رسائل تل العمارنة
المحتويات
.
أخبار دمشق وبلاد أب في مراسلات العمارنة
تعد دمشق من أقدم العواصم الباقية، بينما اندثرت غيرها أو فقدت شأنها عبر الزمن. وتشكل وثائق القرن الرابع عشر ق.م الكتابية «المصرية والحثية ومراسلات العمارنة الأكدية=تل العمارنة في مصر» أقدم الوثائق التي تأتي على ذكر مدينة دمشق ومناطقها (بلاد أب)، ومن ثم فهي المصادر الحقيقية العلمية لبواكير تاريخها القديم خلال الفترة التي تعرف بـ «فترة العمارنة» التي تمتد بين نحو 3611-1331ق.م.
يرد ذكر اسم دمشق في مراسلات العمارنة بصيغة مماثلة لصيغة الاسم الحالية ثلاث مرات، وهي: Du-ma-aš-qa (EA 197:21) ti-ma-aš-qa (EA 107:28). وتنفرد رسالة من كامد اللوز -تعدّ ملحقة بمراسلات العمارنة- بذكر الصيغة (KI 69, 297:1) Ta-ma-aš-ga. أما حركة الفتحة أو الكسرة في نهاية الاسم فهي علامة إعرابية لا علاقة لها بجذر الاسم.
وتسمى المناطق المحيطة بها «بلاد أب» Apu, Upu، بفتح الهمزة أو ضمها، وبباء مفخمة، والضم في نهاية الاسم علامة إعرابية. وهي تذكر في ثلاث رسائل أيضاً (EA 53, 189, 197). ويبدو أن هذه البلاد كانت تشغل مساحة واسعة تمتد تقريباً بين الأطراف الشمالية لجبال لبنان الشرقية في الشمال، وجنوبي جبل العرب حتى شرقي الأردن في الجنوب، وأطراف سهل البقاع في الغرب، وأطراف بادية الشام في الشرق؛ أي معظم مناطق جنوب غربي سورية حالياً.
وتجدر الإشارة هنا إلى الاختلاط الحاصل في بعض البحوث بين اسم هذه البلاد وبلاد آب Ap (um) التي يتردد ذكرها في أرشيف ماري على الفرات. وقد أكدت مكتشفات مدينة شًخْنا/شُبَت إنليل جنوب شرقي القامشلي أن آب هذه كانت خلال القرن الثامن عشر ق.م مملكة شملت معظم المناطق الشرقية من الجزيرة العليا في سورية، وكانت عاصمتها في شخنا التي حملت اسم شبت إنليل أيضاً.
أما مراسلات العمارنة فهي رسائل تبادلها عدد من ملوك الممالك الكبرى في الشرق القديم وعدد كبير من ملوك المدن السورية وحكامها وزعمائها -من وسط سورية حتى جنوبي فلسطين، ولاسيما المناطق الساحلية- وملك ألاشيا (جزيرة قبرص) مع الفراعنة حكام مصر.
كشف عنها في وقت مبكر منذ سنة 1887م في تل العمارنة (أخيتانون، العاصمة المصرية آنذاك) الواقع على بعد نحو 300كم جنوبي القاهرة، على الضفة الشرقية لنهر النيل، وفي مكان يعرف في النصوص بـ «مكان رسائل الفرعون».
يبلغ عدد نصوص العمارنة -المعروفة حتى الآن- 382 نصاً، منها 350 رسالة، والبقية أساطير وملاحم، مسارد للعلامات الكتابية المقطعية، نصوص معجمية، قائمة أسماء آلهة، تعويذة.... والراجح أن قسماً آخر منها ضاع أو تلف.
إنها مدونة على رقم طينية بالكتابة المسمارية واللغة الأكّدية (اللهجة البابلية الوسيطة) وبينها رسالة باللهجة الآشورية (EA 15) وأخرى باللغة الحورية-الميتانية (EA 24) واثنتان باللغة الحثية (EA 31, 32). ويلاحظ في لغتها الأكدية أنها كثيرة الاضطراب والتأثر، ويمكن تصنيفها في مستويين، أكدية-حورية في الرسائل المرسلة من شمالي سورية ومن مصر، وهي متأثرة باللغة الحورية المستخدمة في مملكة ميتاني. وتقابلها أكدية بلاد بابل في الرسائل الأخرى، ولكنها استخدمت بشكل ضعيف ومشوه، كثر فيها تأثير اللغات الكنعانية من حيث الصيغ النحوية ونظام الجملة. ويمكن وضع خط نظري فاصل بينهما يمتد بين صُمُر عاصمة بلاد أمورو الساحلية وقطنا شمال شرقي حمص. كما يلاحظ فيها بشكل عام مدى الفروق الواسعة في الاستخدام اللغوي بين موقع وآخر.
يبدو أن معظم الرسائل قادمة إلى أخيتانون (العمارنة) في مصر، وثمة عدد قليل منه كتب في مصر ليرسل على بلاد بابل (EA 1, 5, 14) أو بلاد أرزاوا في سهل كيليكيا (EA 31) أو إلى حكام تابعين للفرعون (EA, 99, 162, 163, 190, 367, 369, 370)، وقد تكون هذه أعدت لترسل ولم يتم ذلك، أو أنها نسخ ثانية من رسائل أرسلت.
تغطي وثائق أرشيف العمارنة فترة ثلاثين سنة أو أقل. ويعود أقدمها إلى السنة الثلاثين من حكم أمنوفس (أمنحوتب) الثالث، أي 1361/1360ق.م، وأحدثها إلى مطلع حكم توت عنخ آمون، أي نحو 1331ق.م. وبذلك تكون قد شملت فترة حكم أربعة أو خمسة من فراعنة مصر، هم: أمنوفس الثالث، أمنوفس الرابع، (عنخ تخفر ورع)، سمنخ كارع، توت عنخ آمون.
إنها محفوظة في قسمها الأكبر (اكثر من مئتين بقليل) في المتحف الآسيوي ببرلين، وكذلك في المتحف البريطاني بلندن، ومتحف الأشموليان بأكسفورد، ومتحف المتروبوليتان للفن في نيويورك، ومتحف اللوفر بباريس، وليس في متحف القاهرة سوى نحو خمسين رقيماً منها، وثمة عدد قليل منها لدى أشخاص.
نشرت رقم العمارنة أول مرة سنة 1889-1890م من قبل فينكلر H. Winckler وآبل L.Abel واقتصرت آنذاك على الموجودة في متحف برلين. وفي 1892م نشرت مجموعتان أخريتان؛ إذ نشر بتسولد C. Bezold وبودج E.w. Budge الموجودة في المتحف البريطاني، ونشر شايل v. Scheil الموجودة في حوزة الروسي روستوفيتس rostovitz. وفي 1894م نشر سايس a.H. Sayce استنساخات قليلة ضمن كتاب شامل عن موقع تل العمارنة أعده بيتري W.M. F. Pertie. وفي عام 1896م عاد فينكلر لنشر مجموعة أكبر من الوثائق.
ولكن النشر الشامل المفصل للوثائق كان في 1907من على يد الباحث النرويجي كنودتسن J.A. Knudtzon الذي رتبها وقدم قراءة وترجمة لها (VAB 2/1)، ثم تابع جهوده في جزء ثان من كتابه كل من فيبر O. Weber الذي حلل الوثائق ودرسها، وإبلنج E. Ebeling الذي أعد فهارس شاملة لها، وألحق كنودتسن بها ملاحظات ختامية (VAB 2/2). ثم صدر الجزآن سنة 1964م معاً (VAB 2/1-2) وما زال هذا العمل يعد النشر النموذجي لوثائق العمارنة، ويعتمد ترتيبه التسلسلي في الدراسات.
في سنة 1939 نشرها مرسر Mercer نشراً غير موفق، ثم تلاه رني A.F. Rainey سنة 1970 حيث نشر الرسائل (359-379) وأعيد طباعة كتابه في 1978. وآخر نشر شامل لها هو ما قام به موران W.L. Moroan سنة 1978 (بالفرنسية) ثم صدرت الترجمة الإنجليزية لكتابه في 1992م تخلل ذلك صدور عشرات البحوث التي أضاءت مضمون الوثائق وأساليبهما التعبيرية واللغوية وركزت بشكل خاص على بيان المظاهر العرقية في لغتهما.
الصراع الدولي في القرن الرابع عشر ق.م
شهدت الأرض السورية صراعاً دولياً عليه منذ القرن السادس عشر ق.م، وذلك بين ثلاث قوى سياسية كبرى، هي:
1 ـ القوة الحورية-الميتانية التي بسطت سيادتها في أعالي الجزيرة السورية، ثم توسعت شرقاً وغرباً، وتجاوزت الفرات، ووصل نفوذها أحياناً حتى الساحل السوري ووسط سورية، حتى مناطق حمص الشرقية.
2 ـ القوة الحثية في بلاد الأناضول التي تنامى لديها شعور العظمة والقوة بعد احتلال ملكها مورشيلي الأول بلاد بابل (1595ق.م)، ثم انسحابه لبروز أخطار داخلية في بلاده. وبدأت بعدها بتوجيه حملات متلاحقة لاحتلال شمالي سورية والتدخل في شؤون سائر مناطقها، بغية صد ازدياد النفوذ المصري في جنوبيها والحوري-الميتاني في مناطقها الأخرى.
3 ـ القوة المصرية التي سعت إلى توطيد نفوذها في سورية منذ عهد أمنوفس (أمنحوتب) الأول (1522-1504ق.م) ومنافسة القوتين السابقتين.ولم تكن الدويلات أو الإمارات السورية الساحلية والداخلية (آلالاخ، موكيش، أوغاريت، أمورو، نخشّى، نيّا، قطنا، قادش، دمشق....) قادرة على المجابهة الفاعلة، فآثرت غالباً المهادنة والتحالف والتبعية حفاظاً على وجودها، وتمردت أحياناً.
وتجسد الصراع بشكل واضح خلال القرن الخامس عشر ق.م، حيث اتسع نطاق السيادة الحورية-الميتانية، وشمل حلب وآلالاخ وحتى قادش وقطنا. وتزايد نشاط الجيش المصري؛ ولاسيما في عهد تحوتمس الثالث (1479-1425ق.م) الذي أنفذ إلى سورية سبع عشرة حملة عسكرية، ووصل حتى الفرات خلالها. أما الحثيون فقد تراجع تدخلهم في شؤون سورية لانشغالهم بمشاكل داخلية في أواخر عهد المملكة الوسطى (1480-1380ق.م) حيث حارب توتخاليا الثاني الحوريين بضراوة، وأرغم حلب على العودة إلى السيادة الحثية. وأدى ذلك إلى مصالحة وتقارب بين مصر وميتاني في أواخر هذا القرن؛ في عهد أمنوفس الثاني (1428-1400ق.م).
في مطلع القرن الرابع عشر ق.م بدأت صفحة جديدة من العلاقات المصرية-الميتانية، وعقدت بينهما معاهدة سلام، وبدأت سلسلة من المصاهرات بين فراعنة مصر وأميرات ميتاني، بدأها تحوتمس الرابع (1400-1390ق.م) بالزواج من ابنة أرتتما الأول، وقد ورد خبر تلك المصاهرة فيما بعد في إحدى (رسائل العمارنة (EA 29. ولابد أنه تم في هذا السياق تنظيم الحدود المشتركة بينهما في سورية، وقد بقيت ثابتة خلال العقود التالية، فقد كانت حدود مناطق السيادة المصرية تمتد في المناطق الساحلية أكثر من الداخلية، وتشمل أوغاريت حاضرة سورية التجارية. وفي وادي العاصي كانت الحدود في منطقة سهل حمص تقريباً، وبقيت تونيب وقطنا ضم مناطق النفوذ الميتاني، بينما امتدت السيادة المصرية حتى قادش وبلاد أمورو. ويربط باحثون عقد معاهدة السلام المصرية-الميتانية بظهور الخطر الحثي، ولكن ج. فيلهلم G. Wilhilm يرجح أكثر فرضية أن الأوضاع الداخلية في المملكتين باتت أكثر صعوبة، ولم تعد تساعد على القيام بحملات توسعية أخرى.
وفي بلاد الأناضول كانت المملكة الحثية الوسطى تمر في المرحلة الأخيرة منها بحالة تمزق وتمردات داخلية شجعت حكام ميتاني على عبور الفرات واحتلال المناطق الجبلية غربية، وذلك في عهد تونخاليا الثالث. وفي هذا لاسياق أيضاً بدأت الاتصالات بين مصر وسكان أرزاوا المقاطعة الحثية الجنوبية الغربية. وقاد ذلك كله إلى انهيار المملكة الحثية القائمة
في عهد أمنوفس الثالث (1390-1352ق.م) وصلت علاقات مصر وميتاني أفضل درجاتها مع اعتلاء شتّرنا الثاني عرش ميتاني (نحو 1380ق.م)، وإرساله إحدى بناته لتكون زوجة للملك المصري. ويبدو أن شترنا هذا برع في إدارته وقوته، ويرجح أنه استطاع أن ينتزع من الحثيين بلاد إشوا الجبلية الواقعة ف مناطق الفرات الأعلى. وخلق ذلك لدى الفرعون المصري شعوراً بالاطمئنان، وانصرف إلى الأعمال العمرانية وممارسة الحياة الهادئة اللاهية، وتزوج أميرات ميتانيات أخريات.
ثم مرت مملكة ميتاني بمرحلة أحداث دموية ضمن الأسرة الحاكمة أثرت على العلاقات مع مصر، بل تشكل ضمن الأسرة تيار معاد للمصريين، حتى سيطر تشرتا (1365-1335ق.م) على الوضع، وقرر مصاهرة المصريين من جديد، وكتب للفرعون رسائل تعكس حرصه على العلاقات الوثيقة (EA 17, 19-25)، وتعد هذه الرسائل من أوائل مجموعة مراسلات العمارنة. وكان زواج تتوخبا (نفرتيتي) ابنة تشرتا من الفرعون الذي لم يدم سوى سنوات معدودة، إذ مات أمنوفس الثالث. عاصر الملك الحثي شوبيلوليوما مؤسس المملكة الحديثة (1355/1345-1320ق.م) تشرتا ملك ميتاني، وكان منذ السنوات الأخيرة لأمنوفس الثالث يقود الحروب بتكليف من أبيه الملك. ويذكر تشرتا في رسالته الأولى (EA 17) إلى الفرعون أنه صدَّ هجوماً حثياً و(لم يكن هناك واحد منهم عاد إلى بلاده) وأرسل له جزءاً من الأسلاب التي غنمها.
تولى حكم مصر أمنوفس الرابع (أخناتون) (1352-1336ق.م)، وتبدلت علاقاته مع ميتاني تماماً، وصلت إلى درجة شبه انقطاع، إذ انصرف إلى تنفيذ برنامجه الإصلاحي الديني. وخلال ذلك كان الأمير الحثي شوبيلوليوما يتنقل من حرب إلى حرب لإعادة توطيد مملكة أبيه، ومنذ بداية حكمه ملكاً (1345-1343ق.م) احتل المعابر الجنوبية المؤدية إلى سورية، وحارب دويلاتها (كركميش، حلب، موكيش، أوغاريت، نخشّي، نيّا، قادش) ونال اعترافها به، وجبى منها ضرائب كثيرة.
وبذلك باتت ميتاني فريسة سهلة أمام الحثيين، واستغل شوبيلوليوما الخلافات القائمة مع تشرتا ضمن الأسرة الحاكمة، فتحالف مع خصمه أرتتما الثاني المطالب بالعرش، ودعمه. وترافق ذلك مع استقلال آشور أبلط حاكم آشور عن ميتاني، ودعم أرتتما أيضاً. كما بدأ البابليون يطالبون بحق قديم، ويسيّرون حملات مدمرة إلى بلاد أربخا (كركوك). ولم يظهر أمنوفس الرابع استعداداً لمد يد العون إلى تشرتا، بل بارك الاستقلال الآشوري.
وهكذا باتت مملكة ميتاني محاصرة بالأعداء من ثلاث جهات، وكان ذلك كفيلاً بإنهائها كقوة أساسية في المنطقة، وتحولت إلى مملكة صغيرة ضعيفة تمزقها الخلافات، وظل سكانها الحوريون-الميتانيون يحاولون حتى نحو قرن بعد ذلك (أواخر القرن الثالث عشر ق.م) استعادة الكيان الميتاني القوي دون جدوى، ثم خضعوا للسيادة الآشورية.
سيطر شوبيلوليوما على موازين القوى، وبات الأقوى. وراح يركز ضرباته على سورية، إذ يذكر أنه عبر الفرات، واحتل في حملة واحدة كل المناطق الميتانية الواقعة بين منعطف الفرات والبحر الأبيض المتوسط، ومن ضمنها كركميش، وفرض حكمه على الحكام المحليين، وألزمهم بالتبعية له. وعندما واجهه ملك قادش - التي كانت تخضع اسميا لمصر- بالعداء، تابع حملته حتى لبنان. ونظراً لهذه القوة المشهودة، وإزاء صمت الحليف المصري، وجد ملك بلاد أمورو نفسه مضطراً إلى الرضوخ لسيادة شوبيلوليوما.
ويعد هذا الحدث بداية صفحة طويلة من الصراع الحثي-المصري الذي بلغ أوجه في معركة قادش (1275ق.م، وانتهى بعقد معاهدة السلام الشهيرة (نحو 1258ق.م).
تولى حكم مصر سمنخ كارع (1336-1332ق.م)، ولكن أرملة أمنوفس الرابع أنكرت حكمه وأرسلت إلى الملك الحثي ترجوه أن يرسل أحد أبنائه ليكون زوجاً لها وملكاً. وعندما استجاب لرغبتها طمعاً في مد نفوذه حتى مصر، قتل الابن وهو في طريقه إلى مصر. ويبدو أن الفوضى عمت مصر وضعف شأنها، فاستغل شوبيلوليوما ذلك في تثبيت نفوذه في سورية، إذ احتل كركميش ، وأضعف الميتانيين أكثر فحدثت فوضى في قصرهم الملكي انتهت باغتيال تشرتا على يد ابن له لم يستطع السيطرة على الوضع، فاستغل الآشوريون ذلك ونهبوا القصر ومدوا نفوذهم غرباً في المناطق الميتانية.
وهكذا ظهر تأثير القوة الآشورية، مما دفع شوبيلوليوما إلى دعم شتي وازا بن تشرتا الهارب إلى بلاده، ويبدو أنه سيطر على الموقف، وجابه الآشوريين وحلفاءهم، وحرر معاهدة مع شوبيلوليوما أعلن فيها خضوع مملكة ميتاني له، ولكن في ظل السيادة العليا للملك الحثي. ولكن قوات آشورية ضخمة واجهته، واضطر الحثيون إلى التراجع.
في تلك الأثناء تولى حكم مصر توت عنخ آمون (1332-1323ق.م) الذي تعود آخر رسالة من مراسلات العمارنة (EA 16) إلى مطلع عهده.
موقف الإمارات السورية من الصراع
ذكرنا فيما سبق أن مناطق السيادة المصرية ضمن سورية في مطلع القرن الرابع عشر ق.م كانت تشمل أوغاريت وبلاد أمورو وقادش؛ أي معظم المناطق الساحلية حتى سهل حمص تقريباً. وتضاف إليها مناطق لبنان وفلسطين وجنوب غربي سورية. أما الميتانيون فكان نفوذهم يشمل سائر المناطق السورية في شمالي حمص وفي الجزيرة السورية، وينافسهم عليها الحثيون غالباً.
في بداية عهد أمنوفس الثالث حل السلام بين مصر وميتاني، فانتعشت الإمارات السورية وسادها الهدوء والاستقرار، وانصرفت على تحسين أوضعها بقيادة السلالات المحلية الحاكمة فيه والتابعة لإحدى القوتين. ونعرف أسماء حكام هذه المرحلة: إيبيرا (في أوغاريت) نبليما ( في قطنا)، دوروشا (قي قادش)، تاكو (في نخشي). ولابد أنه كان هناك زعماء أقل شأناً يحكمون في بقاع أصغر.
كان الحكام التابعون لميتاني يحكمون إمارات قائمة على مدينة مركزية (عاصمة) ومناطق صغيرة محيطة بها، ويسمح لهم بإقامة علاقات خارجية خاصة بهم، على أن لا يتناقض ذلك مع يمين الولاء للملك الميتاني، ويتوجب عليهم تقديم الدعم العسكري -عند الضرورة- وإرسال الجزية والهدايا له، وكذلك إطعام الفرق العسكرية الميتانية القريبة.
