مسعود بوبو
05 أيلول 2016
«صدى اللغة»
المحتويات
.
المقدمة
يشرّفني أن أقدّم هذا البحث المُوجز عن أحد أساتذتي الذين علّموني، وكان لهم يد طولى، وفضل كبير فيما أنا عليه، أخذ بيدي منذ أن كنت طالباً في الدراسات العليا عام 1982، وسمّاني ككل زملائي أصدقاء، وجعلني مقرّباً إليه، حبّبني علوم اللغة العربية، وأنا الذي كنت متجهاً نحو الأدب لا اللغة، غيّر مسار علمي الأكاديمي، لكنه نحو الأفضل عندما قال لي: «اللغوي يقرأ الأدب ويلتصق به، أما الأديب فلا، فقد يبتعد عن اللغة وأنظمتها الجائرة وقواعدها المُقيِّدة»، وكان ذاك.. واستمرّت هذه الصداقة، وزادت بعد أن صرت معيداً في قسم اللغة العربية، وترسّخت عندما ناقشني في رسالة الدكتوراه وكان له رأي مازلت أعتزّ به، وملاحظات تعلّمتها وأدب وتهذيب أحاول أن أتقفّاهما.. ومازلت أذكر عندما يطلب منّي تدريس مادة «فقه اللغة» عندما جاءني في الكتب حاملاً كتاب «في فقه اللغة العربية» وقال لي «هذا الكتاب لك والمادة لك.. فأنا أرهقتني الأعمال الكثيرة»، وقد علا الكتابَ إهداؤه «الصديق العزيز الدكتور شوقي مع خالص المودة والتقدير5/11 /1994»، فأحسست بعبء إضافي، أدرس مادة قريبة من اختصاصي وبطلب من أستاذها، ونحن الذين لم نعتد على هذا التواضع.. وهكذا كان.. واشتركت معه في البداية، ثم حرّرني من قيده الجميل الذي لم يُصِبِ الصداقة.. واستمرّت إلى أن توفي.. فكنت أول من كتب وكان ذاك 22/9/1999..
ولمّا كلّفت بإعداد هذا البحث عن الدكتور مسعود بوبو لم أتردّد لحظة ليكون عملي ردّ بعض الدَّيْن.. ولما أردت كتابة مقدمة هذا الكتاب حرت ماذا أكتب، فمزّقت المقدمة غير مرّة لأنني كنت أريد أن تكون أجمل ممّا كتبته في رثائه، لكنني لم أستطع، ربّما لأنّ تلك المقالة كانت الأصدق، ولا أريد إلا أن أكون صادقاً، لذلك سأثبتها كما هي.
مسعود بوبو...وداعا
مات مسعود بوبو، مات أبو الوجد، مات الإنسان الذي اختصر دماثة الخلق في وجه لا يعرف إلا الابتسامة، والأمل، مات الإنسان الذي جمع في نفسه طِيْباً لم يعرفه واحد مثله، مات «مسعود بوبو» الأستاذ المربي...
مات «مسعود بوبو» العطاء الذي أعطى من نفسه الكثير الكثير، ولم يكن يعرف لعطائه ألماً، ولم يكن يطلب من ورائه فرحاً، أو شهرة، كان يعطي لمن يسأله، ولمن لا يسأله إذا كان يعرف أنه بحاجة إلى شيء مما يملك، فتح قلبه ويديه لكثيرين فكان فرحه غامراً يستقبلك بابتسامته النقية مرحباً بك، ويبادرك قبل سؤالك، ويقدم إليك قبل أن يعرف ماذا تريد.
لقد بدأت مرحلة عطائه منذ زمن بعيد، كافح فأفلح فأثمر، وكان ثمره كبيراً عظيماً. بدت ملامحه منذ سنوات في قاعات التدريس التي كانت عنده مكاناً مقدساً، وبدت في كتاباته التي لم يبخل بها على من يطلبها، وبدت في كتبه الكثيرة التي بدت تكثر وتكثر في سنواته الأخيرة، وأثمرت في عمل كنا ننتظره، في عمل كان كل اهتمامه أن يصدر، فسهر الليالي الطوال، وقضى الأيام الكثيرة بلا كلل ولا ملل، أنف الفرح والسفر، رفض كل شيء حتى يرى الجزء الأول من الموسوعة العربية الكبرى لأنه وعد وكان الوفيَّ، فكم كان سروره غامراً عند صدوره، وهو ينتظر الثاني والثالث معاً، ولكن...
لقد كان عمله دائماً مقروناً بالمحبة لمن حوله، هكذا علمنا ونحن طلاب، وهكذا بقي وظل ونحن أصدقاء وزملاء فيما بعد، علمنا كيف نحترم الطالب قبل أن نحترم أنفسنا، وعلمنا كيف نجيد التعامل مع الآخرين، فكان المثال في هذا، وعلمنا فوق هذا وذاك التواضع أمام الآخرين لأنه كان يرى أن كل فرد وكل إنسان عنده ما يفوق الآخرين ويتميز عنهم، فكان احترامه للآخرين واجباً عليه جعلهم يحارون في أمره.
مات مسعود بوبو الأستاذ المربي، ومازلت أذكر منذ سبعة عشر عاماً عندما دخل قاعة الدراسات العليا وهو يحمل حقيبته «صديقته» أين حل وخاطبنا كأننا زملاء له، لأننا برأيه تجاوزنا المرحلة الجامعية الأولى، فهو صديق وزميل لنا، ومازال صدى كلماته يتردد في أذني، ومازالت كلماته وملاحظاته التي كان يدونها محفورة في دفاترنا، وعلى أوراقنا، واضحة كوضوح قسماته نقية صافية كلون شعره الأبيض الذي كان يزيد من وقاره، شفافة كهدوء في صوته الذي لم يرتفع مرة في وجه أحد حتى الطالب، وإن كان في أشد حالات الغضب، ولا أظن أن أحداً سمع صوته مرتفعاً، ولكن كثيرين قرؤوا صوته مرتفعاً، عالياً، صارخاً، لأنه لم يكن من الذين يزينون الكلام وينمقونه، فكان الصادق في كلمته كما في معاملته، وقد ظهرهذا من خلال تدريسه، وإشرافه على طلاب الدراسات العليا، ومن خلال مناقشاته العلمية للرسائل الجامعية التي ترى فيها الاتزان والجد والاجتهاد والاهتمام، ينظمها سلك الأدب الذي لم ينقطع مرة.
مات مسعود بوبو الأديب الكاتب الذي ترك على هذه الصفحة «الصفحة الأخيرة من جريدة البعث – حديث الصباح» أثراً كبيراً جعل كثيرين يقولون: إن الدكتور مسعود بوبو هو أفضل من كتب حديث الصباح، وجعل آخرين يقولون: إن مسعود بوبو وصل في كتاباته الأدبية- وهو اللغوي- حداً اقترب به من أدب جبران وميخائيل نعيمة، نعم هو بحق خير من كتب حديث الصباح، وهو بحق هو ذاك الأديب اللغوي الذي شغلته لغتنا عن كل مشاغل الدنيا، فوظف قلمه، ووقف نفسه وعلمه للدفاع عنها، فكان عمله في التراث العربي وغيرها واضحاً، وبصماته أكثر وضوحاً. كان شغله الشاغل تطوير العمل الأدبي لأن فيه تطويراً لكل مناحي العمل، فجهد في تطوير مجلة التراث العربي عندما صار من هيئة التحرير، وجهد أكثر في الموسوعة العربية الكبرى، فكان أن صدر الجزء الأول منها بجهد منه لا يقدر، وعمل مُضنٍ ظهر على وجهه الذي كان يزداد اصفراراً، فنسأل فيجيب إن العمل والتعب، ولكن لا يا أبا الوجد، ليس العمل وليس الجهد، لأننا نعرف فيك العمل الذي لا يشوبه الملل والجهد الذي لا يمكن أن يضني الجسد.
وداعاً أبا الوجد، لقد كانت أيامك بيننا قليلة، لكن أثرها كبير عظيم، فلا صوتك تلاشى، ولا صورتك انمحت، ولا روحك ماتت، كيف وصدى صوتك لايزال يتردد في جنبات القاعات والمدرجات والمكاتب، كيف ورسم صورتك ماثل في كل مكان جلست فيه، كيف واسمك أين اتجهت تقرأه، وأين جلست يذكره الناس.
أبا الوجد لست أرثيك، ولكن الواجب يفرض علي الاعتراف بالجميل، وهي كلمات لك الفضل في صياغتها، هي كلمات وجمل تحاول أن تفي إنساناً فاضلاً بعض حقه، ولكن هيهات.....!!
حياته
سيرته:
ولد الدكتور مسعود بوبو في قرية حَبَشْكة من قرى منطقة البسيط على الساحل السوري عام 1938، وكانت حاله كحال معظم سكان تلك المناطق، عاش في حالة من الفقر والشقاء والعذاب، وهذا ما اضطره مع أسرته إلى التنقل بين القرى والمدن في محافظة اللاذقية، وفي عام 1951 حصل على الشهادة الابتدائية من قرية «مشقيتا» التي ينسبه إليها كثيرون، ومن «مشقيتا» انتقل إلى اللاذقية المدينة، وأكمل فيها دراساته، فنال الشهادة الإعدادية لكنه لم يكمل الثانوية مباشرة، بل التحق بالخدمة الإلزامية في الجيش العربي السوري، ولكن هذا لم يمنعه من متابعة علمه وتعلّمه فقد حاز الشهادة الثانوية، وهو يقضي أيام الخدمة الإلزامية وهذا كان في العام 1963، ثم التحق بالجامعة وانتسب إلى قسم اللغة العربية في جامعة دمشق التي كان قد حط الرّحال بها.. وتخرج في هذا القسم في العام الجامعي 1967-1968، ويبدو أن عشقه اللغة العربية جعله ينتسب إلى هذا القسم، ويتفوق فيه.
وفي العام التالي 1969 عيّن مدرساً للغة العربية في ثانويات اللاذقية، لكن لم يدم هذا العمل لأكثر من سنة واحدة، إذ عُيّن معيداً في جامعة دمشق في نهاية العام نفسه، وأُوفد إلى فرنسا لتحضير درجة الدكتوراه في اللغة العربية، لكنْ تحوّل إيفاده من فرنسا إلى مصر في العام 1971، وكانت وجهته جامعة الإسكندرية، وفيها حصل على شهادة الماجستير عام 1976، وكان عنوان رسالته «اللغة في شعر السّريّ الرّفاء»، وبعد أربع سنوات 1980 حصل على شهادة الدكتوراه من الجامعة نفسها في رسالته التي عنوانها «أثر الدخيل على العربية الفصحى في عصر الاحتجاج» وهذه الرسالة كانت اللّبنة الأولى في جدار حاول د.مسعود أن يبنيه عالياً سامقاً في أرض العربية، وكان الأساس الذي بنى عليه عدداً كبيراً من الأبحاث والدراسات بل الكتب، وسنخصص له كلاماً بعد قليل.
لمّا عاد من إيفاده 1980 من جمهورية مصر العربية وقد حاز شهادة الدكتوراه عُيّن مدرساً في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق، لمادة «فقه اللغة العربية» في السنة الثالثة ثم الرابعة، ومادة «المصادر اللغوية والأدبية» في قسم الدراسات العليا، وبعد ثلاث سنوات أُعير للتدريس في الجمهورية اليمنية ودرّس عدداً من المواد المتصلة باختصاصه الأصلي «علوم اللغة العربية» واستمرت إعارته أربع سنوات عاد بعدئذ إلى جامعة دمشق، وترفَّع في سلم ترفيعات الدرجات المعتمدة في جامعة دمشق، من مدرس إلى أستاذ مساعد فأستاذ عام 1990، وفي العام 1993 عين رئيساً لقسم اللغة العربية بجامعة دمشق، ولم تكن كل هذه المهام والأعمال لتمنعه من الكتابة والتأليف والنشر، إذ كان يرى أنّ عمله ذاك ملازم للعملية الإدارية، بل يتفوق عليه في كثير من الأحيان، وقد توّجت مهامه الإدارية المتصلة بالعلم عام 1993 عندما كُلِّف بمهمة «المدير العام لهيئة الموسوعة العربية» التي تصدر عن رئاسة الجمهورية العربية السورية، وكان له فيها نشاط متميّز سنتعرف عليه بعد قليل، وربّما كان العمل الشاق والمضني فيها قد سرّع في وفاة الدكتور مسعود بوبو في العام 1999 بعد رحلة من العناء والمرض، لم تؤثر في أدبٍ كَتَبه وفكرٍ وعلمٍ ألَّفَ فيهما ما يدلّ على سعة ثقافته، وخاصة في علوم اللغة العربية.
مهام ومناصب:
كان لدى الدكتور مسعود بوبو شخصيّة متميّزة اتصفت بالتنظيم والإدارة والعمل الجيد، لذلك أُوكلت إليه مهام ومناصب متعددة منذ شبابه، فكان مديراً لمدرسة قبل أن يصل إلى الثلاثين من عمره في إحدى مدارس ريف اللاذقية، ولمّا تقدّمت به السنّ، وحاز الشهادات العليا تسلّم عدة مهام علمية، في سورية وخارجها وكانت هذه المهام تتصل بالثقافة والإعلام والصحافة بكل أنواعها، فكان أن وضع برامج في اللغة العربية لبعض المحطات الإذاعية العربية، هذا غير ما كان يقدّمه في الإذاعة السورية، وغير ما كان يقوم به من تدريس، إذ درّس في أماكن كثيرة اللغة العربية التي تقيد أصحاب الاختصاص مثل المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، ولمّا كان متميزاً في عطائه وعمله كُلّف في لجان كثيرة لتقويم الأبحاث والدراسات والكتب التي كانت تقوم لبعض المؤسسات الثقافية داخل سورية وخارجها، ومنها وزارة الثقافة، واتحاد الكتاب العرب في سورية وكذلك كان عضواً في عدد من المؤسسات، وهيئات تحرير بعض المجلات إلى أن تسلّم مدير الهيئة العامة للموسوعة العربية بدمشق، وكانت هذه تسير بالتوازي مع مؤتمرات وندوات كثيرة شارك فيها مع عدد من الأدباء والشعراء والنقاد المشهود لهم بالعمل الأدبي، كانت تتصل بالصحافة وواقعها «دمشق 1982» والنقد المعاصر في صنعاء «اليمن 1986» وندوات تلفزيونية حول اللغة العربية وهمومها ومشاكلها، واللغة العربية والتيارات اللغوية المعاصرة وبعضها كان في المغرب «1998» وإيران «1996» وغيرها الكثير.
صفاته وأخلاقه:
عُرِف د.مسعود بوبو بصفات حميدة كثيرة، كان أهمَّها التواضعُ في كل ما يعمله، فلم يكن يفاخِر، أو يقلل من شأن أي إنسان، حتى في الاختصاص الذي فيه، بل كان يشارك الآخرين آراءهم وأفكارهم، وكذلك في إدارته التي لم تعرف السّلطة المتكبّر المتجبّر، وإذا ما أراد أن يبدي رأيه كان يلقيه أمامك لتختار، لا لتأخذ به رغماً عنك، وهذا ما جعله محبوباً من كلّ من لقيه وصاحَبَه وصادَقَه وعاشَرَه حتى طلابه، وأذكر أنه لما دخل علينا في العام 1981 سنة الدراسات العليا بدأ درسه الأول بالقول: «أنتم اليوم زملاء، وأصدقاء لا طلاب، نعم ولكن لست أستاذكم بل زميلكم الذي سيقف معكم ويناقشكم ويتعلّم منكم كما ستتعلمون منّي مالا تعرفونه».
وكان إلى جانب ذلك أيضاً صاحب حِوار شائق وممتع ومفيد بصوت هامس لكنه قويّ، وبصوت هادئ لكنه يصل إلى حد الغضب عند إقرار الحكم العلمي، فدماثة أخلاقه وحسن تصرّفه، هما من ألصق الأشياء التي شدّت الناس إليه.
ومن يتصف بهذه الصفات الطيّبة وغيرها لا شك سيكون صادقاً في تعامله مع الآخرين وهكذا كان، فصداقاته امتدّت إلى أناس كثيرين بدءاً من طلابه، الذين لم يشعروا يوماً أنهم أمام أستاذ في علمه، وصديق في تصرّفاته.
وممّا اتّصف به د.مسعود أيضاً تنظيمه الوقت بدقّة تجعله يمارس عملين أو أكثر في يوم واحد، لكن من دون أن يضرّ الواحد بالآخر، بل كان يعطي لكل عمل حقّه من الوقت الذي يستحقّه ليقدّم ما يريد تقديمه سواء كان العمل إدارياً أم علمياً.
لكنّ أهم كل الصفات تلك عفة اللسان التي لا تصدر إلّا عن القلة القليلة في مجتمعاتنا، ولاسيما في أماكن العمل التي يشترك فيها الكثيرون، لقد كان لا يذكر أحداً إلا بطيبة خُلقِه، وحُسن معاملته، وجَودة عمله، وكأنه كان يرى في كل إنسان صورة شخصيتة هو التي كانت كذلك.
ومن صفاته أيضاً أنّه كان يقدّس العمل مطلقاً، وينغمس فيه حتى يصل إلى درجة ينسى نفسه معه، ويهمل ذاته، ولم يكن ينتظر من أي عمل مالاً أو كلمة شكر يصل ليله بنهاره، ولا يعرف للراحة طعماً، حتى صارت «صورته وراء المكتب بين الكتب والأوراق جزءاً لا يتجزأ من صورة» كما يقول ابنه.
وطنيته:
كان الدكتور مسعود بوبو من الناس الوطنيين الذين يدافعون عن كل ذرة من تراب الوطن، ويدفع ما يسيء إليه، فقد كان من الذين يدعون إلى حماية الثقافة الوطنية والقومية، وتنميتها وتطويرها في كل الميادين التي تستطيع أن تجعلها متطورة، وتساير العصر الحضاري والتطور اللافت الذي يصيب العالم، وجنبات حيواتهم، ولم يكن يقصّر في هذا في كل ندوة، أو محاضرة، وفي كثير من مقالاته التي كان يكتبها، ولاسيما الزاوية الأسبوعية «حديث الصباح» وكان في كل محاضرة يرمي على أسماع طلابه ما يدلّ على هذا، ولم يكن يعمل في هذا بالصراع والحوار الصاخب الذي ينزع إلى الشهرة، بل بالحوار الهادئ والرصين والموضوعي القائم على المعرفة المتراكمة، وعلى المعارف التي يجب أن يتعلّمها الإنسان في خلال حياته العلمية والعملية، بل أكثر من ذاك كلّه كان مسكوناً بأوجاع الفقراء وألمهم وجوعهم، فكانت همومهم وهموم الوطن تسكنه، وغادر حياته وهي مازالت في كثير من الناس، كما كانت في نفسه هو، والألم لا يزال يعتصر قلوب الكثيرين..فكان هذا لباساً يرتديه من الكرامة وجهاد النفس في سبيل تحقيق أمانيّها..
إنّ كل ما اتصف به مسعود بوبو يُختصر في كلمة واحدة هي الإنسان، الإنسان الذي كان يصفه بالحقّ الذي يضع القيم فيسمو بين أقرانِه وأصدقائه، الإنسان الذي يجب أن يزيّن جبهته الشرف والاستقامة والإخلاص...
علمه
بدايات العلم
اتّصف الدكتور مسعود بوبو بالتقصّي والإتقان في كل أعماله التي كان قد كتبها وقدّمها، ويعتمد المناقشة العلمية الهادفة الناقدة لا المناقشة لمجرد النقاش لإثبات صحة رأيه أو لِفَرْضِه على الآخرين، حتى يصل إلى الحكم الدقيق بتأنٍ، ومتابعة، يضاف إليها كلّها أنه كان يقدّم علمه هذا بصفة المربيّ الذي يعرف ماذا يجب أن يقدّمه لطالب العلم، أي أنه كان ذا دأب مستمرّ وجدّ، وإخلاص في العمل والعلم معاً، وهذا ما جعله صاحب قلم شهدت له المنابر محاضرات وندوات والمجلات والصحف أديباً محققاً كاتباً يملك زِمام اللغة والعلم الذي يكتب فيه، وهو الذي أسس لهذا العلم باطلاعه الواسع، وقراءاته الواسعة ونشاطه المتواصل فشارك في كل مجالات الكتابة، كالمقالة والخاطرة، والقصة، والبحث الأكاديمي، والدراسة المحققة والتحقيق العلمي في التراث العربي، وبدا هذا كله في دراساته اللغوية المتميزة التي كان بدأ بكتابتها لكنّه لم يتمّها وتتصل بتاريخ اللغة العربية.
وقد عرف عنه مذ كان طالباً في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق أنه طالب مثاليّ مجدّ مواظب حسن الاستيعاب، دقيق التنظيم، والعمل، والدأب والدوام على العمل والدراسة، غير القراءة التي كان فيها قارئاً نهماً، مع عناية واهتمام شديدين بالبحث والمطالعة والمتابعة ولاسيما في كتب التراث، وهذا ما يشهد له به أساتذته الذين درّسوه.
إنّ من أشدّ اهتمامات د.مسعود في دراسته، مذ كان طالباً محبّته اللغة العربية، واهتمامه الكبير لصون العربية من أعدائها وما يصيبها من زلّات وأخطاء، فكان المدافع المحامي عنها وعن قدسيّتها، محاولاً تقديمها صافية نقيّة من الشوائب واللهجات العامية، ولاسيما بعد أن انتشرت هذه اللهجات كثيراً.
الموسوعة:
كان الدكتور مسعود بوبو ككل المثقفين العرب يتوقون إلى عمل موسوعي كبير يضمّ المعارف العامة لكن باللغة العربية، لأنّ معظم الأعمال الموسوعية العامة كان باللغات الأجنبية، وكان عمل العرب ترجمة هذه الموسوعات، فكان لا يرى في هذا عملاً إبداعياً، وكان يشكو دائماً كسل الأدباء والعلماء العرب، ويشكو الإحباط الذي تسببه القرارات الرسمية في ميادين العلم والمعرفة والثقافة، وقد حاول كثيراً أن يشارك مع كل المهتمين بأمور الثقافة ما يجعل علومنا اللغوية والعلمية والأدبية في مكانها الجدير بها، وأن يعيد إليها رونقها وألقها اللذين بدأا يخفتان شيئاً فشيئاً، وكادا ينطفئان، وكان يشكو أيضاً عدم التعاون العربي في كل المجالات ومنها المعرفية، وأشدّ ما آلمه أن لا يُنفذ قرار أو فكرة إصدار موسوعة عربية شاملة وهو الحلم الكبير الذي كان يحلم به كل المثقفين، كان البدء به عام 1952 لكن هيهات، لم يعقد! علماً بأنّ جامعة الدول العربية اتخذت قراراً بهذا الشأن! ومع هذا ظل الاقتراح حبراً على ورق، ولكن الجمهورية العربية السورية لم تقنط ولم تيئس من هذه الحالة ومثلها حالات مماثلة كانت القرارات والاجتماعات المتتالية سبباً في عدم تحقيق الحلم، فلم يأخذ المشروع طريقه إلى التحقيق، فعمدت الدولة السورية إلى إنشاء الموسوعة منفردة دون البلاد الأخرى، وهكذا كان، وصدر بها المرسوم الجمهوري، وبدأت عملية الخلق والإبداع والتأليف، وكان د.مسعود يواكب كل هذه المراحل منذ بداياتها، وكان دائماً يمدّ يد المساعدة في كل ما يراه مفيداً؛ لأنه كان يحلم بمثل هذا العمل الكبير حجماً والكثير فائدة، وكان له كثيرة علمية وإدارية منذ أن بدأت الموسوعة تثمر، وإن كانت تأخرت في الصدور لأنّ أي عمل كبير تكون أساساته المرحلة التي تحتاج إلى وقت كبير، ليكون البقاء قوياً ومتيناً يقوم على دعائم تستطيع حمله.. والدكتور مسعود من الدعائم التي قامت عليها الموسوعة، فهو بدأ الكتابة في عدد من الموضوعات، ولاسيما تلك التي كان قد تخصص بها أي علوم اللغة العربية، وقد كان لهذه الموضوعات والأبحاث الأثر لغناها وقيمتها العلمية.. وربّما كان من الأمور الجميلة التي تحققت له أن يصدر الجزء الأول من الموسوعة، وهو يرأس تحريرها، وكان هذا في العام 1998.. لكن رئاسة تحرير الموسوعة لم يَحُلْ دونه والكتابة فقد استمرّ في الكتابة المتخصصة، ولم يكن من الذين يحصرون اختصاصهم بأنفسهم، بل فتح أبواب الموسوعة لكل من رأى عنده العلم الجيد والمفيد التي يرفدها حتى في اختصاصه هو، لكن حلمه الذي تحقق له لم يدم طويلاً إذ رحل الدكتور مسعود بوبو في العام 1999 بعد عام واحد من صدور الجزء الأول من الموسوعة.
ويشهد له العاملون في الهيئة العامة أنّه كان مثال الإنسان المهذّب الذي يتحلّى بصفات الخلق الحميد مع الرصانة والجدّة، وسعة الصدر، وهدوئه الرزين، وكم كانت فرحته عامرة لمّا طُبع الجزء الأول من الموسوعة، يصف ذلك العمل أحد أساتذته وأحد المسؤولين في الهيئة الدكتور إحسان النص، فيقول: «ولا أنسى ذلك اليوم الذي قدّم إلينا فيه المجلّد الأول فقد كانت الفرحة تترقرق في محيّاه الباسم، وكانت عيناه تشعّان ببريق الانتصار وكان سروره بصدور هذا المجلد سرور الوالد بإنجاب وليده البكر، وسرور الأم بلقاء وحيدها بعد غياب طويل».
إنتاجه العلمي:
بدأ الدكتور مسعود بوبو الكتابة الأدبية في الصحف والمجلات منذ أوائل الستينيات، وكانت في البداية قصصاً قصيرة، نشرها في مجلة «الجندي» منها «أحبه يا أمي» و«نجمة أخرى» و«البوح واللاجدوى»، وكان معظم ما كتبه في بداياته تعبيراً عن الأحوال الصعبة والقاسية التي كان يحياها كمعظم جيله في الأرياف، فعانوا الكثير من الفَقر والقهر والجوع وقلّة ذات اليد، وصعوبة الحصول على ما يسدّ رمق الجوع الذي كان يعضّ بأسنانه أسراً كثيرة، وقد كانت هذه القصص بدايات لمقالات كثيرة أو أساسات لبناء من المقالات التي تصبّ في هذا الجانب، فكان أن استمرّ بعرضها في المقالات التي كان يكتبها في زاوية أسبوعية في صحيفة البعث «حديث الصباح» الذي أجاد في كتابتها، وتميّز، حتى إنَّ البعض شبهها بمقالات الأدباء الكبار كجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة... وقد جُمع معظمها في كتابه «الصوت والصدى» الذي اختار عنوانه من مقالة له كتبها في مجلة «الثقافة» الدمشقية عام 1989 بعنوان «اللاذقية الصوت والصدى». وقد يكون د. مسعود قد قصد إلى هذا العنوان الذي اختصر حياته من الصوت في اللاذقية إلى صداه الذي عاد إلى اللاذقية...!
ولم يكتف بهذا النوع من الكتابة التي تعبر عن خواطر ومشاعر وأحاسيس بل كانت له كتابات ومقالات متنوعة، كان بعضها في اليمن التي أُعير إليها، فقد خصَّ الأدب اليمني بعدد من الأبحاث والدراسات في مجلات اليمن، كانت تتناول دواوين شعرية، أو روايات، أو قصصاً، أو شخصيات أدبية متميزة مثل الدكتور عبد العزيز المقالح..
ولم يكن الهمّ القومي والوطني غائباً عن فكر الدكتور مسعود، بل كان يعيش بين خفاياه وضلوعه، وكان- دائماً- متأثراً بما يصيب وطنه العربي كلّه، ولاسيما فلسطين التي لا تزال القضية الرئيسية للمواطن العربي الحرّ المستقلّ، وشدَّته انتفاضة الإنسان الفلسطيني، فكتب عنها، وعن بعض أدبها في مجلات وصحف متنوعة...
أما الإذاعة والتلفزيوم فقد خصّهما ببعض البرامج المتصلة بالأدب والكتب والمؤلفات التي كانت تصدر في العالم العربي، وأشهرها زاوية لغوية إذاعية قصيرة (5 دقائق) بعنوان «لسان العرب» واستمر في تقديمها نحو ثلاث سنوات...
وأمّا اللغة التي كان يعشقها فلم تغب عمّا كان يقدّمه في وسائل الإعلام، فكتب زاوية لغوية يومية في صحيفة «البعث» السورية لأكثر من سنة ونصف السنة، وكان الهدف منها، تثقيف القارئ لغوياً، وتصويب الأخطاء الشائعة التي كانت تقع في الكتب والمجلات والصحف ووسائل الإعلام، والتنبه إلى المعرب والدخيل والأعجمي، وهذا من صميم اختصاصه، فكان لهذه الزاوية صدى طيب بين الناس، وقد جمعها الدكتور في كتاب حمل العنوان نفسه للزاوية «نافذة على اللغة».
البحث والدراسات:
يختلف أسلوب الكتابة بين المقالة والقصة والخاطرة من جهة، وبين البحوث والدراسات ولاسيما البحوث الأكاديمية المحكّمة؛ لأنها تعتمد المصادر والمراجع والبحث والتنقيب والمقارنة والمعالجة فهذا النوع يجب أن يكون من يكتب فيه اختصاصياً لتكون أحكامه وآراؤه صحيحة دقيقة، وهذا ما يظهر لنا في كتابات الدكتور مسعود بوبو الذي اختصّ بعلوم اللغة العربية، ولذلك نجد أنّ معظم ما كتبه كان ضمن اختصاصه الدقيق، وقد ترك عدداً من الدراسات المتميزة بعضها يتصل بغريب القرآن الذي اهتمّ به القدماء اهتماماً كبيراً، فقد حاول د. مسعود أن يقرأ الدراسات اللغوية التي درست هذا الجانب ويصل إلى النتائج العلمية الدقيقة... وبعضها خصّصه باللهجات العربية في عدد من الأبحاث تبدأ من المدخل إلى اللغة العربية التي كانت مستعملة قبل الإسلام، ثم اللهجات التي كانت في عدد من القبائل، ولاسيما لهجتي قريش وتميم، وقد وقف متأنياً عند هاتين اللهجتين، ومن ثمَّ حكم على العربية التي استمرت حتى أيامنا هذه ، مع المقارنة والموازنة بينهما، ثم الوصول إلى اللهجات العربية في العصر الإسلامي والأثر الكبير الذي تركه ظهور الإسلام في العربية، والتطور الواضح الذي أصاب اللغة، مع دخول ألفاظ جديدة لم تُعهد في العصر الجاهلي، فرضها التطور الذي أصاب الحياة الاجتماعية، ورافق دخول الناس في الدين الجديد، وكل هذا يتطلب منهم لغة خاصة تعبّر عن أحاسيسهم ومشاعرهم، وحياتهم الاجتماعية... وقد كتب في هذا عدداً كبيراً من المقالات رصد فيها عملية التطور اللغوي... لكنه لم يقف عند هذا الجانب من الدراسة فحسب، بل كتب في أنواع أخرى من الدراسات مثل الأدب واللغة معاً، فكتب عن البيان العربي، وعن اقتران السيف واللسان في التصور اللغوي عند العرب، والجائزة في التاريخ والتراث اللغوي، كما كتب عن بعض التجارب الشعرية أو الدواوين الشعرية لأبرز الشعراء، فكتب مثلاً عن الرمز واللغة في أحد دواوين الشاعر السوري محمد عمران، وعن اللغة والحرفة في شعر الشاعر كشاجم... وعن الأمثال في الأكل والشرب.. كما كانت له بعض الكتابات الخاصة، مثل مقدمات لبعض دواوين الشعراء أو الكتب، وكلمات رثاء، أشهرها رثاء أحمد راتب النفاخ التي كانت عند استقبال الدكتور مسعود عضواً في مجمع اللغة العربية خلفاً للنفاخ، عام 1997... وغير هذا كثير الذي يصعب حصره والتعليق عليه.
يضاف إلى هذه الدراسات قيام الدكتور مسعود بالمشاركة في عدد من المؤتمرات والندوات التي كان معظمها يتصل اتصالاً وثيقاً باختصاصه في علوم اللغة العربية، مثل اللغة العربية لغة المختصين، المقرر على طلاب الجامعات السورية، وتطرق فيها إلى مشكلاتها ومشكلات تدريسها بعد أن اعترتها بعض الصعاب والعوائق من حيث التدريس، ويتصل بها أيضاً ندوات في اللغة العربية همومها ومشاكلها وهي لا تبتعد عن كل ما تعانيه لغتنا العربية في التأليف والنشر والتقديم، والتدريس وما أصابها من دخول الألفاظ الأجنبية، وانتشار العامية... وكان للدكتور مسعود جهد إضافي في هذا الجانب، لأنه كان يراها الوسيلة الوحيدة التي تربط بين أبناء الأمة الواحدة... وكانت له ندوات عن كتب مؤلّفة، وعن أدباء وشعراء تركوا بصماتهم على الأدب العربي، واللغة العربية.
مؤلفاته:
لم يترك الدكتور مسعود بوبو مؤلفات كثيرة قياساً إلى ما كان قد كتبه في المجلات والصحف، وما قدّمه في المحاضرات والندوات، وشارك به في الإذاعة والتلفزيون، وكل ما سبق كثير، يمكن أن يشكل عدداً من الكتب، لو أعيد النظر فيها، وتبويبها بحسب الموضوعات، أما ما هو مطبوع فيكاد يُحصر في ستة كتب، كانت كلّها في الاختصاص الذي أجاد فيه وهو علوم اللغة العربية.
من هذه الكتب كتاب «نافذة على اللغة» وهو يضمّ ما كان كتبه في الصحف والمجلات من زوايا لغوية، وأخطاء شائعة وفصيح وعامي... ولاسيما ما كان نشره في صحيفة البعث بعنوان الكتاب نفسه «نافذة على اللغة».
وقريب من الكتاب السابق كتاب «أبحاث في اللغة والأدب» ويضمّ أيضاً كثيراً من الدراسات الي كان قد كتبها في المجلات أيضاً، مثل قراءاته لديوان شاعر، أو الوقوف عند ظاهرة تتصل باللغة العربية، ولاسيما نشوئها ولهجاتها والقبائل التي كانت تتكلم بتلك اللهجات، ويختلف عن الكتاب السابق من حيث العرض وحجم المادة.
ومن كتبه «الصوت والصدى» وهو مجموعة مقالات كان معظمها منشوراً في زاوية البعث الأسبوعية «حديث الصباح» واستمرّ فيها لنحو سنتين قدّم فيها هموماً وشجوناً وصوراً معبرة وناقش أشياء كثيرة تتصل باللغة والمجتمع والوطن لكن بعدد من الكلمات كان قادراً فيها على مناقشة أي أمر... وهذا من طبيعة هذه الزوايا التي تتطلب خبرة ولغة وأسلوباً وذائقة لغوية وفنية وإنسانية كانت كلّها موجودة عنده.
إننا نقرأ في هذا الكتاب العبارة الرقيقة، والأسلوب المتين، وهما أهمّ ما يميّز الكاتب، يضاف إليهما الصور الجميلة المعبرة التي كان يبدع رسمها في لغة لانت له، وانقادت لقلمه فكانت لوحة جميلة عند وصف شخصية ما، أو لوحة ترتدي ثياباً مزركشة أو سوداء عندما كانت تتحدث عن عواطف الإنسان ومشاعره بألفاظ هي الأخرى موشّاة ومُنتقاة من المعجم الذي ادّخره منذ أن كان طالباً.
وكان الدكتور مسعود لمّا صار أستاذاً جامعياً، ألَّف كتاباً جامعياً يقع في قسمين، الأول خاص باللسانيات وقد خصِّص لطلاب السنة الثالثة، والثاني خاصّ بفقه اللغة العربية وكان مقرراً على طلاب السنة الرابعة، لأنه كان يدرس المادتين، ثم فُصل الجزآن، وصار كتابين مُوزَّعين على السنتين الثالثة والرابعة، واستمرّ تدريسهما سنوات طوالاً، كان لي الشرف أن أدرّس كتاب السنة الرابعة بعد طلب من الدكتور مسعود لمّا كثرت أعماله، وزادت أعباؤه... والكتابان كتبا بلغة متميّزة من حيث جزالتها وقوتها ومراعاة أنّها لطالب جامعي يمهّد له فكرة البحث والتنقيب والدراسة الأكاديمية، فَقُدّمت للطالب مادة تناولتها معظم كتب فقة اللغة وعلوم اللغة لكن بما يقرّب هذه المادة إلى أذهان الطلاب والقراء معاً، وسنشير إلى جوانب كثيرة من هذا الكتاب بعد قليل عند حديثنا عن جهوده اللغوية في كتابه الأهم «أثر الدخيل على العربية الفصحى في عصر الاجتماع» وهو رسالة الدكتوراه التي حازها في هذا العنوان.
جهوده اللغوية
في فقه اللغة
كانت معظم جهود الدكتور مسعود بوبو تنصب في الجهود اللغوية، التي أجاد البحث فيها والتنقيب عن مكتنزات اللغة وجواهرها في معاجم اللغة، وكتب الأقدمين، وربّما يعود هذا إلى أن الدكتور مسعود أنجز رسالتي الماجستير والدكتوراه في هذا الجانب المهمّ من جوانب اللغة، بل إنّه خصَّص العمل أكثر عندما درس جانباً واحداً بتخصص إضافي، وهو بحث الدخيل في اللغة العربية؟ لأن هذا البحث مازال مدار بحث، ومجال نقاش بين العلماء حتى عصرنا هذا، ولكنه لم يقف عند هذا الجانب فحسب، بل درس أهم ما يتصل لعلوم اللغة العربية وفقهها، دراسة المهتمّ الذي يريد أن يكشف عن جواهرها ودررها التي لا تزال في أصدافها وفي معاجمها لذلك نراه يعود إلى أصولها القديمة ويدرس تاريخها القديم.
عرض الدكتور مسعود لدراسة اللغات القديمة بدءاً من نهاية العصر الحجري، ومن ضمنها اللغات السامية الحاميّة، التي تُنسب إليها اللغة العربية، أما سبب تسميتها بالسامية الحامية فهو نسبة إلى سام وحام (ومعهم يافث) أولاد نوح عليه السلام الذين عمروا البلاد بعد ما يعرف بطوفان نوح، ويتفرع عن اللغة السامية لغات أخرى بحسب أماكنها ومناطقها الجغرافية، كالشرقية والشمالية والجنوبية، وكان يذكر أهم اللهجات التي كانت مستعملة في أوقاتها لكنّ هذه اللغات كانت تجمع عدداً من الخصائص والأحكام التي تجعلها في أسرة واحدة، ثم يتوقف عند العربية التي تعود بالنسب إلى السامية الأصل، ويؤكّد كلامه ما اكتشف في بعض الوثائق، والنقوش المكتشفة في بلاد العرب، وخاصة النقوش التي اكتشفت في النّمارة وزَبَد وحرّان، وهي أقدم الوثائق التي يعتمد عليها في معرفة نشأة اللغة العربية... ثم يتحدث عن مستويين من اللغة كانا منذ القديم، مستوى عرفته الخاصة والعلماء من الناس، ومستوى استعمله العامة من الناس، وهذا الذي مازلنا نعاني منه حتى أيامنا هذه فالفصحى هي ما يستعملها الكُتّاب والأدباء والمختصون، أما ما تستعمله العامة فهي الأقرب إلى العامية التي لا تسير وتكتب بحسب قواعد النحو المعروفة.
أما سبب قوّة اللغة العربية وحفاظها على ما تملكه من ألفاظ وتراكيب فهو ذاك البعد الديني والسياسي والأدبي والتجاري... فالعربية نزل بها القرآن الكريم، وحافظ عليها من عبث العابثين، وكانت لغة سياسة الدولة القوية والقوة دائماً تحافظ على لغة أهلها، والأدبية لأنها لغة الأدب ولاسيما الشعر العربي الذي تميّز عن غيره منذ العصر الجاهلي، واستمرّت حتى العصور اللاحقة لأنها كانت تستعمله في مراكز التجارة التي يجتمع فيها الناس من كل حدب وصوب.
اللهجات:
اهتم د. مسعود باللهجات المحكية التي كانت سائدة في العصور القديمة لأنَّ كثيراً منها كان الأصل في اللغة التي لا تزال تتكلمها، وحاول- جاهداً- أن يرصد معظم اللهجات، وأن يحدّد القبائل التي كانت تتكلم بكل لهجة، وأشار إلى أنّ بعض اللهجات مازال مستعملاً مثل إلحاق الكاف والشين ببعض الكلمات في اللهجة الحورانية، وإلحاق الشين في بعض مناطق سورية وفلسطينية وأردنية، ثم توقف عند لهجتي قريش وتميم هما القبيلتان اللتان احتلتا مكانة بارزة بين قبائل العرب جغرافياً ودينياً وأدبياً، وكانت تميم في نجد تحتل الصدارة، أما قريش فاحتلت الصدارة في الحجاز، ثم أشار إلى أهمية لهجة قبيلة قريش لأنَّ القرآن الكريم نزل بها، فرجَّح كفتها، ورفع مكانتها في الدين والحسب والنسب والمجد، وحاول أن يميّز بين اللهجتين في بعض الفروق التي تميّز كل لهجة عن الأخرى.
الأصوات:
ومن الأبحاث المهمة التي توقَّف عنها د. مسعود كان بحث الصوت في اللغة، لأنَّ لهذا البحث أثراً كبيراً في نشأة اللغة، ومعرفة اللفظ الصحيح للحروف، ويشير إلى أنَّ اهتمام العرب كان منذ العصور القديمة، وقد سبقوا الأمم الغربية في هذا النوع من العلم باعتراف علماء الغرب أنفسهم، والمعلوم أن الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175هـ) هو من السبّاقين في هذا المجال وله يعود الفضل في إبداع علميّ موسيقيّ تمثّل في تأليف معجم «العين» الذي يسير على مبدأ الصوت بدءاً من حرف العين، ثم إبداعه الثاني في وضع علم العروض وموسيقا الشعر، فهو من اخترع البحور الشعرية التي تنتظم فيها القصائد الشعرية... ثم كان اهتمام علماء العربية مستنداً إلى ما جاء به الفراهيدي... ثم تحدث عمّا يتصل بالأصوات مثل الجهاز الصوتي... وتصنيف الأصوات ومخارجها، وصفاتها.
ظواهر أخرى:
ومن ضمن اهتمام د. مسعود في اللغة كان البحث عن تراثها وغناها الذي أخذته من عدة موارد ومصادر، تميّزت به العربية من دون غيرها، فاللغة العربية تتميز بأنها لغة اشتقاقية تعتمد الجذر الواحد وتُشتق منه عددٌ كبيرٌ من الألفاظ بطرق مختلفة، وبأنواع اشتقاقية متنوعة، وقد أعطى هذا البحث حقّه عندما ربطه بجهود القدماء متصلة بما تقوم به الآن، وهذا العمل من أهمّ الأعمال، لا أن تبقى دراساتنا تعتمد القدماء، بل إنّ علينا واجباً في متابعة تلك الدراسات مستفيدين من التطور الحضاري الذي أصاب كل مناحي الحياة، وكأنه يطلب من المعاصرين أن يطوّروا لغتهم لكي تساير التطور الكبير، ولكن دون الحسّ بقدسيتها وأحساسها المتين، فكان حريصاً في كل ما يكتب على أن يعمل الطلاب والشعراء والأدباء على التعبير عن العلوم بالعربية السليمة الفصيحة، وهي القادرة على ذلك...
الدخيل:
ومن أبحاث اللغة التي اهتمّ بها كانت أبحاث الدخيل والمعرب والأعجمي والمولّد، وهي أبحاث تزيد من قراء اللغة وكان د. مسعود قد ألّف كتاباً هو الرسالة التي حاز فيها شهادة الدكتوراه وسماه «أثر الدخيل على العربية الفصحى في عصر الاحتجاج».
يعدّ هذا الكتاب من أوائل الكتب في هذا الجانب من جوانب علوم اللغة العربية، فقد تناول فيه الدكتور مسعود بوبو أمراً مهماً مازال الكثيرون يقفون عنده، وهو هل في اللغة العربية ألفاظ دخيلة، والكتاب يجيب عن هذا السؤال نعم هناك ألفاظ دخيلة كثيرة دخلت معجمنا العربي منذ زمن بعيد، ولا تزال مستعملة، ونحن في كل يوم نستقبل عدداً من هذه الألفاظ.
قدّم الدكتور بوبو بمقدمة مهمة تناول فيها سبب هذا الكتاب كما تناول فيها جهود العلماء العرب والأجانب في الدخيل، لينتقل بعد ذلك إلى تعريف مصطلح «الدخيل» ويقف وقفة متأنية عند المصطلح، في جذر الكلمة في المعاجم العربية، ثم عند علماء اللغة العرب القدامى، ثم يقارن بين هذا المصطلح ومصطلحين يرتبطان به هما مصطلح الأعجمي والمعرّب، وقد ميّز بينها جميعاً لأنَّ هناك من يخطئ ويعدها- جميعاً- مصطلحاً واحداً، فالدخيل هو اللفظ الذي دخل اللغة (أي لغة) كما هو، ولم يصبه أي تعديل أو تبديل، هذا يعني أنَّ أي لغة يمكن أن يكون فيها دخيل، وهذا دليل التواصل اللغوي بين الأمم، والعربية من هذه الأمم، أما الأعجمي فقد خصَّصه العلماء باللفظ الفارسي (نسبة إلى بلاد العجم وفارس) وهذا كالدخيل لكنّه مختصّ أكثر، وهذا يمكن أيضاً أن يكون في أي لغة أخذت عن اللغة الفارسية، أما المعرّب فهو اللفظ غير العربي الذي دخل المعجم العربي، وصار كالعربي من حيث الوزن أي لبس لبوساً عربياً.
تناول الدكتور مسعود هذا البحث لكي يصل إلى أثر الدخيل في الاستشهاد الذي كان معتمداً عند القدماء حتى العام 150 للهجرة، وكان القدماء حريصين على أن يستشهدوا باللفظ الفصيح، والشعر الذي لم يدخله أي شائبة غير عربية كالدخيل، فأخذ العرب من القبائل التي تميّزت لغتها بهذه الصفة، وهي كثيرة، وقد توقف عند مسألة مهمة في هذا الباب هي هل في القرآن الكريم ألفاظ دخيلة؟ وقد عرض لآراء القدماء في هذا ووصل إلى أنَّ العلماء انقسموا إلى ثلاثة أفرقاء:
1- فريق ينكر وجود اللفظ الدخيل أو الأعجمي في القرآن رفضاً تاماً، معتمداً على قوله تعالى «أنزلناه قرآناً عربياً».
2- فريق يقرّ بوجود الدخيل والأعجمي في القرآن.
3- فريق وسط وفَّق بين الفريقين السابقين من مبدأ أنَّ ما دخل القرآن إنّما هو لفظ أعجمي دخيل، لكنه صار من أوزان عربية، وتعامل معه العلماء معاملة اللفظ العربي، لأن العرب قرؤوه ولفظوه بلسانهم العربي أي عرَّبوه، ثم ذكر بعض الألفاظ الأعجمية أو الدخيلة التي وردت في القرآن الكريم مثل: استبرق، والفسطاط، والصراط، والإبريق، هذا غير ألفاظ أسماء الأنبياء مثل إبراهيم وإسحاق، وإسرائيل، وإسماعيل، وموسى، وعيسى، فهذه أسماء أعجمية وتمنع من الصرف لهذا السبب!.
أما أبرز ما ورد في هذا الكتاب أو هذا البحث فهو الأدلة التي ساقها لمعرفة اللفظ الدخيل، وهذا يفيدنا في أن نقيس عليه لنعرف إن كان اللفظ عربياً، أم لا... وهذه أبرز الأدلة:
1- إذا كان في أول الكلمة حرف النون والراء فهي ليست من الألفاظ العربية مثل: النرد (طاولة الزهر)، والنرجس، والنردين (نوع من الورد)، والنربيش.
2- لا يجتمع في الكلمة العربية حرفا الصاد والجيم، وأي كلمة اجتمعا فيها ليست من العربية مثل: الصاج، والصولجان، والجصّ (الجبصين).
3- لا يجتمع في اللفظ العربي حرفا الجيم والقاف مثل: الجوسق (القصر)، والقجّة، وغيرهما.
4- لا يجتمع في اللفظ العربي حرفا الجيم والطاء، مثل الطاجن (المقلى الذي يقلى فيه الطعام).
5- لا يكون في آخر الكلمة حرفا الدال والزاي مثل كلمة «مهندز» التي صارت «مهندس» و«هندز» التي صارت «هندس»، ودزينة التي تعني مجموعة من (12) اثني عشر شيئاً.
6- لا تبدأ الكلمة العربية بالحروف (ب ـ س ـ ت) مثل: البستان، وبَسْتر الحليب.
ولا شك في أن ما ورد في الكتاب من الأبحاث المهمة المتصلة باللغة العربية التي كانت عند الدكتور مسعود مقدسة، ولذلك أجاد في كل ما ورد عنده من مقالات وأبحاث وكتب.
الدكتور شوقي المعري
اكتشف سورية
الأديب الدكتور مسعود بوبو |
الأديب الدكتور مسعود بوبو |
الأديب الدكتور مسعود بوبو |