يوسف العظمة

01 تشرين الثاني 2011

.

مقدمة


إذا كان هناك للشمم والإباء والعنفوان من عنوان، فلا بد أن يكون يوسف العظمة، فهو البطل الذي رفض أن ينحني أمام العدوان والاستعمار، رغم إدراكه الكامل كعسكري محترف لعدم توازن القوى، وآثر الشهادة على حياة يضطر فيها أن يرى الأعداء يطؤون أرض بلاده بأحذيتهم، فضرب بذلك أروع مثل للبطولة والفداء.

لقد غدا يوسف العظمة رمزاً من رموز الحرية والكرامة لدى الشعب السوري والأمة العربية. فمن هو يوسف العظمة؟ وما هي قصة ميسلون؟


مولده وعائلته وتاريخه العسكري


هو يوسف بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن إسماعيل باشا التركماني الشهير بالعظمة، سليل أسرة دمشقية توارثت التقاليد العسكرية منذ القرن السابع عشر، ويرجع نسبها إلى الجد الأكبر حسن بيك بن موسى باشا التركماني، الذي استوطن حي الميدان في دمشق أوائل القرن الحادي عشر للهجرة.

يوسف العظمة

ولد يوسف في حي الشاغور (الصمادية) بدمشق الشام في منتصف شهر رجب عام 1301هـ الموافق 9 نيسان 1884م، وكان أبوه موظفاً في مالية دمشق، وقد توفي حين كان ابنه يوسف في السادسة من عمره، فتعهد تربيته شقيقه الأكبر عبد العزيز، ولما ترعرع دخل المدرسة الابتدائية في الياغوشية بالقرب من دار أبيه، ثم التحق بالمدرسة الرشدية العسكرية في جامع يلبغا بحي البحصة بدمشق عام 1893م، ومنها تابع دراساته العسكرية في دمشق في المدرسة الإعدادية العسكرية التي انتقل إليها عام 1897 وكان مقرها في جامع تنكز، انتقل بعد ذلك (في عام 1900م) إلى مدرسة قله لي الإعدادية العسكرية الواقعة على شاطئ البوسفور المضيق بالآستانة (استنبول) فأحرز الشهادة الإعدادية في ذلك العام منتقلاً عام 1901م إلى المدرسة الحربية في الآستانة المدعوة آنذاك بـ «حربية شاهانه». وتخرج منها عام 1903 برتبة ملازم ثان، وفي عام 1905م أصبح ملازماً أول. ومن ثم انتقل لمدرسة الأركان حرب حيث أتم فيها العلوم والفنون الحربية العالية وحصل على رتبة نقيب (يوزباشي) أركان حرب عام 1907م، وكان الأول بين رفاقه في صفوف المدرسة كلها فكوفئ على نبوغه بالميدالية الذهبية (وسام المعارف الذهبي) المحدثة من قبل السلطان عبد الحميد الأول لتلاميذ المدارس العالية.

ثم اختارته القيادة العسكرية العثمانية ليكون لفترة معاوناً للقائد الألماني ديتفورت في لبنان لقضاء فترة تدريبية، حيث كانت العلاقات قوية بين الدولتين العثمانية والألمانية في تلك الفترة، حيث اختار الانضمام إلى سلاح الفرسان، وبعد أن أنهى فترته التدريبية في ثكنة رامي بالآستانة في لواء الفرسان، تم نقله إلى بيروت إلى فوج القناصة (تشانجي) المشاة العاشر المترمكز هناك، ليعهد له بعدها تدريب الدرك اللبناني.


يوسف العظمة في شبابه

وفي عام 1908م استدعي إلى الآستانة وعين مدرباً مساعداً لمادة التعبئة في مدرسة الأركان حرب التي أحدثت حينذاك في قصر يلدز السلطاني، ثم نقل عام 1909م ليكون مع الجيش العثماني المرابط في منطقة الرومللي على البر الأوربي برتبة «رئيس متفوق» (رئيس أركان حرب)، وفي العام نفسه أرسل في بعثة عسكرية إلى ألمانيا حيث التحق بمدرسة أركان الحرب العليا لمدة سنتين، عاد بعدها إلى الآستانة على أثر مرض أصابه لشدة البرد في ألمانيا ومن ثم عين ملحقاً عسكرياً في المفوضية العثمانية العليا في القاهرة ومعاوناً للمفوض السامي العثماني.

