حول تجربة الفنانة التشكيلية أسماء فيومي.. ومعرضها بغاليري أيام - بيروت

27 حزيران 2015

في لوحاتها دائماً نفحة من الحبّ وكثيرٌ من الحزن ..

في معرض اسماء فيومي الأحدث «بدون عنوان» الذي افتتح في الرابع من حزيران 2015 بغاليري أيام - بيروت، نلاحظ انحياز الفنانة إلى التجريد أكثر، أو رغبتها بالعودة إليه، والذي كان استهواها فترة السبعينات من القرن الماضي، وفي هذا المعرض الذي يعكس بعض الرغبة من الفنانة خوض غمار التجريد في فضاء تعبيريتها التشخيصية المحدثة، والتي بدأت تؤكد ملامحها قبل عقدين من الزمن برفقة مجموعة لونية عمادها كان دائماً الأزرق بتوهّج توناته وتدرجها باتجاه الأبيض، وأحياناً باتجاه الرمادي المائل إلى الزرقة، بينما اليوم يبدو بوضوح ظهور أكثر من منافس لذلك الأزرق في مجموعة من اللوحات الكبيرة نسبياً، كتدفـّق الأحمر، أو توهـّج الأصفر فوق وجوه شخوصها الرمادية التي تتمدّد على كامل المساحة أو تتوسّط الكادر محاطة بتأثير ضربات فرشاتها أو غيرها من الأدوات التي تفرش فيها الألوان بطريقة مزاجية وخاصة خبرتها بالتجريب في التقنيات.


من أعمال التشكيلية أسماء فيومي


عندما اختارت الفنانة موضوع المرأة، أو الإنسان عموماً، كانت تسعى مجتهدة بكلّ ما تملك من المهارات التقنية والفنية، وما يناسب من أدوات التعبير المختلفة، لتلامس بذلك ضفاف الروح ونبضها، مدغدغة بتلك الملامسة مشاعرنا وبصيرتنا، فتثير فينا الشهية إلى مزيد من التأمـّل بتلك اللحظات من الصدق التي تصدمنا أحياناً من واقعنا الذي نسعى نحن للهروب منه، وكأنها بذلك تدلّل على مواقع ربمّا أشدّ ألماً من التي في داخلنا، لتخفّف بذلك علينا من أحمالنا وهواجسنا، لتتحوّل اللوحة في تلك اللحظة إلى ما يشبه الحامل الحقيقي الذي نعلّق عليه أحلامنا المؤجّلة دائماً إلى زمن نجهل إيّ شيء عنه، سوى بُعْدَه وتماهيه في الغيب، لنتأكـّد أكثر بأن العمل الفني « لوحة أو منحوتة » هي المساحة الأرحب من الحرية التي مازالت تتسع أحلامنا.

في معرض الفنانة أسماء فيومي هذا والذي يشكّل برأيي استمراراً لما تضمّنه معرضها السابق في نفس الغاليري العام 2011 «الشخص من الداخل»، نلاحظ أهم ما يميّز أعمالها هو اللون الذي تستخدمه كوسيلة إيضاح لفكرتها أو مقولتها من خلال شخصياتها الأنثوية غالباً فهي ترسم باللون وتلّون بالضوء تلك الوجوه التي تقارب في تصوّفها حالة الايقونة «المعاصرة»، أيقونتها هي والتي تفيض بالتعبير الذي يشكّل بالنسبة لها الغاية الأساس لإيصال شحنات عواطفها وجملة أحاسيسها طازجة وحيوية هكذا إلى المتلقـّي من غير وسيط سوى اللوحة نفسها المحتفية كوادرها كما في كل مرة بالإنسان وهواجسه، فعكست ذلك بسيل الألوان التي تدرّجت من الأحمر إلى البنفسجي المحمّر إلى الفيروزي، فالأخضر، وبقايا الأزرق الذي لابدّ أن يطلّ من هناك أو يتسلـّل من الخلف، باتجاه مقدمة المشهد مخفّفاً من وطأة الأصفر الأقرب هنا إلى «الأوكر - الترابي»، والذي يستلقي في بعض المشاهد براحته على المساحة الأرحب من اللوحة، مضيفاً بعداً زمنياً إلى المكان الذي يبدو للوهلة الأولى معاصراً وحداثياً، من حيث الصياغات اللونية مؤسِّسة لتلك العلاقة التي تنشئها الفنانة بخبرة وعناية، مابين أصالة التجربة وتكوينها الأكاديمي


من أعمال التشكيلية أسماء فيومي


الصحيح من جهة، وبين أشكال المعاصرة والانفتاح على اتجاهات الحداثة وما بعدها من جهة ثانية، هذه العلاقة الجدلية القائمة بتوازن يصل في كثير من الأحيان إلى درجة غير منظورة في أعمالها التي تحتوي اليوم كلّ مراحلها الفنية بدءاً من الواقعية في الرسم، إلى حيث أقصى درجات التجريد والحداثة في صياغات اللون المتحرّرة في توضعاتها من حدود الشكل الحاضر بمستويات اللوحة المختلفة، والذي يزيد من تغريبها رعونة الخطوط ونزق تأثيراتها، حتى تبدو كمحفورات على السطح الطري بدرجات الرمادي المتباينة في سوادها، ذلك «الرمادي» الذي غالباً ما يطغى على معظم الألوان في مشاهدها، من تأثير الضوء المُركّز من أكثر من اتجاه ليغمر الفضاء بالنور، مقرباً حالة العمل من أجواء «القدسي في الفن»، واللوحات الجدارية في بعض الأديرة والكنائس القديمة، لما تحتوي ربّما من نفحاتٍ روحانيةٍ شرقيةٍ بامتياز.


من أعمال التشكيلية أسماء فيومي


في هذا المعرض الذي يشكّل في قسم منه استعادة لبعض مراحل تجربة الفنانة الأحدث، أي بعد معرضها السابق «الشخص من الداخل» العام 2011، نلاحظ تركيز الفنانة على عنوان «الشاهد» والذي تكرّر في أكثر من لوحة بمقاسات مختلفة وكبيرة نسبياً بألوان الأكرليك على قماش، لتتحول تلك الكوادر بما تضمّ من مشاعر ألم وحزن وربما بعض الفرح أو الأمل بفرح قادم إلى وثائق تشهد على ما يحدث اليوم في العالم وفي سورية من أحداث ومآسي يصعب التحدّث عنها ليكون الرسم أصدق في التعبير عن حجم المأساة وفظاعتها.


من أعمال التشكيلية أسماء فيومي


إن أي متابع لتجربة أسماء الفيومي من خلال مشاركاتها - وخاصة ما قدمته في سلسلة معارضها في غاليري أيام بدمشق وبيروت منذ العام 2010، سيلاحظ بلا شكّ اجتهاد الفنانة في توظيف كل مهاراتها ومعارفها التقنية لتقديم أفضل الصياغات التي تعوّدنا عليها في عملها الفني وأبرزها رشاقة عمارته وتوازن تكوينه، وحيوية ألوانه، التي لا تعكس إلاّ الحزن، رغم الأحمر الذي يوشّح المساحة بغلالة من الحلم، ربما لتخيّل واقع أقلّ حزناً، هو نفسه الأحمر الذي يلوّن شفاه صبية لم يبقى من أنوثتها سواه، وفي مشهد ثان نلاحظه من غير تحفّظ قد احتفى بجميع العناصر وكأنه فضاء اللوحة، يضمّ بخَفَرٍ كلّ تلك الأشياء، نساء وطيور وآلات العزف وبقايا قرية، وصوت ريح .. وأشكالٌ أو أشباحُ متفحّمة تطلّ من الخلف بأسود الخطوط لتزيد من حِداد الأحمر، وبعض الأبيض يعلن ببرود شكل الاحتضار، أو مراسم الاحتفاء بالموت.


من أعمال التشكيلية أسماء فيومي


إن لوحات الفنانة اليوم بغاليري أيام بيروت تشبه كثيراً أو هي استمرار لما أرادت دائماً البوح به عبر تلك الفسحات من الأبيض ترسم أشكالاً جديدة ومختلفة من الحياة فيما تبقى من تلك العمائر القديمة، التي تبدو خلفية مناسبة لاحتواء جسد امرأة صبية هناك أو في مقدّمة اللوحة، لتبدو وكأنها جزء من عمارة المشهد، لا يميّزها عنه سوى وجه يفيض بالبراءة، لأنثى فقدت طفولتها من التشرّد هناك في أطلال الأماكن التي كانت في يوم دافئة حميمة، وما زالت الفنانة تشبه الأشخاص اللذين ترسمهم، مثلما تختزن كثيراً من الحزن متمنية حياة أفضل لذلك الإنسان الذي لا يغادر لوحاتها.


من أعمال التشكيلية أسماء فيومي


الأحمر في لوحات الفنانة أسماء اليوم عموماً، لون شقائق النعمان الذي يرمز إلى الأمل فيما بعد الحياة، يحمل كل الدلالة عندما يفيض على الوجه، أو يغيّب بعض التفاصيل لجسد مُلقى، وأحياناً يمرّ كغيمة يفصل بيننا وبين الرسم بالأسود هناك عند الأفق قبل المغيب، حيث يتحول إلى برتقالي ويتماهى مع ما تبقى من أثر الأزرق في شفق المشهد ينوس شاحباً على حدود الكادر، بينما الأصفر الذي لابدّ أن يمنحنا التفاؤل بنهارات مشمسة، يتوهج هنا ليكشف عن حجم المرارة أو الحزن الذي ساد عموم المشهد الذي غالباً ما تختزله في وجه، قد تعكس تضاريسه مأساة مدينة، أو تشرّد شعب بكامله.

بعد هذا المعرض وكل معرض لأسماء فيـّومي نسأل أنفسنا والآخرين، هي هكذا الحياة حقيقة ..؟ فهل تستحقُّ أنْ تُعاشَ ..؟ وهل نستحقّ نحن البشر هذا الشكل من الحياة ..؟

ستبقى هذه الأسئلة وغيرها، مجرّد أمنيات تحوم في فضاء لوحاتها، لتمنحنا من خلالها بعض الأمل بنوافذ مفتوحة على الأفق لكثير من الأمنيات، وبعض الفرح المؤجّل، وقمراً بدراً يشهد تفاصيل ما تبقى لنا من العمر .


من أعمال التشكيلية أسماء فيومي


يستمر المعرض الذي افتتح في الرابع من حزيزان إلى الثاني عشر من تموز 2015 في غاليري أيام - بيروت
أسماء فيّومي :

- 1966 خريجة كلية الفنون الجميلة بدمشق قسم التصوير بمرتبة شرف .
- 1966 – 1999 أقامت ثمان معارض فردية في كلّ من «دمشق - أمريكا - القاهرة» ، والعديد من المعارض الجماعية في دمشق – الإسكندرية – بيروت ومعرض الآلهة السورية في بون – ألمانيا ، وفي الغراند باليه – باريس ، معرض نساء عربيات في عمّان ، وأربع تجارب فنية في باريس .
- 2010 معرضها الأحدث بغاليري أيام بدمشق .
- حصلت على جوائز عديدة من هيئات ووزارات ورئاسة مجلس الوزراء .
- 1966 – 2002 عملت كمصمّم ديكور في التلفزيون العربي السوري .
- متفرّغة لإنتاج العمل الفني .
- حزيران 2015 – المعرض الأحدث للفنانة أسماء فيومي بغاليري ايام بيروت - لبنان .


غازي عانا

اكتشف سورية

Share/Bookmark

صور الخبر

من أعمال التشكيلية أسماء فيومي

من أعمال التشكيلية أسماء فيومي

من أعمال التشكيلية أسماء فيومي

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق