لم نكن نعرف:
وما الجامع الأموي إلا نزهة
منها تراه بالعبادة مشرقا
قد اتقنت صناعة بنيانه
فأتى المزخرف زانه وتأنقا
ولرأس يحيى فيه نور مهابة
ما بين هاتيك السواري أشرقا
وترى دروس العلم فيه دائماً
في كل فن من تداوله رقا
وثلاث هاتيك المآذن تنجلي
مثل العرائس قد لبسن اليلمقا
من فوقها أهل الأذان تراسلوا
بترنم يشجي الفؤاد الشيقا
وفي قصيدة أخرى يتغنى النابلسي بدمشق وحياته فيها، وفي مختلف المناسبات:
يا حبذا جلق من بلدة
اليمن للأمن بها قد تلا
لم أنس بالنيروز يوماً مضى
بالمرجة الفيحاء ذات الكلا
يا سفحة الوادي سقاك الحيا
كم فيك من يوم لنا قد خلا
بالنيربين القلب أودعته
يشم من تلك الربا الشمألا
والربوة الربوة كم لي بها
من مجلس للبال قد بلبلا
بمهد عيسى القلب مهدته
فاستتمم الأفراح واستكملا
تكفل الرحمن للمصطفى
بأهلها من نازلات البلا
ومن قصيدة له في دمشق:
وقد عطفت بالنيرين حديقة
علينا فمنها نحن في جنة الخلد
وأرشفنا الجريال جدول مائها
وفيها لنا قد عطرت نسمة الورد
وهبت صباً في قاسيون فحركت
صبابة قلب قلبته يد البعد
وشط يزيد زاد قلبي تولعاً
بمن شط عني والأضالع في وقد
وها هو يذكر الشام ويتشوق إليها وهو مقيم في بلاد الروم:
حدثوني عن نسمة الأسحار
وغناء الطيور في الأشجار
حب النيربين والمرجة
الفيحاء لما تفوح بالأزهار
وخرير المياه بين غصون
خافضات الرؤوس بالأثمار
وصفوا لي دمشق إني مشوق
لحماها وطيب تلك الديار
بلد آمن وربّ جواد
ببلوغ الأوطان والأوطار
وعلى ساكني دمشق سلام
من طريح بالروم نهب القفار
بعيداً عن علومه الدينية والصوفية والتدريسية يقف الشاعر عبد الغني النابلسي شاعراً من الطراز الفريد، ومنتمياً إلى الشام كما يجب أن يكون الانتماء، ومؤمناً بالشام ومكانتها وقداستها وحفظها ومواقعها، وما كان لهذا الشعر أن يكون لولا إيمان ومعرفة الشاعر، وهو بذلك يعطينا المثال الحي على حب الأوطان والتشبث بها وبمحاسنها، وهو من غربته كان دائم الحنين لكل من في الشام من محاسن، بل ويرى كل حسن فيها، وفيما عداها لا حسن ولا جمال. إنها صوفية الانسان المستحيلة تجاه أرضه ومدينته ووطنه، لذلك حق للنابلسي أن يسكن تربة الشام وصالحيتها، وحق له أن يحتفى به وبعلمه وشعره في دمشق، لأنه الذي دار الأرض وعاد إلى الأرض التي خرج منها، فيها ولد ولها عشق، ولها نظم شعره مستقراً ومسافراً.
إسماعيل مروة
الوطن السورية