سارة شمة في غاليري آرت هاوس 2011

17 كانون الثاني 2011

تبحث دائماً عن الصعب والمختلف في حالات لم تعد خاصة

افتتح يوم الثلاثاء 11 كانون الثاني 2011 معرض للفنانة سارة شمّة في غاليري آرت هاوس بعنوان «ولادة» وضم 25 عملاً زيتياً بمقاسات مختلفة.

المعرض تناول الإنسان بحالاته المختلفة كما في أعمالها عادةً، حيث قدمت في الكويت عام 2009 معرضاً بعنوان «حب»، دعت إليه مجموعة من الأصدقاء وبعض المهتمين إلى مرسمها لمشاهدة الأعمال قبل مغادرتها، سارة التي اختارت صورتها كأول موديل ملاذاً لها عندما بدأت الرسم كمحترفة بعد تخرجها من كلية الفنون في العام 1998، هي مازالت إلى اليوم ترى الآخرين من خلال تلك الصورة التي تحوّلت بعد ذلك إلى عالمها الذي يحتوي كل الأشياء وبخاصة تلك العلاقة بالآخر، أو بالرجل الذي اختصرته بشقيقها في مرحلة سابقة، واليوم بات الزوج الشريك الأقرب إليها في المنزل كما جميع مفاصل الحياة التي أصبحت تعنيها اليوم أكثر، وخاصة بعد أن انضم إليهما الوليد الأول، ليأتي المعرض بـعنوان «ولادة» .


التشكيلية سارة شمة

الولادة فيض الحياة، أو التحول من حالة إلى أخرى، وهي التي استبقت عملية الولادة فرسمت الطفل في حالات عديدة، أول ما تخيّلته جنيناً في بطن رجل ورسمته في إحدى لوحاتها قبل سنتين، بعد ذلك عادت لترسم نفسها في أكثر من وضعية وهي الحامل هذه المرة، هذا الموضوع الذي كانت عالجته سابقاً وحصلت على الجائزة الذهبية في بينالي اللاذقية العام 2001 على لوحتها «عارية حامل»، بينما اليوم وبعد الولادة فكانت المفاجأة أكبر، بل مغايرة لتوقعاتنا، لقد شكّل المعرض لمعظمنا صدمة ليس في موضوعه، بل في حقيقة ما تضمّنه المعرض من حالات لم تعد خاصة بفعل تجسيدها لتلك اللحظات أو المشاعر التي فاضت بها نفسها أثناء فترة الحمل وما تبعها من تحولات فيزيولوجية، أسرّت بها للوحتها التي طالما بادلتها تلك المشاعر لحظة بلحظة من الحب إلى الحمل إلى الولادة، وما تخلّلها من محطات ومفاجآت وأسرار نشرتها جميعاً وبأمانة على السطح الرحب لقماشاتها التي فاضت بكل ما يمكن أن يفاجأ حتى الفنانة نفسها : «أمتلكُ أساساً فطرياً للوصول إلى حالة التأمل، وأصلُ إليها عبر الرسم، والاستماع إلى الموسيقى، والطبيعة، وعبر الإنصات إلى رائحة الهواء، وبالحب والمحبة أصلُ إلى حالةٍ روحية عالية يمكنني تسميتها بما يشبه النيرفانا أو حالات التأمل الصوفية، وتلك الأحوال هي ما ترتديه لوحتي. فأنا أعمل بشكلٍ غير واعٍ أو لاشعوري، وهكذا تتمّ عملية الإبداع لديّ، فهي تخضع لهذا الاتحاد بكلّ شيءٍ ولا شيء، ومن هنا فأول من تفاجئه لوحتي هي أنا».


من لوحات معرض «وِلادة»

شما تعتبر الفن قضيـتها و خلاصها من الفوضى التي تسود العالم بتناقضاته، كم تشبه سارة لوحتها، خاصة عندما اختارت الإنسان موضوعها الأساس، فبدأت برسم وجهها وكرّرته مرّات عديدة وبأساليب مختلفة، تُظهر في كلّ مرّة حالة محدّدة، أكثر ما تعبّر عنها العيون التي غالباً ما تعكس أصدق المشاعر والأحاسيس في تلك اللحظة من غير ادّعـاء ولا رتوش، وبمقدرة فنية كبيرة تتضمّن بعض الفلسفة لتصيغ من خلالها مشاهدها بواقعية مشوبة بالسحرية أو بالسريالية في كثير من الأحيان، لتضفي على العمل بعض نزقها مثيرة انتباه المتلقي وشهيّته إلى اكتشاف أسرار تلك اللحظة التي اختارتها الفنانة بدقـّة، مضمّنة من خلالها أقصى حالات التعبير الممكنة والأكثر حساسية وملامسة للحالة الداخلية والنفسية لشخوصها. تقول سارة :«أدخل إلى أعماقي أكثر وأكثر لأصنع لوحة ، أو لأجدها هناك»، وفي مكان آخر تقول:«لا قيمة للحياة بدون فنائها،وعندما تكون أنت، تكون صنعت شيئاً خاصاً وفريداً». وعندما يكون ذلك الشخص «هي»غالباً ما يكون تعاملها مع أبيض القماش أكثر صراحة وصدقاً،ونرجسية في نفس الوقت، كونها تنقل مشاعرها هي، وتعبّر بالطريقة التي تناسب الحالة في تلك اللحظة تماماً التي ترسم فيها ذاتها، بما تعني من واقع افترضته مسبقاً، أو أحلام تعيشها، أوهام، ومستقبل تساهم في رسم معالمه اليوم، وماض بما يحمل من نجاحات، وخيبات أحياناً، وغيرها من المشاعر التي تختلط في تلك اللحظة من الزمن، لتظهر جميعها بنفس الأهمية على سطح اللوحة بتكثيف شديد وفنية عالية بكل المقاييس .

من يتعرّف إلى سارة أكثر يكتشف أهمية علاقتها بالموسيقى وارتباط ذلك بعملها الفني، فهي مثلما تجيد الاستماع إلى موسيقاها المفضـّلة، تجيد الاستماع إلى الآخرين بإصغاء واهتمام شديدين، وهي بكل الأحوال تفضّل الرسم على التحدّث. «لا أحاول أن أقول شيئاً، بل أجد نفسي عبّرت عن حقائق معيّنة من خلال لوحة».

إذاً فأكثر ما يميّز شخصية سارة شمـّا، جدّيتها وإخلاصها لمشروعها الفني، والذي برأيها لا ينفصل عن الحياتي بشيء، وهي المتفرّغة تماماً للرسم والاستماع إلى موسيقى ترى فيها محرّضاً على الإبداع، ترسم مباشرة من غير «اسكتش» أو تحضير مسبق، تبدأ مشاغبة وعنيفة، وبفرشاة عريضة ومؤثّرة وغالباً بالأسود أو بالداكن من الألوان، تبحث عن الإنسان أو عن ما افتقدت فيه من أحاسيس ومشاعر وصدق، لا تلبث أن تهدأ قليلاً مع بداية ظهور الشكل أو إطلالاته والذي يعلن عن نفسه تدريجياً، يترافق هذا التطوّر باستعمال ألوان وفراشٍ جديدة تناسب مراحل أنجاز العمل حتى نهايته، والتي تحتاج فيها أحياناً إلى استخدام ريشة ألوان من شعرة واحدة تصيغ فيها رموش العين، أو ترسم بمهارة خيوطاً دقيقة غالباً ما تتكرر في لوحاتها بوضعيات ولغايات متباينة، أكثرها مباشرة برأيي دخول اللوحة بواقعيتها السحرية إلى فضاءات الحلم والخيال. تقول سارة عن الفن: «أن هدفه إثارة تساؤلات ورؤى جدلية، لذلك ارفض التكلس في مدرسة واحدة، أجد نفسي في السريالية وأعشق التعبيرية والتجريد».


من أعمال التشكيلية سارة شمة
في معرض «وِلادة»

سارة شمّة اليوم في معرضها «ولادة»، تؤكـّد كما في كل معرض أنها الفنانة الواقعية بامتياز، تلك الواقعية السحرية، هي تخيلية أيضاً بجانب كبير من تداخلها مع السريالية والتعبيرية والتجريد في آن، والتي عُرفت وتميّزت من خلالها عن فناني جيلها، بالإضافة إلى خصوصية الموضوع الذي اختارته منذ البدايات الواعية في تجربتها وإخلاصها له، كل ذلك مجتمعاً لا شكّ حقـّق تلك المصداقية لتجربتها القصيرة نسبياً والغنية بمحطات نجاح عديدة، جعلتها محطّ دهشة واهتمام المتابعين للحركة التشكيلية السورية والعربية خلال العشرة سنوات الأخيرة .

وهكذا تتابع الفنانة سارة شمـّا بحثها عن المختلف دائماً والصعب ضمن سياق تجربتها التي بدأت تتوضـّح معالمها أكثر في هذا المعرض من خلال ما عودتنا عليه من جرأة في معالجة موضعها الخاص، ربما كانت تلك إحدى الميزات الهامة التي تجعل سارة دائماً المختلفة والخارجة عن الهوامش التي ما زالت تؤطـّر عدداً وفيراً من تجارب فنانين معروفين في المحترف التشكيلي السوري اليوم . لطالما امتلكت سارة شمّـا موهبة الاستماع ومقدرة الرسم أكثر من التحدّث، فلا بدّ أن نعترف بأن صوتاً قوياً أصبحنا نسمع بوضوح رجع صداه من خصوصيته وتميّزه في الساحة التشكيلية اليوم، مثلما يسمعه من لا يحبه أيضاً، وكما لم يكن صدى أحد من قبل بهذا الوضوح . أنه صوت سارة شمّـا التي ما زالت تلوّن بالضباب ما نشاهده في الحلم من أمنيات، وهي ترسم بعضاً من واقعنا السريالي بخطوط أكثر قساوة وربما أكثر مرارة، لكن لا بدّ أن تترك تلك الخطوط والألوان في الزمن القادم أثراً طيباً.


==
* فنان تشكيلي


غازي عانا* – دمشق

اكتشف سورية

Share/Bookmark

صور الخبر

سارة شمة في غاليري الآرت هاوس دمشق 2011

من أجواء المعرض

من أجواء معرض التشكيلية سارة شمة في غاليري آرت هاوس

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق