معرض طلال معلاّ الأحدث - انتهى زمن الصمت

01 حزيران 2015

.

بعد صمته للمرة العاشرة في 2010 بصالة تجليات هو قرّر اليوم ومن نفس المكان بعد خمس سنوات أن ينهي هذا الشكل من التعبير عن تلك الحالة الإنسانية التي أراد إظهارها من خلال الاشتغال على الوجه كموضوع، محاولاً إيصال صوته الذي بقي على شكل صمت يستدعي الكلام، لطالما خيره «ما قلّ ودلّ».

وللفنان طلال معلا رأي قد لا يختلف كثيراً من حيث الدلالات ولا المعنى حول قيمة الوجه في اللوحة عبر تاريخ الفن : «فـ "الوجه" غالباً لا يخذلك حين تتأمّله، لكونه من الفصاحة والبلاغة بمكان رغم صمته، و.. أحياناً سكونه».

فالوجه دائماً وفي لوحة طلال معلاّ قد يخفي بعض التفاصيل التي تظهر على شكل تضاريس لإيهامنا بالتجريد أكثر خدمة للقصد من استخدام الوجه الذي لا يعني شخصاً بالذات وإنما الإنسان بما تعنيه التسمية بشكل عام : «...إن عدم اللجوء إلى التفاصيل في العمل الفنّيّ قضيَّة ذاتيَّة لديَّ، أرى أنَّ العمل الفنّيَّ لا يعتمد على التفاصيل الصغيرة في الوجه، فهناك اللون والتقنيَّة وحركة الجسد»، فالتفاصيل هنا ليست تركيزاً على شكل وإنما كنتوءات تظهر على السطح أحياناً من تنقّل الفرشاة على السطح، أو على شكل تأثيرات لطيفة لتراكم طبقات من اللون بفواصل زمنية متباينة في بعض مناطق الوجه والتي تجتمع دائماً لكثير من حيوية ودهشة المشهد المحتفي أكثر بالوجه كشخصية أساسية وبالعيون تحديداً، حتى المغمضة منها التي تفيض بالتعبير والمُغرمة بالكلام.


من أعمال التشكيلي طلال معلا

في معرض طلال معلاّ الأحدث «انتهى زمن الصمت..!» بغاليري تجليات – دمشق 2015، نلاحظ استمرار شخصياته بمحاولة إيهامنا بالصمت رغم الضجيج الذي تعكسه حيوية الأصباغ والألوان ورمزيتها التي تبوح بالقيمة المضافة المُتضمَنة في التعبير عن تلك الانفعالات، أو في الرسم كأداء، وفي الحالتين هناك ضجيج داخلي نلاحظه من خلال بعض أشكال العيون البيضاء المنفتحة على الداخل والمتماهية باتجاهنا إلى درجة يمكن سماع صوتها لتأكّدها من عدم جدوى الصمت بعد اليوم، وربما كان هذا الشكل من الإفصاح أكثر تعبيراً عن حقيقة الحدث وفجاجته وخاصة بعد أن انكشفت الأمور من جملة التداعيات التي عكستها ظروف الحرب الكونية التي ما زالت تشنّ على سورية وما أفرزته من حالات مأسوية خاصة واستثنائية أمام هذا الشكل من الصمت المريع من قبل أكثر الدول التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان اليوم والمنظمات الدولية المعنية بالأمن السلم في العالم.

غالباً ما يعتمد الفنان طلال معلا في أعماله على إبراز القيمة الغرافيكية إن كان ذلك من خلال اللون أو الخط الذي يحدّد فيه وغالباً من خياله مقاربة لأشكاله الإنسانية أو توصيفاً لها، أو لما هي عليه في الحقيقة، لتحضر على تلك الهيئة من القبح كقيمة تعبيرية أو جمالية ببعدها الروحي وليس المادي، لتقريب المعنى على حساب المغنى، والتطريب في الشكل الذي عوضه باللون، مخفـّفاً من وطأة التشويه الذي أظهر كل ما بداخل الإنسان المعاصر من قبح وقسوة وحقيقة ومن غير مجاملة أو تجميل للوجوه التي اعتدنا على مشاهدتها من الخارج كموديل أو نموذج في موضوع «البورتريه» عموماً عبر تاريخ الفن.


