الكتابة في الفن التشكيلي السوري
20 تشرين الثاني 2010
كتاب «تيارات الحداثة في التشكيل السوري» نموذجاً
في الخامس من كانون الثاني من هذا العام 2010، أطلق الصحفي السوري أديب مخزوم في صالة «تجليات» الدمشقية كتابه «تيارات الحداثة في التشكيل السوري». وهذا الكتاب هو في الحقيقة نتاج جهد كبير، يتناول في أكثر من خمسمائة صفحة من القطع الكبير، تجارب حوالي 90 ٪ من الفنانين السوريين. ويلفت الانتباه فيه جودة الطباعة، ونقصد هنا طباعة صور الأعمال الفنية من لوحات أو منحوتات.
على غلاف الكتاب، يعرّف المؤلف كتابه هذا بأنه «مراجعة نقدية وخطوة توثيقية» ويؤكد ذلك أسعد عرابي في شهادته التي كتبها قبل أعوام من صدور الكتاب، أي بناء على قراءة مسودته على الأرجح، بأنه «من المؤلفات النقدية التي تسد ثغرة كبيرة في مكتبتنا التوثيقية». فهل نستطيع القول إن هذا الكتاب هو بالفعل مراجعة نقدية لتيارات الحداثة في التشكيل السوري؟ وهل له قيمة توثيقية حقيقية كما يريد المؤلف؟ ولا ندري إذا ما كان عرابي سيبقى على شهادته في قيمة الكتاب النقدية بعد صدوره أم لا!
لقد انتظرنا من كتّابنا ومن المهتمين بالشأن التشكيلي السوري في هذه الفترة نشر مواد نقدية حول هذا الكتاب، غير مقالات التقريظ التي نُشرت عشية حفل توقيعه، من قبل صحفيين غير مختصين والتي استمدت مادتها بشكل رئيسي من مقدمة الكتاب ومن شهادات الفنانين فيه وهي أسهل طريقة لتقديم أي كتاب لكنها طريقة فاشلة بامتياز. فمن الواضح أن لا أحد يقرأ أو يريد القراءة، أو من يقرأ لا يفهم أو لا يكترث. وهذا، برأينا، لا يثمر ولا يعطي حركة التشكيل أو حركة النقد المحلي أي دفع، كما أنه لا يحث على التطور والاجتهاد من قبل الكتّاب.
بعد صفحة الإهداء، يستهل المؤلف كتابه بصورتين عن كلمتين كُتبتا بخط اليد، كتب الأولى الراحل فاتح المدرس في عام 1998، وأرسل الثانية من ﭬيينا عمر حمدي (مالـﭬا) في عام 1997. وهما شهادتان في براعة مخزوم على أنه ناقد فني حيادي وذو نظرة ثاقبة. يلي ذلك ثلاث شهادات أخرى هي لأسعد عرابي وغسان السباعي وعبد المنان شما تصب أيضاً في الخانة نفسها، وكأننا بالمؤلف يجند شهادات لأسماء معروفة في البداية كي يعطي كتابه قيمة ومصداقية قبل أن يبدأ القارئ بقراءة المحتوى.
في المقدمة، وقد سماها «بيان تشكيلي لنقد عربي معاصر»، يقول مخزوم إن الغاية من النقد عامة هو «التعريف بالتجارب من منظور تطور علم الجمال عبر الغوص في تحليل الأسلوب واللمسة والألوان والتكوينات لإعطاء الملمح الخاص للتجربة التشكيلية...» ثم يميز ما بين الكتابة الأدبية والكتابة التحليلية كما يتكلم عن الكتابة في الشأن التشكيلي في سورية ودخولها في الإطار التعميمي أي بحسب المؤلف، أن «النصوص والعناوين الكبرى تنطبق على كل الفنانين القدامى والمعاصرين معاً». كما يدعو «لإعادة كتابة وتأريخ مراحل تطور حركتنا التشكيلية السورية المعاصرة بعيداً عن المصالح وحالات مد وجزر العلاقات الشخصية». ويقول أن غياب الدراسات التحليلية والوثائقية وغياب متحف الفن الحديث أدى إلى جهل الجيل الحديث بالرواد الأوائل. ويتطرق في هذه المقدمة أيضاً إلى الصحافة وإطلاق لقب فنان على كل من شارك بمعرض كما يتطرق إلى طريقة عمل الصالات الفنية وإلى خلو المناهج المدرسية والجامعية من مواد تعلم ممارسة وتذوق الفنون بشكل صحيح... كذلك يكتب في اهتمامه هو بالنص التشكيلي الشعري وعن وجهة نظره في الحداثة الأوروبية...
تلي هذه المقدمة الطويلة فقرتان قصيرتان تشغلان الصفحة الثالثة والعشرين، الأولى بعنوان «مدخل إلى الفن التشكيلي السوري»، تليها فقرة بعنوان «مواجهة التزوير». يخلص المؤلف في الأولى إلى القول إن الفن السوري، والعربي أيضاً، لم يكن إلا صدى لمعطيات الفن الأوربي الحديث والمعاصر، ويؤكد في الفقرة الثانية على خلو مكتبتنا الفنية من «الدراسات التحليلية المتخصصة في هذا المجال باستثناء بعض الكتب التجميعية والاستعراضية».
في الحقيقة، نجد أنه من المفترض أو من الأجدر أن يشرح المؤلف، في مقدمته هذه، إشكالية بحثه (غير الموجودة أصلاً)، كذلك منهجه في البحث وأسئلته التي أراد طرحها ليصل في النهاية إلى نتائج أو حصيلة للبحث، عوضاً عن الخوض في أحاديث عامة في شؤون الفن والنقد الفني في سورية (ربما تكون صحيحة) لا تخدم موضوع كتابه ألا وهو عن تيارات الحداثة في التشكيل المحلي.
أما بالنسبة لمحتوى الكتاب فهل استطاع الكاتب فعلاً أن يكتب نصاً في النقد الفني بعيد عن الكتابة الإنشائية أو تسجيل انطباعاته عن الفنانين؟ وهل خلا هذا الكتاب من عناوين كبرى عامة نستطيع أن نطبقها إن أردنا على تجارب الكثير من الفنانين؟ وهل خلت الصفحات (وعددها المتفاوت من فنان لآخر) من محاباة لبعض الفنانين على حساب آخرين؟ لا نستطيع أن نجيب بنعم.
فما تيارات الحداثة هذه؟ ومن أعلامها وما أفكارها وأساليبها...؟ ليس هناك جواب، لا في المقدمة ولا في صفحات الكتاب ولا في خاتمة تختصر النتائج التي خلص إليها المؤلف! وبالنتيجة، فإن ما بين أيدينا هو دون أدنى شك كتاب لا يختلف كثيراً عن الكتب التي ينتقدها المؤلف ويسميها بالتجميعية لسير الفنانين السوريين، فلا من رابط يربط بين نصوصه ولا من بحث متكامل أو حيادي.
إن ما لدينا هنا هو نص مختصر لا يخلو أحياناً من إنشاء «انطباعي» عن كل فنان، فيه استعراض لأسلوبه وجزء من سيرته الشخصية وبعض الصور عن أعماله الفنية لا يعطينا المؤلف سبباً لاختيارها. (بعض هذه النصوص، باعتراف الكاتب، منشور سابقاً في الصحف والدوريات المحلية أو العربية. راجع موقع "اكتشف سورية" يوم 5 كانون الثاني 2010). ويفرد الكاتب لكل فنان في الغالب صفحتين متقابلتين تحتويان النص مع الصور، وأحياناً يكتفي بصفحة واحدة للفنان، باستثناء ثمانية فنانين أُفردَ لهم حيز أربع صفحات دون أن نعرف بالضبط ما المعيار ليحتل هؤلاء الثمانية صفحات أربعة، أو ليفرد لفنان مبتدئ صفحتين في حين يتناول على سبيل المثال باختصار شديد وفي بضعة أسطر واحدة من أهم تجارب التجريد في تاريخ الحركة التشكيلية السورية مثل تجربة صخر فرزات. وذلك يعني أن القارئ غير المطلع على تاريخ الفن في سورية أو القارئ الأجنبي، إن أمسك بهذا الكتاب، سيستنتج بأن فرزات كان مصوراً متواضع الموهبة وسيستنتج أيضاً أن تجربة هؤلاء الفنانين الثمانية الذين تناولهم في أربع صفحات هي أهم من تجربة محمود حماد أو الياس الزيات أو برهان كركوتلي. وهذا إجحاف بحقهم مرفوض. وفي الواقع، لا يمكن أن نستثني من الثمانية المميزين بنظر المؤلف إلا فاتح المدرس الذي يحتل مرتبة هؤلاء المعلمين الثلاثة أو يقع في طبقتهم.
من ناحية أخرى، وإن قبلنا بالنصوص كتعريف بالفنانين السوريين، فإننا لا نجد إحاطة بكامل تفاصيل تجربة الفنان أو في خطوطها العامة. فمن غير المقبول من ناقد مطلع، أن لا نجد على سبيل المثال عندما نقرأ النص الذي تناول تجربة لانا سعد أي إشارة إلى تأثرها الكبير بالفنان الفرنسي هنري ماتيس. وهو أمر واضح لا ريب فيه، تفضحه لوحات الفنانة الشابة المرافقة للنص أو تلك التي عرضتها سابقاً في الصالات.
كما نتساءل عن غياب الكثير من الفنانين الرواد كسعيد تحسين أو صبحي شعيب مثلاً عن هذا السرد، وهو أمر غريب في ظل وجود أسماء أنتجت في ذات الفترة أعمالاً متقاربة في المستوى الفني من أعمال هؤلاء. بل على العكس، فأفكار هذين الفنانين كانت في حينها أكثر تطوراً من أفكار أقرانهما المدوَّنين في كتابنا هذا. في هذا السياق وفي ردّه عن سؤال طرحه موقع «اكتشف سورية» (المرجع السابق نفسه) عن الكتاب، يقول المؤلف أن: «بعض الفنانين، طرحت عليهم فكرة المشاركة، أو فكرة تقديمهم في هذا الكتاب، إلا أنهم لم يتعاونوا رغم أنني حاولت التواصل معهم أكثر من مرة، وغيابهم عن الكتاب لا أتحمل مسؤوليته». ونتساءل هنا أيضاً على من تقع مسؤولية البحث عن المعلومة؟ أو هل من المفروض أن يذهب الفنان إلى الباحث أو الكاتب ليقول له: هذا أنا، بماذا استطيع أن أخدمك حتى تكتب عني؟ وغياب فنان عن الكتاب هو رهن بتعاونه مع المؤلف أم رهن بأهمية إنتاجه الفني؟!!
من المسائل التي لم نجد لها أيضاً تفسيراً علمياً، هو وجود الصفحات العشرين الأخيرة في الكتاب وتحمل أعمالاً مختارة لفنانين دون أي نص أو تعليق أو عنوان! يفيدنا الناشر، المهندس باسم حلواني، في لقاء أجراه موقع «اكتشف سورية» يوم حفل التوقيع، بالقول «الفنانون الذين لم يستطع أديب لقاءهم وضعت لهم لوحات في آخر الكتاب». ولكن من لم يقرأ اللقاء الذي أجراه الموقع الالكتروني مع الناشر، كيف سيعرف أن هذه اللوحات هم لأولئك الفنانين ووضعت هنا لهذه الأسباب؟ ومع هذا، فالناشر يعطينا معلومة خاطئة، لأن كثيراً من اللوحات هي لفنانين تطرق إليهم الكاتب في نص خاص بهم!
أما في أمر التوثيق، فلا نعرف من أين أتى المؤلف بمصادر معلوماته، وهنا لا نبتغي التشكيك بصحة هذه المعلومات، لكننا نتساءل في حال أراد القارئ معلومات إضافية في أمر ما، إلى أي مرجع يعود؟ بالفعل، ليس هناك بيبليوغرافيا بالمراجع التي اعتمد عليها المؤلف في كتابه كما جرت العادة.
كذلك نجد هفوات لا يرتكبها مُوثق في عمله. فمن مبادئ توثيق العمل الفني هو ذكر اسمه وتقنيته كذلك مقاساته وسنة تنفيذه ومكانه الحالي إن أمكن. ولهذا أهمية كبيرة في عملية الأرشفة. كما يدهشنا سرد وقائع دون ذكر تاريخها في سياق الحديث. ففي حديثه عن خالد تكريتي (ص 402) على سبيل المثال، يتكلم المؤلف عن أسلوب الفنان وتطوره، ثم يتكلم عن معرضه الأول في صالة عشتار ثم «المرحلة الثانية» وهو معرضه في صالة أتاسي ومن ثم المرحلة الثالثة وهو المعرض الأخير في صالة أيام دون أن نعرف متى كان معرضه الأول أو متى ابتدأ مرحلته الثانية... وهذا المثال شديد التكرار. وإذا تجاوزنا فكرة التأريخ لهذه المراحل فإننا هنا في حالة الفنان تكريتي، وهو فنان من مواليد 1964 تُعدّ تجربته الفنية فتية، نتسائل عن وجود ثلاث مراحل فنية في ثلاثة معارض في فترة زمنية وجيزة! هل من الأجدر أن نقول أن الفنان لا زال يجرب أو يبحث في التصوير (وهذا ليس عيباً أو انتقاصا من قيمة الفنان) أم نسمي كل معرض مرحلة مستقلة.
ربما من الأجدر ظهور الطبعة الثانية من هذا الكتاب في سياق قاموس تأريخي لأعلام الفن التشكيلي السوري، موثقاُ الأعمال الفنية، كذلك تطور أساليب الفنانين الذين وصلوا إلى مرحلة من النضج الفني يستأهلون عليه دراسة لأساليبهم لا لأبحاثهم المدرسية الأولية، وسيكون حتماً برأينا أشمل من الكتب التي سبقته في هذا المضمار.
==
٭بطرس المعري
فنان تشكيلي، مدرس في كلية الفنون الجميلة، جامعة دمشق.
http://www.boutros-almaari.com
بطرس المعري
الحياة التشكيلية - العدد 90 تموز، آب، إيلول 2010