خليل مردم بك

30 كانون الأول 2010

.

المقدّمة


إن كان الجمال، أن يَشمّ النّحلُ رحيقَ الأزهار، ويرغب بشدّة أن يكون فيه، فالشّاعر خليل مردم بك هو النّحلة الدّمشقية التي خرجت إلى الحياة، تشمّ رحيق العلوم والآداب، تغرق فيه، لتحمل إلى العالم جمال وشهد العلم والأدب، شهدٌ مَن يتذوّقه لن يجوع أبداً.

نحلة لم تحتكر رحيق العلم والأدب لنفسها، بل كانت تدور، وترقص لتدلّ باقي أفراد الخليّة على الرّحيق، علّ باقي النّحل يحذو حذوه.


غيرته على الأدب في سورية


أحزن الركود الأدبي في سورية الشّاعر خليل مردم بك، فأرسل رسالة إلى مجلّة الدنيا لعبد الغني العطري، العدد الثاني، 16 آذار 1945 يقول فيها:

خليل مردم بك

«المتعلمون في سورية، بالنّسبة لعدد السّكان، أكثر من المتعلّمين في الأقطار العربيّة كافّة، ومع ذلك فالحركة الأدبيّة في سوريّة، ممنوّة بركود يستدعي الاستغراب. فالمطابع في قّلة إنتاجها من آثار السّلف أو مؤلّفات المعاصرين، تكاد تكون عقائم، والنّاس منصرفون، عن الأدب انصرافاً لا يتلاءم مع أمّة متحفّزة للنّهوض، حتّى كأنّ الأدب حاجة فضوليّة في حياتهم الاجتماعية. الأدباء قابعون في زواياهم، لا يتعالى صوتهم في أجواء المجتمع، أو هم منصرفون لما لم يخلقوا له.

وإذا سألت الأدباء عن سبب تخلّفهم في مضمار الإنتاج، أجابوك، والأسف يملأ نفوسهم، أنّ الأمّة لا تُعنى بالأدب عنايتها حتّى بالتّافه من شؤون الحياة، فلماذا يوزّعون أنفاسهم، بين من لا يقدّرونها حق قدرها؟ وأيّ كتاب عاد بغير التّعب على مؤلّفه أو ناشره، ثمّ لم يكن حظّه الحبس الطّويل؟؟ اللّهم إلاّ الكتب المدرسيّة، التي تفرض على الطلاب فرضاً، بل متى تحدّث النّاس عن كتاب جديد، مهما بلغ من الجودة كما يتحدّثون عن أقلّ الحوادث؟

وإذا بدا لك أن تستطلع رأي النّاس، في إهمالهم شؤون الأدب، أحالوا الذّنب على عقم الأدباء أو سوء إنتاجهم، وأنّهم لا يلذّون ما تسيل به قرائح الأدباء في هذه الفترة، وأن القليل الذي ينشر من آثار السّلف لا يتذوّقون حلاوته.

ودعوى الفريقين حق، ومهما كانت العلّة التي رمت حركة الأدب بالشلل في هذه البلاد، فيحسن بذل العناية، في البحث عن منشأ تلك العّلة، وتشخيصها وتَفَهّم عناصرها وأعراضها.

ربّما كان من أعظم الدّواعي في تفاقم تلك العلة ثقافة المتعلمين في سورية، فمنهم من اشتغلوا بأنفسهم وانقطعوا للطّلب والمطالعة، ومصادرهم، كتب الأدب العربيّة، فثقافة هؤلاء عربية، ومنهم من تخرّجوا بمدارس الأجانب، فثقافتهم إمّا فرنسيّة أو إنكليزية، فهذه البلبلة في مناهج التّعليم، باعدت ما بين الآراء والأذواق، فالكتاب الذي يؤلّفه ذو ثقافة أجنبيّة، لا يستسيغه ذو ثقافة عربية، وهكذا يبقى الكتاب في حدود من القرّاء ضّيقة، فضلاً عن أن الّنشء لم يتعوّدوا المطالعة منذ حداثتهم بإقبال ورغبة. وينشأ عن ذلك بالطّبع فتور همّة الأدباء، فلا ينقطعون للأدب انقطاعاً يشحذ قرائحهم ويبذر مكنونات نفوسهم وعقولهم فيضطرون لاتّخاذه أداة للتسلية والتّرويح لا غاية للحياة.

فلا غرابة بعد ذلك إذا ندرت المؤلّفات الأدبيّة التي تحبّب المطالعة للنّاس، وتغريهم، وتجعل القراءة حاجة من حاجات الحياة التي لا يصبر عنها الإنسان. على أنّ في أدبنا نقصاً يمكن تلافيه إلى الآن، ولعلّه من أعظم ما جعل النّاس، يزوون وجوههم عن تقدير الأدب والارتياح له، وهو أنّ أدبنا مرآة غير صادقة، لا تنعكس فيها حياتنا الحاضرة، أو بالأقل أنّه صورة لا تمثّل الواقع كما هو، ولئن كان في الأدب القديم ما يمثّل حياة أهله فإنه لطبقة خاصّة من المتأدّبين، لا لبقيّة النّاس الذين يشقّ عليهم استحضار صورة القديم في أذهانهم، بل هم بحاجة لما يمثل لهم شؤونهم الحاضرة ويحدّثهم عنها.

والقصص والروايات، خير وسيلة لهذه الغاية، وما عندنا منها أكثره مترجم لا صلة له بحياتنا، وهو قليل جداً، لا يسدّ بعض الحاجة، دع عنك الخلل والتقصير الماثلين فيه من حيث ضيق التّصور والتواء الأسلوب وقلّة اللّباقة في التّأدية والغفلة عمّا يحيط بنا ويحدث لنا. وهناك عقبة نرجو أن يذلّلها الزّمان بازدياد المتعلّمين، وهي بعد الشقة ما بين لغة الأدب واللغة المحكيّة، ومعالجة هذه المعضلة تستلزم فضل تدبّر ورفق وشدّة الكلف بالصّنعة اللّفظية، التي تجعل الأدب كالمقامات تكلف مطالعيها من العناء أضعاف ما تجلب لهم من اللذة، كما أن الدعوة إلى استعمال العامية عقوق للغة والأدب والقومية وتفريط في ميراث أدبي عظيم، لا يقلّ عن أجلّ ما خلّفته الأمم في الماضي. على أن الأديب اللّبق قادر على أن يكون سهلاً مفهوماً، من غير أن يخرج على قواعد اللغة وحدود البلاغة لاسيما فيما يكتبه للنّاس عامّة.

