بوعلي ياسين

02 شباط 2011

.

المقدّمة: الطّائر النّاسك


لا يَحْسُنُ بشجرة النّقد أن تبقى وحيدة، فكان لابدّ أن تجذب إليها بوعلي ياسين الطّائر النّاسك، ليبني بحذق بين فروعها، عشاًّ خاصّاً من كتب، مشاريع، وأفكار، يواسي عزلته، ويزيدها ارتفاعاً واتَساعاً، وبدلاً من أن يتكوّر ويرقد في عشّه مختفياً، بلذّة واطمئنان، جعله هذا العشّ مكشوفاً، ومحطّ أنظار، بل عرضة للأخطار. عشّ يتفوّق في بنائه على كلّ القصور الثقافية، الأبراج الاجتماعية، القلاع الاقتصادية، البيوت الدينية والأكواخ السياسيّة. عشّ دوّرَتْه بصدرها عفويّته، تُلْزِمُ النّائمين بالنّهوض، تخطف من قلوبهم الازدواجيّة، وتسدّ مكانها بالصّدق، تخلع عن الوجوه بسماتها الفاترة، لتعوّضها بضحكات ساخنة، تنزع من الآذان مرجعيّة الأصوات، وتُسمعها رنين الحريّة، وهسيس العودة إلى الذّات.


حياته


لقّبه أصدقاؤه في عزّ شبابه بـ «بوعلي ياسين»، على أنّ «ياسين» اسمه الأول الحقيقي، و«بوعلي» اسم الفتوّة.

بوعلي ياسين في شبابه

أسمته والدته، حين ولد، عدنان، وبقي حتّى سن الخامسة أو السادسة لا يعرف له اسماً غيره، فلمّا دخل المدرسة صاروا ينادونه باسم ياسين، فلا يردّ عليهم، لذلك استدعت المدرسة والده ونبّهته إلى هذا الإشكال، فأصدر أمره بإلغاء اسم عدنان من الأسرة، لأنّ أُسَر المشايخ ـ باعتبار والده شيخاً ـ كانت تختار أسماء أبنائها من ضمن مجموعة محددّة من الأسماء الدّينية، مراعين أن ينسجم الاسم مع لقب «شيخ»، مثلاً: الشيخ ياسين اسم مناسب مثل الشيخ يوسف، بينما الشيخ باسم أو الشيخ سمير اسم غير لائق، إلا أن ياسين لم يصبح شيخاً دينياً بل ربما شيخاً ثقافياً، مع أن شجرة العائلة تنتهي بنسبة من جهة والده إلى الأمير المكزون السنجاري، أي أنّ سلالته سلالة شيوخ، لكنّ «المشايخ» عموماً لم يكونوا بالنسبة لبوعلي سوى مصدر للتندّر والتفكّه اللّطيف، لاسيّما بكتابه السيري «عين الزهور».

ولد بوعلي ياسين سنة 1942 لـ يَكْوي ويشفي النّاس، بنيران كتاباته، من الجَرَب النّفسي الثقافي، كيف لا، وهو الذي فتح عينيه للمرّة الأولى، ورأى النّور، في قرية عين الجرب التي تبعد 22 كم عن مدينة اللاذقية السورية باتّجاه الشمال، وسُمّيت هكذا لأن فيها ـ كما يقول أهلها ـ عين ماء تشفي من الجَرَب. لم تكن هذه القرية أكثر من مزرعة صغيرة أسّسها والد جدّه، وتقع على سفح يطلّ على نهر الكبير الشّمالي من جهتي الشّمال والغرب، في هذا النّهر، كانت النّساء يغسلن ثيابهن وأطفالهن في الشّهور الدّافئة، وفي محيط الضّيعة ثمة غابة صغيرة من السنديان والبلّوط وبعض الأشجار الأخرى، يتوسّطها مقام يسمّى «مقام الخضر»، وفي قلب الغابة مقبرة لذكور العائلة، حيث لم يكن يُسمح بدفن النساء في هذا المكان المقدس الذي راح يسمّى «غابة الخضر»، وإن حدثت حالة واحدة فقط، ودُفنت امرأة، فإنها حالة لن تتكرّر. هذه القرية بوصفها نهر ذاكرته الأولى، الذي فاض وتفرّع إلى أفكار، كتب، ومشاريع، سمّاها في سيرته الضاحكة: «عين الزهور». الاسم ذاته أطلقه على مكتبة أنشأها لتكون ـ عبثاً ـ دار نشر.

نتيجة عمل والده العسكري فقد تنقّل وعاش في معظم المدن السورية، وهذا الأمر جعله وأخواته وإخوته يشعرون بأنهم غرباء على الدوام، وجعل أمّه تحمل مسؤولية الأب ومسؤولية الأم، وقد كانت «حقاً على قدر المسؤولية».


تربية الرّاهبات الصّارمة


الخروج الأول من مدينة اللاذقية كان إلى حلب حتى عام 1950، في السنة الأولى لإقامته هناك دخل مدرسة خاصة تعادل الآن رياض الأطفال، يذكر فيها «تهديد الراهبات بمسح آذان الأطفال بالزيت وإرسالهم إلى القبو، حيث تأتي الفئران لتلحس الزيت من آذانهم»، هنا كره التعلّم! لكنه تعلّم ـ فيما بعد ـ كثيراً، وعلّم غيره.


احتجاجه الأول



من كتب بوعلي ياسين

في حماة وعى «الحرية المسؤولة للذكر»، واستغرب كيف يرتدي الذكور الثياب نفسها إلى أن تهترئ تماماً، بينما تغيّر الأنثى دوماً ثيابها، وحين أبدى الطفل ياسين احتجاجه على التفرقة في اللباس بينه وبين أخته، قالوا له: «هي بنت، أتريد أن تكون بنتاً؟». هنا وعى الشرخ الاجتماعي بين الأنثى والذكر. وتعليقاً على الحادثة يقول: «هكذا باكراً تجري تهيئة الذكر لتحمّل المسؤولية في المستقبل، مسؤولية الأسرة ومن ثم مسؤولية المجتمع على هذا التفاوت». لكنه لم ينس أن يناصر المرأة ويكتب الكثير حولها، ويقوم بسلسلة أبحاث عنها، فكتب «أزمة المرأة في المجتمع الذكوري العربي» عام 1992، وأهدى الكتاب إلى أخته حياة.

في هذا الكتاب يقول: «أحياناً تبدو لي المرأة العربية في موقفها تجاه الصراع الاجتماعي من أجل تحررها كأنها حسناء تجلس على منصّة، متفرّجة على قتال رجلين يتنافسان على الفوز بها. وهاهي الآن تتفاجأ بمن يدعوها لأن تنزل بنفسها إلى الساحة، وتقاتل في سبيل حقوقها، ليس مع النساء ضد الرجال، ولا مع الرجال ضد النساء، بل مع الاتجاه الذي يريدها فاعلة في المجتمع، ضد الاتجاه الظلامي الذي يريد إعادتها إلى/أو إبقاءها في عصر الحريم. لكن، لعلها ما زالت مستمتعة بدور الحسناء المتفرّجة، ترى من الطبيعي أن يناضل فريق من الرجال بالنيابة عنها. إزاء ذلك، في ظروف عامة صعبة، يشعر هذا الفريق المتنور بالضعف أمام الفريق المعادي الذي يتّهمه بالخروج على الدّين والأخلاق والقيم، فتراه يهيب بالمرأة العربية، ويعنّفها كي تتخلّى عن سلبيتها، فتغضب غضب الطفل. ثم إذا به يجد نفسه هدف هجوم المرأة نفسها التي أخذ بيدها من قبل، وشجّعها على خوض نضالها التحرّري».

تعلم في القنيطرة (1955ـ 1958) معنى التسامح الديني والمذهبي، وسلّحته هذه المدينة ضدّ التعصّب الطائفي والقبليّ والقومي، فانتمى إلى بساطة الحياة وحريتها.


أوّل الغيث قطرة


في القنيطرة أيضاً ظهرت لديه منذ عام 1956 البوادر الأولى للنزوع نحو الكتابة. في مدينة حماة شهد عام 1953 اغتيال وصفي الحوراني أثناء مظاهرة صاخبة ضد الرئيس السوري آنذاك أديب الشيشكلي، كان يرى أن الحركة الطلابية كانت ناشطة في حماة تلك الفترة، وتأخذ ثلاثة اتجاهات: ديني قوي، قومي (بعثي) متزايد القوة بفضل التأييد الفلاحي، شيوعي ضعيف، وكانت تلك الاتجاهات جميعها ضد حكم الشيشكلي، وضد بعضها أيضاً، لكن ذلك لم يجعل الفتى يخوض غمار السياسة بعد، حتّى جذبتْه إليها أحداث مصر 1956، وتمّ تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي، والتي أسفرت عن تزايد لا مثيل له في شعبية جمال عبد الناصر، فأصرّ مع أخيه أن يسمّي أخاه المولود في ذلك العام «جمال» تيمّناً ومحبة بالرئيس المصري، إلا أن ذلك لم يدم طويلاً.

عندما وقع الخلاف بين عبد الناصر والبعثيين عام 1959 بقي على ولائه للوحدة السورية ـ المصرية ولعبد الناصر، وعندما وصلت العلاقة إلى حدّ القطيعة والعداوة عام 1960 عاش في نزاع داخلي، بين عشقه للوحدة، والتزامه بحزب البعث، يقول: «لقد كرهنا في الحقيقة نظام عبد الناصر بتقييده للحريات وبملاحقة مباحثه، بتشجيعه الضمني الانتهازية والوصولية والغوغائية، باحتوائه في الاتحاد القومي لكل منافق مهما كان انتماؤه الطبقي أو العقائدي أو السياسي وكيفما كانت ممارساته وأخلاقه». ويتابع: «لكننا كنا من السذاجة والغباء واللامسؤولية أننا لم نع أنّ موقفنا قد انصب دون إرادتنا في المعسكر الانفصالي، وكان نظام عبد الناصر من الغباء والغرور والتسلط أنه حارب دون هوادة التقدميين والوحدويين الانتقاديين، فقوى العناصر الانفصالية المنافقة له، حتى استطاعت (ومن موقع المسؤولية) بسهولة القضاء على الوحدة». ويعتبر أن المظاهرة التي خرجت في دمشق ضد عبد الناصر إثر الانفصال، والتي انقلبت هي نفسها أثناء المسيرة إلى تأييد عبد الناصر عندما سمع أصحابها بإمكانية التوصل إلى اتفاق، «مظاهرة حربائية لم يبدعها خيال أديب ساخر».


ما بين الخيبة وبين الفرحة


طار بوعلي ياسين من الفرح حين تحقّق حلمه في إرساله إلى مصر، ضمن بعثة حكوميّة لدراسة الإحصاء التطبيقي للعام الدراسي 1961ـ 1962، وذلك بعد أن كان قد تسجل في كلية الصيدلة بجامعة دمشق، ولكن الفرحة بدأت تتلاشى ما إن حدث الانفصال بين سورية ومصر، فشاع الاضطراب في العلاقة بين البلدين، وألغيت البعثة، فتكوّم الشاب في إحدى الزوايا، أو تحت إحدى الأشجار منهاراً يائساً، وبدت أحلامه تتكشف على أنها مجرد أحلام يقظة.

وبعد شهور من هذه الخيبة، وبينما كان نائماً في الصفصاف في صباح شباطي من العام 1962، وإذا بصديقه يناديه لاهثاً من كثرة الركض، ويقول له: «هيّئ نفسك، ستسافر إلى ألمانيا الغربية خلال عشرة أيام»، إذ أنّ البعثة الدراسية الملغاة في مصر تحوّلت إلى ألمانيا الغربية عام 1962، وما بدا أنه غير معقول تحقق فعلاً، فقد حُوّلت البعثة إلى ذلك البلد الرأسمالي المتقدّ، وسافر بوعلي ياسين إليه في 5 آذار 1962، حيث طوّر مساره الفكري والشخصي هناك.


مس أوروبا



من كتب بوعلي ياسين

في قرية صغيرة ساحرة على أقدام الألب من ولاية بافاريا التي عاصمتها ميونخ، تعلّم بوعلي ياسين اللغة الألمانية بمعهد غوته، ثم انتقل ليدرس العلوم الاقتصادية في جامعة بون.

في اليوم التالي لوصوله إلى بون لم يوفق إلى غرفة مفروشة يستأجرها، وبعد أن بحث عنه أصدقاؤه طويلاً، وجدوه يسكن في مكان عجيب: ثمة سفينة سياحية تدعى «مس أوروبا»، ترسو على شاطئ الراين في بون بعد انقضاء الموسم السياحي، تُستخدم كملهى ليلي للرقص والشراب، وتؤجّر مقصوراتها لمن ضاقت بهم اليابسة. هناك على متن «مس أوروبا» سكن بوعلي لمدة عشرة أيام، ريثما اهتدى إلى غرفة على اليابسة.

في تلك الجامعة صادف أحد أساتذته الألمان المعادي للاشتراكية، فتبلورت لدى بوعلي أسُسَ تفكيره وطريقته في النّظر إلى الأشياء والعالم: «كان ـ أي ذلك الأستاذ ـ بالنسبة لي ـ عملياً من حيث أراد هو العكس ـ الداعية الرأسمالي الذي هداني إلى الاشتراكية العلمية». فقرأها عبر كارل ماركس مباشرة باللغة الألمانية.

وعندما وجد أنّهم في تلك الجامعة لا يدرّسونهم علم الاقتصاد، بل علم اقتصاد طبقتهم الرأسمالية كما يقول: «أعطِ لقيصر ما لقيصر لا أكثر ولا أقل»، انتسب في الوقت المتبقّي أواخر 1962 إلى فرع حزب البعث العربي الاشتراكي في ألمانيا والنمسا التابع للقيادة القومية، في الوقت الذي كان فيه هذا الحزب قد حُلّ في سورية بسبب الوحدة مع مصر، وكان لياسين قبل ذلك اتّصالات مع بعض شخصيات الحزب ممّن يُعرفون بالقُطريين، وبعد أن صار أميناً للحلقة الحزبية في بون، صار عضواً في قيادة فرع ألمانيا والنمسا، لكن عندما عاد إلى سورية في زيارة عام 1964، وكان الحزب قد وصل إلى السّلطة السياسية في 8 آذار 1963، ووجد الخلافات الحادّة بين أقطابه، حيث ضم من كان معادياً له قبل استلامه السلطة، وبدأت تسيطر عليه الأجواء الانتهازية من جهة، وغير الرفاقية من جهة أخرى، تركه، ولم ينتسب بعد ذلك لأيّ حزب أو تنظيم سياسي طيلة حياته.

في «الشتودين كولّيغ» المعهد التابع لجامعة بون، أراد بوعلي ياسين معادلة شهادته، فغضبت المدرّسة من الطلاب، واستغربت حين لم يعرفوا ـ لالتباس في اللّفظ ـ أين تقع شبه جزيرة القرم التي تسمّى بالألمانية «كريم»، فأراد بوعلي ياسين ردّ الاعتبار لنفسه ولباقي طلاب، فنهض وسأل المدرّسة، بمنتهى الجدية والحزم: «وهل تعرفين أين تقع آين آلا جاراب (عين الجرب)؟» فامتقعت المعلمة خجلاً، ظانّة أنّ عين الجرب من الحواضر العالميّة المشهورة.

درّس بوعلي ياسين العلوم الاقتصادية في جامعة بون، وعندما وجد أن هذه الجامعة تهيمن عليها العقلية الاقتصادية الأمريكية، كان عليه إما التخلي عن دراسة الاقتصاد والانتقال إلى فرع آخر، أو الانتقال إلى جامعة أخرى أقل عرضة للهيمنة الأمريكية، فوجد ذلك في جامعة «ماينتس»، وماينتس مدينة جميلة يلتقي فيها الراين والماين، وتقام فيها كل سنة احتفالات كرنفالية ضخمة، فانتقل إليها وعاش فيها ما بين 1965ـ 1969.


فرانكفورت


بقي بوعلي ياسين مشدوداً إلى فرانكفورت، المركز الرئيسي لحركة الاحتجاج الطلابي، والتي تجمعت حول اتحاد الطلاب الاشتراكي الألماني، ومنها انتشرت تلك المدرسة الفلسفية اليسارية المعروفة «النظرية النقدية»، وقد بلغت ذروتها في الانتفاضة الطلابية عام 1968، فانخرط بها بوعلي ياسين بالرغم من أنه طالب أجنبي، والتحق بإحدى الكومونات في فرانكفورت، وعاش فيها عدة شهور، منسجماً مع أفكارها الاشتراكية العلمية البعيدة عن المركزية والتسلط، والتي تعادي الإمبريالية العالمية، بالأخص الأمريكية التي تجلّت بأبشع صورها في حرب فييتنام، مؤيّداً حركات التحرر في العالم الثالث ولاسيّما الاتجاه الماوي (نسبة إلى ماوتسي تونغ) وتشي غيفارا، رافضاً الوصاية في كل مكان، في الأسرة والمدرسة والجامعة والوظيفة والمجتمع.


الثالوث المحرم


«الثالوث المحرم: دراسة في الدين والجنس والصراع الطبقي» كتاب صدر عام 1973، وأثار دوياً في الوسط الثقافي، وهزّ وعي جيل بأكمله، ومُنع تداوله ليس في سورية فحسب، بل في معظم البلاد العربية، فصار الممنوع مرغوباً، ومتداولاً في السرّ، ولم ير النور، ولم يتسنّ له الجلوس على رفوف المكتبات إلا في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، كذلك كتابه «الأدب والأيديولوجيا في سورية» الذي صدر عام 1974، وتسبّب بضجّة كادت تكون «دمويّة»، وكتابه «عين الزهور ـ سيرة ضاحكة» الذي صدر عام 1994، وأثار ضجّة اجتماعيّة انتهت بتهديد الكاتب بحياته، وأدّت إلى تدخّل السلطات لمنع توزيعه تحت أيّة صيغة كانت، وذلك بعد أن وافقت على طباعته وتداوله.


الثورة الفلسطينية


فقد أيدت الحركة الطلابية الألمانية الثورة الفلسطينية، سياسياً وإعلامياً ونضالياً ومادياً، وسافر العديد من الطلاب اليساريين إلى الأردن في أواخر الستينات تضامناً معها، ومنهم بوعلي ياسين الذي التحق بأحد الفصائل اليسارية الفلسطينية، حيث قضى عدة أسابيع هناك، إلى أن فشلت الانتفاضة الطلابية في ألمانيا، وانقسمت إلى تنظيمات ومجموعات كثيرة متنافسة ومتناقضة، ثم انضوى ما تبقّى منها تحت لواء الأحزاب اليسارية القديمة. وبعد أن أظهرت له تجربته مع ذلك الفصيل عمق الهوّة بين المعلن والمضمر، بين النظرية والواقع، بين ماركس الألماني واختلافه عن ماركس الروسي (السوفييتي)، أدرك بوعلي ياسين تماماً، أنّ عمله الحقيقي يكمن في الثقافة.


روزا لوكسمبورغ



الطوطم والتابو


تأثر بوعلي ياسين في ألمانيا بها وبأفكارها كثيراً، التي تعارض سيطرة الحزب الواحد، و«الوصاية على الوعي» الكاوتسكي واللينيني، فقد وقفت بحزم ضد فكرة لينين في «الحزب الثوري» ومبدئه في «المركزية الديمقراطية»، كذلك اعتبر بوعلي ياسين أن فكرة لينين كانت سبباً رئيساً لانهيار الاتحاد السوفييتي، وتوصل إلى النتائج الكارثية لذلك منذ ثمانينيات القرن العشرين، وذلك في كتابه «ينابيع الثقافة ودور الصراع الطبقي» الذي نشره في عام 1985.

أسست روزا لوكسمبورغ مع كارل ليبكنخت عام 1917 «عصبة سبارتاكوس» التي انبثق عنها الحزب الشيوعي الألماني لاحقاً. وفي عام 1919 اغتيل الاثنان، فسمّى بوعلي ياسين ابنته الأولى «روزا» تيمّناً بهذه المناضلة والمفكّرة الأثيرة لديه.



الفرويدوماركسية


في سورية ترجم بوعلي ياسين كتاب القرن العشرين المقدّس «الطوطم والتابو»، مؤذّناً بانتشار جهنّمي لذينك المصطلحين الأزليين والخالدين، حيث اجتمعت أفكار ماركس وفرويد، وقد كان أبرز ممثلي هذا الاجتماع فيلهلم رايش صاحب الكتاب الذي ترجمه بوعلي ياسين «الماديّة الجدلية والتحليل النفسي».

أصرّ بوعلي ياسين على كشف الوجه المخفي لقرينه وقدوته وشبيهه ونصفه الآخر للسوريين، ألا وهو الألماني الكبير برتولد بريخت، فترجم له مجموعة قصصية «أوراق من الروزنامة»، ولم يكن بريخت قبل ذلك معروفاً كقاصّ، بل كمسرحي وشاعر.

عمل بوعلي ياسين في المصرف عام 1970 وحتى 1976 في دمشق، ثم اللاذقية، ثم إلى مديرية التخطيط حتّى استقال متفرّغاً للكتابة، وكأنه موظف عند مواطنيه وقرّائه، بالرّغم من المصاعب الجمة لشغف الكتابة، من دون أن يحلم بأية جائزة.


القارّة الموسوعية


إن الينابيع الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية والأدبية والتراثية والثقافة الشعبية التي نهل منها بوعلي ياسين، واهتمامه بوضع المرأة والترجمات العديدة التي قام بها، تؤكّد أن هذا الكاتب ليس مثقفاً عادياً بل قارّة موسوعية، لا ينقل فقط المعلومات، بل صبّ اهتمامه على نقد الظواهر الاجتماعية والتقاليد الفكرية التي ينتمي إليها، وأهمها تعاقب التشكيلات الاجتماعية الخمس «المشاعية البدائية، العبودية، الإقطاع، الرأسمالية، الاشتراكية» التي قدّمها السوفييت على أنها أساسية في مادّية ماركس التاريخية، والتي يعتبر بوعلي ياسين أنها «نظرية فرضها ستالين» وأنها «غير صحيحة» على الأقل بالنسبة لنا في آسيا وإفريقيا التي لا تخضع لهذا التعاقب الحتمي، فترجم كتابا مهماً «نظرية نمط الإنتاج الآسيوي»، الذي اعتبر كمنقذ من العسف الذي قدّمته «المدرسة الرسمية» للمادية التاريخية.


الثقافة الشعبية


لقد سبق بوعلي ياسين «الأنتروبولوجيين» المختصين بالثقافة الشعبية، ووضع عدّة كتب منها «بيان الحد بين الهزل والجد: دراسة في أدب النكتة»، والذي فكّك فيه بنية هذه النكتة، بادئاً من مفهومها، مقدّماً لها تعاريف مختلفة، ذاكراً أنواعها دون أن يسقط النّكتة المحرّمة، السياسية، الجنسية والدينية.


عين الزهور: سيرة ضاحكة



عين الزهور: سيرة ضاحكة

«جاءت امرأة ريفية بابنتها المريضة إلى شيخ القرية، ونقدته خمس ليرات، وطلبت منه أن يقرأ لها سورة من القرآن، لعل الله يشفيها. فاستقل الشيخ المبلغ وقال لها: والله، أردأ سورة "تبت يدا" (والكلام له) حقها أكثر من عشر ليرات!‏‏».

‏اختار بوعلي ياسين هذا النوع من الكتابة كفضاء حر، يجهر به بمكنوناته، كتعويضٍ عن طبيعته الكتومة الميّالة إلى الصمت، واختار الوجه الباسم كتعويض عن وجهه الجدي شديد العبوس. وفي ذلك تحتلّ «عين الزهور» في تجربة بوعلي الكتابية منزلة إعادة اكتشاف الذات نفسها في وجهها المخبوء أو «غير الظاهر»، إذ قد تمثل «عين الزهور» في هذا السياق المحدد وجهه السّيري الصّائت.

ويبدو أن بحث بوعلي عن الوجه الصائت لـ «جديته» و«صرامته» و«عبوسه»، لكن الجميل والأخّاذ الحميم إلى أسئلة القلب، لم يكن مدفوعاً ببناء سيرة ملحمية لشخصيته - هو الزاهد بالمجد والمتصوف والناسك والمترهبن على طريقته، وهذه صفات جمع بينها بوعلي ياسين تلقائياً في شخصيته الحيّة- بل ببناء سيرة ذاتية موضوعية بالمعنى الأنتروبولوجي العميق والواسع للكلمة. وللوهلة الأولى فإن تركيب سيرة ذاتية-موضوعية هو تركيب مختل ويناقض قواعد المنطق في أبسط أشكاله وهي أشكال المنطق الصوري. لكن في التعمق حاول بوعلي ياسين في «عين الزهور» أن يضع سيرته الذاتية الشخصية في سياق سيرةٍ أشمل لتحولات مجتمعه.

لم يكن بوعلي غافلاً عن ذلك، ولقد لجأ إلى حل تقني يتمثل بالتمييز بين زمنين هما الزمن السيري الشخصي والزمن الموضوعي. سمح ذلك لبوعلي بإبراز التفاعل بين الزمنين مع إبقاء مساحة مستقلة لكل منهما من دون «خيانة» أي منهما. نحن نعرف بحكم تقدم علوم النص المراوغة القائمة بين الزمنين، ولذلك فإن بوعلي ياسين حاول، قدر ما يستطيع، التمييز. لكن التمييز المطلق التام مستحيل، فالزمن الموضوعي في «عين الزهور» محكوم بدوره ببؤرة الراوي/السيري.

بكل بساطة أراد بوعلي ياسين، وهو ابن العلوم الاقتصادية والاجتماعية الحديثة من ناحية مدركاته المفاهيمية والمنهجية، أن يضع سيرته في إطار تاريخها الألصق بها، وكان يحاول أن يقول إن تجربته ليست تجربة «فريدة» هو الذي نفر دوماً من أوهام «الفرادة» في كل مستوياتها. وفي سيرته الضاحكة لا يبرز بوعلي ياسين ملحمياً بطولياً صاحب أمجاد يلاحم فيها هذا وذاك، بل إنساناً يغوص في أدق حالات السرد النثري، السرد البطولي حتى في شكل السيرة الذاتية الموجهة لغايات التاريخ مقابل هذا النوع الجديد من السرد الذاتي-الموضوعي.

مما لا ريب فيه أننا نجد في «عين الزهور» أساس أية معلومة بيوغرافية (سيرية) عن بوعلي ياسين، تمكّننا من إعادة بنائها وفهمها في إطار عصرها. ولكن «عين الزهور» لا تنحصر هنا في جانب ما تخبرنا به عن تاريخ الشخصية، ولا عن أفكارها ومعتقداتها وتصوراتها تجاه العالم والمجتمع وتقلبات السياسة والمجتمع والأفكار، بقدر ما تمتد أهميتها إلى بناء سيرة أنتروبولوجية مركبة تمتزج فيها السيرة الذاتية مع السير الاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية والوجدانية والطبوغرافية، ومع الأدوات المستخدمة وعلاقات الملكية والحراك الجغرافي والمهني. والتي تعتبر شديدة الأهمية بالنسبة إلى الاقتصادي والمؤرخ والبيئي والثقافي. وفي «عين الزهور» مادة ثرة هائلة تسمح باعتمادها مصدراً مساعداً في الفهم المعمق للتحولات الأنتروبولوجية في المجتمع الفلاحي السوري الحديث، وفي شرائحه التي تنتمي إليها شريحة بوعلي ياسين ابن الملاك المتوسط السهلي لكنه الفقير.

وعلاقة هذه التحولات في التأثير في المدينة وتأثير المدينة (على هشاشتها في مجتمعاتنا) فيها.
ومثل كل سيرة تتحدث عن زمن المنزل «الأول»، فإن زمان القرية يمثل هذا الزمان. إنه في ثنائية الملحمي/ النثري، الزمن الشعري للذات السيرية، حين كانت بهيجة في زمنها الأول البسيط، وقريبة من التناغم بينها وبين العالم، بينما النثري يشير إلى انحلال هذا التناغم واصطدامه بالشروخ والتمزقات. والحق أن بوعلي قد استعاد زمنه الشعري الملحمي الأول محملاً بهذه الشروخات التي شكّلت أحد محدّدات قراءته للتحولات الاجتماعية الذاتية والموضوعية الجارية. زمن الملحمة شعري سعيد وبهيج، وزمن النثر اغترابي ومتشرخ. ينتقم الوجه الباسم من القساوة. الطريقة الباسمة طريقة للسيطرة على العالم، بالأحرى اغتراب الإنسان في حمى نثريات الاغتراب. ولا يدعو بوعلي ياسين إلى الحفاظ على زمان المنزل الأول بقدر ما يرصد تحولاته من خلال سيرته الذاتية-الموضوعية.

حاول بوعلي بناء سيرة ذاتية صادقة فيما سرده، ولكنه أسلوبياً صنع نوعاً من استئناف محدث لكتابة عربية كلاسيكية تقترب من الكتابة الجاحظية في «البخلاء» و«البيان والتبيين» وغيره. هذا إنجاز لبوعلي ياسين في إعادة صوغ الكتابة جاحظياً. وهي عملية إعادة صوغ جديدة في عالم الكتابة العربية وفي عالم نوع كتابة السيرة الذاتية. ما كتبه مترابط بشدة، لكنه في عمقه جاحظي يحتوي على معلومات كثيرة شديدة الأهمية. خلافاً لمنهجيته الفكرية التي تمضي من الكلي إلى التفصيلي انطلق بوعلي ياسين هنا من التفصيلي إلى الكلي، فهي سيرة ضاحكة.

في هذه المغامرة أطلق بوعلي ياسين الشعبي، وغاص في العالم السفلي للحياة الاجتماعية، وفي العودة إلى الشعبي عودة إلى المحكي وإلى اللغة الجارية بكل مجازاتها وأمثلتها. بوعلي ابن الثقافة العالمية لكنه في «عين الزهور» ابن إبراز القاع السفلي الحي الجاري. ومكّنه ذلك من تقديم «المبتذل» بشكل جميل. ليس المقصود بالشكل التزيين البلاغي بل البحث في المبتذل نفسه عن حقيقة الحياة الجارية. العودة إلى المحكية هي خرق لنطاقات هيمنة الثقافة العالمية ونمط سيطرتها الاجتماعي المنافق الذي يقابل بين الأخلاقي/غير الأخلاقي، وبين القيّم/ المبتذل. كسر بوعلي هذه الثنائية، وبالأحرى حطّمها. اللغة المحكية لغة ثقافة ومجتمع. ما يجمع بوعلي ياسين مع الجاحظ هو أن الجاحظ مؤسس البيان العربي أو إبيستمولوجيه المؤسس أو أصوليه بالمعنى العلمي للأصولي أو للأسسي لم يقم كبير وزنٍ للتناغم بين الفصاحة والبلاغة. وبوعلي بطبيعة الحال لا يقيم أي وزن لذلك، لكنه أخذ من الجاحظ منهجه العام. فالبلاغة موجودة في الشعبي التلقائي العامي والبسيط واللحظوي، وليس في الصنعة والعمل المتقن والفصيح. الحياة الحقيقية كما أحسها بوعلي ياسين هي فضاء تجربته في «عين الزهور».

قد يكون مبالغةً القول أن بوعلي ياسين قد حاول في «عين الزهور» أن يكتب سيرة خمسين عاماً من سيرة المجتمع السوري، لكن ليس مبالغةً القول أن «عين الزهور» مقاربة مهمة في هذه السيرة كما تبدو في خبرة بوعلي ياسين، واستئناف «منفرد» لكتابة جاحظية عريقة في تراثنا. لمن يريد توثيقاً أكبر كان بوعلي ياسين يرى في الصفحات الداخلية للصحف الرسمية مصادر بيانات واتجاهات أساسية في البحث السوسيولوجي- الاقتصادي، ولربما ساعدته هذه الصحافة على إنجاز عدة كتب.

يقف بوعلي المثقف الرائد والنزيه، الإنسان الزاهد والمستقيم، المؤمن بجدية بأفكاره والبسيط المتواضع للغاية، العالم والمتواضع، الصموت والباسم على كل مشارف حياة من أحبوه. وفيما يخص النساء، قال بوعلي ياسين: «في النساء أنا أبحث. أنا نظريٌّ باحث ولست عملياً». في الخلاصة كان صوفياً عميقاً على طريقته، يحمل المعرفة كجمرة، وهو من صوفيي المجتمع الحديث العميقين الذين يتخطون العقل الأدواتي إلى العقل الإنساني الشامل. ليس ذلك شطحة فبوعلي المتصل بمدرسة فرانكفورت كان من أوائل الذين تعلموا هتك العقل الأدواتي. ولو لم يكن بوعلي ماركسياً نقدياً لكان كاهناً، أعني شيخاً، متصوفاً أو ناسكاً. لكنه كان هذا الناسك والمتصوف داخل الماركسية النقدية، فقد كان يكفيه من نثر الحياة القليل من «المضغة»، وظلت روحه «رهبانية» مع أنه يتلذذ، ولكنه لم يكن شهوانياً. وقد لا يحبّ الحديث عن «المتفرّدين» ولكنه كان متفرّداً. بوعلي لا شك هو نمط ناسك الثقافة.

أعطى بوعلي ياسين للعقل معنى الإنسان، ويرى في نفسه دوماً «عبد الله تعالى» بالمعنى المجازي، لكنه كان مؤسساً لمناقبية فكرية وبحثية وسلوكية، ولإنجاز كبير. رجل عاش دون مسودات ومبيضات (يكتب بحوثه دفعة واحدة وبهندسة جميلة وبحبر أثير إلى حساسية يده وتفكيره). هذا الشكل الهندسي يعبّر عن اتقاد فكره وتنظيمه الهائل. لم يكن بوعلي مكترثاَ بمن يكتشفه وبقي حتى آخر عمره «جمرة المعرفة» التي تنشر الدّفء في صقيع الأيام.

هكذا كان كتاب «عين الزهور» سيرة مخالفة للأصول، فهي ليست مجرد سيرة شخصية، بل هي إلى حدّ ما وبشكل ما، سيرة لمحيطه الشخصي والاجتماعي: «الضيعة، الأهل، الأصدقاء، الأماكن التي عشت فيها، الناس الذين عشت بينهم». ويضم هذا الكتاب بنيتين: بنية السيرة من نافذة، وبنية مستقلة عنها، تشكّلت على هيئة نكات وطرائف ضاحكة، حدثت مع الكاتب، أو أصدقائه، عائلته أو جواره، يمكن أن نسميها البنية الإضحاكية، وكي لا تكون البنيتان منفصلتين، فقد عرض بوعلي ياسين، النكتة أو الطرفة بما يلائم الموضوع السيري، وبحيث يضيف الضحك، دلالة ما على السيرة.


شمسات شباطية


هو ديوان المفارقات العربية الحديثة، والنكات والطرائف، مبوّبة في فصول وأقسام، حيث النكتة تتكلم بلسانها لا بلسان الكاتب، وهذا الكتاب أيضاً إضافة إلى كتاب عين الزهور، من أهم ما أنتجه الفكر العربي، منذ الجاحظ وحتى تاريخ كتابتهما، وحين منعت كتبه، رفض الحذف أو التعديل المطلوب ليتسنّى له طباعتها أو تداولها، واستمر بالكتابة منزوياً، كعاشق، صامتاً كراهب، مبتعداً عن الأضواء، ولم يستغلّ الكتابة عن المظلوم والمضطّهد ليصل إلى النجومية والثراء.


المحرّم الرابع، وخير الزاد من حكايات شهرزاد


دراسة في مجتمع ألف ليلة وليلة، حيث يقول أن عقل مجتمع ألف ليلة وليلة هو ذاته عقل مجتمعاتنا العربية الحديثة، وأن المظاهر اللاعقلانية فيه هي ذاتها في مجتمعاتنا. ويتوصل الكاتب إلى أن المحرمات الثلاثة، «الدين، الجنس والسياسة» لم تعد ثلاثة، بل أضيف إليها محرّم رابع هو «البذاءة» لاسيما وأن الثقافة الشعبية تشكّلت من دون رقيب، ويتهكّم بوعلي ياسين من الثقافة العربية المهذّبة، السطحية والبعيدة عن الواقع.

«يروون ـ أي عامة الناس ـ لك النّكات المحرّمة والبذيئة، ثم يغضبون ويحتجّون إذا نشرتها. لماذا هذه الازدواجية؟ ولماذا هذا الإصرار على شفهية الثقافة الشعبية؟»، وقد اعتبر صادق جلال العظم هذا التساؤل تساؤلاً متقناً، ويمضي بوعلي ياسين في ذلك غير آبه بالغضب والاحتجاج، بدليل ما تعرّض له من مضايقات عديدة، جراء كتاباته الجريئة هذه.

‏‏‏‏‏‏

قرْوَشات عاشق خائب، ومقتطفات من تقديمه لروزا ياسين حسن


«ربما لن يكون بوعلي ممتناً، كما قد نعتقد، لنشر "قروشاته" عارية هكذا على "الملأ". وبكل ما تعنيه كلمة "الملأ" من معنى. وقد تغدو نظرته مليئة بالعتب، عتب لا يستطيع حتى في أقاصي عنفه إلا أن يكون لطيفاً....».

«فكرة نشر "قروشات" بوعلي هي فكرة مناقضة له تماماً. ولأنها مناقضة له كان ينبغي نشرها...‏‏‏‏‏‏‏»

«ربما لأن معرفة ما هو معدّ ليعرف فحسب تختلف بجوهرها ومتعتها عن معرفة ما هو غير معدّ ليعرف، ولم يطمح يوماً لذلك».

إذاً فقد وُجد هكذا، تسكنه الطزاجة والدهشة، دون رتوشات الأضواء، وبحميمية وصدق من يهمس لقلب آمن مراراً به، وبأنه لن يبوح بأسراره أبداً.‏‏‏‏‏‏‏

بوعلي يرى أن «قروشاته» ما هي إلا أقاويل وأحاديث في أشياء لا رابط بينها ولا جامع ولا طائل من ورائها سواء في النوم أو اليقظة.

وأنا أرى أنها من مرايا نقية تناثرت في دواخل ذاك الرجل النقي.‏‏‏‏‏‏‏

تلك «القروشات» ستجعلنا نعرف ما لم يكن بوعلي راغباً في الإفصاح عنه من جمال جوّاني. وقت يفضحه من وضع السر عنده: يفضح ليالي العشق والشهوة مع حبيبته شهرزاد، وخيبة مريرة من «مشبوهة الوطن»!!

‏‏«القـَرْوَشَة» مصدرها فعل قَرْوَشَ، على وزن فَعْوَلَ. هذا الوزن أو هذه الصيغة أهملتها ـ كما يبدوـ العربية الفصحى. وما زال ثمة بقايا من هذه الصيغة تشير إلى وجودها في أصل اللغة، مثل: شعوذة و هلوسة و دهورة. لكنها موجودة ومستخدمة بشكل اعتيادي في اللغات أو اللهجات العربية المسماة «عامية»، وإن كان أيضاً ليس بكثرة.

مثال ذلك:‏‏‏‏‏‏‏ لَحْوَسَ (أكثر من اللحس (، ثلاثيه: لَحَسَ. نَحْوَدَ (جعل الشيء مدبباً في مقدمته)، ثلاثيه: نَحَدَ. وهو جذر عربي أصيل بدليل أن القاموس المحيط يذكر فعل «ناحد» بمعنى عاهد وتعهد. نَقْوَرَ (تناول كالعصفور من كل شيء قطعة صغيرة أو حبة من هنا و حبة من هناك) ثلاثيه: نَقَرَ.‏‏‏‏‏‏‏ جَعْوَرَ (أكثر من الجعير و هو الصراخ)، ثلاثيه: جَعَرَ، ومنه الكلب الجعاري (شبيه الضبع).‏‏‏‏‏‏‏ نَكْوَشَ (أكثرَ من النكش وهو النكت)، ثلاثيه: نَكَشَ.‏‏‏‏‏‏‏

اسم الفاعل من فَعْوَلَ: فَعْوَلْ، مثل جَدْوَلْ و جَرْوَلْ وجَعْوَرْ (وهي عبارات فصيحة)؛ أو فَعْويل، مثل درويش؛ أو فِعْوال، مثل شخوار (الذي يشخر كثيراً)، وبرواز (وهو إطار الصور، جذره بَرَزَ).‏‏‏‏‏‏‏ ولهذه الصيغة قدرة على إعطاء معانٍ دقيقة مشتقة من الأصل الثلاثي.‏‏‏‏‏‏‏ يقال مثلاً: كعوكت الأفعى، أي لفَّت جسمها كالكعك. أما بَهْوَرة فتعبر عن التظاهر بما يبهر الآخرين.‏‏‏‏‏‏‏ ويعني دَحْوَشَ، أنه دحشَ هنا ودحشَ هناك، أي دسَّ أشياء في أماكن متعددة أو كيفما اتفق أو دسَّ أشياء مختلفة في مكان معين. ويأتي بَخْوَشَ بمعنى أحدس عدة ثقوب.‏‏‏‏‏‏‏

نعود إلى قَروشَ. ثلاثيه: قَرَشَ في المنجد، معنى قرش الشيء: جمعه من هنا ومن هنا وضمَّ بعضه إلى بعض. ويقال: تقرّش المال: جمعه. وتقرّش القوم: تجمَّعوا. وتقرَّشت الرماح: تداخلت في الحرب. ويقال: «قريشة» للجبينة التي تتميز من الحليب غير مقرَّصة ولا ملتحمة الأجزاء كالجبن. وفي القاموس المحيط: القَرْوَش كجرول، ما يُجمع من ههنا وههنا، والقرواش الطفيلي والعظيم الرأس.‏‏‏‏‏‏‏

قروشات هي أقوال أو أحاديث في أشياء لا رابط بينها ولا جامع، ولا طائل من ورائها، سواء في النوم أو اليقظة.‏‏‏‏‏‏ ويمكن أن يقال عنها: هذيانات، مفردها: هذيان. نقرأ في المنجد: فلان يهذو هذواً في الكلام أو يهذي هذياً وهذياناً: تكلّم بغير معقول لمرض أو لغيره.‏‏‏‏‏‏‏

أما في الاستخدام الشعبي فليست القروش دائماً بهذه الخطورة: يكفي أن لا يعجبك كلام أحدهم، أو أن لا ترى له غاية أو هدفاً، كي تقول: إنه يقروش .‏‏‏‏‏‏‏

بصراحة: أنا هنا أُقَرْوِشْ. لو طلب مني أن أضع عنواناً لحياتي الخاصة بعد خمسين سنة، لكان، حُب و خيبة. الحب هو ما ابتغيت والخيبة هي ما جنيت.‏‏‏‏‏‏‏

أنا عاشق خائب. ولأنني عاشق خائب فأنا أقروش.‏‏‏‏‏‏‏

بوعلي ياسين‏‏‏‏‏‏‏
اللاذقية ، آب، 1993‏‏‏‏‏‏‏


الأعمال الكاملة لبوعلي ياسين

تمنيات‏‏‏‏‏‏‏
تمنيت أن أكون نبياً‏‏‏‏‏‏‏
قالوا: محمد آخر الأنبياء‏‏‏‏‏‏‏
تقدمت لأصبح معلماً‏‏‏‏‏‏‏
رفضوني لأني لا أقيم الصلاة‏‏‏‏‏‏‏
جربت أن أكون شاعراً‏‏‏‏‏‏‏
قالوا: أنت لا تجيد الرقص‏‏‏‏‏‏‏
قلت: فلأكن حاكماً‏‏‏‏‏‏‏
قالوا: تعلم القتل أولاً!‏‏‏‏‏‏‏
فرحت أبحث عن قلب أبكي فيه‏‏‏‏‏‏‏
صغائر الحياة‏‏‏‏‏‏‏
ما لزيد ويحيى ومالي‏‏‏‏‏‏‏
ليذهبا إلى الجنة‏‏‏‏‏‏‏
وليدعاني مع من أحب‏‏‏‏‏‏‏
نسعد بصغائر الحياة الفانية‏‏‏‏‏‏‏
* * *‏‏‏‏‏‏‏
ماذا يريد هذا الجليل‏‏‏‏‏‏‏
يلاحق قلبي أينما حلّ‏‏‏‏‏‏‏
ضحَّى بحياته حُبّاً بكل البشر‏‏‏‏‏‏‏
ويضنُّ عليّ بحب واحدة!‏‏‏‏‏‏‏
آذار 1988‏‏‏‏‏‏‏

عن الوالد‏‏‏‏‏‏‏
ما قصد قطّ إيذاء أحد‏‏‏‏‏‏‏
وما توانى يوماً عن المساعدة‏‏‏‏‏‏‏
وحار كيف يُرضي الجميع‏‏‏‏‏‏‏
وانظر‏‏‏‏‏‏‏
كان له أعداء‏‏‏‏‏‏‏
وكان له أصدقاء‏‏‏‏‏‏‏
نيسان 1988‏‏‏‏‏‏‏

فحل صغير‏‏‏‏‏‏‏
على حافة الشرفة في بيت خالٍ‏‏‏‏‏‏‏
تقف دوريه‏‏‏‏‏‏‏
يرفرف دوري إلى جانبها‏‏‏‏‏‏‏
ويطبّ فوقها لحظة‏‏‏‏‏‏‏
يدور من ورائها‏‏‏‏‏‏‏
ويعود إلى حيث كان‏‏‏‏‏‏‏
يرفرف ثانية‏‏‏‏‏‏‏
ويطبّ فوقها مرّة أخرى‏‏‏‏‏‏‏
يفعل هذا عشر مرّات‏‏‏‏‏‏‏
إحدى عشرة مرّة‏‏‏‏‏‏‏
ياله من فحل صغير!‏‏‏‏‏‏‏
كانون الأول 1990‏‏‏‏‏‏‏

أُحب ولا أُحب‏‏‏‏‏‏‏
لا أحبُّ القطط‏‏‏‏‏‏‏
مثل النساء‏‏‏‏‏‏‏
أليفات غادرات‏‏‏‏‏‏‏
* *‏‏‏‏‏‏‏
أحب النساء‏‏‏‏‏‏‏
مثل القطط نديدات
ممتعات‏‏‏‏‏‏‏
* *‏‏‏‏‏‏‏
أحب الكلاب‏‏‏‏‏‏‏
مثل الرجال‏‏‏‏‏‏‏
أصدقاء مخلصين‏‏‏‏‏‏‏
* *‏‏‏‏‏‏‏
لا أحب في الرجال‏‏‏‏‏‏‏
مثالَ الكلاب‏‏‏‏‏‏‏
يتبعون النساء‏‏‏‏‏‏‏
يطاردون النساء‏‏‏‏‏‏‏
كانون الثاني 1992‏‏‏‏‏‏‏
حــزيــــران 1993‏‏‏‏‏‏‏

حزين في قبري‏‏‏‏‏‏‏
سأكون حزيناً في قبري‏‏‏‏‏‏‏
حزن المظلومين بين الأموات‏‏‏‏‏‏‏
لأني سأموت مرتين‏‏‏‏‏‏‏
خلافاً لسائر المخلوقات‏‏‏‏‏‏‏
مرّةً مثل غيري بالقضاء‏‏‏‏‏‏‏
و مرّة لما فقدتك
أتكون مرّة ثالثة‏‏‏‏‏‏‏
فلا أكتب عنكِ‏‏‏‏‏‏‏
يا حبي ؟!‏‏‏‏‏‏‏
حزيران 1992‏‏‏‏‏‏‏
حزيران 1993‏‏‏‏‏‏‏

جون ريد‏‏‏‏‏‏‏
ما همّ جون ريد‏‏‏‏‏‏‏
أنه مات شاباً؟!‏‏‏‏‏‏‏
ما همَّهُ لو مات‏‏‏‏‏‏‏
بعد عشرة أيام‏‏‏‏‏‏‏
من عشرة أيام‏‏‏‏‏‏‏
هزَّت العالم؟!‏‏‏‏‏‏‏
تشرين الأول ......
تشرين الثاني 1992‏‏‏‏‏‏‏
‏‏‏‏‏‏
ديستويفسكي‏‏‏‏‏‏‏
بين العبقرية و الجنون شعرة‏‏‏‏‏‏‏
لكن ديستويفسكي قطعها‏‏‏‏‏‏‏
ولست أدري‏‏‏‏‏‏‏
من الجنون إلى العبقرية‏‏‏‏‏‏‏
أم من العبقرية إلى الجنون؟!‏‏‏‏‏‏‏
تشرين الأول 1992‏‏‏‏‏‏‏

لأنها عديمة‏‏‏‏‏‏‏
لأنها عديمة أرادته ثرياً‏‏‏‏‏‏
لا تعلوه على سلّم العلوم درجة‏‏‏‏‏‏‏
ولأنها حسناء أرادته فتياً‏‏‏‏‏‏
يخفق قُليبها لرجولته حبّاً‏‏‏‏‏‏‏
صبيّةٌ جميلةٌ ذكيةٌ فقيرة‏‏‏‏‏‏‏
أرادت شاباً غنياً مثقّفاً وسيماً ‏‏‏‏‏‏‏
فرحبّوا بها عمّةً في نادي العوانس‏‏‏‏‏‏‏
شباط 1993‏‏‏‏‏‏‏

أولادنا‏‏‏‏‏‏‏
كنا ما نزال نبحث الأمور‏‏‏‏‏‏‏
عندما غطّت ضجّة ٌ صوتَنا‏‏‏‏‏‏‏
كان أولادنا يتجادلون‏‏‏‏‏‏‏
ملؤوا السّاحة وما رأونا‏‏‏‏‏‏‏
فانتحينا مستغربين‏‏‏‏‏‏‏
سمعنا لغطاً، ولكن فهمنا‏‏‏‏‏‏‏
قد حلّ وقت تبديل اللاعبين‏‏‏‏‏‏‏
آذار 1993‏‏‏‏‏‏‏

ماذا أفعل لك؟‏‏‏‏‏‏‏
بالله، عليك ماذا أفعل لك‏‏‏‏‏‏‏
إذا كنت كثير الذنوب‏‏‏‏‏‏‏
واتخذتَ لكَ إلهاً‏‏‏‏‏‏‏
مستبداً شديد العقاب‏‏‏‏‏‏‏
رقيباً عليكَ كالأعداء‏‏‏‏‏‏‏
لا تحبه فتطيعه‏‏‏‏‏‏‏
ولا يحبك فيعفو؟!‏‏‏‏‏‏‏
آذار 1993‏‏‏‏‏‏‏

سنونو‏‏‏‏‏‏‏
أشعر اليوم بالسعادة‏‏‏‏‏‏‏
لأن السنونو اختارني‏‏‏‏‏‏‏
بنى عشّاً فوق شبّاكي‏‏‏‏‏‏‏
**
العصافير مثل البشر‏‏‏‏‏‏‏
فيهم الذكي والأحمق‏‏‏‏‏‏‏
أسرة السنونو جارتي‏‏‏‏‏‏‏
أسقطت من عشها بيضة‏‏‏‏‏‏‏
* *‏‏‏‏‏‏‏
طال انتظاري، يا سنونو‏‏‏‏‏‏‏
أستطلع العشَّ كل يوم‏‏‏‏‏‏‏
وأصغي إليه بانتباه‏‏‏‏‏‏‏
لا زقزقة، لا رفرفة‏‏‏‏‏‏‏
كم شاقة هي الأمومة‏‏‏‏‏‏‏
* *‏‏‏‏‏‏‏
ما هذا الصباح الخريفي‏‏‏‏‏‏‏
في ربيعكَ، يا حزيران‏‏‏‏‏‏‏
أسلّي النفس بمرآهم‏‏‏‏‏‏‏
فإذا بهم قد رحلوا‏‏‏‏‏‏‏
مع الفراخ دون وداع‏‏‏‏‏‏‏
تركوا لي عشَّـاً فارغاً‏‏‏‏‏‏‏
وكومة مصعٍ تحته ُ‏‏‏‏‏‏‏
وبعضاً من حلو الذكريات‏‏‏‏‏‏‏
نيسان، حزيران 1993‏‏‏‏‏‏‏

أتعبتني ، يا امرأة‏‏‏‏‏‏‏
أتعبتني، أيتها المرأة‏‏‏‏‏‏‏
أعود إلى البيت مُنيَّباً‏‏‏‏‏‏‏
في العراك على عظمة العيش‏‏‏‏‏‏‏
أرتجي ملجأً واستراحة‏‏‏‏‏‏‏
فأراكِ أعددتِ للنزال!‏‏‏‏‏‏‏
نيسان ، أيار 1993‏‏‏‏‏‏‏

تركت بلاد الغرب‏‏‏‏‏‏‏
تركت بلاد الغرب غير آسف‏‏‏‏‏‏‏
وعدت إلى وطني غير راغب‏‏‏‏‏‏‏
لم يحفظ الغرب عهدي‏‏‏‏‏‏‏
وكان الوطن عند سوء ظني‏‏‏‏‏‏‏
* * *‏‏‏‏‏‏‏
سأقف في زاروب عين الجر
أمام أرواح «قاطيش» و«مرجان» و«غولدا»‏‏‏‏‏‏‏
و أتمتم :‏‏‏‏‏‏‏
لستُ نِعمَ الضيف، يا أبناء وطني‏‏‏‏‏‏‏
وما كنتم نعم المضيفين.‏‏‏‏‏‏‏
أيلول 1987‏‏‏‏‏‏‏


الطهرانية والكثافة الإنسانية والأخلاقية


أجمعت الأوساط الثقافة على الطهرانية والكثافة الإنسانية والأخلاقية في «عين الزهور: سيرة ضاحكة»، حيث يتجلّى السمو والطيبة والبعد عن الأذى، متحكّماً في سلوك الرّجل الذي لم يرسم لنفسه شخصية القديس والحكيم، بل كانت سيرة «غير مهذّبة»، لا يقبلها المجتمع الذّكوري، لكن بوعلي ياسين أعلنه بصراحة لاسيما علاقته مع المرأة وحجم الخيبات التي تعرّض لها.

بوعلي ياسين قبل وفاته

إن العزلة التي اختارها بوعلي ياسين وأسفرت عن ثلاثين كتاباً، معظمها تأليف، وجميعها مهمّة، بل ومن أمّهات الكتب، إضافة إلى ابتعاده عن وسائل الإعلام التي تكرّس الكاتب على أنه يتكلّم ولا يكتب، وتعفّف عن حضور المؤتمرات التي سرعان ما تتحول إلى جلسات تعارف اجتماعية، وآخر ما يحضر فيها الثقافة، وقد اعتبره البعض، حصناً، و«مثالاً أخلاقياً ينبغي الدفاع عنه»، في مرحلة ما يزال فيها المثقف والثقافة على حافّة الهاوية.

حين شعر البعض بأن كتابه «عين الزهور» أشبه بقنبلة، لم يجدوا بدّاً من تهديده بالقتل، لكنه تابع حياته دون طلب حراسة شخصية. واعتبر أنه ينتمي إلى «سلالة الزهاد وأصحاب الحكمة ومعلمي الأخلاق، هو الذي حاول نزع الهالة المقدسة عن رأسه، عن العالم». وحين أمضى ليلة في إحدى الزنزانات في اللاذقية، تعجّب أصدقاؤه الذين كانوا معه من هذا من صلابة هذا الرجل النحيل الصموت الهادئ.


الخاتمة


استقبل بوعلي ياسين، مفكّر القرن العشرين، سرطان الرّئة، مبتسماً، صامتاً هادئاً، لا يشكو ولا يئن، سعيداً بتفّاحة النّقد المحرّمة التي خطفها من جنان الأرض، دون أن يخفيها، أو يكذب بشأنها بل جاهر بها، حتى آخر لحظة من حياته، رافضاً العنف والقتل حتى لو وقع على «الحشرة، الحيوان والطير». لم يتوقّف بوعلي ياسين عن التفكير بإنجاز مشاريع أخرى، كتدقيق الطبعة العربية من ماركس عن لغته الأصلية (الألمانية)، فقد كانت لديه شكوك كثيرة بصحة بعض ترجمات ماركس، الأمر الذي أدّى إلى سوء فهمه، كذلك مشروع دراسة في السيرة الهلالية، وكان قد بدأ بالجزء الثاني من «السيرة الضاحكة»، وبتهيئة طبعة مطوّرة من «شمسات شباطية».

وفي عام 1986 تحوّل إلى إنسان نباتي، رافضاً بشدّة ـ بالرغم من مرضه، في مشفى الأسد الجامعي ـ أن يأكل اللحم، ليتمكن جسده النحيل من تحمّل الجرعات الكيماوية، وبقي وفياً لمبادئه حتى انتقل إلى رحمته تعالى عام 2000.


مؤلفاته


في الشأن الفكري والسياسي:
ـ الثالوث المحرم: دراسة في الدين والجنس والصراع الطبقي، 1973.
ـ العرب في مرآة التاريخ، 1995.
ـ قراءة في وثائق الوكالة اليهودية في فلسطين، 1982.
ـ نحن والغير في السياسة والاقتصاد، 1990.
ـ ماركسية العرب وانهيار السوفييت (حوارات مع مجموعة من المفكرين أجراها: جمال ربيع)، 1993.
ـ الأحزاب والحركات القومية العربية (بالاشتراك مع عدد من المؤلفين)، 2001.

الترجمات:
ـ الطوطم والتابو: فرويد، 1983.
ـ المادية الجدلية والتحليل النفسي: فيلهلم رايش، 1980.
ـ مستقبل الحياة في الغرب: غيرد غيركن، ميشائيل كونيستر، 2000.
ـ الموساد: ذراع داؤود الطويلة، 2003.
ـ الأزمات الاقتصادية: أوتو راينهولد، 1980.
ـ نمط الإنتاج الآسيوي في فكر ماركس وآنجلز: كارل ماركس، ت. هلموت، 1988.
ـ أوراق من الروزنامة: برتولد بريشت، 1992. وأصدر طبعة ثانية مزيدة ومطوّرة له بعنوان: قصص من الروزنامة، 2000.
ـ أصل الفروق بين الجنسين: أرزولاشوي، 1982.

في شأن المرأة:
ـ أزمة الزواج في سورية، 1979. وصدرت طبعة ثانية مزيدة ومطوّرة له بعنوان: أزمة المرأة في المجتمع الذكوري العربي، 1991.

في الشأن الاقتصادي:
ـ القطن وظاهرة الإنتاج الأحادي في الاقتصاد السوري، 1974.
ـ السلطة العمالية على وسائل الإنتاج في التطبيق السوري والنظرية الاشتراكية، 1979.
ـ حكاية الأرض والفلاح السوري، 1979.

في الشأن الثقافي والأدبي:
ـ الأدب والأيديولوجيا في سورية (بالاشتراك مع نبيل سليمان)، 1979.
ـ معارك ثقافية في سورية (بالاشتراك مع نبيل سليمان ومحمد كامل الخطيب)، 1979.
ـ ينابيع الثقافة ودور الصراع الطبقي، 1985.
ـ على دروب الثقافة الديمقراطية، 1994.
ـ أهل القلم وما يسطرون، 2001.
ـ قَرْوشات عاشق خائب.

في التراث:
ـ خير الزاد من حكايات شهرزاد: دراسة في مجتمع ألف ليلة وليلة، 1986.
ـ الماركسية والتراث العربي الإسلامي في الثقافة الشعبية (كتاب مشترك مع عدد من المؤلفين)، 1980.
ـ عين الزهور: سيرة ضاحكة، 1993.
ـ بيان الحد بين الهزل والجد: دراسة في أدب النكتة، 1996.
ـ شمسات شباطية: ديوان المفارقات العربية الحديثة، 1999.


المصادر


ـ كتاب: رواية اسمها سورية، نبيل صالح، خضر الآغا.
ـ سلسلة أبحاث: أزمة المرأة في المجتمع الذكوري العربي.
ـ موقع الأوان.
ـ موقع هلوسات.
ـ موقع مطر مطر.


إعداد: أميرة سلامة

اكتشف سورية

Share/Bookmark

مواضيع ذات صلة:

    اسمك

    الدولة

    التعليق

    أوس زينة:

    جزيل الشكر لكاتبة هذا البحث الهام ، لكن كأني عرفت أن الكاتب رحمه الله توفي عام 2000
    ليصدر فيما بعد "الموساد: ذراع داؤود الطويلة،" في عام 2003 ...؟؟؟

    syr

    :

    الصديق العزيز
    هذه ليست أول مرة يصدر فيها كتاباً بعد وفاة الكاتب، أو تُعرَض لوحات لرسام لم تُعرَض في حياته بل بعد مماته، أما بالنسبة للكاتب بو علي ياسين فلابد أن من نشر ترجمته "الموساد" سيكون إما من عائلته، محبيه، أو أقربائه أو أصدقائه، أو ممن اهتموا بالشأن الثقافي، فمثلا، وعلى ما أذكر قد نشرت زوجة ممدوح عدوان كتاباً لزوجها بعد وفاته.
    شكراً لتواصلك

    يعرب:

    شكرا لك يا "أميرة"
    ....

    Syria

    قصي الشامي:

    مقالة ممتازة.. نشكر إدارة الموقع لتسليطها الضوء على شخصيات أدبية رائعة مرت بقربنا، وللأسف كثير لم يلاحظ هذا المرور.. شكرا لكم.

    الشام

    :

    الشّكر لوجودكم

    أميرة

    :

    في مقدمة كتابه بيان الحد بين الهزل والجد يقول بو علي ياسين:
    "سألني أحد المثقفين: ماذا تكتب هذه الأيام؟ قلت: أؤلف كتاباً عن النكتة. صمت قليلاً وتململ في مجلسه ثم قال: أنت أكبر من أن تكتب عن النكتة!
    ولم أجد في ذلك إطراء: فهل أنا أكبر من الجاحظ؟! حالة كهذه عشتها في بداية نشاطي ككاتب. وقتها كتبت مقالة عن الجنس، فكان همّ أحد الأصدقاء المثقفين أن يهوّن من قيمة هذا العمل ويبيّن ضرورة صبّ الجهود في التّوعية السياسية. كأني بهؤلاء الناس الطيبين يريدون القول: أهذا وقت الكتابة عن الجنس أو النكتة أو ألف ليلة وليلة، والأمة العربية في هذه الحالة التي هي عليها؟! لهؤلاء أقول:
    وماذا أفعل للأمة العربية، إذا كانت أحوالها على هذا السّوء منذ مئات السنين؟! أنتفرّغ جميعاً للثقافة السياسية ونهمل ماعداها؟ وهل إنقاذ الأمة العربية متوقّف على كتابتي أنا العبد الفقير لله بوعلي ياسين؟!

    :

    في الفصل الخامس، من كتاب بيان الحد بين الهزل والجد، يتكلم بو علي ياسين عن "عصبوية النكتة" حيث يصبح الانتماء ولاء، وحالة ذاتية، وهذه القصة الضاحكة التالية تعبّر بطريقتها عن هذه الفكرة:
    "يُروى أن جندياً من فرقة إيرلندية، وقع أسيراً في قبضة الجيش الألماني في الحرب العالمية الأولى. ولكن الفرقة نفسها انتصرت على الألمان في النتيجة. وكان هذا الإيرلندي يفتخر ويفاخر بهذه الفرقة التي هي فرقته، حتى ضاق آسروه به ذرعاً، واغتاظوا منه أيما اغتياظ. فتقدّم منه أحد كبار ضبّاطهم وقال له:
    لقد افتخرْتَ أيّها الرّجل كفاية، والآن عليك أن تختار أمراً من اثنين، إمّا أن يُقطَع رأسك وإما أن تقسم يمين الطاعة لجلالة امبراطور ألمانيا. أما الإيرلندي فقد ارتعدت فرائصه وأجاب على هذا قائلاً:
    والله، لا أريد أن أفارق هذا العالم الآن، ولهذا أرى أن أقسم يمين الطاعة لجلالة الامبراطور الألماني. وهكذا كان. وما أن أقسم اليمين، حتى قال له الضابط الألماني: الآن، وقد صرتَ منّا وفينا، يمكنك أن تسرح وتمرح كما تريد. فتوجّه هذا الإيرلندي نحو الباب فرحاً، وقبل أن يخرج منه، التفت إلى الضّابط الألماني وقال له: يا الله، أيّها الضابط، مَن أولئك الإيرلنديين! ألم يحرقوا أنفاسنا وينتصروا علينا نحن الألمان؟!"

    ويسعد صباحكم

    مريم:

    مساء الخير
    شكرا جزيلا على هذا النص. إنني أبحث منذ عدة أشهر عن بعض كتب ياسين، و ذلك من أجل مقال جامعي. لكن للأسف مكتبات فرنسا لا تملك مثلي إلا الثالوت المحرم. فأرجو كاتب المقال أن يرشدني
    إلى من يمكنه مساعدتي على إقتناء الكتب التالية:

    ينابيع الثقافة ودور الصراع الطبقي
    على دروب الثقافة الديمقراطية
    نحن والغير في السياسة والاقتصاد
    الأدب والأيديولوجيا في سورية
    الماركسية والتراث العربي الإسلامي في الثقافة الشعبية

    شكرا

    فرنسا