جورج بيلوني ومعرضه في آرت هاوس 2010-2011

01 كانون الثاني 2011

يقدم اندهاشاته بالإرث الفني والحضاري لإنسان المنطقة السورية

تعيدنا لوحات جورج بيلوني في غاليري آرت هاوس نهاية 2010، إلى زمن لم يكن فيه بعد الرسم غاية للفن أو وسيلة للإبداع، بل لغة أو أداة تعبير عن هواجس الإنسان لبلوغ غاياته، إن ما عرضه الفنان من لوحات تشبه نقوشاً على ألواح من الطين المشوي، أو محفورات على جزء من جدار، تلك الكتابة أو ذلك الرسم الذي كان دائماً أقل تزييناً وألواناً لإيصال الفكرة أو الرسالة بأقل وقت وجهد، وأيضاً ليتم فهما من قبل الجميع في أي مكان أو زمان مفترضين.


من أجواء معرض التشكيلي جورج بيلوني
في آرت هاوس

تلك الجدران التي حفظت وحافظت على أسرار وأفكار هؤلاء البشر في كافة أصقاع الدنيا منذ آلاف السنين، والتي ما زالت تدهشنا إلى اليوم من سحريتها وغموضها، يعيدنا جورج بيلوني اليوم -كما عوّدنا في معارضه السابقة- إلى تلك التجربة الإنسانية العظيمة حيث يسجّل على تلك المربعات الكبيرة من القماش المُعالج اندهاشه بتلك الإبداعات، مُبدياً رأيه ومُسجلاً بأمانة وصدق ظاهرين في أكثر من مشهد انطباعاته كمصوّر حول تلك الأحداث، ومنها سيرة السيد المسيح «الإنسان»، جامعاً تلك المشاهد في كادر واحد تزيد مساحته على ستة أمتار مربعة، يتوزّع على أربعة أجزاء يفصل بينها عارضان من الخشب على شكل صليب، يضمّ كل جزء منها مجموعة من اللوحات يعكس بعضها تصوّراً خاصاً بل تعبيراً محدّداً عن حالة معينة بذاتها لوجه السيد المسيح، بالإضافة إلى رؤية الفنان الخاصة على شكل سرد بصري مؤثـّر وآسر في المربعات التالية من تلك الجدارية، معبّرة عن افتراضه حول تفاصيل أحداث يوم الجمعة العظيمة.

هذا الموضوع، ومن جانبه الديني بشكل خاص، لم يشكـّل للفنان جورج بيلوني في معرضه هذا، كما ولا في أي مناسبة عرض سابقة أية غاية أو قصد بحدّ ذاته، أكثر من اعتبارها حجة ليقدم من خلالها تلك الصياغة التقنية التي تفرّدت بها تجربته منذ البداية، مُركـِّزاً على الحالة الفلسفية والروحانية لشخوصه -أبطال مشاهده الأسطوريين- من خلال أجواء افتراضية أقرب إلى الحلم منها إلى الحقيقة، أرادها الفنان هكذا ليوحي ربما للمُشاهد ببعديها الزماني والمكاني المنتميين في جذورهما وبامتياز إلى الإرث الثقافي والحضاري للمنطقة السورية.


من أعمال جورج بيلوني

تعكس لوحات الفنان جورج بيلوني للوهلة الأولى ولو تقنياً حسّاً أيقونياً عالياً، من الحالة الروحانية التي تفيض من كوادرها على اختلاف مضمونها أو موضوعها المرتبط جدلياً بالزمن أو تاريخ الحضارات السورية حتى العام 31 ميلادي، السنة التي سلـّم فيها السيد المسيح الروح لخالقها فداءاً وخلاصاً للبشرية، هذا التأريخ الفاصل بين حياة السيد المسيح على الأرض وفي السماء، جانب هام برأيي عالجه الفنان بحساسية عالية وخصوصية غلـّب عليها الحالة الإنسانية والروحية على الدينية، فرسم أكثر من وضعية لوجه السيد المسيح «السوري»، معبّراً في كل مربع منها عن واحدة من تلك الحالات الخاصة المرتبطة بلحظة ما من التي سبقت فعل الشهادة، كالتأمّل، الحزن، الشرود، التألـّم، والتسليم، فنلاحظ هنا أهمية استخدام اللون الواحد في إظهار قيم الغرافيك التي أضافت كثيراً من التعبير على تلك الوجوه، ومعوّضة بذلك عن درجات اللون بالخطوط القوية والمختزِلة للتفاصيل، حيث حدّد من خلالها معالم الشكل، بالإضافة إلى بعض الكتابات والرموز والزخارف والأرقام والأختام باللغتين العربية والسريانية، مستخدماً جميع تلك العناصر والمفردات ودلالاتها من أجل صياغة تلك المربعات بأفضل حالاتها كلوحة معاصرة، ومستفيدة مما هو أصيل ومفيد من الموروث البصري الديني والدنيوي للمنطقة السورية، مذكـّرة بالجماليات التعبيرية في فنون الواسطي، والمتقشفة منها في فن الأيقونة السوري والجداريات التدمرية.

وفي الجانب الآخر من المعرض والذي يشكل بحدود ثلثي اللوحات المعروضة والتي أظهر فيها الفنان جورج بيلوني مقدراته التقنية كمجرّب في المواد والأدوات التي تفيد بحثه عن الاختلاف والتميّز في هذا الجانب من الاشتغال، مقدّما في كل مناسبة عرض بعضاً من تلك النتائج، مرضياً غروره أولاً باحتمال تحقيقه حالة تشكيلية راقية، ومن ثمّ رغبة المتلقي بمشاهدة ممتعة ومثيرة.



التشكيلي جورج بيلوني في معرضه بالأرت هاوس 2010

لقد عالج الفنان موضوعات ذات خصوصية، معلناً في الوقت ذاته وبوضوح، تأثـّرها بالإرث الفني الإنساني مروراً بكل الحضارات التي سادت وبادت في هذه المنطقة الخصبة من العالم، معيداً صياغة تلك الأحداث بإضافة لمسته التي تحمل مشاعره وانطباعاته الآن حول ما تركه هؤلاء المبدعون على تلك الجدران من مشاعر وأحاسيس مفعمة بالخوف والترقب وكثير من الأمنيات بانتصار الخير على الشرّ من وجهة نظرهم في ذلك الزمان وتلك الأمكنة التي ما زالت إلى اليوم تحفظ رؤاهم وأحلامهم .
هذه الحالة من الانشغال في اللوحة وهمومها التقنية، أو حلولها التشكيلية كانت تشكل للفنان جورج بيلوني هاجساً مؤرّقاً قبل فترة من المعرض، وبخاصة في مراحل التجربة الأولى، وما زالت إلى اليوم وإن بدرجة أقل ربما لكونه لم يدرس الفن أكاديمياً، معوّضاً عن ذلك بالممارسة والبحث في مختبره الفني ومنذ البدايات عن لغة أو صيغة تخصّه، تلك الصياغات التي وصل إليها وما زال يعزّزها باجتهاد، والتي قدم الفنان من خلالها وإلى اليوم أكثر من عشرة معارض شخصية في فترة تعدّ قياسية نسبياً.. وهو الذي عرض أول نتاج تجربته الفنية العام 1992 في غاليري أكـّاد بحلب، وأول مرة في دمشق بغاليري نصير شورى العام 1995.

من شاهد منا وما زال يتذكـّر أعمال الفنان جورج بيلوني بصالة نصير شورى يومها، لا يحتاج اليوم إلى أي دليل على اجتهاد الفنان وجدّيته في البحث الدائم عن تأصيل تلك التجربة التي استحقت بجدارة المشاهدة أكثر من مرة.

معرض جورج بيلوني في آرت هاوس نهاية 2010 – بداية 2011.

==
* فنان تشكيلي


غازي عانا*

اكتشف سورية

Share/Bookmark

صور الخبر

من أجواء معرض التشكيلي جورج بيلوني في آرت هاوس 2010

من معرض التشكيلي جورج بيلوني في آرت هاوس 2010

أجواء معرض التشكيلي جورج بيلوني في آرت هاوس 2010

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق

عمار :

الف مبروك استاذ جورج و انشالله دائما بتقدم الاحسن

سورية