من أعمال التشكيلي طلال معلا

ومن لا يعرف طلال معلا الفنان، لابد قرأ له مداخلة هنا أو بحثاً في مجلة متخصّصة بالفن، وهو المعروف بثقافته التشكيلية ومعارفه حول قضايا تهم الفنون البصرية بشكل عام من خلال متابعته ومشاركته كباحث جمالي في تظاهرات وملتقيات فنية في دول عديدة، وهو في هذا المعرض «انتهى زمن الصمت..!» بعد صمته العاشر يريد من مشاهده أن لا يكون حيادياً أو صامتاً أمام كل ذلك البوح بخطوط رشيقة، معبّرة وقوية، وألوان مفاجئة من صراحتها وصعوبة استخدام بعضها، مختزلاً ومكثـّفاً ما يريد أن يقوله، وبصوت مدوٍّ بعد ذلك.. بعد صراخ وضجيج حمّله لتلك الوجوه المعبرة عن حالة أو موقف ما من الحياة.

في هذا المعرض كما في معارضه السابقة نلاحظ أن الصمت بدا يتلاشى علينا مثلما شخصياته التي ربما كانت هي المتفاجئة بأشكالنا وبردود فعلنا واندهاشنا بها، وحتى لا نغوص أكثر في فلسفة المشهد - الذي لا يمكن بكل الأحوال استبعاد هذا الجانب منه أثناء المشاهدة – لابد من ملاحظة اهتمام الفنان بالاشتغال على كامل مساحة اللوحة بنفس الأهمية وكأن الخلفية في العمل هي جزء أساسي منه، ومما تضمـّنته أيضاً من عناصر ومفردات هنا وهناك وحتى عندما تكون فراغاً ، وربما قصد الفنان من ذلك أن لا يورّط المتلقي أكثر في تفاصيل قد تبعده عن الهدف أو الغاية بتبسيطه الشديد واكتفائه بالوجه أحيانا أو تركيزه عليه كونه يتضمّن معظم الحواس، والذي هو موضوع اللوحة دائماً، والصمت أو عدمه يبقى العنوان الذي يفضّل الفنان أن تنضوي تحته معظم معارضه، وبالعموم يبقى العنوان برأيي مفيداً للمتلقي مبدئياً كمدخل لقراءة العمل بحسب مستوى تلقيه، كما لا يمكن الحكم على تلقي العمل الفني من خلال ذلك العنوان، إذ أن الخيارات تبقى مفتوحة أمام المشاهد لتلقيه كما يشاء، أو بالطريقة التي تناسبه.


من أعمال التشكيلي طلال معلا

إن الفنان طلال معلا برأيي في هذا المعرض استطاع إيصال إحساس قوي بالتعبير الإنساني الصارخ وبإيحاءات فلسفية تعكس مزاجاً شديد التباين، ظهر عُصابياً في أحسن الأحوال من خلال ملامح شخصياته المتماهية مع ذاتها وحالتها الداخلية والتي بالضرورة لا بدّ أن تقول ما لديها بشكل من التعبير الإنساني قد يكون الأكثر بلاغةً من كل اللغات.

لم يستثني «طلال» أي لون أو اشتقاق من المنظومة اللونية إلاّ واجتهد في توظيفه من خلال وجه أو أكثر على كامل المساحة، أو في جزء منها مؤلفاً بينه وبين اللون الرئيسي في اللوحة، فناغم بينها بطريقة ندّية محاولاً أن يجد علاقة توافقية بين أكثر من نقيض ومخفـّفاً في الوقت نفسه من وطأة الانتقال من درجة لونية إلى أخرى مثل الأخضر والأحمر والأزرق على نفس الكادر، كما نلاحظ مغامرة الفنان ببعض الألوان الصعبة المراس أو اشتقاقاتها كالأخضر والبنفسجي والنيلي، مع حضور طاغي للأبيض كلون وضوء في آن.

في لوحات طلال معلا، وجه.. وجهان وبعض الجسد.. وجه امرأة.. وجها رجل وامرأة.. وغالباً جسد لم يكتمل، وجوه شخصياته هي نفسها لوحاته المصاغة على شكل عمارة أو نحت، فيها كل الأبعاد، فبالإضافة إلى الطول والعرض هناك عمق اللوحة أو الإحساس بالحجم إلى درجة نشعر بخروج بعض العناصر من الكادر باتجاهنا، وانكفاء بعضها الآخر باتجاه الداخل مثلما في «الرولييف» الجداري، أو الرقم الطيني في الحضارات القديمة، بيمنا البعد الرابع في لوحة طلال يبقى الأهم برأيي وهو الزمن أو البعد النفسي والروحي في العمل الفني، ويتلخـّص في تكثيف الفنان لما يريد قوله على لسان شخصياته التي يئست من الشكوى والتذمّر ليتحول صمتها إلى احتجاج وشجب ، لتعكس بصدق أكثر حقيقة معاناتها بصوتها ورجع صداه يتردّد في الفضاء، وكانت دعوته إلى الصمت سابقاً بمثابة الدعوة إلى الإصغاء جيداً إلى ذلك الضجيج والصراخ الذي يخرج من العينين أحياناً، لطالما بقيت الشفاه مطبقة على كلام لم يسعفها الزمن على قوله.


جانب من الحضور في حفل افتتاح معرض التشكيلي طلال معلا بغاليري تجليات بدمشق

لقد اكتفى طلال في هذا المعرض بتقديم تجربته في التصوير بتقنياتها اللونية المختلفة، وحتى عندما قدم أكثر من لوحة بالأسود على درجات من الرمادي وصولاً إلى الأبيض بتنقلات تضمّنت كثيراً من دراما المشهد والحالة التي أرادها، كانت مفيدة وأكثر إيحاءً بالحالة النفسية التي ربما تجلّت بشكل أوضح لتكشف ومن غير مجاملة كثيراً من المعرفة والخبرة بتقنية الغرافيك، وهو يسعى دائماً من خلال مشاركاته أو معارضه لتقديم نتائج بحثه المجتهد في المواد والأدوات عن المدهش والمختلف في المشهد التشكيلي.

طلال معلا : من مواليد الرقة 1952.
- إجازة في الآداب من جامعة دمشق.
- درس الفن دراسة خاصة وتابعها نظرياً بتاريخ الفن في (سيينا) بإيطاليا.
- عضو هيئة (الإياب) – اليونسكو (اتحاد الفنانين العالمي).
- عضو منظمة النقد العالمي (الآيكا – باريس).
- عضو اللجنة العليا لبينالي الشارقة الدولي (1993- 2003).
- عضو لجنة تحكيم لأكثر من معرض وبينالي دولي.
- صمم العديد من أغلفة الكتب والسينوغرافيا المسرحية.
- له عدد من المؤلفات والكتب الفنية ومشارك في إعداد أكثر من مؤلّف جماعي في كل من (إيطاليا- مصر- الأردن- رومانيا- تونس- البحرين- تركيا- عُمان- اليمن- ودبي).
- أقام عشرة معارض بعنوان «صمت»، كما شارك في مجموعة من المعارض والمهرجانات العالمية في دول عديدة.
- حاز على عدد من الجوائز وشهادات التقدير والميداليات من عدد من الهيئات والدول في العالم.
- هذا معرضه الحادي عشر (انتهى زمن الصمت..!) في غاليري تجليات بدمشق 2015.


غازي عانا

اكتشف سورية

Share/Bookmark

صور الخبر

من معرض «انتهى زمن الصمت» للتشكيلي طلال معلا في غاليري تجليات بدمشق

من معرض «انتهى زمن الصمت» للتشكيلي طلال معلا في غاليري تجليات بدمشق

من معرض «انتهى زمن الصمت» للتشكيلي طلال معلا في غاليري تجليات بدمشق

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق