عمر حمدي وعالمية المنجز البصري

13 05

أنا قادم من سورية، وجذوري ممتدة في الضوء

ما بين السادس والعشرين من نيسان والعاشر من أيار الجاري، استضافت صالة «آرت هاوس» بدمشق، معرضاً جديداً للفنان السوري المقيم في العاصمة النمساوية فيينا وهو عمر حمدي المعروف في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية باسم «مالفا»، ضم ثلاثين لوحة زيتية متعددة الأحجام، تمثل تجربته الفنيّة بكامل مفاصلها وتحولاتها التي شهدتها أثناء فترة اغترابه التي قاربت ثلاثين عاماً، خاض عمر خلالها، غمار غالبية الاتجاهات الفنيّة التشكيليّة، بدءاً من الكلاسيكية والواقعيّة والتعبيريّة، وانتهاءً بالانطباعيّة فالتجريديّة، وما زال يشتغل على هذه الاتجاهات حتى اليوم، بدليل أعمال معرضه الأحدث التي اختزلت بأمانة، ملامح تجربته الفنيّة الاغترابيّة، وعكستها بوضوح وجلاء، يمكن تصنيف هذه الأعمال في ثلاث فئات: الأولى تمثل الاتجاه الانطباعي، فيرصد فيها المنظر الطبيعي الخلوي، بأسلوب واقعي مختزل، ثرّ الألوان، شاعري الإحساس، رومانسي التوجه، تتصعد من خلاله، جماليات الطبيعة لتصل إلى أقصى تجلياتها التعبيريّة الأنيقة والساحرة، والثانية تمثل اتجاهاً تجريداً واقعياً -إن جاز لنا التعبير- حيث يقوم عمر بتوظيف خلفيّة تجريديّة لصالح وجه إنساني مليء بالتضاريس المشغولة بتبقيع لوني انطباعي الروح، واقعي الإيحاء، عميق التعبير، والثالثة تمثلها الأعمال التجريديّة الخالية من المشخصات المباشرة، وفيها يعزف عمر سمفونيات لونية أشبه ما تكون بمحطات استراحة، يلجأ إليها بدافع ذاتي تارة، وتلبية لمتطلبات السوق تارة أخرى، ذلك لأن مالفا يرتبط بعقود مع عدة صالات عالمية في النمسا والولايات المتحدة الأمريكية، وكل صالة لها متطلباتها الخاصة من الأعمال الفنيّة.
بدأ رحلة اغترابه عام 1978، ومن مغتربه فيينا أخذت أعماله الفنيّة طريقها إلى الشعاب الأوروبيّة والأمريكيّة، أما أوان احتكاك فنه الجديد بالوطن، فكان عام 1992 حيث حل ضيفاً على مهرجان المحبة بمدينة اللاذقية، وفي عام 1993 أقام معرضين فرديين لأعماله في وقت واحد: الأول شهدته صالة مكتبة الأسد الوطنية، وضم الأعمال التجريديّة، والثاني أقيم في صالة السيد للفنون، وضم الأعمال الواقعيّة الانطباعيّة، نظمتْ المعرضين ورافقتهما إلى دمشق السيدة سيلفيا رايسنغر مديرة إحدى صالات العرض في فيينا فكان لي حوار مطوّل معها، أكدتْ خلاله أن عمر حمدي الشهير الآن باسم مالفا يرتبط بعقد مع إحدى صالات العرض المعروفة في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعقد آخر مع صالة في فيينا ولكنه لا يلبي كما يُشاع متطلبات السوق ورغبة تجار الفن بإنتاج نمط معين من الفن، بل يرسم ما يحس به ويريده، وأشارت إلى أن مرسمه هو وطنه، وأنه يحاول التوفيق بين روح الشرق المغروزة في داخله وبين العالم الجديد الذي يقيم ويعمل فيه حالياً، أما الفن لديه، فهو إحساس متقد، يتجمع في كيانه ثم ينسكب عبر يده وألوانه إلى سطح اللوحة، وأكدت لي السيدة رايسنغر أن عبارات كثيرة نُسبت إلى عمر، أطلقها بعض المسؤولين عن صالات العرض، بغرض الدعاية، وأساءت بعض هذه العبارات إليه لما فيها من مبالغات، وأبدت يومئذ تأسفها الشديد، لأن الولايات المتحدة الأمريكية أخذت عمر أكثر من بلدها النمسا!
