عمر أبو ريشة
المحتويات
- مقدمة
- سيرة حياته
- ولادته
- نسبه
- والده
- إخوته وأخواته
- تعليمه
- تجربته العاطفية في إنكلترا
- عودته إلى حلب
- قصة انضمامه للسلك الدبلوماسي
- زواجه
- ثقافته
- تسلسل وظائفه
- مناصبه الفخرية وأوسمته
- وفاته
- أعماله
- أدبه وتأثيره على مسيرة الأدب
- الكلاسيكية الجديدة
- الرومانسية
- الذاتية والموضوعية
- الصورة البيانية
- البعد الإيقاعي
- الحوار الذاتي المسرحي
- الشعر القصصي وقصائد الحكاية المجازية
- المسرح الشعري
- عالميته
- أولاً – الخطاب السياسي في شعر عمر أبو ريشة
.
مقدمة
كنا مراهقين صغاراً أو ربما كباراً على وشك ولوج المرحلة الجامعية، حين التقينا ذلك «النسر» العجوز، أو ذلك الجبل الشامخ الذي ابيضَّت ناصيته، نعم التقينا «عمر أبا ريشة» في إحدى شوارع دمشق في حي التجارة حيث كان يسكن. كانت قد تقدمت عليه السنون، والهرم بات واضحاً عليه. كان لقاؤنا به أشبه بطقس ترحيب وإجلال لشخصه الكريم، وعطائه الكريم على مدار الأجيال، كنا كعصافير صغيرة تحلَّقت حول هذا «النسر» العجوز، نبتغي منه حكمة أو تعليماً نتوق إليه!!.
كنا آنذاك مراهقين، نركض بين وهاد الرغبة المستيقظة فينا، وبين قمم البحث عن الصوفية. ولعلنا آنذاك أو البعض منا انتابه ما يُسَمَّى بعمى الألوان، أي كنا نرى ونبحث عن الصوفية في كل شيء، وُخيِّل إلينا أن الصوفية هي كل شيء، وبتنا لا نرى سواها، وهكذا انتابنا عمى الصوفية. ربما كانت الحياة أوسع بكثير مما نتخيَّل، أو مما نستطيع أن نحصرها به، سواء في مفهوم أو تجربة!!.
هكذا إذن، كنا نشتمُّ عبق الصوفية في شعر أبي ريشة، وبالتالي غفلنا عن ذلك اليمّ الشاسع الذي تهدر أمواجه بدرر على شواطئ الإبداع، وغفلنا أيضاً عن تلك الينابيع الرقراقة التي تنساب من ذرى الجبال محمَّلة بصور شفافة، وموسيقى عذبة، وخيال خصيب، وتجربة إنسانية فريدة!!.
نعم، لا زلت أذكر لا بل حفظتُ في ذاكرتي، ذلك اللقاء التلفزيوني مع شاعرنا عمر أبي ريشة، في ذلك الوقت، حين كنا مراهقين. كان حديثاً جميلاً، ورافقني صوته وكلماته سنين طويلة لا تبرح ذهني، كان كلامه تأمُّلاً حول البسملة أي معنى «بسم الله الرحمن الرحيم»، حيث قال: «الرحمن هو اتساع الصفة أي الرحمة وشمولها كل شيء، أما الرحيم فهو ثبوت الصفة أي الرحمة في الله إلى الأبد». وفيما بعد، وجدتُ أن البسملة المسيحية والبسملة الإسلامية، إن صحَّ التعبير في ذكر بسملتين لأن البسملة واحدة، تصبّان في نفس المعنى والحقيقة التي أشار إليها شاعرنا، وأنهما في الحقيقة واحد!!.
والآن، وقد غادرنا عمر أبو ريشة، فقد ترك لنا في رومانسيته، وشفافيته، ألحاناً عذبة، وصوراً غزيرة، ربما كانت وستظل بالنسبة لباحثين كثيرين، بمثابة «جنّة عدن» حيث كان الإنسان الأول تحيط به الأشجار من كل صوب، هذه الأشجار التي اعتبرها بعض النسّاك، «أفكار الله»!!.
سيرة حياته
ولادته
يرى بعض الباحثين أن الشاعر نفسه أكّد أنه وُلِدَ في العام 1911 في عكا بفلسطين. في حين يرى آخرون أنه وُلِدَ سنة 1910 في منبج، وهي المدينة التي أنجبت البحتري، وأبي فراس الحمداني.
نسبه
«هو عمر بن شافع بن الشيخ مصطفى أبو ريشة. وقد كان شافع من أبناء الأمراء في عشيرة الموالي، وهم أصحاب مجد مؤثل وبأس شديد، انحدروا من آل حيّار بن مهنا بن عيسى من سلالة فضل بن أبي ربيعة من طيء، ونبت فيهم الشعر من قديم. وكان لهذه العشيرة قوة في عهد العثمانيين إذ حكمت أطراف المعرّة إلى حماة، وأرسل العثمانيون شافعاً إلى الآستانه لتلقي العلوم فيها، ولما حصَّل شيئاً منها، عاد إلى بلده وعمل موظفاً في الإدارة، ثم ترقّى إلى قائمقام في منبج».
«كما ينقل بعض الصحفيين على لسان عمر أن أجداده، أمراء الموالي ورؤساء قبائل الطوفان والعابد والمهنا، قد قدموا من الحجاز، فأسر السلطان رشاد أحدهم، الذي هو أحمد كبير قبيلة الموالي، لتمرده على الوجود العثماني في شبه الجزيرة العربية، حيث توجد قلعة أبو ريشة. نقل العثمانيون رهينتهم أحمد إلى مدينة استانبول، وعلى ضفاف البوسفور اكتسب جد الشاعر احترام السلطان وتقديره، فتحول الغضب إلى رضا، وانقلبت النقمة مودة، جعلت الحاكم يأمر بأن يوضع على عمامة أسيره ريشة محلاّة بكريم الجوهر، فأصبحوا يُدعَون بأبي ريشة».
والده
والده كما ذكرنا هو شافع بن الشيخ مصطفى أبو ريشة، وُلِدَ في القرعون على ما يروي عمر. وعلى الرغم أنه أصبح قائمقام في منبج والخليل، فإنه أمضى سنين طويلة منفياً أو دائم الترحال، وبعد عودته من المنفى أقام في حلب، حيث عمل في الزراعة، ثم هجر الزراعة، وقبل منصب قائمقام طرابلس. وكان شافع شاعراً مجيداً، فقد كتب عدة قصائد في رثاء شوقي وحافظ وعمر المختار.
===والدته===
والدته هي خيرة الله بنت ابراهيم علي نور الدين اليشرطي، وهي فتاة فلسطينية من (عكا)، أما أبوها فقد كان شيخ الطريقة الشاذلية <<«طريقة صوفية، أسسها أبو الحسن علي الشاذلي بتونس، وعنه انتشرت في شمال إفريقيا، وأذاعها بمصر مريده أبو العباس المرسي المتوفي بالإسكندرية سنة 1287م. تقوم في أساسها – كالطرق الصوفية الأخرى – على أذكار وأوراد». عن كتاب «عمر أبو ريشة والفنون الجميلة»، تأليف: د.أحمد زياد محبك.>>|[1]|في فلسطين. وعنها يقول عمر: «كانت طيَّب الله مثواها مكتبة ثمينة على رجلين، عنها حفظت الأشعار، والقصائد، والمطوّلات». كما يذكرها عمر بالتقدير والثناء، فيقول: «والدتي متصوفة منذ صغرها، أحاطتنا منذ صغرنا بعناية ذكية، وأشاعت حولنا جواً روحانياً، جعلنا لا نقيم وزناً للفوارق المذهبية، تربيتها أمدتني بقوة استطعت بها ولوج دروب الحب. فالضعف يجعل من يبتلي به أضعف من أن يحب».
ويتحدث عن جانب مهم منها، هو جانب الصوفية، فيقول: «عالم من الأنوثة زاخر بالحب مضيء بالرقة والحنان. غلبت عليها النزعة الصوفية، تشعر بالألم فتغني بصوتها الرخيم لتبدد الألم. أحبت من الشعراء المتصوفين علي وفا وبحر الصفا وعبد القادر الحمصي وحسن الحكيم». ويضيف: «لقد اتسع حديثها دائماً للحب المحدود والحب المطلق للذات الكبرى، وعلاقة الإنسان بها».
ومما هو جدير بالذكر أن «أم عمر كانت تروي الشعر وبخاصة الشعر الصوفي. وقد عرف عمر التصوف منها، وكذلك أخذ عنها نظرته إلى الدين والحياة والحب، وكذلك مفهومه للتصوف، وكلفه بالجمال، وصداقته للموت».
إخوته وأخواته
«اشتهر من إخوته وأخواته ظافر وزينب. أما ظافر فله ديوان شعر بعنوان "من نافذة الحب" طُبِعَ عام 1981، وأيضاً له ديوان ثانٍ "لحن المساء"، وأما زينب فكانت شاعرة جيدة، تهافتت كبريات الصحف على نشر قصائدها».
تعليمه
«يذكر عمر أن والده ألحقه بعد عودته من المنفى بمدرسة النموذج الابتدائية في حلب. كما يذكر سامي الدهان أن عمر التحق بالجامعة الأميركية في بيروت سنة 1924 لكي يتم دراسته الثانوية، وكان عمر التلميذ يُعْرَفُ بالخطيب والشاعر والمؤلف المسرحي قبل أن يبلغ الثامنة عشرة من عمره. كما أدرك أبو ريشة الشعراء الثلاثة الذين أنجبتهم الجامعة الأميركية، وهم "إبراهيم طوقان"، و"حافظ جميل"، و"وجيه البارودي" عن طريق الندوات التي كان يجتمع فيها إليهم أو عن طريق إدراكه لآثارهم أو بقايا شعرهم الغزلي المشترك». سافر إلى إنكلترا سنة 1929 ليدرس كيمياء الأصباغ والنسيج في مانشستر، لكنه على ما يبدو انصرف إلى الشعر يقرأ عيون الشعر الإنكليزي، وعلى الخصوص شعر شكسبير، شلي، كيتس، ميلتون، تنيسون، براونينغ، بو، غراي. كما أنه درس بودلير بوصفه شاعره المفضل، بالإضافة إلى بو، وسنأتي على ذكرهم أثناء دراسة الرومانسية في شعر أبو ريشة.
تجربته العاطفية في إنكلترا
نشر عمر في هذه الفترة من حياته قصيدة طويلة أرسلها الشاعر من لندن، عنوانها «خاتمة حب»، وهي قصيدة لها علاقة بقصة حب حقيقية عاشها الشاعر، وكانت تجربةً، خلاصتُها، تعلّقه بفتاة جميلة هي «نورما ابنة صاحب أكبر معامل النسيج في إنكلترا يومها، شقراء بعينين زرقاوين، أُصِيبَ الشاعر بمرض الأبو كعاب (وكان مرضاً معدياً وخطراً في ذلك الوقت) فلزِمَ فراشه، وقامت الفتاة الحسناء المُحِبَّة بخدمته لبُعْدِ أهله وأقاربه عنه آنذاك، وعندما شُفِيَ الشاعر، سافر إلى حلب، وعاد إلى حبيبته، فوجدها مصابة بمرض الأبو كعاب الذي لم تنجُ منه كما نجا هو رغم عناية أهلها الشديدة بها فماتت». "وكان شاعرنا قد منّى نفسه بالزواج بها، لكنه ما أن نال موافقة أهله على ذلك، حتى فوجئ بموتها، فارتد على نفسه كاسف البال حزيناً، وعبَّر كما ذكرنا عن قصته هذه بقصيدة «خاتمة الحب»، ومن أبياتها التي يذكرها د.سامي أبو شاهين:
أبصرُ الدهرَ ناشراً سِفرَ عمري ولسـانُ الآلام يقرا ويملي
طعنةٌ إثـر طعنةٍ إثـر أخرى نثرت هذه الحُشـاشة حولي
فتـأمَّلتُ فـي الحيـاةِ وفيما كنتُ أبني على الخيالِ وأعلي
فإذا مـوردُ النعيـم سـرابٌ وإذا حـائط المنى فوق رملِ»
«ولم يصدق عمر هول الصدمة. فوقف يتغزل بجمالها يحدثها وتحدثه وكأنها مازالت حية ورآها ازدادت حسناً وجمالاً بعد الموت. فالجفن مازال كالأمس، وإنما يكتنفه النعاس أو الحياء أو نشوة الدلال»:
ما أرى الموت مطفئاً شعلةَ الحُسْـ نِ ولا بالمزيل سحر الجمالِ
جفنـكِ اليـوم مثل جفنكِ بالأمْـ سِ كسـاهُ الفتور تيم المثالِ
فـكأن الإغماضَ فيـه نـعاسٌ أو حياءٌ أو نشـوةٌ من دلالِ»
لاشك أن هذه التجربة قد أدمت قلبه، وجعلته ينزف، ومما لاشك فيه أيضاً أنها أصَّلَت النزعة الرومانسية في شعره كما سوف نرى. كما يذكر الباحثون أن الشاعر أتقن اللغة الإنكليزية وأنه نظم بهذه اللغة مجموعة شعرية بعنوان «الجوّاب التائه» وقيل أنها طُبِعَت ثلاث مرات في إنكلترا.
عودته إلى حلب
«تغلب الشاعر في عمر على الصناعي فيه، فانقلب إلى دراسة الأدب الإنكليزي، ولا يُعْرَفُ كم من ذلك الأدب استوعبه عمر في إقامته القصيرة في بريطانيا التي غادرها دون إكمال دراسته، وعاد من بريطانيا في ربيع عام 1932 لقضاء العطلة الصيفية في حلب حيث مكث هناك منصرفاً إلى الشعر وحده دون أن تنازعه (الكيمياء الصباغية) أو سواها من تعدد اختصاصات حاول دراستها هناك». وتسلَّم إدارة «دار الكتب الوطنية» بحلب التي أثرى مقتنياتها وشجَّعَ فئات المثقفين في دعمها.
قصة انضمامه للسلك الدبلوماسي
«كان الزعيم حسني الزعيم، والأستاذان الصقّال والكوراني – والثلاثة من حلب – على إعجاب كبير بالشاعر عمر أبي ريشة، الذي كان يومئذٍ مديراً لدار الكتب الوطنية في الشهباء. وكانت الحكومة في حاجة إلى سفراء ووزراء مفوَّضين، فاقترح الأستاذ فتح الله الصقال أن يعيِّن الأستاذ أبو ريشة سفيراً لنا في البرازيل، فاعترض حسن جبارة، وقال: إن تعيينه مخالف للقانون، لأنه لا يحمل شهادة جامعية تخوّله هذا الحق، وتتيح له تسلم هذه السفارة. وعندئذ تصدّى له الأستاذ الصقال قائلاً: ولكن عمر أكبر من الشهادات».
زواجه
«تزوج عمر في التاسع من أيلول سنة 1939 من منيرة بنت محمد مراد، وكانت قد عاشت مع أسرتها في الأرجنتين، وكان والدها من كبار رجال الأعمال، ثم عادت إلى وطنها الأم لبنان مع والدتها وإخوتها بعد وفاة والدها، واستقرت في بيروت.
رافقت عمر إلى البلاد التي مثّل فيها سورية سفيراً زهاء ربع قرن. وكانت مثال السيدة النابهة في المجتمعات والأندية الثقافية. وأنجبت له ثلاثة أولاد هم رفيف وشافع وريف».
كما يذكر د.سامي أبو شاهين أن عمر تزوج في العام 1980 من سعاد مكربل، التي كانت له مثال السيدة النابهة والجميلة الملهِمَة، وأن هذا الزواج كان سراً.
ثقافته
يحدثنا عمر عن تأثره بوالديه في طفولته فيما كانا يتلوانه من الشعر الصوفي. وهو يقول في ذلك: «في البيئة المتصوفة، حيث نشأت، أُتيحَ لي الإصغاء، وأنا بعد طفل إلى أناشيد لم أكن أسمع مثلها في غير تلك البيئة، فأرددها برفقة أهلي، وأصدقاء أهلي، دون أن أدرك أبعاد معانيها».
كان الشاعر قد بدأ بعيون الشعر العربي ينهل منها ويتمثلها، إلا أن مصدراً جديداً أغنى ثقافته أثناء إقامته في بريطانيا، وفي هذا نسمعه يصرِّح: «خلال إقامتي في بريطانيا، أُتِيحَ لي مجال التعمق في دراسة الشعر الإنكليزي بصورة خاصة والشعر العالمي بصورة عامة».
والمصدر الأخير الذي يشير إليه د.جميل علوش، فهو تجربته الدبلوماسية التي جعلته على احتكاك بعدد من الأمم والشعوب، مما هيأ له مناخاً ليطّلع على لغات جديدة، ويذكر البعض أنه كان يتقن ست لغات أو أكثر، وأنه كان يرفض قراءة الشعر مترجَماً، فيصرّ على قراءته بلغته، وبالتالي مكَّنَته هذه اللغات الكثيرة التي أتقنها أن يطَّلِع على إنتاج أدبي وافر ومتنوع.
وعن تجربته في احتكاكه بالأمم والشعوب وأثرها في ثقافة الشاعر من جهة وشعره من جهة أخرى، ما يذكره أ.عبد الإله الملاح «كيف كانت الحكومات البريطانية في الهند تقفل معابد كاجوراو في وجه العامة، بدعوى فحش منحوتاتها وانحطاط تماثيلها، إلى أن استطاع سفيرنا أبو ريشة في الهند إقناع السيد جواهر لال نهرو، رئيس مجلس الوزراء هناك، بفتحها أمام جماهير الفنانين والمتفرجين، وكيف تمت بعد ذلك تسمية إحدى القاعات فيها باسم عمر أبي ريشة اعترافاً بفضله» وسوف نتعرض بتفصيل لقصيدة عمر أبو ريشة «معبد كاجوراو».
تسلسل وظائفه
1) عُيِّنَ عمر بعد عودته من إنكلترا مديراً لدار الكتب الوطنية في حلب، وبقي في هذه الوظيفة حتى سنة 1949، حين التحق بالسلك الدبلوماسي.
2) عُيِّنَ سنة 1949 ممثلاً لسورية في البرازيل.
3) عُيِّنَ سنة 1950 سفيراً لسورية في البرازيل (وزيراً مفوضاً في البرازيل).
4) عُيِّنَ سنة 1952 سفيراً لسورية في الأرجنتين.
5) عُيِّنَ سنة 1954 سفيراً لسورية في الهند.
6) عُيِّنَ سنة 1959 سفيراً للجمهورية العربية المتحدة في النمسا.
7) عُيِّنَ سنة 1961 سفيراً لسورية في الولايات المتحدة الأميركية.
8) عُيِّنَ سنة 1964 سفيراً لسورية في الهند.
9) أحيل سنة 1971 على التقاعد، فعاد إلى لبنان ليجعل بيروت مقراً له، ولكن تفاقم الأحداث فيها حال دون ذلك، فسكن فترة في دمشق، ثم انتقل إلى المملكة العربية السعودية.
مناصبه الفخرية وأوسمته
1) عُيِّنَ عضواً مراسلاً لمجمع اللغة العربية في دمشق سنة 1948.
2) عُيِّنَ عضواً في الأكاديمية البرازيلية للآداب.
3) منحته الأرجنتين الوشاح الأكبر.
4) عُيِّنَ عضواً للمجمع الهندي للثقافة العالمية، شغل فيه كرسي الأدب.
5) أعطته النمسا وشاح الثقافة.
6) منحته الجامعة العالمية بالتعاون مع الطاولة المستديرة لجامعة الآداب في العالم في توكسون أريزونا دكتوراه الثقافة العالمية في الآداب عام 1981.
7) وسام الاستحقاق اللبناني من الدرجة الأولى من الرئيس اللبناني الياس الهراوي.
وفاته
في يوم السبت 14 تموز 1990 رحل الشاعر الكبير عمر أبو ريشة إلى الدار الأبدية، وكان قد أُصِيبَ بجلطة دماغية، لزم الفراش على أثرها لمدة سبعة أشهر في مستشفى الملك فيصل في الرياض.
بعد الوفاة، نُقِلَ جثمانه بطائرة خاصة من الرياض إلى حلب حيث تم دفنه. وأُقِيمَت له مآتم التأبين في حلب ودمشق وبعقلين في لبنان «وكان عمر شغل الناس في حياته ومماته. إنه شاعر ألمعي بارز، قيمته محفوظة بين شعراء العصر الكبار، رحمه الله، وأجزل مثوبته».
أعماله
الشعر
1) ديوان «شعر»، حلب، 1936.
2) ديوان «من عمر أبو ريشة»، بيروت، 1947.
3) ديوان «مختارات»، بيروت، 1959.
4) مجموعة شعرية «غنيت في مأتمي»، دمشق، 1971.
5) ديوان «عمر أبو ريشة» (المجلد الأول)، دار العودة، 1971.
6) مجموعة شعرية «أمرك يا رب»، جدة، السعودية، 1980.
7) مجموعة شعرية «من وحي المرأة»، دمشق، 1984.
8) ديوان بالإنكليزية «التطواف Roving along» دار الكشاف، 1959.
المسرحيات الشعرية
1) مسرحية «ذي قار»، حلب، 1931.
2) مسرحيات «محكمة الشعراء، سميراميس، تاج محل، الطوفان، أوبريت عذاب».
ملاحظة: مسرحيتا «الطوفان» و«محكمة الشعراء» لم تُنشَرَا بالكامل، بل نُشِرَ بعض فصولها في مجلة الحديث. ومن المسرحيات التي كتبها ولم ينشُر منها سوى فصل واحد في مجلة الحديث مسرحية «سميراميس» كما كتب مسرحية شعرية أسماها «أوبريت عذاب»، كما تُذكَر مسرحية سابعة للشاعر عنوانها «الحسين بن علي».
الترجمة
«إيدي يوريدس»: مسرحية للمؤلف البرازيلي بدرو بلوك عربها أبو ريشة والياس خليل زخريا، ونُشِرَت في بيروت عن دار الحضارة، بدون تاريخ.
أدبه وتأثيره على مسيرة الأدب
الكلاسيكية الجديدة
تُعتبَر «الكلاسية الجديدة» في الأدب العربي المعاصر رجوعاً إلى مناهل الأدب العربي القديم وإحيائه وتجديده ومراعاة أصوله.
وعلى هذا، فقد أجمع النقاد على أن عمر أبا ريشة هو أحد رواد الكلاسيكية الجديدة الأساسيين في سورية، وأنه ممثل أصيل لها.
وفي هذا السياق يشير أ.جلال فاروق الشريف إلى أن الشعر الجديد إذا كان يجب أن يأخذ من الكلاسيكية الشكل إلا أن المضمون يجب أن يكون معاصراً تماماً في الفكرة الشعرية التي لا يحويها إلا الخيال المجنح.
«إنما جدارة إسهام أبو ريشة في الكلاسيكية الجديدة إنما تتجلى في تطويره للصورة الشعرية، وإذا كان الفن هو التعبير بالصورة، فإن جيل الرواد في التزامه بتقليد القدامى لم يتجل في التقيد بالعمود الشعري الخليلي تقيداً تاماً وحسب، وإنما في استعارة الصور الشعرية القديمة. فلقد استعادوا "السيف" و"الليث" و"الصحراء" و"القافلة" وجميع أدوات الشعر العربي القديم في الصور التي حاولوا فيها التعبير عن أفكارهم وأحاسيسهم. وكان على أبو ريشة كي يطور الكلاسيكية الجديدة أن يعبِّر بصورة جديدة أكثر معاصرة. ولقد اعترف له د.شوقي ضيف بهذا التجديد وأقره عليه على الرغم من اعتراضه على التجديد بعامة وبخاصة التأثر بالشعر العالمي المعاصر وبما يسميه "الاستيراد من الغرب"».
الرومانسية
أما أ.محمود منقذ الهاشمي فيشير إلى أن الشاعر عمر أبو ريشة بتناقضه الكامل مع الكلاسيكية التي تضم قيم العقل والنظام والواجب في المقدمة، وبإنكاره للدور المعرفي الفكري للشعر، وبتمسكه بأن الشعر خيال وعاطفة حدسية لا تستند إلى مقدمات فكرية معقولة، كان يصطدم على الدوام بالواقع فيشعر بالخيبة والوحشة والمرارة مما كان يؤجج فيه النزعة الرومانسية. ويقول: «ما أكثر قصائده التي عالجت هذه التجارب، ولا سبيل لإنكار أنه قدم فيها أجمل إبداعاته. وفيها تكمن أصالته الشعرية، فلا يشعر المرء أنه يستعير تجارب الآخرين، بل يتملكه الاقتناع بأنها صادرة عن معاناته وخياله الشخصيين».
«وبالتالي، فإن موهبته الشعرية تبرز أكثر ما تبرز في تلك القصائد الذاتية التي تنمّ عن مخيلة شعرية متميزة، وتجربة نفسية حطمته، فجعل من الحطام لوحات تفنن في تصويرها تصويراً يعتمد على الإيحاء والأجواء الغامضة البسيطة التركيب».
الذاتية والموضوعية
أما الذاتية والموضوعية في الشعر فيوضحهما د.محي الدين صبحي حيث أن تقسيم الشعر إلى ذاتي وموضوعي يسوّغه كون الأعراف الشعرية ذاتها جعلت من الشعر الموضوعي تناولاً شبه محايد لظواهر في العالم الخارجي، كالحوادث التاريخية ووصف الطبيعة أو الأطلال. في حين أن الشعر الذاتي يصف انفعالات الشاعر المباشرة فيما يتعلق «بأناه» الشعرية، علماً بأن مناطق الاشتباك والاختلاط بين الذاتي والموضوعي تكاد تكون أكثر من مواطن الانفصال والافتراق وخاصة عند الشعراء الحداثويين، أما الشعراء الكلاسيكيون فالفصل عندهم أغلب وأوضح!!.
الصورة البيانية
إذن، بعد أن توصلنا إلى مفهوم الذاتية والموضوعية، وأن الذاتية تنمّ عن مخيلة شعرية متميزة، فإن هذه الصفة الملازمة لشعر أبي ريشة يعبر عنها د.أحمد زياد محبك فيقول: « قصيدة "نسر" لأبي ريشة، كتبها وهو دون الثلاثين لتضيف إلى الوجدان العربي رصيداً جديداً قوامه صورة مرسومة بالكلمةۛ».
