سعد يكن: الفنان المسكون دائماً بهموم غيره

05 تشرين الثاني 2011

بحساسية خطوطه ورمزية الألوان يروي أساطيره برغبة الآخر..

«الآخر».. عنوان المعرض الأحدث للتشكيلي سعد يكن، و(سعد) شخصية إشكالية قبل أن يكون فناناً تشكيلياً، ومفهوم هاتين الشخصيتين يؤديان بالنتيجة إلى فضاءات روح الفنان المشاكسة والتي تقدم في كل مرة فائضها من رفضه للواقع بألوان ليست كألوان الآخرين من الفنانين، كما هي مغايرة لما هو موجود في الواقع، ولا أشكاله تشبه شخصياتها الحقيقة ولا شخصيات أحد من زملائه ممن اشتغلوا على هكذا موضوع، وبالتالي لابدّ أن تعكس لوحات هذا الفنان رأيه في الواقع بدءاً من شخصيته المركبة بالأصل، بين (سعد) الإشكالي بطبيعته وخصوصية شخصيته بما تتضمن من مزاج مرتفع، وبين الفنان (يكن) التي تتضمن نقيضاً، ولو اتفق حول ما يفكّر وما يقوله في الحقيقة بصوت عال وواضح، أي الوجه الآخر الذي يحاول كل منا أن يخفيه أو لا يعلن عنه وجاهة، هذه الإشكالية كانت دائماً وما زالت تعلن عن نفسها، بل هي موضوع لوحات الفنان سعد يكن باختلاف عناوين معارضه العديدة، والذي أراد أن يسمّي معرضه هذا بـ (الآخر)..


الدكتور رياض عصمت -وزير الثقافة-
في افتتاح معرض التشكيلي سعد يكن في آرت هاوس 2011

وقبل استعراض تجربة الفنان سعد يكن، استوقفني رأي الدكتور رياض عصمت -وزير الثقافة-: «والملفت هو هذا الإحساس القوي بالواقع والتعبير عنه بشكله اللامعقول عبر رؤى تشكيلية فاتنة ومبهرة».

هذه الكلمات بما عكست من معرفة عميقة بالفنان ولوحاته، لامست برأيي وإلى حدّ بعيد تجربة الفنان بما تحمل من رؤى فلسفية واجتماعية وحتى تشكيلية صحيحة وباختزال شديد.

من أجواء معرض «الآخر» في آرت هاوس 2011


سعد يكن .. واتفاق المتناقضات
عندما يحدّد الخط بسواده وحركته النزقة حدود اللون ليرسم أحياناً بعض الشكل، هو غالباً لا يكتفي بذلك كوظيفة، وإنما ليضفي على اللون والشكل معاً في لوحات سعد يكن كثيراً من التعبير الذي يفيض بسببه من الكادر على شكل سيولات، وفي أحيان كثيرة ما يتحوّل الغرافيك إلى مساحات من الظلمة ليحتوي توهـّج باقي الألوان من شدّة الضوء الذي يبدو «بفضل سواد تلك الخطوط» غزيراً على بعض المناطق، فتظهر بعد ذلك تلك المؤثـّرات البصرية لحالة التناقض الجميل والمنسجم فيما بين مختلف عناصر العمل ككل لكثير من الدهشة والمتعة معاً.


من أعمال التشكيلي سعد يكن
في معرضه «الآخر» آرت هاوس 2011

يبقى الإنسان وبمختلف حالاته وهيئاته المجال الحيوي والفضاء الأمثل لتنقلات الفنان سعد يكن في رحاب التشكيل الذي يعني بالنسبة له الكثير في حياته، وما تبقى هو فائض يمارس فيه نزقه وخصوصية شخصيته المختلفة بالشكل والمظهر على الأقل، وحتى هذه لا بدّ أن تنعكس أيضاً وبالمحصّلة واللاوعي في معظم أعماله، للشبه الكبير الذي يظهر بينه وبين كثير من شخوصه الرئيسيين في اللوحة عموماً.

محطّات في التجربة..
من استعراض بعض المحطات في مسيرة الفنان وسيرته، نكتشف من عناوينها مدى اهتمام الفنان يـَكـَنْ بتفاصيل الحياة اليومية وصخبها، بحلاوتها ومرارتها في آن عبر تنقلاته بدءاً من .. «الغضب، مشاهدات من الحياة العامة، القطن، الرفض، إلى المقاهي، وشيوخ الطرب في مدينة حلب، نحو أيقونة حلبية معاصرة، ملحمة جلجامش، الطوفان والنساء، فالعائلة الفلسطينية والتشرّد، إلى المقاومة، وبعدها معرض الجدار، يوميات سعد يكن2005، والتحرّر وثيقة إنسانية 2006، و ألف ليلة وليلة، موسيقى» وبينها الكثير الكثير من الموضوعات التي تتفاوت بين الجدية من حيث التعامل مع الحالات الإنسانية، وصولاً إلى حدود الثرثرة البصرية الجادة، والتي ترصد تفاصيل الوجه الآخر من الحياة، أو الآخر بالمعنى الأكثر قرباً من شخصية كل منا.


من معرض «الآخر» آرت هاوس 2011

إذن.. إن أكثر من أربعة عقود ونصف من الترحال شكّلت بامتياز ما يشبه البانوراما الغنية بمحطاتها المؤثـّرة من زوايا مختلفة، بدءاً من رطوبة المكان والعتمة إلى حيث غزارة الضوء والهواء، والتي تمكـّن الفنان سعد يكن ولجملة عوامل ذاتية ومهارات مختلفة يملكها، من تقديم معظم تلك الجوانب من الحياة، ودائماً بلغته وعلى طريقته المختلفة عن الآخرين، لتبدو لنا أكثر واقعية، وأحياناً تصدمنا من شدّة تعبيرها عن صدق الحالة وخصوصيتها من دون إضافات أو تكلـّف.

ربما كان ذلك وراء نجاحات ما زال يحقّقها هذا الفنان الذي يبدو للوهلة الأولى مزاجياً وواثقاً من نفسه إلى درجة الغرور في بعض الأحيان، ومن يعرف سعد أكثر لابد أن يغيّر رأيه، وهو المتخرّج من مركز الفنون التشكيلية بحلب العام 1964 وكان عمره وقتها أربعة عشر عاماً، شارك في أول معرض رسمي في السنة التالية لتخرجه من ذلك المعهد، وفي العام 1967 نال الميدالية التقديرية في معرض القطن بحلب، وهذه التواريخ ليست للسيرة الذاتية أكثر من كونها تشكّل إضاءات وحالات متفرّدة في تاريخ تجربة إبداعية أضافت مبكـّراً علامات مميّزة إلى المشهد التشكيلي السوري في سنوات كانت تشهد فيه تحولاً عميقاً في المفاهيم مع عودة بعض الأساتذة من دول أجنبية وصديقة إلى الساحة الفنية التي بدأت في ذلك الوقت تتبلور رؤيتها التشكيلية مع مجموعة من الفنانين المجتهدين في حلب يومها، أمثال لؤي كيالي، وحيد مغاربة، فاتح المدرّس وغيرهم، والذي كان سعد أصغرهم وهو المولود في حلب 1950، ربما كانت لتلك البداية مع هؤلاء المبدعين وغيرهم الأثر العميق فيما وصلت إليه تجربته اليوم من خبرة واتساع وغنى على أكثر من صعيد، خلال مراحلها ومحطاتها العديدة المميزة بالتجريب والبحث دائماً عن الجديد والمختلف في فضاءات التشكيل منذ فنون الكهوف وحتى ما بعد- (بعد الحداثة).


من أجواء معرض «الآخر» آرت هاوس 2011

حساسية الخطوط ورمزية الألوان..
إن في كل تجربة عرضْ للفنان سعد يكن ينقلنا بشوق وعبر رعشات ريشته المثقلة بالهموم والفائضة بالتعبير إلى حيث فضاءات الحلم والذاكرة والتخيّل مع المحافظة على روحانية الموضوع بفرادة أسلوبه المعتمد على حساسية الخط ورمزية اللون ودلالاته التعبيرية، ودائماً لخدمة القصد ومجموعة الأفكار التي يصيغها بمهارات عالية وأداء تصويري وغرافيكي مميّز من أجل مربعات مدهشة، مؤثـّرة وآسرة.

على الرغم من أهمية معظم موضوعاته وتفرّدها على صعيد الشكل والصياغة، تبقى بعض المعارض تشكـّل علامة فارقة في سلسلة تجاربه وفي المشهد التشكيلي بشكل عام، مثل معرض «نحو أيقونة حلبية معاصرة»، الذي أظهر فيه مقدرة كبيرة على استحضار الحدث الأيقوني والتعبير عنه بشكل معاصر وتقديمه كلوحة فنية تتضمّن مقومات نجاحها إضافة إلى احتوائها الحالة الروحانية من خصوصية الألوان المستخدمة فيها (الذهبي) بخاصة الذي أضفى أجواءً من القدسية على بعض الشخوص، والأحمر والأزرق المخضـّر الذي وشّح فيهما أجزاء من الكادر على خلفية سوداء مانحة المشهد كثيراً من الفلسفة والجلال للحدث المرتبط بالرواية أو النص الإنجيلي في كثير من الأحيان، وهذا برأيي ما منح الموضوع أو لوحات ذلك المعرض بشكل عام مصداقية أكثر مقاربة لرؤية خاصة حول فن «الأيقونة» المشهود له من حيث خصوصيته وعراقته في سورية.


من أعمال التشكيلي سعد يكن «الآخر» آرت هاوس 2011

ما بين الأسطورة، والحكاية الشعبية..
أيضاً ورغم اشتغال الفنان على موضوع الأسطورة والحكاية الشعبية من منظور محلي، عالجه في أكثر من معرض مثل (الطوفان ونساء ، جلجامش ..) وغيرها، فقد أظهر في معرض ألف ليلة وليلة الذي قدّمه العام في نفس الصالة قبل حوالي السنتين، كان وقـّع خلاله الكتاب الذي صدر مرافقاً للمعرض، وفي التقديم كتب الأديب وليد إخلاصي صديق الفنان والمتابع لتجربته منذ البدايات تقريباً: «سعد يكن .. الابن الوفي للذاكرة الجمعية التي لم تكن شرقية ولا غربية، هجم بريشته ورؤيته على ماضي الحكايات ليجعل منها حاضراً سيكون مستقبلاً، فكأنما يضعنا في مسيرة التواصل بين الأزمان.»، وقد لامس الكاتب في تلك الكلمات ما جاء في ذلك المعرض والكتاب من تجسيد الفنان سعد يكن لرؤيته التشكيلية والأدبية للرواية التي ما زالت تمتع وتشغل كثيراً من الناس إلى اليوم في مختلف أنحاء العالم لما تتضمّن من تبصّر و خيال وأمثال، فقدّم الفنان جزءاً منه بالأسود والأبيض وآخر بالألوان وبتقنية هي أقرب إلى ألوان الغواش والأحبار أو الزيت الممدّد وإلى ما هنالك من الأدوات والمواد التي استخدمها في تجسيد هذه الملحمة البصرية التي تعكس بامتياز خبرة الفنان وجملة معارفه التشكيلية والتقنية وكثيراً من معارفه وثقافته ورأيه في الحياة والفن من وجهة نظر فلسفية وفنية تخصّه دون غيره من المبدعين.

لقد استطاع الفنان سعد يكن وبمقدرة عالية من خلال قيافة خطوطه وتوهـّج ألوانه أن يجسّد في لوحاته دائماً تلك الحالة المتداخلة ما بين فضاء الحلم وبعض الواقع المتخيّل لرغبة شهرزاد في نسج قصص وروايات غاية في الروعة ومدهشة في سردها البصري الذي تتداخل فيه الخرافة بالسحر والحيوانات بالأساطير والمغامرات بالأبطال الكواسر، كل ذلك من أجل تقديم حكايات تحمل في طياتها بساطة تحولت إلى فلسفة استطاعت أن تؤكد حضورها عبر الأجيال، لتصير ألف ليلة وليلة، وشهرزاد يصبح رمزاً للشرق وشكلاً من أشكال الترف والمجون والرغبة، تلك القصص التي ما زالت تحمل معها أجواء الحلم والجنس والعنف.

ربما تميّز ذلك المعرض «ألف ليلة وليلة» لاحتوائه خبرة الفنان في سرد وتجسيد أجواء الأسطورة في أقصى حالات التعبير عن جماليات الحدث وتفاصيله، ولعكسه بامتياز حالة الفانتازيا البصرية التي اعتاد (سعد) أن يحقـّقها في معظم معارضه على اختلاف الموضوع - الإشكالي - دائماً لتناوله له من زواياه الحادة وإضاءته المركـّزة على الأجزاء المعتمة فيه دون أن يفقدها خصوصيتها، ومصعداً من خلال ذلك الدراما في المشهد محقـّقاً في آن متعة للعين وسَكناً للبصيرة.


من أعمال التشكيلي سعد يكن

الفنان المسكون بهموم غيره ..
سعد يكن .. الفنان المسكون بهموم غيره، والغارق في تفاصيلها حتى ثمالة الأحمر، هو في كل محاولة رسم يُظهر بعضها إلى السطح بخطوط سوداء قوية ومؤثـّرة من تداخلها وتشابكها، معلنة بعد إضاءة غزيرة عن مصيبة هنا وغناء على الطاولة المقابلة، جدار ينهض هناك ما زال يحفظ ظلال عاشقين ثملين من سنوات فائتة، وبين هذا وجدار آخر ربما خارج الكادر، حبل مشدود بعزم علـّـق عليه ما تبقى من ذكرى شهيد كرمز للصمود والتشبّث بالأرض لعائلة فلسطينية بعد نزوحها، وهكذا يُمضي سعد أيامه بين ذاكرة مُثقـلة بالتفاصيل المؤلمة وحاضر لا يختلف كثيراً عن أمس، لذلك ربما هو اختار لهذا المعرض المقام حالياً بـ «الآرت هاوس» بدمشق، عنوان (الآخر)، ليتجوّل بأريحية في عناوين معظم معارضه السابقة والتي هي بالمحصّلة عبارة أسطورة معاصرة هو يبدعها من أفكاره الحاضرة ومشاهداته اليومية كونها تشكل المناخ الأكثر حيوية لأي زمان ومكان.


التشكيلي سعد يكن

سعد يكن :
- حلب 1950 .
- درس الفن في مركز فتحي محمد للفنون التشكيلية بحلب .
- غادر كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1971 وعاد إلى حلب ليتابع نشاطه الفني في التصوير الزيتي والمائي .
- أقام عشرات المعارض الشخصية داخل وخارج سوريا .
- شارك في معظم المعارض الجماعية في سوريا وبلدان عربية وأجنبية .
- اعتمد في أعماله التصويرية على الصيغة التعبيرية العنيفة في تحوير الشكل الإنساني وإخضاعه لحسه التشكيلي في محاولة للكشف عن مأساة الإنسان وغربته .
- أعماله موزعة في متحف دمشق ووزارة الثقافة ولدى مجموعات خاصة داخل وخارج سوريا .
- صدر عنه وحول تجربته دراسات وكتب عديدة .
==

** «الآخر» عنوان معرضه الأحدث في «آرت هاوس» بدمشق، الذي يستمر حتى 29/11/2011.


غازي عانا

اكتشف سورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

الفنانة التشكيليه منيرة بكري:

يعطيكم الف عافيه

السعودية