سعد يكن: المايسترو
03 نيسان 2016
.
النوم تحت القصف ترك أحلاماً غير سعيدة في ذاكرته؛ فقد تعرّض التشكيلي السوري للاختطاف غير مرة على يد ميليشيات (جبهة النصرة - ذراع القاعدة في بلاد الشام)؛ لينجو بأعجوبة بعد إصابة قدمه بكسرٍ لا زال يعالج منه حتى الآن. ابن حي السبيل الحلبي ما يزال يصر على زيارة مدينته التي أكلتها الحرب؛ فالبرغم من إحراق التكفيريين لمرسمه في مشروع الفنانين بـ(عين جارة) وتدميره عن آخره، ما يزال «سعد يكن- 1950» يعودُ أماكنه الأولى، متفقداً ركام الأبنية ممتزجاً برماد لوحاته المحروقة.
نلتقيه في دمشق ذات صباح عابراً منها إلى بيروت؛ المدينة التي استقر فيها منذ سنتين منصرفاً إلى إتمام مشاريعه الفنية التي لا تتوقف؛ حيث لا تلبث أن تنقطع ضحكاته المرحة مفترّةً عن شاربيه الكثّين ولكنته الحلبية المحببة: «استحلوا مرسمي لأن الفن برأيهم حرام فهو شرك بالله)؛ وأحرقوا مكتبتي فالكتب أيضاً بالنسبة إليهم حرام (فلا كتاب إلا كتاب الله)؛ خطفوني مرتين ولاحقني رجال داعش على (طريق حلب- دارة عزة) مطلقين النار عليّ، مما أدى لانقلاب سيارتي ولولا تدخل قوات الجيش السوري وقتها وإنقاذهم لي في آخر لحظة لما طلعت عليّ شمس بعدها، (تنذكر ما تنعاد)».
كان الفنان الذي ينحدر من أب تركي وأم حلبية قد درس الفن مبكراً بمركز الفنون التشكيلية في حلب ليتخرج منه عام (1964)، فقبل أن يذهب إلى دمشق عام 1971 لإكمال دراسته للفن في كلية الفنون الجميلة هناك، كان (يكن) حتى ذلك الوقت قد أقام ثلاثة معارض فردية؛ لكنه وبعد سنتين من الدراسة عاد الشاب الصغير إلى حلب: (غادرت في إجازة أسبوعية وحتى الآن لم أعد إلى كلية الفنون الجميلة)!.
توقفه عن دراسة الفن لم يكن له كبير أثر على حلمه؛ فقد أقام هذا الفنان اثنين وخمسين معرضاً فردياً في أوروبا وكندا والعالم العربي ناهيك عن مشاركته في مئة وخمسين معرضاً مشتركاً حول العالم؛ فحتى عام 1976 كان (يكن) قد أنجز ما يقارب 22 ألف سكتش عن حلب؛ راسماً بغزارة رواد مقاهيها ومسارحها وأحيائها الشعبية، مطربيها وباعتها وأدبائها.
مصمم ديكورات
عام كامل قضاه هذا الفنان مصمماً لديكورات (مسرح الشعب) بحلب مع كل من وليد إخلاصي وحسين إدلبي وعبد الرحمن حمود؛ مثلما أنجز سكيتشات كاملة عن (مسرح الشوك) لكل من عمر حجو و دريد لحام على مسرح الحمراء بدمشق: «كنتُ وقتها أواظب على رسم تلك السكيتشات؛ محاولاً تسجيل حركة الممثلين على الخشبة، هذه الحركة التي جعلتني أرغب بالتقاطها خارج السكونية المعهودة؛ فكل الممثلين كانوا في نظري (هاملت) شكسبير حتى الكومبارس منهم كانوا يبدون لي بحواراتهم الفصيحة وطريقة تحركهم وإلقائهم وردود أفعالهم أشبه لنسخة من تلك الأعمال التي كان على الجمهور أن يقاربها لظروف حياته؛ فالجماهير للأسف لم تكن وقتها على درجة من الثقافة يسمح لها بتلقي العمل الفني، ولهذا كنتُ أثناء تدريسي للفن أعلّم طلابي آداب الذهاب إلى المسرح وطريقة تذوق اللوحة والفيلم السينمائي».
يرى (يكن) أن الفوتوغراف أبلغ بما لا يقاس على اللوحة في التعبير عن ويلات الحرب التي ألمت ببلاده: «الكاميرات اليوم أصدق بكثير من هؤلاء الفنانين الذين يصوّرون الحرب بطريقة سخيفة مرتكزين على رسم بناء مدمّر هنا أو طفل يبكي هناك قبالة الأنقاض؛ إنها مشكلة التعبير بالنسبة للفنان الذي يريد أن يقدم صياغة عن الحرب السورية بأسلوبية غير مسبوقة وبعيداً عن المباشرة؛ من هذا المنطلق ما يزال لدي تهيب في التعبير عن الكارثة التي ألمت بنا».
المقاربة في اللوحة يجب أن تكون مختلفة عن الفوتوغراف - يضيف (يكن): «نحتاج اليوم إلى أبجدية تعبير مختلفة للحاق بما وثقه الفوتوغرافيون، فهؤلاء استطاعوا أن يقدموا ما يشبه الوثيقة عن الحرب السوية، أما التشكيليون فما زالوا حتى الآن للأسف يقلّدون عمل الفوتوغراف، لا أكثر».يشتغل (يكن) اليوم في غاليري بالعاصمة اللبنانية على مشروع جديد له علاقة بصياغة فضاء كامل عن الحرب باللونين الأسود والأبيض؛ فيما يجري الاستعدادات الأخيرة لمعرضه الأحدث في السابع من نيسان القادم بـ(صالة تجليات بيروت- صيفي فيليج) مقارباً بذلك أجواء الكابوس: «الأزمة التي نمر بها اليوم أزاحت الفنان السوري خارج الدائرة الاجتماعية؛ فلقد انقضت اليوم تلك المقولات الماركسية من قبيل (الفن للمجتمع) أو (قل لي من ترسم أقل لكَ من أنت) وزمن إقامة المعارض التشكيلية في المعامل أو ما كان يسمى بـ(الفن للجماهير). هذه الشعارات التي كانت سائدة فترة السبعينيات اكتشفنا أنها ليست من اختصاص الفنان، بل هي من مهمات الدولة؛ واليوم في ظل الظروف التي نحياها كسوريين لم تعد اللوحة مهمة حتى بالنسبة للمتذوقين وهواة الاقتناء؛ الجميع اليوم يبحث عن مكان آمن له ولعائلته، فهاجس الإنسان السوري اليوم ليس اللوحة بل تأمين لقمة طعام وشربة ماء نظيفة لأطفاله».
انتمائي لسورية هو انتماء شخصي وليس انتماء سياسياً أو قبلياً أو عشائرياً- يعلق (يكن) ويقول: «مدينة حلب أعرفها أكثر من أي إنسان في الدنيا؛ لكنها اليوم عبارة عن أنقاض فوق أنقاض، الدمار أتى على مدينة الطرب والقدود والموشحات أصبحت بلون الدم؛ الوطن قضية شخصية وليست قضية عامة؛ فالمهم كيف يعبّر الفنان عن مأزقه إزاء هذا الوطن، وكيف يستطيع البقاء حياً في ظل هذا الخراب والموت اليومي، سواء في داخل البلاد أو خارجها لا بد من حلول، لا بد من دور يلعبه الفنان على الأقل في حماية حياته وحياة من يحبهم».
ثقافتنا ثقافة كلمة لا صورة ومعظم الوسط الاجتماعي العربي وتحديداً السوري يعيش تحت الحد الأدنى من الفقر الذي لا يسمح له باقتناء لوحة - يضيف: «مثل ما حدث مع لؤي كيالي الذي كان يرسم الفلاحين والعمال و(الفعيلة) والمشردين ثم تباع لوحاته في مزادات الفن وحفلات الكوكتيل للأثرياء؛ هذه مفارقة لا يمكن تجاهلها بين موضوع الفن ومآلات تسويقه وطبيعة الجمهور الذي يطمح لاقتناء الأعمال الفنية مختلفة تماماً عن هموم اللوحة وشجون الفنان».
البعض عندما يذكر اسم سعد يكن يذهب مباشرةً إلى المقارنة بين أعمال الفنان السوري وبين أعمال (فرانسيس بيكون- 1909- 1992) فكيف يفسر (يكن) التصاق اسمه بالفنان الإيرلندي - يجيب: «أول مرة شاهدتُ فيها أعمال (بيكون) كانت عام 1976 وكان واضحاً بالنسبة لي قسمات الإنسان المحوّر الذي كنتُ قد اشتغلتُ عليه في معارض عديدة وقد ظهرت وقتها إلى العلن؛ لكنني لم أنزعج من ذلك التقارب في الأسلوب، بل شعرتُ أن بيني وبين (بيكون) ثمة تقاطعات عديدة؛ لكن تفكيره باللوحة كان مختلفا تماماً عما أفكر به؛ صحيح أن هناك شكلانية قريبة بيني وبين الرسام الإيرلندي الراحل، لكننا مختلفون جذرياً في بناء اللوحة، وهذا ماقلته لـ(بيكون) شخصياً عندما زرته في لندن مقتبل تسعينيات القرن الفائت؛ فلدي تتحرك الأشكال وتتلوى أمام الفرشاة لتساهم في الخط واللون؛ وقتذاك ضحك (بيكون) وقال لي: (صحيح أن هناك تقاطعات بين أعمالنا، لكن لوحاتك من يراها يشعر مباشرةً أن شخوصها من بلدان العالم الثالث). الحقيقة ليس لدي مشكلة أن يكون لدي تقاطعات بيني وبين أي تجربة فنية في العالم، فأنا لم أستورد تجربتي من أحد».