وفي عام 1912 انتهى إلى الشعبة الأولى المتفوقة (الأركان حرب) في الآستانة، ثم أخذ في التنقل بين قطعات الجيش العسكرية إبان حرب البلقان (1913م) حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى.

ثم كانت الحرب العالمية الأولى 1914- 1918 فأُرسل رئيساً لأركان حرب الفرقة الخامسة والعشرين العاملة في بلغاريا، وشارك مع القوات الألمانية في ميادين النمسا ومقدونيا ورومانيا، وكان موضع ثقة وتقدير قائد الجبهات المارشال ماكترون قائد القوى الألمانية المحاربة الذي أخذه لهيئة أركان حربه باسم الجيش العثماني، ثم عاد يوسف إلى الآستانة حيث اختاره وزير الحربية العثمانية أنور باشا مرافقاً له وتنقل معه لتفقد الجيوش العثمانية في الأناضول وسورية والعراق، وعلى أثر تأزم الموقف بجبهة القفقاس عيِّن رئيساً لأركان حرب القوات المرابطة في القفقاس.

عندما انتهت الحرب العالمية الأولى في نهاية تشرين الأول عام 1918، وعقدت الهدنة بين المتحاربين، عاد يوسف العظمة إلى الآستانة (استنبول) ومنها قدم إلى دمشق (مسقط رأسه) عقب دخول الأمير فيصل بن الحسين إليها.


صفاته ومزاياه


كان يوسف العظمة معتدل القوام، ذا هيبة ووقار، واضح الذكاء. كان شديد البأس، قوي المراس، ظاهر البسالة، عظيم الحماس، كما يصفه كل من عاصره.

وهنا لابد من الإشارة أن يوسف العظمة قد نال خلال دراسته في الدولة العثمانية وخدماته في جيشها عدة أوسمة وميداليات تقديراً لنبوغه ومواهبه العسكرية الخاصة والمتميزة. وقد قام خلال فترة خدمته في الجيش العثماني بإعداد برامج متقدمة للتدريب العسكري وأنظمة الإعداد وأسلوب التعامل مع الجند، وترجم كتاباً عن المؤلف روكر من اللغة الألمانية إلى اللغة التركية بعنوان «بيادة عجمي نفري نصل تيشدرلر» (أي «كيفية إعداد الجندي المبتدئ من الناحيتين الجسدية والمعنوية للعسكرية»)، وهو محفوظ في مكتبة المتحف الحربي باستنبول تحت رقم »2/617«EHT..

ولم تقتصر معارفه وثقافته على العلوم العسكرية وحسب، بل أجاد – إضافة إلى العربية – اللغات التركية والألمانية والفرنسية والإنكليزية، وأحاط بثقافات ومعارف عصره.


مع فيصل



الملك فيصل الأول

في دمشق اختاره الأمير فيصل بن الحسين مرافقاً له، ثم عين معتمداً عربياً في بيروت. ويذكر عبد العزيز الشقيق الأكبر ليوسف في مذكراته عن شقيقه أن يوسف رحمه الله كان يلتهب غيرة على الوطن وكان يعتقد أن بإمكان سورية إذا تم تنظيم دولتها وجيشها أن تكون نواة لدولة عربية موحدة كبرى تجمع حولها جميع الأقطار العربية، وكان ينادي ببذل النفس والنفيس لإعلاء شأن الوطن بحيث أصبح مرجعاً محترماً للأهلين والقوميين العرب حينذاك، وذا نفوذ عظيم في الساحل ما حدا بالجنرال غورو أن يشكو لسمو الأمير من يوسف خلال اجتماعه به في بيروت (بعد عودة الأمير فيصل من أوروبا) وطالب بإبعاده عن بيروت.

بناءً عليه تم سحب يوسف العظمة من بيروت وتعيينه بالنهاية رئيساً لأركان حرب القوات العربية في سورية برتبة قائم مقام، فبدأ بتأسيس الجيش العربي السوري حيث قام خلال مدة وجيزة بتشكيل جيش عربي يشبه في نواته وتنظيماته وتدريباته الجيوش الألمانية المنظمة وكان يزيد قوامه على عشرة آلاف جندي.


وزيراً للحربية



يوسف العظمة وزيراً للحربية

ثم كان إعلان استقلال سورية وتتويج الأمير فيصل ملكاً عليها في 8 آذار 1920م. وتوضحت نوايا الغدر الاستعماري من فرنسا وإنكلترا، خاصة بعد صدور مقررات مؤتمر سان ريمو (25 نيسان 1920م) والتي ينص أحد بنودها على وضع سورية ولبنان تحت الإنتداب الفرنسي، وتأزمت الأوضاع بين حكومة سورية والحكومة الفرنسية مما دعا إلى تأليف وزارة دفاعية جديدة في البلاد فكانت برئاسة هاشم الأتاسي وكان يوسف العظمة وزيراً للحربية فيها. ومما لا شك فيه أن اختياره لهذا المنصب الخطير في تلك الفترة من تاريخ سورية يدل على تقدير كبير من المسؤولين يومئذ لماضيه العسكري المجيد ولمواهبه الخاصة ولخبراته الواسعة إضافة إلى حماسته الوطنية وغيرته على استقلال البلاد فكان خير من يستلم المنصب الأول في مهمة الدفاع عن البلاد في تلك الظروف الخطيرة.


فرنسا تستعد لاحتلال سورية


كشَّر المستعمر الفرنسي عن أنيابه وظهرت نواياه الاستعمارية في إنذار غورو الذي حمله للواء نوري باشا السعيد شفهياً، وأثبت فيه المطالب التالية:
1- أن ترضى الحكومة العربية بالانتداب الفرنسي دون قيد أو شرط.
2- أن تعيد الجيش السوري إلى ما كان عليه في شهر شباط (أي قبل أن يتعهده يوسف العظمة بالتدريب والإعداد مع تسريح أعداد كبيرة من منتسبيه).
3- أن ترضى بالتعامل بورق النقد السوري (الذي وضعته فرنسا).
4- ألا تمانع سورية في احتلال السلطات الفرنسية لمحطات خطوط حديد رياق- حلب – بعلبك – حمص – حماة احتلالاً عسكرياً مع احتلال قلب مدينة حلب.
وصرح الجنرال أنه لا يوافق على سفر الملك إلى أوروبا قبل حل هذه النقاط. وفي ذلك كله أيما استفزاز للمشاعر الوطنية والقومية لدى السوريين والعرب.

حاول الملك فيصل الأول من خلال اتصالاته مع قوى الحلفاء والدول الأوروبية أن يثني الجنرال غورو عن نيته في محاولة للتوصل إلى نوع من الاتفاق بين الطرفين لكنه لم يفلح.


إنذار غورو


وفي مساء الرابع عشر من تموز عام 1920 وصل إلى دمشق القائد الفرنسي ماندر بكتابٍ من الجنرال غورو إلى الملك فيصل ابتدأه بالعبارة التالية: «من الجنرال غورو المفوض السامي للجمهورية الفرنسية في سورية وكيليكية والقائد العام لجيش الشرق إلى صاحب السمو الملكي الأمير فيصل». وتلا ذلك بيان طويل أنهاه غورو بالبنود التالية:
«لذلك ترى فرنسا أنها مضطرة لأخذ الضمانات التي تكفل سلامة جنودها وسلامة السكان التي نالت من مؤتمر السلم مهمة الوكالة عليهم، فأتشرف بأن أبلغ سموكم الملكي أن هذه الضمانات هي كما يأتي»، ونذكرها باختصار:
1- الصرف بسكة رياق – حلب الحديدية.
2- إلغاء التجنيد الإجباري.
3- قبول الانتداب الفرنسي.
4- قبول الورق السوري (الفرنسي).
5- تأديب المجرمين الذين كانوا أشد عداء لفرنسا (وفق تعبيره).

الجنرال غورو

جمع الملك فيصل وزرائه لمداولة الأمر بينهم فكان رأي الكثيرين منهم النزول عند مطالب غورو ومهادنته وقبول الإنذار وهنا برز رأي يوسف العظمة بالإنذار، فعندما سأله الملك فيصل عن رأيه في إنذار غورو قال كلمته المشهورة: «إذا كان لنا لسان فلكي نتكلّم به، وإذا كان لنا جيش فلكي نحارب به في مثل هذه الظروف العصيبة».

وبالرغم من قبول الحكومة السورية للإنذار والعدول عن فكرة المقاومة وقبول مطالب الجنرال غورو والأمر بتسريح الجيش السوري وسحب الجنود من روابي قرية مجدل عنجر مخالفة بذلك قرار المؤتمر السوري العام (البرلمان) ورأي الشعب المتمثل بالمظاهرات الصاخبة المنددة بالإنذار وبمن يقبل به، فإن القوات الفرنسية بدأت زحفها من البقاع باتجاه دمشق معللة ذلك بتأخر وصول الجواب من الحكومة السورية بقبول الإنذار (تأخر الجواب نصف ساعة) عندئذ لم يكن أمام أصحاب الغيرة والوطنية إلا المقاومة حتى الموت وكان على رأس هذا الرأي وزير الحربية يوسف العظمة.

وكان الملك فيصل قد أبرق إلى الجنرال غورو بالموافقة على الشروط وحل الجيش، ولكن بينما كان الجيش العربي المرابط على الحدود يتراجع منفضًّا، كان الجيش الفرنسي يتقدم بإمرة الجنرال غوابيه (بأمر من الجنرال غورو) باتجاه دمشق، ولمّا سُئل عن هذا الأمر أجاب بأن برقية فيصل بالموافقة على بنود الإنذار وصلت إليه بعد أن كانت المدة المتفق عليها (24 ساعة) قد انتهت.

وقد تألفت قوات الجنرال غوابيه – كما جاء في البلاغ الرسمي الفرنسي - من الآتي:
1- لواء المشاة (415).
2- لواء الرماة الجزائريين الثاني.
3- لواء سنغالي من الرماة الإفريقيين.
4- لواء من السباهي المغاربة.
5- خمس نضائد صحراوية، ومثلها جبلية، ونضيدتين من عيار 515.
وقد بلغ مجموع القوى الفرنسية تسعة آلاف جندي، يظاهرها طيارات ودبابات ورشاشات عديدة.


معركة ميسلون


وهكذا في نفس اليوم 21 تموز سنة 1920م، وبينما كان الملك ينتظر أن ينتهي إليه نبأ إعلان الجنرال غورو إلى جيشه بالتوقف، فإذا به يتبلغ أن الزحف الفرنسي نحو دمشق قد بدأ، وأن شرذمة من الجيش العربي التي بقيت في البقاع لجمع الأسلحة والذخائر من السكان، قد وقعت في قبضة الفرنسيين فعاملوها معاملة الأسرى الأعداء لا الحلفاء.
وعقد اجتماع تزعمه الأمير زيد شقيق الملك الذي كان يشغل منصب القائد العام للجيش العربي، وكانت كلمة يوسف العظمة في الاجتماع العسكري الذي عقد في ساعات الخطر برئاسة الأمير زيد أمام تخوف عدد من كبار الضباط من خوض المعركة قوله: «معاذ الله أن نستسلم لليأس والقنوط». وبدأ باتخاذ التدابير العسكرية السريعة ومنها:
- وقف أعمال التسريح.
- الاتصال ببعض العلماء أصحاب التأثير على الشعب لدعوة الناس إلى التطوع والسير نحو الجبهة، من أمثال المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني والشيخ كامل القصاب.

يقول ساطع الحصري بمذكراته وهو أحد رجال حكومة فيصل يومئذ: «كان يوسف العظمة يعمل بنشاط ويظهر تفاؤلاً كبيراً وقد أتم الترتيبات العسكرية اللازمة ووضع الخطة العسكرية المحكمة للدفاع، وعَين القواد الذين عهد إليهم بإدارة الحركات وتنفيذ الخطة في مختلف الجبهات وأهمها جبهة مجدل عنجر في البقاع».

عاد فيصل يستنجد بالوطنيين السوريين لتأليف جيش أهلي يقوم مكان الجيش المنفض في الدفاع عن البلاد، وتسارع شباب دمشق وشيوخها إلى ساحة القتال في ميسلون، في ذلك الموقف تزعم يوسف العظمة عملية الدفاع عن دمشق وقال للملك فيصل كلمته الشهيرة مستعيناً ببيت الشعر العربي:

لايسلم الشرف الرفيع من الأذى .. | .. حتى يراق على جوانبه الدم

يقول ساطع الحصري – وهو أحد رجال حكومة فيصل آنذاك - في مذكراته: «في ليلة الرابع والعشرين من تموز جاء يوسف العظمة يودعنا قائلاً أنه سيتوجه إلى الجبهة، ولكنه قبل أن يغادرنا انتحى زاوية من الغرفة وقال لي: أنا ذاهب، إنني أترك ليلى أمانة في أعناقكم أرجوكم لا تنسوها».


قوات فرنسية

وتوجه يوسف العظمة للملك – وفق ما ورد في مذكرات أحمد قدري الذي كان مرافقاً للملك فيصل وطبيبه الخاص والذي شهد نهاية مناقشة طلب فيها يوسف العظمة خوض المعركة - قائلاً: «هل يأذن لي جلالة الملك بأن أموت»؟ ثم عاد ليكرر وصيته على مسامع الملك قائلاً: «ليلى أمانة في أعناقكم».

وكانت كلماته الأخيرة قبيل ذهابه إلى القتال: «إني أعرف ما يجب عليّ، وسأقوم بواجبي، ولست آسفاً على نفسي، بل أسفي على الأمة التي ستظلّ سنوات كثيرة أو قليلة هدفاً لكل أنواع المحن والمصائب، وإني مطمئنّ إلى مستقبل الأمة، لما رأيته وخبرته بنفسي من قوة الحياة الكامنة فيها، وواثق من عطف أصدقائي على طفلتي (ليلى)، فسأذهب مستريح البال مطمئنّ القلب في طريق الواجب المفروض عليّ».

تقدم يوسف العظمة جمهور المتطوعين على غير نظام، وإلى جانبهم عدد يسير من الضباط والجنود، تحت راية موجودة حتى الآن في المتحف الوطني بدمشق، وهي العلم العربي من حيث الشكل والألوان، وقد كتب على اللون الأسود: «وجاهدوا في سبيل الله»، وكتب على اللون الأبيض: «إن الله معنا»، وكتب على اللون الأخضر: «إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً». وكتب على الوجه الآخر: على اللون الأسود: «لا إله إلا الله»، وعلى اللون الأبيض: «محمد رسول الله»، وعلى اللون الأخضر: «اللواء الأول مشاة سنة 1338».


الوجه الأمامي لعلم معركة ميسلون

وما إن أشرق فجر الرابع والعشرين من تموز عام 1920 حتى كانت القوات الفرنسية تشق طريقها باتجاه دمشق، فتصدى لها المقاومون في موقع ميسلون (الذي يبعد ثلاثين كيلومتراً إلى الغرب من دمشق) فيما كانت المدفعية الفرنسية تقصف المواقع العسكرية العربية والطائرات الفرنسية تغير على المدفعية أو أي تحصينات ترى أن من شأنها إعاقة تقدم القوات المهاجمة، ومع بلوغ الساعة السادسة والنصف صباحاً كانت المعركة قد احتدمت بين القوات الفرنسية المتقدمة، والمدافعين المستبسلين طلباً لإيقاف تقدمها.

الوجه الآخر لعلم معركة ميسلون

خلال المعركة كان الشهيد يوسف العظمة يرقب مجرياتها من مرصده، إلى أن ظهرت دبابات العدو محاولة عبور الجسر الذي يجتاز وادي القرن، وكان قد جعل على رأس الجسر في طريق المهاجمين ألغاماً خفية، فلمّا رأى العدو مقبلاً أمر بإطلاقها فلم تنفجر، فأسرع إليها يبحث عن السر في عدم انفجارها، فوجد أن أسلاكها قد قُطِّعت، فعلم أن القضاء نُفِّذ، فلم يسعه إلاّ أن ارتقى ذروة ينظر منها إلى دبابات الفرنسيين زاحفة نحوه، وجماهير الوطن من أبناء البلاد بين قتيل وشريد، فعمد إلى بندقيته وهي آخر ما تبقى لديه من قوة، فلم يزل يطلق نيرانها على العدو حتى أصابته قنبلة أطلقتها دبابة من مدفعها عيار 37 ملم فأردته شهيدًا. وفاضت روحه في أشرف موقف، ودفن بعد ذلك في المكان الذي استشهد فيه، وقبره إلى اليوم رمز التضحية الوطنية الخالد تحمل إليه الأكاليل كل عام من مختلف الديار السورية. وفي حوالي الساعة الحادية عشرة صباحاً كان الفرنسيون قد استولوا على جميع الخطوط الأمامية فيما انسحبت القوات العربية المتبقية بعد تدمير معظم أسلحتها الثقيلة واستشهاد قائدها الكبير، فأصبح القتال غير ذي جدوى.

لقد كانت معركة غير متكافئة بكل المقاييس، حيث برز فيها حوالي ثلاثة آلاف من الجنود المتطوعين بأسلحة قديمة، في مواجهة تسعة آلاف ضابط وجندي فرنسي، مسلحين بالدبابات والسيارات والمصفحات والطائرات وأحدث الأسلحة الاخرى، واستشهد مع وزير الدفاع البطل يوسف العظمة أربعمئة مجاهد مقابل اثنين وأربعين عسكرياً فرنسياً. وكان يوسف العظمة أول وزير دفاع عربي وزير يستشهد في المعركة.