«لقد قُرِنَ شاعرنا بالرسام الذي يمسك بريشة ليخطّ صوراً مؤثِّرَة، ولاسيما أن التصوير أساس فنه، وهو تصوير يد صنّاع ماهر، حيث نجد الظل إلى الظل فلا نحس نشازاً بل نحس استواءاً وائتلافاً».
«لقد توقف أكثر من باحث أو ناقد – ممن عنوا بشاعرية عمر أبي ريشة– عند مهارته في رسم الصورة الشعرية، وليس أدل على هذا من مجاميعه الشعرية التي زخرت بصور ذات ألوان وظلال لا حصر لها، وهي جميعها تؤكد قدرة هذا الشاعر على رسم الصورة بالكلمة الحية الدالة. وممن انتبهوا إلى هذه الظاهرة البارزة في شعره د. شوقي ضيف الذي عدّه ممن نجحوا في رسم صورة شعرية متميزة.
«فكأنما له من اسمه حظ، فهو يرسم بريشته لوحات كبيرة تلمع فيها خطوط الاستعارات وألوانها وظلالها. ولعل ذلك ما يجعل ديوانه متعة حقيقية، فالشعر عنده ليس صوراً فارغة وإنما هي صور مليئة بالأفراح والأحزان».
يكاد شعره يكون متحفاً للصور، والشاعر لا يكتفي بأية صورة كانت يضمها إلى مجاميع صوره الشعرية بل إنه عميق النظر إلى الصورة «وكأني بالشاعر الكبير يعيش مع الأشباح ويقضي ساعات خياله مع الصور فيكسوها بالألوان والظلال ويجسِّم بها مشاهده الواسعة كأنها ألواح فنان رسام مصوِّر صنّاع، لا شاعر يعيش مع اللفظة ليربطها بأختها ويصنع منها شطراً يقفيه بقافية يرود في المعاجم طويلاً ليقع عليها. فلم يكن عمر يسعى وراء الألفاظ ولكنه يسعى وراء الصور».
عند هذا الحد، نستطيع أن ندلف إلى مفهوم الصورة البيانية الذي تطلعنا عليه د. وجدان عبد الإله الصائغ: «تُحدَّد الصورة البيانية على أنها "التعبير عن المعنى المقصود بطريق التشبيه والمجاز والكناية أو تجسيد المعاني" ويمكن تقسيمها إلى الصورة التشبيهية والصورة الاستعارية والصورة الكنائية».
وللإشارة إلى مظهر للصورة البيانية في شعر أبي ريشة نلجأ إلى دراسة جميلة للأستاذ محمود منقذ الهاشمي نتبين من خلالها ملامح الصورة الاستعارية.
الصورة البيانية في قصيدة «اقرئيها»
ويقدم أبو ريشة قصيدته بعبارة «أوراق ميت» يقول فيها:
ادخلي بالشـموع.. فهي من الظلمة وكرٌ فـي صدرها منحوتُ
وانقلي الخطو بـاتئـاد فقد يجفـل منك الغبـار والعنكبوت!!
عند كأسي المكسور، حزمة أوراق وعمر في دفتيـها شـتيتُ
احمليهـا، ماضي شـبابك فيها، والفتون الذي عليه شـقيتُ
اقرئيـها، لا تحجبي الخـلد عني انشريها، لا تتركيني أموتُ»
«روح الميت هي التي تتكلم في هذه القصيدة، إنها شبح رقيق يصاحب الحسناء المحبوبة إلى حجرة المحب. هذه الحجرة منسية، ويستعين الشاعر بالمعدن "الصدأ" الحسي الشيئي ليصف "النسيان" المعنوي الإنساني. والصمت مهيمن عليها، ويستعير الشاعر للسكوت المجرد للشيخوخة المجسدة، وإنها لاستعارة مؤثرة، إذ تجعلنا نرى في السكوت إجلالاً للمكان لأنه شاخ ولم يفارقه، ونرى في المكان الرهبة التي تثيرها الشيخوخة. والحجرة وكر منحوت في صدر الظلمة، إنها صورة تتلاءم مع رهبة المكان وشعريته وجوه الرومانسي الغريب. وهذه الصورة تبدأ بالجملة الإنشائية بعد الجمل الخبرية في البيت الأول، وفي هذا الانتقال إثارة لا تنكر، وهذه الجملة هي فعل الأمر: ادخلي بالشموع، والشموع بما هي أشياء من الماضي تثير الكوامن وتضفي على الصورة مسحة الابتعاد عن مألوف الحياة اليومية. ولم يقل الشاعر لها أن كل ما في هذه الغرفة عزيز عليه حتى الغبار وحتى العنكبوت، ولكنه عبّر تعبير الشاعر عن تلك المحبة التي يوليها لكل ما في الغرفة، حين طالب محبوبته أن تسير بخطوات متئدة لئلا يجفل الغبار والعنكبوت. فلماذا كل ما في الغرفة عزيز عليه؟ ماذا في هذه الغرفة؟ كأس مكسور، إنه كأس الخمرة التي كان يحتسيها وهو بعيد عن محبوبته، وإلى جانبه أوراق الشعر، إنها حزمة أوراق، ولكنها تختصر عمراً كما تختصر هذه القصيدة الكثير من المعاني الضمنية. لهذا كان كل ما في الغرفة عزيزاً عليه! إن هذه الحجرة المتهتكة تعيد الشباب، ويا للمفارقة!».
البعد الإيقاعي
«يتميز عمر أبو ريشة على وجه الخصوص بالصور الصوتية الخلابة التي يحبب إلى النفس جرسها ورونقها، وتنفذ انفعالاتها إلى القلب حتى قبل أن تنفذ معانيها. ويكاد المرء يشعر أنه قد استثمر كل الإمكانات الصوتية للأبحر الخليلية».
لإيضاح البعد الإيقاعي في شعر أبي ريشة، نستعير دراسة جميلة للدكتورة وجدان عبد الإله الصائغ، تقول فيها: «صاغ أبو ريشة صوره البيانية من خلال إحساس مرهف بالإيقاع وعبر ذائقة موسيقية متكاملة، ووعي دقيق بمستلزمات التواشج بين الصورة والإيقاع لخلق الدلالة الفاعلة على الحدث أو الموقف».
«ولأن ما يُدعى بالإيقاع الداخلي أو الموسيقى الداخلية، يبدو أقرب إلى الصورة البيانية وأدنى إلى طبيعتها، فستتناول الدراسة هذا الصنف من الإيقاع. ومن الجدير بالذكر أن الإيقاع الخارجي هو ما يتصل بالوزن والقافية، أما الإيقاع الداخلي الذي تتناوله هذه الدراسة فهو محاولة لرصد التواشج بين الصورة والإيقاع والكشف عما تتمخض عنه هذه الحالة فنياً ومعنوياً. وكان بعض الباحثين يرى أن الإيقاع الداخلي ينأى عن التحديد، فهو زئبقي الدلالة، تراه وتحس به إلا أنك لا تستطيع أن تعرفه على وجه الدقة. إلا أن باحثين آخرين رأوا لهذا الصنف من الإيقاع مظاهر التشابه أو التماثل أو التخالف في الحركات والسكنات أو الحروف إلى جانب أن كل إيقاع داخلي في قصيدة الشطرين يمكن أن يُرَدّ إلى مصطلحات البديع كالجناس والموازنة والترصيع ذي القافيتين أو التوشيح وغيرها».