القطيعة
القطيعة التي أعلنها جيل (سعد يكن) مع التراث التشكيلي الموجود في بلدان المشرق العربي بدءاً من الأيقونة مروراً بمنمنمات الواسطي في العراق وصولا إلى النحت التدمري وجدرانيات الكنائس واللوحات الفسيفسائية والتصاوير البابلية؛ جعلت من اللوحة السورية رهينة لصدمة الحداثة الغربية التي كان لها عميق الأثر في تجربة الرواد، يعلق (يكن) على ذلك فيقول: «لم تكن هناك قطيعة كان هناك توجه مختلف لدى جيل السبعينيات، فقد كانت نهضة متكاملة شملت التشكيل والأدب والمسرح والسينما، ولقد اندفعتُ مع أبناء جيلي لتأسيس حداثة خاصة بنا كشرق، حيث تزامن ذلك مع صعود قصص سعدي حوراينة و زكريا تامر ومسرحيات سعد الله ونوس وأشعار الماغوط الغاضبة إلى واجهة الحركة الثقافية في البلاد؛ جيلنا أتى بعد جيل الستينيات من أمثال نصير شورى وفاتح المدرس ونذير نبعة وسواهم؛ كنا نتوق إلى معاصرة تشبهنا؛ تشبه أفكارنا ورغبتنا في التجديد والخروج من المدرسية نحو تحرير اللون والخط من عبء المحاكاة للغرب والمواكبة للمرحلة التشكيلية الفردية».
من هنا كانت لوحات (يكن) بمثابة وثيقة عن مدينة بحجم حلب، إذ جاءت أعماله لتروي بألوانها الصريحة وانزياحاتها الصادمة حكاية الشرق عبر ثنائية (جلجامش وإنكيدو) مقتفيةً لمرادفات رحلة البحث عن الخلود، والحفر في تراث ألف ليلة وليلة، فبين سيف شهريار وحكايا شهرزاد تمكن (يكن) مع رفاق دربه من تجذير شخصية لافتة للتشكيل في بلاده، منقّباً في خانات حلب وشيوخ طربها؛ عن سهرات «صبري مدلل» وصباح فخري التي رسمها بصيغة زمنية، زاوج فيها بين الإيقاع واللون، دامجاً بذلك بين حاستي السمع والرؤية، مستعيراً أجواء الأوركسترا والليالي العربية والدون كيشوت والراقصة ورواد المقاهي وأبراج الفلك في لوحاته: «لا يمكن ربط الموسيقى بسماعها من خلال الأذن بل يمكن من خلال التأمل وبصمت سماع إيقاعات تخرج من السلم الموسيقي لتصل إلى الأشكال بتناغم وحساسية عالية، لتدخل مجال الإيقاع والعين والمشاعر؛ ولتكن اللوحة بحد ذاتها موسيقى، فانفراج الروح بالموسيقى حالة من الخروج العمودي عن الواقع، لذلك اللوحة لدي عن الموسيقى والغناء أعتبرها مؤشراً صحياً للنفس والروح، بغض النظر عن ماهية الإيقاع وتنوعه عبر العصور؛ فأنا أهم مؤرخ للحياة الاجتماعية السورية نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين، بتقنيات تشكيلية عالية، سواءً قبِل الآخرون هذه الحقيقة أم رفضوها».
السوق كما يخبرنا (يكن) لم يكن في حساباته فيقول: «ليس في العالم العربي صالات عرض احترافية بالمعنى التجاري للكلمة، باستثناء بعض الصالات التي حاولت وما تزال أن تخرج من مفهوم العرض المغلق والمقتصر على النخبة إلى مفهوم الفضاء المفتوح على المدينة، لكن ما يميز عملي برأيي أنني أتناول كل عام موضوعاً أشتغل عليه؛ التنويع في موضوعاتي وفي الثيمة التي أشتغل عليها أمرٌ جذري في محترفي الشخصي، لكن تحويري للشكل أخذ تحولات بطيئة لسبب بسيط؛ وهو أن موقفي الداخلي من الإنسان لم يتغير لأغير أسلوبي، فالكائن الإنساني تاريخياً لم يتغير منذ أيام قابيل وهابيل؛ المشاعر الإنسانية كالحب والغيرة والكراهية خالدة وهي بقيت هي منذ آلاف السنين، الذي تغير هو التكنولوجيا وليس المشاعر، التقنية التي تطورت تركت الإنسان متخلفاً عن سياقها، اليوم نتكلم عن (روبوتات) قادرة على تذوق اللوحة التشكيلية ونقدها؛ بينما ما يزال البشر رهائن المشاعر القديمة، قل لي: كم ألف قابيل وهابيل يوجد اليوم في سورية؟ أجل يوجد الكثير، فكيف تطلب مني أن أغير موقفي من الإنسان وهو ما يزال على حاله منذ آلاف السنين، الموسيقى والآداب والفنون عموماً جاءت أصلاً لتهذيب هذا المخلوق من الداخل، لكن هل أوقف ذلك الحروب من حولنا؛ أعتقد أن التهذيب لم يأتِ من أمراء الحروب، بل من الفن والمرأة تحديداً؟».
الطرب جاء في لوحات هذا الفنان من الممارسة والبحث واشتغاله الدائم ليصل إلى نقطة تشبه الحضرة في حلقات الغناء الحلبي: «الطرب اللوني لا يأتي من الخطوط أو الألوان بقدر ما يعكس حالتي الداخلية نحو الألحان وجملها العميقة والأثر الذي تتركه في النفس؛ هذا يخضع دائماً لدي للتجريب، لمنتهى الهزلية واللهو واللعب والصرامة والوعي واللاوعي بحركة البشر وقدرتهم على الإصغاء للون، شخصياً لا أرسم سكيتشاً ثم أفصّل اللوحة عليه؛ إطلاقاً، لا دراسة تسبق اللوحة التي تصل لدي ارتفاعاتها أحياناً إلى ثلاثة أمتار؛ بل أبدأ برسم اللوحة من نقطة ثم بشكل أعمّر عليه لوحتي، لكنني أعترف أن اللوحة دائماً هي أقل من تصوري للعمل الفني الذي أبحث عنه، ولذلك أرسم موضوعاً معيناً قرابة مئة مرة، لكنني ولا مرة رسمت اللوحة نفسها، ومن يقول أن (سعد يكن) هو ذاك الفنان الذي يرسم المقاهي، أقول له: إنني مستعد أن أقضي عمري كله في رسم المقاهي، لكنني لا أستطيع أن أرسم المقهى نفسه مرتين، ثمة زمن في اللوحة، ثمة وقت يمضي بين كراسي ووجوه تجلس عليها، ثمة لحظة لا يمكن استعادتها أو الادعاء بتجميدها لمرة واحدة وإلى الأبد».
موجة التشويه التي اجتاحت اللوحة السورية يخبرنا ( يكن) عنها وعن سر هذا الانصياع لهذا المزاج: «لا أسميه تشويهاً، بل تحويراً يأخذ معنيين سلبياً وإيجابياً؛ ولذلك أرفض أن أسمي بيكاسو مشوّهاً بل محوّراً، لكن دعنا نعترف أن موضة اللحاق بالحداثة مؤخراً بين جيل الشباب، دفع تصورهم لرسم الشخصية المشوهّة في فراغ اللوحة، والعمل على مبالغة في رسم الأطراف والرأس، فعند مشاهدة مثل هذه الأعمال لا تستطيع أن تميز بين لوحة هذا الفنان أو ذاك، فالكل يلحق الصرعة الجديدة، هذه ليست حداثة، فالحداثة ليست أسلوباً، بل هي موقف وتجربة وسلوك، وحالة ذهنية ورؤيا عميقة للواقع من حولنا، لكن من أسف بعض الفنانين (اللعيبة) الذين عملوا وفقاً لمزاج الصالات وبرامجها دمروا فهمنا للحداثة، أضف أن تلك الصالات دعمتهم واشترت لهم أعمالهم لتبيعها في المزادات بأسعار خيالية، والهدف في النهاية كان الاحتكار والربح المادي وتبييض الأموال، فيالق من الأقزام والمسوخ تتقدم اليوم في مواكب الفن التشكيلي العربي والسوري خصوصاً؛ والمسؤول عن هذا الانحراف هو الفنان بالدرجة الأولى التابع للغاليري ولمشيئة السوق التي تروج أعمال التشويه تلك؛ والتي يموّه من خلالها هؤلاء ضعفهم في رسم الشكل الواقعي وتطويره إلى سوية تنقض الواقعي وتدينه».
البعض يقول أن موجة التشويه استشرفت ما سيحدث في العالم العربي؛ لكن (يكن) له رأي آخر: «لا أعتقد أن هؤلاء يتمتعون بهذا الوعي، أجل لدينا مجموعة من الفنانين السوريين والعرب المهمين، لكن يقابلهم مجموعة كبيرة من هؤلاء الذين لا همَّ لهم سوى بيع لوحاتهم، دون أن يكون لديهم أدنى درجات الوعي الفني والمعرفي والوطني».
سامر محمد اسماعيل
assafir.com