المعرض الفردي الرابع له في الوطن، أقامه في صالة أتاسي للفنون بدمشق عام 2002، والمعرض الحالي هو الخامس في سلسة هذه المعارض التي أعادته بقوة وتمايز إلى الوطن الذي أحبه وعشقه، غير أن مكان عرض أعماله وطريقة عرضها ضمن صالة آرت هاوس أساءت جداً لها ولقيمها الفنيّة والدلاليّة، حيث يصعب على المتلقي الوصول إليها، والتواصل الصحيح والسليم مع قيمها، لكونها أُقحمت في صالة ومطعم وبار، وفي زوايا ضيقة، معتمة، وميتة، طافحة بالمشوشات البصرية، التي تبدأ بالأضواء الخافتة، وألوان الجدران والأثاث الغامقة، وانتهاءً بزحمة الأبواب والنوافذ والطاقات والكراسي والطاولات ومنابع الإضاءة الرومانسية والأعمال الحرفيّة والتطبيقيّة، والصمديات والأنتيكات وغير ذلك، لقد قزّم المكان أعمال عمر واضطهدها وأساء إلى قيمها الفنيّة والجماليّة والتعبيريّة، وكان من المفروض أن يكون العكس هو الصحيح، فتُوظف صالات العرض النظاميّة والصحيحة كل شيء فيها، لخدمة العمل الفني وإبرازه، وتوفير الشروط السليمة للمتلقي، من أجل التواصل معها وقراءتها بالشكل الصحيح!
ولد الفنان عمر حمدي في الحسكة عام 1951، مارس الرسم منذ الطفولة، حصل على أهلية التعليم الابتدائي عام 1970، مارس تدريس الفن في مسقط رأسه قبل أن ينتقل إلى دمشق مطلِع سبعينات القرن الماضي، ليعمل في الإخراج الصحفي، والرسوم التوضيحية، وتصميم المجلات والكتب، في مديريّة الكتب المدرسية وعدة صحف ومجلات، كما كتب الخاطرة الأدبية، والنقد الفني التشكيلي، أقام عدة معارض فرديّة لأعماله قبل مغادرته سورية عام 1978 وقد كان رساماً متمكناً من الخط، متميزاً في إنجاز الرسوم التوضيحيّة، لكنه عاد إلينا من مغتربه، ملوناً مدهشاً! صدرت حول أعماله، عدة كتب وكراسات متقنة الطباعة والإخراج، مزودة بنصوص نقديّة، كتبها عدد من النقاد والباحثين والفنانين العرب والأجانب، اتخذ عمر حمدي لنفسه، اسماً مستعاراً في مغتربه هو مالفا ثم عاد ووقع لوحاته بالاسمين معاً، ومالفا كما يقول عمر، صناعة ذاتية، أو نوع من التأكيد على المتميز. الآن المرهفة أو العاشقة أو الإنسانيّة، حتى الغربة -كما يقول- أخرجت «مالفا - الوطن» من أبجديتها إلى مرحلة أخرى من الرمز، لا يزال يرافق اسمه حتى اليوم، ولذلك أسبابه ومبرراته، حين يدفع الخوف المرء إلى اسم آخر، أو ملامح أخرى، من أجل أن تكتمل سيرة التضحية الذاتية، وعندما سألتُه هل يمكن القول إن عمر حمدي يمثل تجربته الفنيّة في الوطن، وأن مالفا يمثل تجربة الاغتراب؟ أكد أن مالفا أو عمر حمدي يمثل دائماً تجربته الخاصة، وهو متأثر دوماً بكل ما تقع عليه عيناه، وفي حياة كل فنان فترات متطورة أو مختلفة أو غير مستقرة نتيجة للتجربة المستمرة، وثقافة الفنان، وموقعه.
اللوحة المتخمرة مثل القوس الذي يعود بنهايته، بعد شدٍ قاسٍ، إلى ما يوازي بدايته. والهدف لحظة عمرها قد يكون ثلاثين عاماً أو أربعين، وذلك هو الأهم في الفن المعاصر: أن تكون في الوطن وخارجه في آنٍ معاً، لتصنع عملاً فنياً، له قيمته الحضاريّة! تحتضن لوحة عمر الجديدة بشقيها الانطباعي والتجريدي، عالماً ساحراً من الألوان القوية، المنفعلة، والصاخبة، والصارخة بصوتٍ عالٍ، فالحارّ يتجاور فيها مع البارد، تارة يشرد الأول في جسد الثاني، فيوشيه بإضاءات هادئة، وتارة أخرى، يتحاور اللونان بقوة تثير المتلقي وتستفزه، كأن يُدخل الأسود على البرتقالي، أو الأبيض على الأسود والأزرق الداكن، أو الأصفر على الأبيض والأسود، أو تتعارك الألوان الحارة والباردة فوق بياض اللوحة، لتقدم لنا في النهاية، حالة انفعالية مفعمة بالقلق والثورة والتشنج، ما يؤكد أن عمر يجد في سطح لوحته، متنفساً لما يعتمل داخله من أحاسيس وعواطف وهواجس وإرهاصات كثيرة ومتناقضة، مردّها حياته الشخصية الطافحة بالمعاناة والقلق والتوتر المتعدد الأشكال والأسباب! فعمر لم يهدأ منذ تعرفت إليه لأول مرة في دمشق، قبل ما يربو على خمسٍ وثلاثين سنة، يومئذ كان قادماً من مسقط رأسه في الجزيرة السورية، حاملاً أحلامه ومشاريعه متماهية بهواجسه المبدعة، وتطلعاته الكبيرة، يقول عمر «أنا ببساطة واحد من أهم الملونين في هذا العصر، أنا قادم من سورية، وجذوري ممتدة في الضوء. سأكون آخر من يموت على هذه الأرض!» والحقيقةَ المؤكدة، فإن عمر -وإن لم يكن أهم ملوّن في هذا العصر- فهو حتماً من الملونين المهمين، أو كما قيل عنه «هذا المفترس للون، نجده رقيقاً، وديعاً، يسافر في الداخل مثل عاشق شرقي يودع أحلامه على جسد امرأة، أو ناسك يتأمل البحر، ويفاجئك بالرؤيا والكلمة، ثم يقودك إلى الحلم، إلة الذكرى، ولا شيء يحمل ملامحه مثل اللون».
كتب الفنان المعروف بول كلي عندما زار تونس لأول مرة يقول «ليس عليَّ أن أجهد نفسي الآن، إن الألوان تتهافت عليَّ، ولم يعد لي من حاجة للبحث عنها، وستبقى في أعماقي إلى الأبد، ذلك معنى اللحظات المباركة: أنا واللون لا نُشكّل إلا واحداً، إنني مصور!»
عمر حمدي اليوم هو مثل بول كلي، هو واللون لا يُشكّلان إلا واحداً، بهذا اللون ومن خلاله، يتدفق مخزونه الإنساني المفعم بالمعاناة، فوق سطح اللوحة، تارة بهدوء شديد، وتوحد مدهش، مع مفردات وعناصر الطبيعة والطبيعة الصامتة، وتارة أخرى، بشغب يصل حد التشظي، ذلك لأن ما يؤرق عمر اليوم، أشياء كثيرة، بعضها شخصي، وبعضها موضوعي، من ذلك اللوحة غير المنتهية، اللوحة التي يجب أن ترافق تطور الرؤى الحديثة عنده، وكذلك الإعلام الغربي الذي ينكرنا لأننا عرب، ولأننا بحسب برنامجهم، لا يتوافق تطورنا أو تفوقنا مع التربية البصرية والعقلية التي ورثناها، إذ يرون أننا قبائل غير صالحة للتطور، ولا نملك من الحضارة الحديثة سوى المادة السوداء! ويؤكد عمر، أن الإنسان الأوروبي يحاول بذكاء، تحديد شخصية الفنون في منطقتنا، ولهذا الأمر خلفية إعلاميّة خاصة، لكن التشكيل لم يكن في حياته أوروبياً، قد تكون مواده كذلك، لكن إذا أمعنا النظر جيداً، نجد أن التجريد كان موجوداً في الشرق منذ آلاف السنين، أي قبل أن يكتشفه الغرب بقرون.
حول مدى قدرة وسائل التعبير الفنيّة التقليديّة، على تلبية حاجة الفنان المعاصر، للتعبير عن هواجسه وتطلعاته وعصره، يؤكد عمر أنه شخصياً، في عصر من نوع عصرنا الحالي، متخلف فنياً، لكنه واع جداً للتجارب المطروحة على الساحة التشكيلية المعاصرة، بدءاً من المادة التي تشكل الفراغ، معدناً أو تراباً أو أي شيء آخر، وانتهاءً بفن الحاسوب، وهو متفهم أيضاً للفن المضاد أو الانفعالي، ومتفهم لكل المواد المركبة في الفن المعاصر، وهي مواد وعناصر وجدت لضرورات زمنية، يعيشها الآن عصر الحداثة والتكنيك والإعلام، لكن لكونه وُلد في تربة معينة، يصر على أن يبقى محافظاً على التعامل مع لون هذه التربة، وهو فخور بتخلفه وبدائيته ومضطر للمحافظة عليها، ربما لأنه من الناس الذين يخشَون على هذا التراث والحضارة التي لا تزال رائحتها موجودة في كل مكان من سورية، وأخيراً يرى عمر أن الفن التشكيلي العربي المعاصر مثله مثل أي فن آخر، يمر الآن بمراحل تجريبية، ويعاني من مخاضات مختلفة، لكنه لم يُضيّع بوصلته، ويحمل التزاماً واضحاً بالمكان والمادة المرسومة واللون، لكن مشكلته الرئيسة تكمن في لغته التي هي قطعاً ليست ضد المحليّة، ولا الموضوع، ولا الشكل، بل الإشكالية تكمن في كيفيّة صياغة هذه اللغة التي تُحدد وحدها عالمية المنجز البصري أم لا!


الثورة|الملحق الثقافي

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق

سامر:

عمر حمدي فنان عظيم بكل المقاييس .ملون مبدع و رسام مدهش . و انسان نبيل

لبنان

لبنان

محمد عزالدين حسين:

لست أدعي انني من متتبعي الحداثة اللونية الجسورين إلا إنني أكاد أجزم أن (مالفا)هذا الكائن اللامنتمي إلى الحداثة المتداولة بمفهومها الفظ غالبا , هو بعيد عنها بفرادته بغضبه الجلي وتمرده النبيل .

البرزخ

البرزخ

نادر الاحمد:

الحديث عن فنان مثل عمر حمدي ليس بالامر السهل لانه يحمل كل مكونات الفنان المثقف و الخبير باللون و الضوء والقدرة الرهبية في التعبير عن دواخله الرائعة المفعمة بالحب و الحزن

سوريا

سوريا