وتقاطع الأقطار العربية أو تقطيعها جعل جمهور القرّاء ضئيلاً مشتّتاً في العالم العربي لأنّ الحجازي مثلاً لا يعتبر دمشق والقاهرة أو بغداد عاصمة له يشارك أهلها في مصالحهم وشعورهم ويهمّه الاطّلاع على ما يحدث فيها ويصدر من كتب وآثار أدبية، وهكذا السوري بالنسبة للأقطار الأخرى. هذه أهم الأسباب التي ينتج عنها ركود الحركة الأدبية في سورية وهي كما ترى متلازمة بعضها ينشأ عن بعض. ومعالجة كل سبب منها تحتاج تبصراً وسعياً، وليس إدراك الأمل بعيداً إذا صحت العزيمة على العمل».


حياته


ولد الشاعر الكبير خليل مردم بك في دمشق عام 1895 لأب هو أحمد مختار مردم بك، وأم هي فاطمة محمود الحمزاوي (مفتي دمشق وعلامتها)، ولم يكن له أخوة من الذكور، وإنما كان له خمس شقيقات.

خليل مردم بك

ذهب إلى الكتّاب وهو في السّابعة، ولمّا تجاوز العاشرة دخل مدرسة الملك الظاهر الابتدائيّة الرسميّة، وبعد أن أمضى فيها ثلاث سنوات، انتقل إلى المدرسة الإعدادية الرسمية حيث مكث سنة ونيفاً، لكنّه لم يكد يتم الخامسة عشرة من عمره حتّى فقد أباه. وبعد أربع سنوات فقد أمّه، وقد طبعه اليتم بطابع الصّمت والعزلة والحياء والانطواء على النّفس، والابتعاد عن المجتمع، وقد لازمه هذا الطّبع طوال أيّام حياته.

درس الحديث، على يد المحدّث الشيخ بدر الدين الحسني، وأشرف على تعليمه الفقه، مفتي الشّام، الشيخ عطا الكسم، وتولاّه في الصّرف والنّحو، الشيخ عبد القادر الإسكندراني وهو من علماء دمشق، فأفاد منهم وأخذ عنهم حتّى علقت به أساليب القدماء وطرقهم، وأخذ يقرض الشّعر، قبل بلوغه الخامسة عشرة من عمره.

ولما جلا الأتراك عن دمشق أواخر عام 1918 وقامت الحكومة العربية، عُيّن مميّزاً لديوان الرّسائل العامة، وبعد سنة، عُيّن مدرّساً في مدرسة الكتّاب والمنشئين، التي أنشأتها الحكومة لتدريب موظفيها، ولما أعلن استقلال سورية، وبويع الملك فيصل الأول ملكاً عليها، وتألفت أول وزارة سورية، نقل من ديوان الرسائل العامة، وسمي معاوناً لمدير ديوان الوزراء، وبعد أن دخل الجيش الفرنسي دمشق، صرف من العمل في الحكومة.

في عام 1921 أسس مع محمد الشريقي، والشماس أبيفانيوس زائد، وسليم الجندي، وحليم موس، وأحمد شاكر الكرمين، وقبلان الرياشي، وعبد الله النجار، وجورج الريس، ونسيب شهاب، وماري عجمي، وعز الدين علم الدين، ونجيب الريس، وحيدر مردم بك، وفخري البارودي، وزكي الخطيب، وسيمون لويس، وميشيل سعد، وفيليب سعد، وراشد البيلاني، وإبراهيم حلمي، وإبراهيم دادا، وحبيب كحالة، وغيرهم، جمعية «الرابطة الأدبية»، على غرار الرابطة القلمية في نيويورك، وانتخب رئيساً لها، وقد عقدت أول اجتماع لها في الرابع من آذار 1921، وكانت غايتها «توحيد قوى الأدباء المتفرقة وتنظيم صفوفهم، ليتسنى لهم الفوز في معترك الحياة الأدبية الذي كاد يستظهر فيه الأدعياء، وينتصر المبطلون».


الثورة السورية الكبرى والشّاعر خليل مردم بك


في عام 1925 انتخب عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق، فتقدم إليه برسالة عن شعراء الشام في القرن الثالث الهجري، وفي هذا العام اندلعت نيران الثورة السورية الكبرى، التي بدأت بـ ثورة حوران، والقنيطرة، واضطرابات دمشق وحمص وحماة، كذلك ثورات الشمال ، وفي نهاية المطاف بثورة جبل العرب وقائدها سلطان باشا الأطرش، فأخذ يغذّيها بقصائده الوطنية اللاهبة التي تدعو إلى إثارة الشعب، ورد الطغيان، ورفع الظلم، فطاردته السلطات الفرنسية، وذلك بعد أن أقامت جهازاً إدارياً فصل لبنان عن سورية، وقسم سورية إلى وحدات منفصلة على أسس عرقيّة ـ دينية مناطقية، ففرّ الشاعر خليل مردم بك إلى لبنان واختفى بقرية المروج بمساعدة الشاعر أديب مظهر، ولما علم الفرنسيون بوجوده هناك، فرّ إلى الإسكندرية عام 1926 ونزل عند صهره الدكتور أحمد قدري، وبعد أربعة أشهر غادر الإسكندرية إلى لندن لدراسة اللغة الإنكليزية وآدابها في جامعتها، فمكث فيها ثلاث سنوات، استطاع أن يحصل في نهايتها على شهادة عالية تعادل الدكتوراه، ولا نجد أثراً للأدب الإنكليزي والحياة في بريطانيا في شعره، إلا ما ندر، وقد ظهر في قصيدته «سكران وسكرى» و«بردى والرقص».


عاشق دمشق


في عام 1929 عاد إلى دمشق بعد أن أمَضّه فراقها، وتاقت نفسه إلى مرابع غوطتها الغناء، وحيّاها بقصيدة «سلام على دمشق» التي قال فيها:

تلاقوا بعدما افترقوا طويلاً فما ملكوا المدامع أن تسيلا

بقيّة فتية لم تبقِ منهم صروف زمانهم إلا قليلا

دمشق ولست بالباغي بديلا وعن عهد الأحبّة لن أحولا

ذكرتك واللهيب له وميض ينشر من شائقه ذيولا

وحين استقرّ به المقام في دمشق، عين مساعداً لرئيس الأدب العربي في الكلية العلمية الوطنية وظل فيها تسع سنوات (1929 ـ 1938) ألف خلالها سلسلة «أئمة الأدب العربي» التي نشر منها خمسة أجزاء هي: الجاحظ، ابن المقفع، ابن العميد، الصاحب بن عباد، والفرزدق.

الشاعر والتراث


في عام 1933 أصدر مع الدكاترة: جميل صليبا، وكامل عياد، وكاظم الداغستاني مجلة «الثقافة» فعاشت سنة واحدة، وفي عام 1941 انتخب أمين سر عام للمجمع العلمي العربي فراح يعمل مع الرئيس محمد كرد علي بمنتهى الإخلاص والانسجام والصفاء، وفي عام 1942 عين وزيراً للمعارف، لكنه لم يلبث أن عاد إلى العمل الذي أحبه ألا وهو التنقيب في كتب التراث العربي، فحقق ديوان ابن عنين عام 1946، وديوان علي بن الجهم عام 1949، وديوان ابن حيوس عام 1951، ثم ديوان ابن الخياط عام 1958، والذي صدر ضمن منشورات المجمع العلمي بدمشق، ووضع لكل ديوان مقدمة في حوالي خمسين صفحة.


رئيس المجمع العلمي العربي


بعد أن طارت شهرة الشاعر خليل مردم بك في الأفق، تهافتت عليه المجامع اللغوية تلتمس منه قبول عضويتها، فانتخبه مجمع اللغة العربية في مصر عضواً عام 1948، والمجمع العلمي العراقي عضواً عام 1949، ومدرسة الدراسات الشرقية بلندن عضواً عام 1951، ودائرة المعارف الإسلامية للمستشرقين عضواً في تحريرها 1951، ومجمع البحر المتوسط في بالرمو بإيطاليا عضواً عام 1952، والمجمع العلمي السوفييتي عضواً عامً 1958.

في عام 1951 عين وزيراً مفوضاً في السفارة السورية ببغداد، فتحولت السفارة خلال السنوات الثلاث التي قضاها هناك إلى منتدى أدبي للطبقة العالية من رجال الفكر والسياسة والأدب، ولم يغادر عاصمة العراق إلا بعد أن استدعي إلى دمشق ليتسلم حقيبتي وزارة الخارجية ووزارة المعارف، وانتخب في الوقت نفسه رئيساً للمجمع العلمي العربي خلفاً لمؤسسه الأستاذ الرئيس محمد كرد علي الذي توفي عام 1953، فبلغ بذلك أعلى ما يطمح إليه عالم وأديب، ثم اعتزل السياسة ليتفرغ إلى أعماله الأدبية التي شغل عنها، لكنه نسي أن القدر كان له بالمرصاد، فقد تراكمت عليه العلل والأمراض التي حدت من نشاطه، إلى أن أطبق الموت عينيه في الحادي والعشرين من شهر تموز عام 1959 ودفن في مقبرة الباب الصغير في دمشق.


خير خلّف لخير سلف


على الرغم من انصرافه إلى الأعمال الإدارية والدبلوماسية في وزارتي المعارف والخارجية والمجمع العلمي العربي الذي ظل رئيساً له مدة سبع سنوات، فإنه ترك لنا ثلاثة وعشرين كتاباً بين مؤلف ومحقق لم ير النور منها في حياته إلا كتاب «شعراء الشام في القرن الثالث الهجري»، وسلسلة «أئمة الأدب»، ودواوين ابن عنين، وابن الجهيم، وابن حيوس، وابن الخياط، التي قام بتحقيقها. أما الكتب الأخرى فقد بقيت مخطوطة، إلى أن قام نجله الوحيد عدنان بإصدارها تباعاً بعد وفاته، وأولها ديوانه الذي صدر عن المجمع العلمي العربي بدمشق عام 1960، وقدم له الدكتور جميل صليبا، والدكتور سامي الدهان، كذلك أصدر له المجمع كتاب «جمهرة المغنين» وكتاب «الأعرابيات».

أما الكتب الأخرى التي أصدرها نجله عدنان على نفقته الخاصة فهي: «أعيان القرن الثالث عشر»، «شعراء الأعراب»، «دمشق والقدس في العشرينات»، «الشعراء الشاميون»، «يوميات الخليل»، «رسائل الخليل الدبلوماسية»، «محاضرات الخليل في الإنشاء العربي»، «الشاعر أبو نواس»، «الشاعر ابن الرومي»، وكان ينوي إصدار كتابه الأخير «دراسة عن لزوميات أبي العلاء المعري» لو لم يعالجه الموت.


نواة كتبه


ظلّ طلب العلم والتثقيف الذاتي يلازمان الخليل طوال سني حياته، وكان معجباً بفصاحة الأعراب وكلامهم لما فيه من الجمال والأصالة والإيجاز وعدم التكلف، وقد أتاح له فراغه ويسره المادي أن يترك نفسه على هواها، وأن يتقطع للأدب، متنقلاً بين التراث القديم، وكان ينقل ما يستحسنه في دفاتر خاصة، حتى تكونت عنده عدة مجموعات كانت نواة لكتبه: «جمهرة المغنين»، «الأعرابيات»، و«شعراء الأعراب».


الأديب العربي المحافظ


كان لنشأة الشاعر البرجوازية وظروف حياته، الأثر في التثقيف الذاتي الذي مارسه، وكان طبيعياً أن يستمد من الأدب العربي القديم ـ نثره وشعره ـ نسغ شاعريته، وعناصر طريقته الشعرية، فهو ـ كما يقول الدكتور إبراهيم الكيلاني ـ لم يتأثر بأي ثقافة أو فكر أجنبيين، ولم يرحل إلى أوروبا إلا بعد أن تحدّدت معالم شخصيته نهائياً، ولم يقرأ نتاج الفكر الأوروبي، وكان بحكم محافظته لا يحب الأجانب، ولا يعجب بثقافتهم أو لغاتهم أو آدابهم، وهو مثال واضح للأديب العربي المحافظ التقليدي.


تأثره بالبحتري


تأثر خليل مردم بك وأعجب بالبحتري إلى حد بعيد، لأنه زعيم الطريقة الشامية التي تقوم على الوصف، العناية بالموسيقى والديباجة وإحكام الصنعة والاهتمام باللفظ، وقد سأله الشاعر حافظ إبراهيم مرة: من تفضل من الشعراء؟ أبا تمام، البحتري، أو المتنبي؟

فأجاب دون تردد: البحتري، لاسيّما في الوصف القائم على إشراك النظر والسمع والوعي والحس. فقد أولع بالوصف والتشخيص والإحياء وبعث الحياة في الإنسان والنبات والجماد، كما في قصيدته «الغوطة» التي يقول فيها:

عرقت جباه الزهر في قطر الندى ملتفة الأعناق ذات تآطر

كالبكر يرشح للحياء جبينها عرقاً إذا ضمت لصدر الهاصر

وإذا الرياح تأوهت سقط الندى من كل زاهرة كدمع هامر

وشقائق النعمان في قيعانها تقطيع أكباد وشق مرائر

والزهر يلقاني بثغر باسم وبوجنة حمرا وجفن فاتر

وأرى الغصون كأذرع ممدودة لتعانق من بعد طول تهاجر


وعن بردى يقول:

رشاشه وهو مبثوث هنا وهنا مثل الفراش تهاوى حول مصباح

أو سرب نحل مثار من خليته أو وابل في مهب الريح سحاح

يختال في موكب جذلى بلابله يحكي بشاشة أعراس وأفراح

وكم تمطى بأعطاف مرنحة في رفرف كجنان الخلد فياح


خليل مردم بك

وإلى جانب عنايته بوصف الطبيعة الثابتة والمتحركة عني أيضاً بوصف الحيوان، ورصد حركاته الغريزية كما في قصيدته «الفراشتان» التي يقول فيها:

تسر الناظرين فراشتان بروضٍ ناعم تتغازلان

تبرجتا بنفض من سواد على أعطاف حلة أرجوان

زوت كلتاهما قرنين دقا كما يزوي تغمز حاجبان

وضمت من جناحيها فكانت كعرف الديك أو حرف اليماني

وأرخت منهما فبدت كحلي تلألأ فوق لبان الحسان

لقد استهوى خليل مردم بك وصف الرياض الزاهرة، والخمائل الوارفة، والطيور الصداحة والغدران المتدفقة، وكان أحب الفصول إلى نفسه فصل الربيع لأنه أجمل فصول السنة لانسجام ألوانه، ورقة صوره، وعبق أزاهيره واعتدال حرارته، أما برد الشتاء وحر الصيف، واحتضار الطبيعة في الخريف فليس لها في شعره أيضاً أثر، لأنها صور قاسية لا تستطيع نفسه اللطيفة أن تتمثلها، فهو إذن يحب الطبيعة الجميلة لا الطبيعة المخيفة.

ومن العجيب أن الريف البريطاني الساحر لم يستهوه، ولا حرك شاعريته، رغم إقامته فيه عدة سنين، فليس في ديوانه قصيدة واحدة تصور لندن وضواحيها الجميلة، أو تصور قصورها وحدائقها ومعالم حضارتها، ويرد الدكتور جميل صليبا ذلك إلى جو لندن القاتم، وطغيان ضبابها، وكثرة ضجيجها.

لقد قرأ خليل مردم بك التفسير والفقه واللغة على كبار علماء دمشق، ولذلك يلوح على شعره أثر اللغة والتاريخ والعلوم العقلية، وكان هواه مع كل ما هو وطني وقومي، فصب جام غضبه ونقمته على المستعمرين الفرنسيين، وظل يقول الشعر طوال أيام حياته، إلا في زمن تقلده الوزارة، ولم يكن يعنى كثيراً بالسياسة عنايته بالعلم والأدب ويقول:


أنا لست أغنى بالسياسة إنما هي نفثة من ذي جوى منهوك


وأبواب شعره على كثرته قليلة طغى عليها باب الوصف في الطبيعة والفن، فليس له في الحكمة والرثاء والاجتماع إلا قصائد معدودة، وليس له في المدح والفخر إلا أبيات قليلة جاءت ضمن قصائده المختلفة، على أن له قصائد كثيرة في الحماسة والوطنية والنسيب، وأخرى في الحنين إلى دمشق والتفجع على فراقها، ذكر فيها مسارح صباه، ومعاهد أنسه.


الناحية القومية والإنسانية في شعره


اهتم خليل مردم بك بالنواحي القومية والإنسانية في شعره، اهتمامه بوصف الطبيعة وكان يرى أن على الشاعر مسؤولية إنهاض قومه وإيقاظ شعبه من غفلته:


إذا لم ينبه شاعر القوم قومه فذاك بأن يشقى به قومه أحرى

أرى الشعر أنفاساً يصرفها الفتى فيطفي بها جمراً ويذكي بها جمرا

وينفخها روحاً بميت أمة فتنسل من أحداث غفلتها تترى


وأي فضل لشاعر عربي معاصر لا يرثي شهداء العروبة ولا يتغنى بالاستقلال، ولا يدعو إلى الثورة على الاستعمار، ولا يقدس الوحدة العربية؟


من كتب خليل مردم بك
التي نشرت بعد وفاته

لقد جمع الخليل في شعره الحماسي بين هذه الأغراض كلها، فبكى الشهداء في قصيدته «ذكرى يوسف» (العظمة) قائلاً:


أعكف على جدث في عدوة الوادي بميسلون سقاه الرائح الغادي

وطأطئ الرأس إجلالاً لمرقد من قضى له الله تخليداً بأمجاد

في فتية نفروا للموت حين بدا جريدة من زرافات وآحاد

صلى الإله عليهم من مجندلة أشلاؤهم بين أغوار وأنجاد


ودعا إلى الثورة والنضال وحفز الهمم، وإثارة النخوة في قصيدته «الحلف والجار» قائلاً:


بني العروبة كم من صيحة ذهبت أو يستثار بها الموتى إذن ثاروا

يا ليت شعري ماذا يستفزكم حمى مباح وإذلال وإفقار

أرى الحجارة أحمى من أنوفكم كم أرسلت شرراً بالقدح أحجار


ووصف الثورة السورية في قصيدته «يوم ميسلون" قائلاً:


مصيبة ميسلون وإن أمضت أخف وقيعة مما تلاها

فما من بقعة بدمشق إلا تمثل ميسلون وما دهاها

فسل عما تصبب من دماء تخبرك الحقيقة غوطتاها

ودعا إلى الوحدة العربية الكبرى قائلاً:


فكيف ترجي جمع قيس ويعرب وشملك يا هذا شتيت مفرق

وكيف ترجي وحدة عربية ومن دون راشيا حدود وبيرق

ولا يقل شعره الاجتماعي أهمية عن شعره الوطني والقومي فقد دعا إلى إصلاح الفساد الاجتماعي، وتهذيب الفتيات، وذم من يتمسك بالقشور من رجال الدين، وانتقد العادات الفاسدة، ونادى بالأخذ بما جاء في الحضارة الغربية من قيم صالحة، وعطف على النساء الجائعات والأطفال الجائعين كما في قصيدتيه «شهيدة الطوى» و«اليتيم الجائع» التي يقول فيها:


هل من يعين على التجلد ساعة فمع الدموع تجلدي قد سالا

طفل بجوف الليل يبكي عارياً نال الضنى من جسمه ما نالا

ما راعه إلا دنوي نحوه كالفرخ ريع لكاسر قد صالا


القصيدة الهزلية اليتيمة


ليس لخليل مردم بك شعر هزلي، لأن الشعر الهزلي مرتبط بالهجاء وهو فن شعري لم يطرقه، لأنه كان كثير الحشمة، جم الأدب أبي النفس، رفيع الأخلاق، باستثناء قصيدة هزلية واحدة نظمها على طريقة ابن الرومي في الإضحاك والتماس المفارقات والعيوب يقول فيها:


أحفى شواربه ولحيته معاً أرأيت رأس التيس ساعة يسمط

وإذا تنحنح في الكلام حسبته ثوراً يخور على العليق وينحط


الغزل


للشاعر خليل مردم بك، غزل تقليدي مطبوع بطابع الأناقة المهذبة والبعد عن معاني التبذل والاستهتار الخلقي، لأن عقله كان يغلب عاطفته ويقودها دائماً، لكنه سمح لهذه العاطفة أن تنطلق من قمقمها مرة في قصيدته «الرقص» التي نظمها في الإسكندرية عام 1926 بعد أن شارك فيها، فوصف فرسانها وحركاتهم الرشيقة وصفاً دقيقاً ومفصلاً حتى كأننا نراها أمام أعيننا، وتعد هذه القصيدة من روائع شعره:


نفخ الصور فهبوا مسرعين مثل ما نفرت طيراً بالصفير

وعلى الصهباء كانوا عاكفين من رأى سرب مها حول غدير

كل إلفين انضوى شملهما أقبلا فاعتنقا أي اعتناق

لو صببت الماء ما بينهما لم يكد يخلص من فرط اعتلاق

علقت كف بكف منهما شركاً واختلى ساق وساق

ودنا الخدان من بعضهما حينما الجيدان هما بالتلاق

وعلى الأنغام كانت لهما خطوات باتزان واتساق

رقصا شتى ضروب وفنون من دبيب خافت أو ذي صرير

بينما عومهما عوم السفين إذ هما بالخجل كالطير الكسير


طبع أول ديوان له لأول مرة عام 1960 أي بعد وفاته بسنة، أما باقي كتبه النثرية فلم يظهر إلا في السبعينات.


شعراء الأعراب



من كتب خليل مردم بك
التي نشرت بعد وفاته

صدر هذا الكتاب عام 1978، وقد تحدث فيه خليل مردم بك عن طائفة من شعراء الأعراب اعترافاً بفضلهم، فهم شيوخ العربية، والأساتذة الرواد لكل من تفقه في اللغة، وقد ترجم لأربعين شاعراً منهم كالنابغة الشيباني، ومالك بن الريب والعتابي، وميسون بنت بحدل الكلبية زوجة معاوية وأم يزيد، ومزاحم العقيلي، وبيهس الجرمي، وحريث بن عناب، وعمارة بن عقيل، وناهض بن ثومة، والأبيرد الرياحي، وأبو نخيلة، وجرير، وغيرهم. ثم ألحق بهذه التراجم مختارات من أشعارهم في الحماسة والفخر والوصف والغزل والرثاء والمدح والهجاء، كما أورد شذرات من شعر ونثر فصحاء الأعراب ومعظمهم ممن كانوا يسكنون بادية الشام في العصر الأموي، كما عقد فصلاً خاصاً لما أثر عن الأعراب في الأدب والحكمة والوصايا والمواعظ، وفصلاً آخر لأقوالهم في البيان والفصاحة والبلاغة والخطب والأجوبة والأمثال، وذكر مجموعة منها رتبها بحسب حروف المعجم، وبين المناسبة التي قيلت فيها.

وهناك فصلان آخران تحدث في الأول منهما عن تعصب الأعراب للعربية، مستنداً في ذلك إلى ما ورد في كتب الجاحظ الذي كان من أشد الناس تعصباً للعرب ولغتهم وإلى ما ورد في كتاب الأغاني.

وتحدث الثاني عن تفضيل البداوة على الحضارة مستشهداً بأقوال القطامي والمتنبي وأبو العلاء المعري، وتحدث أخيراً عن الحنين إلى الأوطان في شعر الأعراب، وختم الكتاب بفصل قصير عن ملح الأعراب ونوادرهم، ورد معظمها على لسان الأصمعي راوية العرب المشهور.

لقد عمد خليل مردم بك إلى جمع النتف المتناثرة من أخبار الأعراب وأشعارهم في الكتب المتفرقة، وضم الأبيات المبعثرة حتى استطاع أن يأتي بسيرة وافية وقصيدة تامة للشاعر، ويؤلف هذا الكتاب الذي يدل على صبره وطول أناته، بالرغم من ندرة المظان في ذلك الوقت، وتشتت الأخبار في كتب التراجم، وفقدان المنهجية عند المؤلفين القدامى، أضف إلى ذلك أنه لم يسبق لأحد أن خص الأعراب بأي دراسة أو قام بجميع سيرهم ونوادرهم في كتاب، وإنما كانت النتف تبث عرضاً في الكتب المفترقة على سبيل الاستشهاد ليس أكثر.


الشعراء الشاميون


ضم هذا الكتاب سبعة من شعراء الشام الذين عاشوا في عصور مختلفة، وكانت تجمعهم مدرسة شعرية واحدة هي المدرسة الشامية التي تقوم على تهذيب الشعر، وإمعان الفكر، وإعمال الروية، وعدم الركون إلى أول خاطر يقع عليه الشاعر. وقد غلبت الصنعة الشعرية على أكثر الشعراء الشاميين منذ القديم حتى عرفوا بها، فهم يكرهون اللفظ الساقط والتراكيب المهلهلة، ولا يرضون للمعنى الشريف إلا اللفظ الشريف.

أما الشعراء الذين اختارهم ودرسهم دراسة جيدة فهم: عدي بن الرقاع، والوليد بن يزيد، والطرماح بن عدي، وابن حيوس، وابن الخياط، وابن عنين، وعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي، وكان قد قدم إلى المجمع العلمي العربي بدمشق من قبل دراسة موجزة عن شعراء الشام في القرن الثالث الهجري يوم انتخب عضواً فيه عام 1925 وهم: العتابي، وديك الجن الحمصي، وأبو تمام، والبحتري.

كان دافع الخليل إلى هذه الدراسة الصعبة الشاقة عن شعراء الشام، عاطفته الشامية المتأصلة في نفسه، فهو شامي عريق، أغرم بالشام وتاريخها، وبتراجم أهلها وسيرهم، وألم بكل شيء عنها، فكأن الشام عنده قصيدة مختارة من عيون الشعر، ودمشق فيها بيت القصيد.

اعتمد الخليل في دراسته الشعرية للشعراء الشاميين على النص وحده، أي على ديوان الشاعر المخطوط، فاستطاع من خلال قراءته أن ينفذ إلى البواطن الخفية للشاعر، إلى ثقافته العامة وخياله الشعري ولغته، والعصر الذي عاش فيه، وأعطى لكل شاعر من هؤلاء الشعراء السبعة صورة كاملة لمجتمعه السياسي والفكري والاقتصادي، وما لهذه العوامل من أثر فعال في حياة الشاعر.

ويلاحظ أن معظم الشعراء الذين اختارهم خليل مردم بك لم يسبق أن درسهم أحد من قبل دراسة أدبية بالمعنى الصحيح، بل ظلوا مغفلين بالرغم من علو منزلتهم الشعرية، ويعدو ذلك إلى العامل السياسي الذي لعب دوراً هاماً في طمس شعراء الشام، بعد انتقال عاصمة الخلافة إلى بغداد، إذ حاول العباسيون تشويه تاريخ بني أمية، ومحو آثارهم الأدبية والفكرية، فلا عجب إذا أتلف ديوان الخليفة الأموي الوليد بن يزيد، وزهد الرواة في حفظ شعره، تزلفاً لخلفاء بني العباس.

يعد كتاب «الشعراء الشاميون» من أفضل الدراسات النقدية المحققة، ويكفي أنه سلط فيه الضوء على شعراء كانوا في عداد المغمورين والمجهولين من قبل أكثر الأدباء في الأقطار العربية لفقدان دواوينهم، وانصراف أكثر نقاد الأدب عن الكتابة عنهم، فحمل الخليل هذا العبء وحده.


دمشق والقدس في العشرينات


هذا الكتاب يضم مجموعة من المقالات التي كتبها خليل مردم بك في أغراض شتى في عدد من الصحف والمجلات كـ «المقتبس»، و«ألف باء»، و«سورية»، و«لسان العرب» وغيرها في العشرينات من القرن الماضي، ووصف فيها غطرسة المستعمرين كما في مقالاته التي حملت عنوان «أيام فلسطين»، كذلك تحدث عن لغة الدواوين ومحاولة إصلاحها وعن الكتابة العربية والكتابة في الدولة الأموية والدولة العباسية، واستمرار ذلك حتى عصرنا الحاضر.

لا نعرف الدواعي والأسباب التي حملت الخليل على السفر إلى فلسطين بالقطار عام 1923، حيث رأى بأم عينه خطر الصهيونية الداهم آنذاك، ولمس آثارها الخطيرة فسجل مشاهداته بأمانة وصدق، وكانت هذه المشاهدات أقرب إلى المذكرات منها إلى البحث العميق الدقيق، فيها تفكه وطرافة، وفيها خفة روح، وفيها حوادث غريبة، كتلك الصدامات التي كانت تقع بين العرب والإنكليز المستعمرين الذين كانوا يفرضون سيطرتهم وهيبتهم بالقوة على السكان العرب لإرغامهم على السكوت والاعتراف بالأمر الواقع فلا يفلحون.

أما القسم الثاني من الكتاب فقد ذكر فيه ما شاهده من أحوال سورية أثناء مرافقته لرئيس الحكومة العربية أيام فيصل الأول، فتحدث عن النبك وحمص وحماة وحلب، وكل ذلك بأسلوب عربي مشرق تجلت فيه قوة السبك ورصانة العبارة، والمنتج المتين الذي يفيض بالعاطفة الجياشة لأشرف وأعرق مدينتين أحبهما خليل مردم بك، دمشق والقدس.


«لا أحب من غواية المرأة إلا....»


كتب خليل مردم بك مقدمة لمختارات ماري عجمي عام 1944، عن الرابطة الثقافية النسائية بدمشق: «هي أول فتاة في دمشق رفعت راية الأدب وجارت الرجل في ميدانه فأصدرت مجلة العروس وقامت على تحريرها سنوات طويلة وكتبت في غيرها من الصحف واشتركت في الجمعيات الأدبية وكانت من أقوى أركانها، ودرست الأدب العربي في الشام والعراق.‏ جمعت بين الصناعتين النثر والنظم، فلها المقالات والخطب والقصائد وعالجت الترجمة كما عالجت الإنشاء.‏ قلت إن الآنسة ليست بحاجة إلى التعريف وكذلك أدبها ولكن لي فيها وفي هذه المختارات من أدبها كلمة موجزة أريد أن أقولها: لا أحب من غواية المرأة إلا غوايتها في الأدب، وأكثر ما يعجبني من أدب المرأة، سحر الحياء، وهذان المعنيان ماثلان في الآنسة وفي هذه المختارات من أدبها».

ثم أنشأت الرابطة مجلة ناطقة باسمها دعتها «مجلة الرابطة الأدبية»، صدر العدد الأول منها في الأول من أيلول 1921، لكنها توقفت بعد العدد التاسع، لأن المستعمر الفرنسي أخذ يضيق الخناق على الرابطة والمجلة معاً، وهكذا انتشر عقد هؤلاء الأدباء قبل أقل من عامين على اجتماع شملهم.


ينبوع القصيدة وخالقها


لقد أنقذ الشاعر خليل مردم بك، القصيدة، من سجن العروض، البلاغة، الألغاز، والمحسّنات البديعية، ليضفي عليها الصفات الإنسانية، معتبراً الشاعر خالقاً للقصيدة: «إنّه مخلوق خالق، وروح خالد، يصوّر من خفقات قلبه، وخلجات ضميره، وإبداع فكره، أشباحاً ينفخ فيها من روحه فإذا هي من الخالدين. (....) ملك، أو جني، هبطت روحه من عالم الغيب فتمثلت بشراً سوياً، فهو مع بني الإنسان، ولكنه غريب عنهم فما يزال يصيخ إلى هيمنة الملائكة في السماء، أو عزيف الجن في الصحراء، ويستشف من وراء الأفق عالماً نورانياً، ويتبين في الجو مسارح أنسه الأولى، ومعاهد هواه القديم. (....) القطرة على الزهرة دمعة على خد، والغصن حيال الغصن قد يهفو إلى قد، والظلال أشباح، والنسائم أرواح، والعبير عبقة من ريح أحبابه، وفي الزهر بشاشتهم وفي البرق أشواق تشب».

النشيد الوطني السوري


حكاية النشيد الوطني السوري


كان هنالك إجماع على اختيار كلمات الشاعر خليل مردم بك ككلمات لنشيد الوطن، ولكن في عام 1938 أعلنت الحكومة السورية عن مسابقة لاختيار لحن لـ «حماة الديار» وشُكّلت لجنة خاصة لهذا الغرض فتقدم لهذه المسابقة عدد كبير من الملحنين، حيث قارب عددهم الستين ملحناً وكان من قائمة المتقدمين، الأخوان أحمد ومحمد فليفل من بيروت، وعلى ما يبدو لم يرق ذلك اللجنة.

وأمام رفض اللجنة استقبالهما لم يجدا من سبيل إلا اللجوء إلى السيد فارس الخوري الذي كان رئيساً لمجلس النواب السوري آنذاك حيث شكيا له اللجنة وردة فعلها، فطلب منهما سماع اللحن الذي أعجبه، وعلى ما يبدو فإن «الواسطة» لم يكن لها ذلك التأثير، لذلك لم يشأ فارس الخوري التدخل بعمل اللجنة بل طلب من الأخوين فليفل تعليم أطفال المدارس اللحن كنشيد وطني عادي لا كنشيد رسمي، وبهذه الطريقة انتشر النشيد واللحن على كل لسان وظل الأمر على حاله حتى انعقاد اجتماع سان فرانسيسكو الذي بحث استقلال سورية، حيث مثل سورية فيه فارس الخوري (قصة جلوسه على كرسي المندوب الفرنسي معروفة) وفي ذاك الاجتماع تم إقرار حق سورية في الاستقلال، ومن هناك أعلن فارس الخوري، أن النشيد الوطني الرسمي لسورية سيكون «حماة الديار»، ألحان الأخوين فليفل. وأثناء العرض العسكري الذي أقيم احتفالاً بالجلاء لجيشنا الفتي عام 1946، كانت مكبرات الصوت تذيع النشيد الوطني بلحن الأخوين فليفل.‏


حُمــاة الدّيــارِ عليكم سلام أبت أن تذِلَّ النّفــوسُ الكرام

عرين العـــروبة بيتٌ حَرام وعرش الشّموسِ حِمىً لا يُضام

ربوع الشــّـآمِ بروجُ العُـلا تُحاكي السّماءَ بعـــالي السَّنا

فأرضٌ زهتْ بالشّموسِ الوِضا سماءٌ لَعَمْـــرِكَ أو كالسَـما

رفيفُ الأماني وخَفقُ الفــؤادْ على علَمٍ ضـمَّ شَمْلَ البــلادْ

أما فيهٍ منْ كُلِّ عينٍ ســـوادْ ومن دمِ كُلِّ شَــهيدٍ مِــداد؟

نفــوسٌ أُباةٌ وماضٍ مجيــدْ وروحُ الأضاحي رقيـبٌ عَتيـدْ

فمِنّـَا الوليـدُ ومِنّـَا الرَّشيـدْ فلـِمَ لا نَسـودُ ولِـمْ لا نُشيدْ؟


ما من تلميذ أعظم من معلّمه


يذكر الشاعر نزار قباني أثر أستاذه الشاعر خليل مردم بك فيقول: « إنه لمن نعمة الله عليَّ وعلى شعري معاً، أن معلم الأدب الأول الذي تتلمذت عليه، كان شاعراً من أرق وأعذب شعراء الشام، وهو الأستاذ خليل مردم بك. هذا الرجل ربطني بالشعر منذ اللحظة الأولى، حين أملى علينا في أول درس من دروس الأدب مثل هذا الكلام المصقول كسبيكة الذهب: إن التي زعمتْ فؤادكَ ملَّها خُلقت هواك كما خُلقتَ هوىً لها، منعتْ تحيّتَها فقلتُ لصاحبي ما كان أكثرها لنا.. وأقلَّها. واستمر خليل مردم يقطف لنا من شجرة الشعر العربي عشر زهرات جديدة في كل درس من دروسه، حتى كانت ذاكرتنا الشعرية في نهاية العام بستاناً يموج بالأخضر، والأصفر، والأحمر. لقد جنَّـبَنا هذا الشاعر الكبير، بذوقه المترف وإحساسه المرهف، السير على حجارة أكثر الشعر الجاهلي، ونباتاته الصحراوية الشائكة، ودلنا على طرقات ظليلة، وواحات في الشعر العربي، أنستنا متاعب الرحلة. ومن حسن حظي، أنني كنت من بين التلاميذ الذين تعهدهم هذا الشاعر المفرط في حساسيته الشعرية، وأخذهم معه في نزهاته القمرية، ودلَّهم على الغابات المسحورة التي يسكن فيها الشعر. إنني أدين لخليل مردم بك، بهذا المخزون الشعري الراقي الذي تركه على طبقات عقلي الباطن. وإذا كان الذوق الشعري عجينة تتشكل بما نراه، ونسمعه، ونقرؤه في طفولتنا. فإن خليل مردم كان له الفضل العظيم في زرع وردة الشعر تحت جلدي، وفي تهيئة الخمائر التي كوَّنت خلاياي وأنسجتي الشعرية».


الخاتمة


توفي الشاعر العظيم خليل مردم بك في دمشق، في 21 تموز 1959، ودفن في مقبرة الباب الصّغير، بجوار محمد كرد علي، ومعاوية بن سفيان، وبقيت شلاّلات شعره ورذاذها، تبلّل شجر الياسمين، النّوافذ، الأحياء العتيقة، والشّرفات الخشبية الدّمشقية، شلاّلات تعشق الصّعود إلى العلا.


مؤلّفاته


ـ ديوان خليل مردم بك، طبع عام 1960 بعد وفاته.
ـ شعراء الشام في القرن الثالث الهجري (العتابي، ديك الجن الحمصي، أبو تمام، البحتري).
ـ شعراء الأعراب، 1978، وقد ضمّ أربعين شاعراً من شيوخ العربية وروّاد فقه اللغة، منــهم:النابغة الشيباني، مالك بن الريب، بيهس الجرمي، أبو نخيلة، جرير، مزاحم العقيلي، ميسون بنت بحدل الكلبية زوجة معاوية وأم يزيد.
ـ الشعراء الشاميون: ضم هذا الكتاب سبعة من شعراء الشام الذين عاشوا في عصـــور مختلفة: الطرماح بن عدي، ابن حيوس، ابن الخياط، ابن عنين، عبد الملك بن عبد، الرحيم الحارثي، الوليد بن يزيد، عدي بن الرقاع.
ـ سلسلة أئمة الأدب العربي: صدر منها : الجاحظ، إبن المقفّع، إبن العميد، الصاحب، الفرزدق.
ـ دمشق والقدس في العشرينات : ضم مجموعة من المقالات التي نشرها الصحف والمجلات في عشرينات القرن الماضي .
ـ الشاعر أبو نواس .
ـ الشاعر ابن الرومي.
ـ يوميات الخليل.
ـ رسائل الخليل الدبلوماسية.
ـ محاضرات الخليل في الإنشاء العربي.
ـ جمهرة المغنين.
ـ الأعرابيات.


المصادر


ـ مؤسسة الوحدة للطباعة والنشر.
ـ موقع المعرفة.
ـ موقع نزار.
- موقع شاميات.
ـ الموقف الأدبي.
ـ اتحاد كتاب العرب.
ـ جريدة زمان الموصل.
ـ المعرض الإلكتروني العربي الأول للناشرين والمؤلفين.
ـ مواقع إلكترونية.


إعداد: أميرة سلامة

اكتشف سورية

Share/Bookmark

صور الخبر

خليل مردم بك

خليل مردم بك

خليل مردم بك

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق

:

انا و اكيد كل عربي بشكل عام وكل سوري بشكل خاص فخورين بالأديب خليل مردم بك

حسن ابوعكليك:

خليل العروبة ابن الشأم ابن مردم عليك سلام

الأردن

نزيه الهندي:

انت الوليد وانت الرشيد من رحم جلق الشام العتيد

دمشق سوريا

محمد معتز الركابي السكري:

سقى الله تلك الأيام و حفظ الله لنا البلاد

النمسا

محمد مستو:

الشاعر عرف قيمة وطنه ولكن نحن لم نعرف مادمشق

سورية

خالدي وافتخر:

رائع يا ابن بلادي والله برفع فيك الراس

سوريا - الخالدية اعيش في السعودية

فاطمة:

شآم العروبة - عسى أن يقدّرها أيناؤها قبل فوات الأوان.

سوريا - الإمارات

:

ما شاء الله

سورية

:

ونحنا بكل فخر واعتزاز بنرفع راسنا بكل شعراء سورية الابية