«ومن الظواهر التي لها انعكاس على صور أبي ريشة البيانية، "التكرار" فهو يشكل ظاهرة ايقاعية واضحة في صور أبي ريشة البيانية». فمثلاً نراه في قوله:
«أما الظاهرة الايقاعية الأخرى فهي "الموازنة"، ومن شأن الموازنة أن لها رونقاً في الكلام، وهي تضفي جرساً بديعاً على العبارات مما يكون له أكبر الأثر في الإصغاء إليها». وفي هذا نرى قول الشاعر:
«إن الشاعر يعي هذه الهندسة الإيقاعية المتقابلة والمتناظرة من حيث طبيعة الألفاظ المختارة لبناء صورتيه الكنائيتين في هذا البيت، وقد تكرر حرف السين بما يُشبه الهمس الحزين مضفياً إيقاعاً خاصاً على الصورتين الكنائيتين».
«وكذلك، يضفي "الجناس" الذي هو "أن تتفق اللفظتان في وجه من الوجوه ويختلف معناهما" إيقاعاً محبباً على الصورة البيانية حينما يأتي في سياق متسق مع نسيجها. ويعد أحد الباحثين المعاصرين الجناس ضرباً من ضروب التكرار المؤكد للنغم». ومن هذا قول أبي ريشة:
«وهذا ما يسمى بجناس ناقص في لفظي (المضطرب) و(المضطرم). وتنتظم البيت صورة كنائية تشي بأن حبيبة الشاعر عادت ولكنها لم تعُد تحبه.
وكذلك "المقابلة" أي "أن يصنع الشاعر معاني يريد التوفيق بين بعضها البعض أو المخالفة فيأتي من الموافِق بما يوافِق وفي المخالف بما يخالف على الصحة"، فإن للمقابلة صدى إيقاعياً من خلال انعكاسها على الألفاظ». في مثل قوله:
وتتسق الصورتان الكنائيتان وتنسجمان كي تعبِّرا معاً عن أن الشاعر عاش الحياة بكل ما فيها من ألم وأمل.
ويعي أبو ريشة كذلك دور «توالي بعض الحروف وتتابعها» مما «يشكل حالة نغمية تُسهم في جلاء الصورة الفنية وتزيينها» ويُضفي إيقاعاً خاصاً على بعض صوره البيانية، فمثلاً نرى توالي حروف (الغين والتاء والنون) في قوله:
وهنا يشكل أبو ريشة صورة استعارية تصريحية ذات طابع سمعي في قوله (غنيتُها)، وتشع من هذه الصورة البيانية صورة كنائية معبِّرة عن شعره الذي قاله في جمال بلاده وروعتها. وقد أكسب تكرار حروف الغين والتاء والنون وتتابعها في نسق منسجم حركة وجرساً متسقاً مع سياق الصور البيانية ذات الطابع السمعي، فضلاً عن أن التكرار مع تفاوت في الاشتقاق في مطلع البيت ونهايته (غنيتُها، أغاني) قد أدى هدفاً إيقاعياً بيناً وبذلك بدت الصورة البيانية أكثر تعبيراً ودلالة.
أخيراً وليس آخراً، ثمة ملمح وهو «الترصيع» و«هو الاتفاق في نهايات الألفاظ»، ومنه قوله:
«يكرر أبو ريشة صوت الباء وهو حرف انفجاري أضفى جرساً قوياً على الصور الكنائية الأربع التي انتظمت البيت. فضلاً عن هذه المقابلة في معاني الألفاظ داخل نسيج كل صورة كنائية».
الحوار الذاتي المسرحي
يشير د.محي الدين صبحي إلى أن عمر أبو ريشة كان أول شاعر عربي استعمل بنجاح فائق تقنية «الحوار الذاتي المسرحي» وهي قصيدة تقوم على قصة أو عقدة، وعلى مغزى يشرح وجهة نظر الراوي في الحياة بحيث تظهر شخصية الراوي عبر الحدث الذي يرويه ويتفاعل معه. تضم قصيدة الحوار الذاتي المسرحي، إضافة إلى شخصية الراوي، الشخصية التي يتكلم عنها الراوي، وهي غائبة عن المشهد بطبيعة الحال، وشخصية ثالثة بالغة الأهمية هي شخصية المستمع الذي يصغي إلى ما يقوله الراوي ويقوم بحركات تشعرنا بوجوده دون أن يتفوه بكلمة واحدة.
«كما أن أعراف تقنية الحوار الذاتي المسرحي تقضي بأن يختار الشاعر شخصيات ومشاهد تاريخية بعيدة عن عصره، مما يمنح القصيدة عدة منظورات لكل من المتكلم والمستمع والشاعر والقارئ من خلال عصرين: عصر الحادثة المروية وعصر الشاعر المؤلف».
«وقصيدة "كأس" التي نظمها أبو ريشة عام 1940 تحلل تطورات الحالة النفسية التي أدت بديك الجن إلى قتل جاريته التي كان يحبها أشد الحب، وكيف هام على وجهه بعد أن قتلها. وكان ينشد بين شربه وبكائه أبياتاً من الشعر»:
لـي وقفةٌ معها أمــام الله، فـي ظل الجحيم
دعهـا! فقد تشقيك فيها لفحـة البغي الرجيـم
وتنفّـس الشـبح الشقي علـى جـذى حب أثيم
مـا لي أراك تطيل فيّ تـأمل الطرف الرحيم
أتخالني أهذي؟ وخمري صـحوة القلب الكليـم
اشرب! ولا تترك جراح السر تعوي في رميمي»
كما يشير د.محي الدين صبحي إلى أنّ عمر أبو ريشة لامس الشعر الغنائي في نقطتين: الأولى أن العديد من الحوارات الذاتية المسرحية تستعمل الأوزان الغنائية استعمالاً واضحاً، والثانية هي أن هذا الإلحاح على تحليل الذات وكشفها في الحوار الذاتي المسرحي، ولحظات الإخلاص المطلق فيه، هي جزء من صميم طبيعة الدافع الغنائي.
الشعر القصصي وقصائد الحكاية المجازية
وهنالك أيضاً محوران آخران يشير إليهما الدكتور صبحي في دراسته وهما «الشعر القصصي» و«قصائد الحكاية المجازية»، حيث أن «الشعر القصصي» هو الطريقة العربية التقليدية التي عالج من خلالها أبو ريشة سِيَر العظماء ورثاءهم. أما «قصائد الحكاية المجازية» ونراها في قصائد «نسر» (1938) و«بعض الطيور» (1964)، و«المرأة» (1961) و«بلبل» (1944). وتتميز قصائد الحكاية المجازية في شعر أبو ريشة بالتركيز والاختصار وسرعة الوصول إلى المغزى، بالرغم من قدرته على التطويل.
المسرح الشعري
يذكر أ.محمد اسماعيل دندي أن المسرحيات الشعرية أخذت تشق طريقها إلى الجمهور منذ حوالي قرن ونيف، وكانت الموضوعات التاريخية تغلب على هذه المسرحيات منذ ظهورها، ولعل أقدم ما نذكره مسرحية «المروءة والوفاء» الشعرية التي كتبها خليل اليازجي، وقد تابعه كثيرون، ولكن أحمد شوقي هو أول شاعر عربي لفت إليه الأنظار بمسرحياته التاريخية الشعرية، وكانت محاولات أبي ريشة في المسرح مبكرة، إذ نراه في عام 1929، وهو لما يبلغ العشرين من عمره، وشوقي نفسه مايزال في بداية تجاربه المسرحية، نراه يبادر إلى كتابة مسرحية بعنوان «ذي قار» إلا أنه لم ينشرها في العام ذاته، وإنما تأخر نشرها حتى عام 1931 إذ صدرت بحلب، وتناقلها طلاب المدارس، وراحوا يمثلونها.
يقول د.سامي الدهان: «العجيب أنه اتفق في النقد مع أبي نواس حين نال من شعراء عصره. وهكذا كان عمر في هذه الفترة شديداً عنيفاً في الهجوم على طريقة الشعراء لأيامه، يختلس الفرص للنيل منهم حتى أنه رسم مسرحية شعرية أسماها "محكمة الشعراء" جعلها في أربعة فصول، وحشد فيها الشعراء المشهورين. فانطلق كلاً منهم بما تخيل. فتناول شعراء العراق والشام ولبنان ومصر، فنَصَرَ بعضاً وخذل بعضاً في حواره، وفضح هذا الحوار طبائع كثيرة كانت مخبوءة. وقد جعل "أبولون" إله الشعر حاكماً بين الشعراء يستدعيهم ويسألهم ويحاورهم ويستمع إلى نقدهم بعضهم لبعض. و"منيرفا" إلهة الحكمة شاهدة ومعها إلهات اليونان يشهدن كذلك ويحاورن الشعراء. والمسرحية كلها بيان في طريقة المجددين والهجوم على طريقة القدماء في سخرية وهزء يلين ويقسو حتى لقد تناول كبار الشعراء بالنقد لمعانيهم وتقليدهم للقدماء».
«المسرحية التي بدأها وهو ما يزال شاباً نضجت متأخراً في مسرحيتي "تاج محل" و"سميراميس". وبذلك فتح أمام الكلاسيكية الجديدة الباب لتخرج من أسر القصيدة التي ظلت في الشعر العربي القديم الميدان الوحيد للعمل الشعري. إن عمر أبو ريشة بدلاً من أن يشق الطريق لهذا التطوير، فتح الباب واسعاً أمام الحركة الرومانسية، والتي وضعت الشاعر موضع التناقض مع المجتمع، الرافض لتقاليده المتحدي لقيمه. وبذلك كان عمر أبو ريشة الممهد الحقيقي لرومانسية من تلاه من شعراء محدثين».
قراءة في «أوبريت عذاب» (1935)
يشير أ.محمد اسماعيل دندي إلى أن هذه الأوبريت هي ثاني أعماله الدرامية المكتملة. وهو فن جديد وافد يقف مرابطاً على الحدود المشتركة بين الموسيقى والمسرح. والكلمة من أصل ايطالي (opera) وهي تعني تأليفاً موسيقياً تمثيلياً، يُبْنَى على رواية أو أسطورة أو قصة، وهي لا تخلو من الحوار الكلامي، وراجت في القرن الثامن عشر. أما الأوبريت، ويعود الفضل بها إلى «موزارت»، فهي أوبرا صغيرة، تطلق على الرواية الغنائية الفكاهية، وتعد ضرباً من ضروب الأوبرا الهزلية إذ يتخللها التمثيل والحوار المسرحي.
تدور أحداث الأوبريت في إطارها العام، ضمن ما كان يعرف في المسرح الأوروبي باسم تركيبة المثلث (الزوج والزوجة والعشيق) وتجمع في أحداثها المرح والمواقف الهازلة، إلى جانب المواقف المؤلمة، وتشمل وجود أشخاص متناقضين في طبائعهم. إن جميلاً الرسام هو نموذج الفنان المثالي، الذي يشغله فنه عن كل شيء في العالم، ويعتبر هزيمته في الحياة أو نصره فيها، رهناً بما ينتج من فن يرضيه، ويقنع طموحاته إلى الخلق والإبداع، أما نزار فهو الإنسان العصري الذي تشغله متعه وملذاته التي يشتريها بالمال، وينفق في سبيلها ما يراه ضرورياً، أما القيم والمثل، فقلما يوليها الاهتمام، وتقف المرأة سعاد مترددة مضطربة، تجنح مرة إلى الفن والمثل، فتعشق الفنان وتحاول إرضاءه، وتجنح مرة أخرى إلى المظاهر المادية، والمال، إلى درجة أنها تبيع جسدها بثمن بخس، ويشتد التناقض في نفسها، فتندفع إلى الانتحار إذ لم تستطع التوفيق بين المطلبين: المادي والمثالي.
هذا هو المجمل الذي تقوم عليه الأوبريت، حيث تلوح لنا شخصية الزوج جميل الذي احترف الفن، وأحب سعاد، ورسم لها صورة، وضع فيها كل جهده، ولكنه أحس بأنه لم يرسم سوى المظهر الخارجي، أما الروح فظلت نائية عن ريشته فهتف متألماً:
كـأن حـدود الفنون انتهت وما بلَّغتني، مدى مطمعي»
ويعبر عن تأمله بها فيقول:
أما كيف باعت سعاد جسدها، فيلوح من خلال خيانة نزار لصداقته مع جميل، خصوصاً أن الأول كان يحبها قبل زواجها من صديقه جميل، ولما كان يعرف مواطن ضعفها، فقد تسلل من خلالها ومارس إغراءها بالذهب الذي لوّح به نزار ممثلاً في خاتم ذهبي جعلها تتردد تردداً يشير إلى سهولة الانقياد، وهي تناجي نفسها قائلة:
ولكن زوجها جميل يعود مصادفة إلى البيت فيجدهما في حالة عناق. وهنا يشير أ.توفيق صايغ إلى أن جميلاً لا يقابل توبة زوجته وندامتها المريرة بغير التهكم والسخرية، فيجعل حياتها جحيماً. وتختتم المسرحية كما يلي: «"تنهض بجنون" "جميل بسكون": جرى سمها يعيث بإحنائها كيف شاء. "ترمي سعاد بنفسها من النافذة، جميل يضحك ضحكة وحشية ثم يجلس بسكون أمام صورة فتاته ويبدأ بإتمامها". "الستار"».