يقول قائد جبهة ميسلون حسن تحسين الفقير في مذكراته عن هؤلاء إنهم «أبلوا بلاءً حسناً في قتال العدو وأوقعوا فيه خسائر كبيرة واستشهد معظمهم طيب الله ثراهم.
كان يوسف العظمة على رأس هؤلاء وهو المعروف باعتزازه بإسلامه وعروبته والملتزم بفروض دينه وتعاليمه وتحليه بالأخلاق الإسلامية.
لقد سار إلى جبهة ميسلون كقائد للمجاهدين لا كوزير حربية وخاض معركة استشهادية لم يكن منصبه يلزمه على خوضها، لكن إيمانه وصدق إخلاصه لوطنه وسمعته وشرفه وكرامة أمته، كل ذلك دفعه إلى خوض معركة الشهادة يوم السبت 24 تموز 1920م، فكان من أول شهدائها حيث روى بدمه الطاهر أرض ميسلون وانتقلت روحه الطاهرة إلى عالم الخلود، ودفن حيث وقع، وأقامت له أسرته ضريحاً على شكل القبور الإسلامية وكتب عليه بالعربية فقط:
يوسف العظمة
وزير الحربية
في 7 ذي القعدة سنة 1338 هجرية».


مما قيل فيه



تمثال يوسف العظمة
في ساحة يوسف العظمة بدمشق

في مقدمته لديوانه الأول «البواكير» يهدي الشاعر العربي الكبير بدوي الجبل ثمرته الإبداعية الأولى إلى الشهيد يوسف العظمة قائلاً: «إلى مثال البطولة العربية، إلى الشهيد الراقد في ميسلون، إلى تلك الروح الكبيرة التي تمردت على العبودية وعلى الحياة». لقد كان يوسف العظمة – حقاً – تلك الروح المتمردة الكبيرة التي شكلت – وربما ستشكل دائماً – تلك اللحظة الاستثنائية التي يرقبها كل مفكر أو شاعر أو سياسي بكثير من التوق والأمل.. لحظةً يكبر فيها الإنسان الفرد ليجسد أمل أمة أو شعار كرامتها أو رمز حريتها، وهكذا كان يوسف العظمة. وقد تقاطر كبار شعراء العربية في القرن العشرين، أمام هذا الموقف المهيب، ليدونوا بقصائدهم ما فعله يوسف العظمة ورفاقه، مشيدين بتلك التضحية وذلك الفداء، وتلك الروح الأبية التي استعصت على الذل والهوان، أمثال خير الدين الزركلي، خليل مردم بك، شفيق جبري، بدر الدين الحامد، بدوي الجبل، عمر أبو ريشة، أحمد شوقي، علي محمود طه، إيليا أبو ماضي، الشاعر القروي، وغيرهم.

يقول الشاعر المصري علي محمود طه على لسان يوسف العظمة:

أمّاه خانتني المقادر فاغفري قدري .. | .. وإن قلّ الفداء فسامحي
قُمْ لحظةً وانظر دمشق وقل لها .. | .. عاد الكميُّ مع النفير الصادحِ
وُدْعاكِ يا بنت العروبة فانهضي .. | .. واستقبلي الفجر الجديد وصافحي

أما الشاعر السوري الكبير خليل مردم بك فيقول ليوسف العظمة:

عرفنا يومَ يوسُفَ مُبْتداها .. | .. فهل من مخبرٍ عن مُنْتَهاها
أيوسفُ والضحايا اليومَ كُثْرٌ .. | .. لِيَهْنِكَ كُنْتَ أوّلَ منْ بَداها
فَدَيْتُكَ قائِداً حيّاً ومَيْتاً .. | .. وَضَعْتَ لِكُلِّ مَكْرُمَةٍ لِوَاها
فيالك راقِداً نَبّهْتَ شَعْباً .. | .. وأَيْقَظْتَ النواظِر من كراها
ويالك ميتاً أحْيَيْتَ منا .. | .. نفوساً لا تقرُّ على أذاها
ويالك عاثراً أنهضت منا .. | .. عزائمَ بعد ما وَهَنَتْ قواها
سَمَتْ بك للمعالي نفسُ حرٍّ .. | .. لقد كانت منيتها مناها
هويتَ على المنيّة لا تبالي .. | .. كما تهوي الثواقب من سماها
فداً لك بل لنعلِكَ كلُّ تاجٍ .. | .. تصرفه الطغاة على هواها

ويخاطبه الشاعر السوري البليغ بدر الحامد فيقول:

أنتَ في الدهرِ خالدٌ لن تزولا .. | .. لك ذكراكَ بكرةً وأصيلا
حلمٌ طاف من حبيبٍ ولكن .. | .. ما شفَيْنا من الحبيب غليلا
يشهدُ الله أننا قد صبَرْنا .. | .. في اكتئاب الزمان صبراً جميلا
أيَّ عهدَيْكِ يا ديارُ أناجي .. | .. حبسَتْني ذكرى الأسى أن أقولا

ثم يقول:
نحنُ قومٌ من المماتِ اتخذنا .. | .. عن يقين إلى الحياة سبيلا
يوسفٌ خر في العراك صريعاً .. | .. وكفانا به شهيداً نبيلا

ويقول الشاعر الكبير سليم الزركلي في قصيدته يوم الجلاء محيياً يوسف العظمة ومثواه الذي دفن فيه:

يا قبرَ يوسفَ لا عدَتْكَ مواطرٌ .. | .. هُنَّ الرجاءُ لموطِنٍ ظمآنِ
يا قبرَ يوسُفَ لست قبراً قائماً .. | .. ما أنت إلا كعبةُ الخلصانِ
هتفت بأروقة الخلود بشائرٌ .. | .. أرّقْن ألحاني، وهِجْنَ بياني
ولطالما ضج الضريح من الأذى .. | .. ومضى يهزُّ مشاعري وجناني
ويُهيبُ بالثاوين، حسبُ بلادكم .. | .. تلقى صنوف الذلِّ والحرمانِ
لا كان لي عيشٌ يطيب، وذِمَّةٌ .. | .. إن لم أجرّدْ خاطري وسِناني

أما بدوي الجبل فيستذكر يوسف العظمة وكبرَ تضحيته في فرحة عيد الجلاء الغامرة ومن قصيدة عيد الجلاء فيقول:

شهداءَ الحق لا أبكِيكُمُ .. | .. جَلَّتِ الغوطَةُ عن ضعف البكاءْ
جَلَّ هذا الدم أن يُرْثَى له .. | .. عارُ سفّاكِيهِ أولى بالرِثاءْ
الربا في ميسلون استعْبَرَتْ .. | .. أيْنَ دمعُ الحزنِ من دمع الهَناءْ
أقبل الدهر عليها تائباً .. | .. وعفا يوسُفُ عن جَوْرِ القضاءْ

أما الشاعر المهجري الكبير إيليا أبو ماضي فيقول في بطل ميسلون:

بأبي وأمي في العراء مُوَسّدٌ .. | .. بعث الحياة مطامِحاً ورِغابا
لما ثوى في ميسلون ترنّحت .. | .. هضَباتُها وتنفست أطيابا
وأتى النجومَ حديثُهُ فتهافتتْ .. | .. لتقوم َ حراساً له حُجّابا
ما كان يوسُفُ واحداً بل موكباً .. | .. للنورِ غلْغَلَ في الشموس فغابا

وهذا أمير الشعراء أحمد شوقي يرثي البطل فوق قبره بقصيدة رائعة عنوانها «حياة لا نريد لها زيالا» يقول فيها:

سأذكر ما حييت جدار قبرٍ .. | .. بظاهر جلق ركبَ الرمالا
مقيمٌ ما أقامت ميلسون .. | .. يذكر مصرَعَ الأَسدِ الشِّبالا
لقد أَوحَى إليَّ بما شجاني .. | .. كما توحي القبورُ إلى الثكالى
تغيب عظمة ُ العظماتِ فيه .. | .. وأولُ سيدٍ لقيَ النبالا
كأَن بُناتَهُ رفعوا مَناراً .. | .. من الإخلاص، أَو نصبوا مِثالا
سراج الحقِّ في ثبجِ الصحارى .. | .. تهاب العاصفات له ذبالا
ترى نورَ القعيدة ِ في ثراه .. | .. وتنشقُ من جوانبه الخلالا
مشى ومشتْ فيالق من فرنسا .. | .. تجر مطارفَ الظفرِ اختيالا
ملأْنَ الجوّ أَسلحة ً خِفافاً .. | .. ووجهَ الأرضِ أسلحة ً ثقالا
وأَرسَلْنَ الرياحَ عليه ناراً .. | .. فما حفل الجنوبَ ولا الشَّمالا
سلوه : هل ترجل في هبوبٍ .. | .. من النيران أرجلت الحبالا؟
أقام نهاره يلقي ويلقى .. | .. فلما زال قرصُ الشمس زالا
وصاح، ترى به قيدَ المنايا .. | .. ولستَ ترى الشَّكِيمَ ولا الشِّكالا
فكُفِّن بالصوارم والعوالي .. | .. وغيب حيثُ جال وحيثُ صالا
إذا مرَّتْ به الأَجيالُ تَتْرَى .. | .. سمعهتَ لها أزيزاً وابتهالا
تعلَّق في ضمائرهم صليباً .. | .. وحلَّق في سرائرهم هلالا

ولم تغب صورة يوسف العظمة عن ذهن الزعماء الوطنيين الذين قادوا سورية إلى استقلالها، بل ظلت على الدوام ماثلة في أذهانهم أفقاً وتراثاً. فهاهو الزعيم الوطني فارس الخوري يقول في يوسف العظمة: «إن يوسف العظمة، وهو الشاب الشهم الأبي والوطني المخلص لم يتقبل فكرة أن تدخل فرنسا البلاد دون أن تلاقي مقاومة، فضحى بنفسه ليقول لفرنسا: نحن هنا».

وكما بجله مواطنوه فقد احترمه أعداؤه وهاهو الجنرال غوابيه قائد القوات الفرنسية في معركة ميسلون يقول عنه: «إن الخطط والتعبئة التي أقرها وزير الحربية يوسف العظمة لم أجد لها مثيلاً، إلا في الحرب بين فرنسا وألمانيا».

أما غورو نفسه فيقول للملك فيصل: «تمسكوا بيوسف بكلتا يديكم فهو وحيد في الأمة العربية».


ذكرى يوسف العظمة



عند ضريح يوسف العظمة

لم يخلف يوسف العظمة من الذرية إلا ابنة وحيدة (ليلى) التي رحلت مع أمها إلى تركيا وماتت هناك دون أن تعقب. إلا ان ذكر البطل القومي هو ملء السمع والبصر والأفئدة، ففي كل عام يستذكر السوريون معركة الشرف والكرامة التي خاضها أول وزير دفاع سوري – في مواجهة غير متكافئة – كي يمنع دخول الفرنسيين إلى عاصمته الحبيبة، فضرب بذلك أروع الأمثلة للإباء والشمم والتمسك بالحرية. فيما تحول منزله في حي المهاجرين حالياً إلى متحف خاص بمقتنياته. أما ضريحه في ذرى ميسلون فهو مزار السوريين جميعاً يستذكرونه بورودهم ورحلاتهم ومناسباتهم الوطنية والقومية، كواحد من نجوم هذا الوطن ورمز من رموز عزته وسيادته واستقلاله.



المراجع


1- يوسف العظمة، صفحات من أدب ميسلون، غسان كلاس، دار البشائر، دمشق، الطبعة الثانية، 2007.

2- فاجعة ميسلون والبطل العظيم يوسف العظمة، الدكتور محي الدين السفرجلاني، دار البشائر، دمشق، الطبعة الثانية، 2008.

3- رواية اسمها سورية، تحرير وإشراف عام: نبيل صالح، إصدار خاص، الطبعة الأولى، دمشق، 2007.

4- مواقع إلكترونية.


اكتشف سورية

Share/Bookmark

صور الخبر

يوسف العظمة في شبابه

يوسف العظمة وزيراً للدفاع

تمثال يوسف العظمة في ساحة يوسف العظمة بدمشق

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق

سعيد السامرائي:

اقف اجلا واحترام لتلك البطل القومي الذي ذاد عن حياض الوطن بالنفس والله انك لنعم الابن لهذه الارض ونعم شهامتك العربيه وتلك الرجال ولا بلا
يارت اعيون تبجي عليك من العشرين لليوم والقلب مابطل ونينه
ياربت تسهر عليك البيض بلهف وحنينه
ياريت البكا لغير فراقك ماهي وسيله ياخاذل العدوان ياحيف ماطول سنينه

العراق

م.عماد العساف:

قد نكون في هذه الأيام بأشد الحاجة للمبادىء التي ارساها الشهيد يوسف العظمة إزاء المطالب " الإملاءات " الخارجية فكيف فهم السوريون إنذار غورو كاحتلال و لا نستشف الآن ذلك من التصريحات الغربية و العربية
كنت أبحث عن النص الحرفي الكامل لإنذار غورو فلم أجده في أي كتاب مدرسي أو موقع إلكتروني
الشكر لمن يساعدني في ذلك

سوريا