استهداف تراثنا الثقافي: نحو تغريبة جديدة!
10 أيلول 2016
.
ترى إميلي ماكاس أن الأبنية والأماكن التي تمثل «تراثاً ثقافياً» تتجاوز كونها مجرد بقايا من التاريخ، إذ إنها شواهد من الماضي المرتبط بشعب ما، ودليل محسوس على وجود مجموعة من القيم الحضارية التي يتشاركها مجتمع ما منذ القدم.
والبحث عن تعريف متكامل لـ «التراث الثقافي» عملية صعبة، حيث ترتبط كل نظرية حيال المسألة بمحدداتها الخاصة عند تعريفه. إلا أن أحد أهم التعريفات التي تحرّر الإرث الثقافي من حالته المادية وتمنحه دوره كمحرك حقيقي في بنية المجتمع ومحرّض على التنمية الاجتماعية والاقتصادية في بيئة معاصرة، هو تعريف «اتفاقية فارو» للتراث الثقافي العام 2010، التي نصّت على أنه يمثل مجموعة الموارد المتوارثة من الماضي التي يحدّدها الأشخاص بمعزل عن امتلاكها بشكل مباشر، كانعكاس وتعبير عن قيمهم ومعتقداتهم ومعارفهم وتقاليدهم التي ما زالت قيد التطوير، وهذا يشمل الجوانب المتعلّقة بارتباط الإنسان ببيئته عبر الزمن. بهذا المعنى، فالتعريف هذا يركز على الإنسان وآلية تشكيله للتراث، بدلاً من تشييء التراث وربطه بكل ما هو مادي وملموس.
التراث الثقافي إذاً ليس أكواماً من الأحجار وأعداداً من الأبنية، بل هو مرتبط بشكل وثيق بهوية الأشخاص وانتماءاتهم. إنه ذاك الجزء من الماضي الذي نقوم نحن بالاحتفاظ به لأغراض معاصرة، سواء كانت الأسباب اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية أو سياسية، كما نقوم بتوريثه للأجيال المقبلة.
وقد ربطت نظريات ما بعد الحداثة، خاصة الدراسات المتعلقة باقتصاديات الثقافة، بين التراث والقيمة المالية، حيث يرى ثروسبي، أحد رواد هذا الاتجاه، أن التراث الثقافي يساهم برأس المال الثقافي لمجتمع معين. ففي حالة الإرث المنقول مثلاً، يشكل التراث قيمة مضافة إلى قيمة المبنى نفسه. كما يمكن حساب هذه القيمة من خلال تقييم المجتمع للمبنى التراثي، في إطار عملية تقدير حسابية تأخذ في الاعتبار الأبعاد الاجتماعية والتاريخية والثقافية.
بينما يرى وولتر سانتاغاتا الذي ينتمي هو الآخر إلى المدرسة ذاتها، أي التي تتبنى رؤية اقتصادية خاصة بالثقافة وبحساب قيمتها، أن ثقافة الشعوب شاهد على حضارتها. وهي بالتالي تتشكل من خلال رموز يمكن أن تُكتب أو تُصمَّم أو تُحكى أو تُغنّى أو تُنسَج أو تُرسَم أو تخضع لعملية رقمنة digitization أو تُصوّر أو تُعرض أو تُنشر أو تُبثّ مباشرة للجمهور. ويركّز سانتاغاتا على دور الثقافة كمثبت لهوية المجموعة المنتجة لها ولحس هذه المجموعة بالانتماء، سواء عبر ما تنتجه حالياً من ثقافة أو ما ورثته من الماضي. من هنا، فإن الثقافة تقدّم أرضية لهويات مشتركة، كونها الحامل الأهم لقيم ماضية وما ظل حاضراً منها، فضلاً عن قدرتها على جمع الناس في تحت مظلة مصير مشترك، وهذه بذلك تمثل مرساة للاستقرار المجتمعي، وتمنح أملاً بإعادة تشكيل الروابط المجتمعية المحطّمة بعد الحروب.
انطلاقاً من هنا يمكن فهم استهداف التراث الثقافي خلال الأزمات والنزاعات المسلحة. فإذا كان التعريف الأبسط لمفهوم النزاع هو الاختلاف على الرؤية المشتركة للحياة، وبالتالي الاختلاف على منظومة القيم والمفاهيم التي تشكل هوية المجتمع، فليس مستبَعداً عن جماعات إرهابية مثل «داعش» وسواها من الجماعات المشابهة ضرب منظومة القيم التي بُني على أساسها التراث الثقافي في سورية أو العراق. إذ إن تلك القيم التي تمثل، بشكلها المجرد والأكثر بساطة، جملة من المفاهيم المتصلة بالتنوّع الثقافي والتعددية في كلا البلدين، تشكل نقيضاً حاضراً وثقيلاً لأفكار هذه الجماعات.
إن العملية الممنهجة لضرب التراث الثقافي في المنطقة تتعدّى إزالة الأصنام أو تحطيمها بالمعنى المباشر، إذ إنها ترمز إلى القيم الكامنة والجامعة لشعوب المنطقة. فلم يكن تدمير المقابر في مدينة تدمر الأثرية إلا ضرباً للتنوع الديني الذي كانت المدينة تعيش في كنفه، حتى كاد يصبح دفن الموتى من الطوائف المختلفة على بقعة الأرض ذاتها غير ممكن في تدمر، كما سبق أن كان قبل ألفي عام. والمعيار ذاته ينطبق على أسواق مدينة حلب القديمة التي سوّي قسم كبير منها بالأرض حرقاً.
إن تسليط الضوء على التراث وأهميته والغاية من حفظه أمر بالغ الأهمية. فالدفاع عنه من الدفاع عن الوطن. إنه فعل مقاومة ضد الأذى النفسي الذي يضرب كل فرد منا في ذاكرته الخاصة، تماماً كما يضرب ذاكرتنا الجمعية، ويؤدي إلى تشويه هويتنا إلى أجل غير مسمّى. إن الدفاع عن إرثنا الثقافي الجامع في المشرق ضرورة ملحّة، حتى لا نصبح لاجئين في أوطاننا، وسائرين نحو تغريبة جديدة.
يــــــارا معــــــلاّ
assafir