وأخيراً، يشير أ.محمد اسماعيل دندي إلى أن ما أسماه عمر «أوبريت عذاب» يصلح مسرحية ذات فصل واحد، ولكنه قلما يصلح للعرض الموسيقي والتمثيل في آن واحد. وربما كان الأمر الأكثر قبولاً في التعامل مع الأوبريت المذكورة، هو أن تقرأ باعتبارها قصيدة درامية مخصصة للقراءة وحدها.
عالميته
يذكر الباحثون إلى أن عمراً قد تسابقت الجامعات توطئه منابرها وترهف إليه مسامعها. يتكلم بفصحاه بين الفصّاح، ويحاضر بثلاث لغات أعجمية بين الأعاجم، ويقرأ آداب سبع أمم بألسنتها من غير لوثة ولا التواء، وينظم بالإنكليزية ديواناً يبزّ به شعراء اللغة الأقحاح.
أولاً – الخطاب السياسي في شعر عمر أبو ريشة
«لقد شب عمر أبو ريشة وسورية في نضال دامٍ مع الفرنسيين، والشرق في ثورة لاهبة ضد المستعمرين فكان لذلك أثره في نفسه، واتجه بشعره في تصوير كفاح الأمة العربية». هذا، ناهيك عما شهده من أحداث جسام حاقت بالمنطقة العربية، منذ اتفاقية سايكس بيكو، ووعد بلفور عام 1917، وغدر الحلفاء، مروراً بثورة فلسطين عام 1936، وصولاً إلى النكبة عام 1948، واستفحال هزيمة العرب فيما أسموه بالنكسة عام 1967، ناهيك أيضاً عن عمله الدبلوماسي على مدار ربع قرن تقريباً، كل هذا دمغ شعره بخطاب سياسي لا يمكن تجاهله!!.
كما أن نزعته الرومانسية تجلت أيضاً في شعره السياسي الذي اتخذ طابع الرفض والتحدي لممارسات السياسيين العرب، ولمواقف الضعف والتخاذل في القضايا القومية كالقضية الفلسطينية.
فموقفه من بلدان النفط العربية خصوصاً نراه حاضراً على سبيل المثال لا الحصر في قصيدة «هكذا»، وهي لاشك تعبر عن صرخة وجدان العربي تجاه أنانية قادته وعبثهم، ربما هذه الصرخة نراها حاضرة لدى الشعب الفلسطيني، فنحن سمعنا منذ بضعة شهور ما تناقلته وسائل الإعلام، حين انقطع عن هذا الشعب الجليل خصوصاً في القطاع، إمدادات الوقود، وأصبحت المادة البديلة هي «الزيوت النباتية» لإدارة محركات السيارات في محطات الوقود، وكاد هذا الشعب الذي يعيش ويلات الحصار والتهديد بالقصف العشوائي، أن يعيش مأساة حقيقية، والشعوب الأخرى نائمة، ومن مظاهر هذه المأساة ما سببه تلوث الهواء الذي بدأ يسبب أزمات تنفسية بسبب الزيوت النباتية المستعملة، وفي الوقت ذاته سمعنا عن أحد الذين باعوا ضمائرهم من دول النفط، يقدِّم هدايا من النفط الخام إلى أميركا وربما إسرائيل أيضاً!!.
هذه الصرخات تتردد بين الحين والآخر في بلداننا العربية. ومنذ ما يقرب من نصف قرن نشهد هذه الصرخة عند شاعرنا عمر أبو ريشة، فهاهوذا يقدِّم قصيدته «هكذا» قائلاً: «في ليلة واحدة أنفق أحد رعايا المحميات البريطانية ستين ألف دولار على عشيقته».
يقول الناقد ايليا الحاوي: «الشاعر يشهِّر بأمراء الخليج الذين فاض عليهم المال، فذلوا به وهانوا واقتصرت حدود دنياهم على كأس الشهوة ومضجعها. أما الفروسية فقد اضمحلت. والقصيدة تجري في سياق من الكنايات التي توحي إيحاءها، كدأبه بين ماضي المجد والكبرياء والفقر، وقد تكنى عليهما بالخيل والخيام، وحاضر التهتك، وافتقار الكرامة، وقد مثل عليهما بالكأس والمضجع. وهو يحلم بالعربي القديم الفارس وخيمة الفقر والكبرياء، وليس في ذلك دفع للتقدم والحضارة وتحريض على عدم الأخذ بالعلم، وإنما هي عودة إلى ينبوع البطولة الأول، إلى الإيمان بالبسالة أي القوة في سبيل الحق، لإنقاذ الإنسان العربي من عاره. وعار الأمة يبدو في شعر عمر كعاره الشخصي، كأنه يحمله وحده». يقول في القصيدة:
منتهى دنياه، نهـدٌ شـرسٌ وفمٌ سـمحٌ، وخصرٌ طـيِّعُ
بـدويٌّ، أورق الصـخرُ له وجرى بالسـلسـبيل البلقـعُ
فـإذا النخوة والكِبَرُ علـى ترف الأيـامِ جـرحٌ موجعُ
هانت الخيلُ علـى فرسانها! وانطوت تلك السـيوف القُطَّعُ
والخيـام الشمُّ مالت، وهوتْ وعوت فيهـا الريـاح الأربعُ
....
قال يا حسناءُ ما شئتِ اطلبي فكلانـا بالغوالـي مولـعُ
أختك الشـقراء، مدَّت كفهـا فاكتسـى من كل نجم إصبعُ
فانتقي أكـرمَ ما يهفـو لـه معصـمٌ غضٌّ وجيدٌ أتلـعُ!
وتلاشى الطيب من مخدعه وتـولاّه السـباتُ الممتـعُ
والذليـل العبد، دون الباب، لا يغمض الطرفَ ولايضطجعُ!
والبطولات، علـى غربتها، فـي مغانينـا، جيـاعٌ خشَّعُ
هـكذا، تُقتحم القدسُ علـى غاصبيهـا، هكذا تُستـرجَعُ!!»
إذن، يصل الشاعر إلى البيت الأخير من القصيدة، وهنا لبّ القصيد ومفتاح القصيدة، أو حجر الأساس الذي يقوم عليه بناء القصيدة الذي بدونه ينهار البناء كله!!، نست