أما المصريون فقد ربطوا مناطق نفوذهم بالبلاط الملكي المصري أكثر. فقد كان الفرعون يعد سيد البلاد، والحكام المحليون بمثابة موظفين لديه. ووجدت مدن كثيرة مملوكة للأسرة الملكية أو خاضعة بشكل مباشر للإدارة المصرية.
كانت مراقبة الأوضاع فيها تتم من قبل رُسُل الملك وقادة الحاميات العسكرية، ولاسيما الذين عرفوا بلقب «مدير شؤون البلاد الأجنبية الشمالية» (في الأكدية: رابص)، وكان هؤلاء يقيمون في المدن المهمة استراتيجياً، وتشير مراسلات العمارنة إلى ثلاثة مراكز أساسية لهم، هي: غزة، كومد (كامد اللوز)، صُمُر (تل الكزل في سهل عكار).
في أواخر عهد أمنوفس الثالث برزت النشاطات العسكرية للأمير الحثي شوبيلوليوما، ولكنها تركزت على مهاجمة ميتاني. وعندما صار ملكاً (في مطلع عهد أمنوفس الرابع) سعى إلى مد نفوذه في المناطق السورية الساحلية وسهل البقاع الشمالي، وكان من أبرز الحكام هناك أزيرو (عزيرو) حكام بلاد أمورو في صُمُر الذي حاول أن يخدم الطرفين في آن واحد؛ فرعون مصر وملك الحثيين، وفسح المجال أمام العفيرين Hapiru ليلعبوا دوراً في خلق اضطراب عام في منطقة الساحل، يساعده على انتزاع السيادة من الحكام المحليين المتنافسين فيما بينهم هناك.
ويبدو أن شوبيلوليوما استغل الصراع الداخلي في كل من مصر وميتاني، وتغلغل في سورية بحجة الاستجابة لنداء نقمادو الثاني ملك أوغاريت الذي تعرض لهجوم من قوات نخشي وموكيش ونيا، وهزم تلك القوات واسترد منها الغنائم. سار الملك الأوغاريتي للقاء شوبيلوليوما في ألالاخ وشكره، ورضي بعقد معاهدة جائرة بحقه معه.
ثم سارت فرق الجيش الحثي جنوباً على راخاني (بين نيا وقطنا)، ونهبت قطنا، وتابعت نحو بلاد أمورو التابعة للنفوذ المصرين فخرج حاكمها أزيرو لمقابلة الملك الحثي وأرضا. ثم قمع شوبيلوليوما تمرداً في نخشي وعيّن حاكماً جديداً فيهان واستأنف تغلغله جنوباً ووصل حتى واحة دمشق.
وفي أثناء ذلك هاجمه شتترا حاكم قادش التابعة للنفوذ المصري، فخرج حاكمها أزيرو لمقابلة الملك الحثي وأرضاه. ثم قمع شوبيلوليوما تمرداً في نخشي وعيّن حاكماً جديداً فيها، واستأنف تغلغله جنوباً ووصل حتى واحة دمشق.
وفي أثناء ذلك هاجمه شتترا حاكم قادش التابعة للنفوذ المصري، فعاد إليه وهزمه، ثم نفاه وعيّن مكانه ابنه إيتكمّا الذي عدّ خائناً لدى المصريين.
وبذلك يمكن القول أن شوبيلوليوما كان أول ملك حثي يفرض سيادته على معظم المناطق السورية الساحلية والداخلية، ويضعف النفوذ المصري والميتاني هناك.
وكانت أسس السيادة الحثية هي معاهدات التبعية كالتي فرضوها على أوغاريت وأمورو ونخشي وتونيب وحلب. لقد حررت باللغتين الحثية والأكدية (البابلية)، وتماثل في صياغتها قرارات ملكية مفروضة على التابعين، يقسمون على الالتزام بها. وفيها يتعهدون بالولاء للملك الكبير ولخلفائه الشرعيين وللجيش، وبتسليم الفارين، وبالتخلي عن ممارسة أية علاقات خارجية، وبتقديم الجزيرة والظهور الدوري المستمر في البلاد الحثي.
وبذلك نلاحظ أن الحكام السوريين كانوا يضطرون إلى التخلي عن إرادتهم، ولم يكن بإمكانهم اتخاذ القرار، ويعد خروجهم على قواعد التبعية تمرداً يحاسب عليه؛ أي أن الوضع كان شكلاً من أشكال الانتداب الإجباري.
أعقبت ذلك مرحلة من المحاسبة؛ إذ قام حاكم جبلا (جبيل) باتهام أزيرو حاكم أمورو بالتواطؤ مع الحثيين والتسبب في كل ذلك، وسار أزيرو إلى مصر لنفي الاتهام وإظهار الولاء. وثمة نص حثي يعرف بـ (مآثر شوبيلوليوما) يشير إلى أن مصر ردت على الحثيين بإرسال حملة إلى منطقة قادش، بينما قام الميتانيون بطرد الفرق الحثية المرابطة في مدينة مُرمُريجا شمالي سورية.
وفي جولة عسكرية تالية لشوبيلوليوما نجد أنه ركز جهوده على كركميش، وكلف اثنين من قواده بغزو بلاد عمق (البقاع) الخاضعة للنفوذ المصري. وربما كان موت آمنوفس الرابع قبل ذلك بوقت قصير هو الذي شجع الحثيين على الهجوم.
وفي عهد سمنخ كارع مرت مصر بحالة تمزق واضطراب، فاستغل شوبيلوليوما ذلك في تثبيت نفوذه في وسط سورية.
وبهذا يمكن القول أن الإمارات السورية كانت محتارة في اختيار الحليف، كان من الطبيعي لديها الولاء لمصر أو ميتاني، ولكن العنف العسكري الحثي ومرور مصر وميتاني بين فترة وأخرى بمراحل من الصراع الداخلي المؤثر كان يدفعها إلى الإذعان لسيادة الحثية والقبول بمعاهدات التبعية حفاظاً على وجودها. كما يمكن القول أن شوبيلوليوما فرض سيادته المباشرة وغير المباشرة على ميتاني والإمارات السورية، وأبعد التأثير المصري في السياسة السورية؛ وذلك في أواخر عهده، وهي تصادف المرحلة الأخيرة التي تصورها مراسلات العمارنة.
ونلاحظ في ذلك كله أن دمشق وبلاد أب لم تلعب دوراً أساسياً في الصراعات المختلفة، وذلك لأنها كانت بحكم موقعه الجغرافي -بعيدة عن مسرح الصراع الحثي-الميتاني، وعن مناطق التماس الحدودية بين الحثيين والمصريين. وكان ولاؤها لمصر أمراً تقليدياً يكاد يكون مسلماً به.
دمشق وبلاد أب في مراسلات العمارنة
إن جميع الرسائل المتعلقة بدمشق وبلاد أب وزعيمها بيرياوازا تعود إلى فترة حكم كل من آمنوفس الثالث (1390-1352ق.م) وأمنوفس الرابع (أخناتون) في مصر (1352-1336ق.م)، وقد أشرنا سابقاً إلى أن دمشق تذكر في أربع رسائل، هي:
العمارنة (53)
إنها موجهة من آكيزّ يحاكم قطنا على الفرعون، ويقول فهيا:
إلى نَمْخُرْيا ابن الشمس؛ سيدي. هكذا يقول أكيزّي عبدك: أجثو على قدمي سيدي سبعاً وسبع مرات. يا سيدي! حينما هربتُ بقيت حياً ولست ميتاً،
5) وهأنذا أعود إلى سيدي. والآن يا سيدي! أنا خادم سيدي وحده في ربوع بلاد الإله تشوب، انظر! الآن (أقول لنفسي) عساه يجيء إلى ربوع إلهك.... سيدي، وأنا أحبه. ولكن الآن هاهو إيتكما يخرج ضدي أمام ملك ختّي (الحثيين)،
10) ويطلب رأسي. والآن ها هو إيتكما قد كتب إلي قائلاً: «تعال معي إلى طرف ملك بلاد الحثيين»، ولكني قلت أنا: «كيف لي أن أذهب إلى طرف ملك بلاد الحثيين!
15) وأنا الخادم التابع للملك؛ سيدي ملك مصر!؟». لقد كتبت له وقلت: إلى ملك بلاد الحثيين سيدي.... والبلادُ هذه..... وإذا ما......
20) ولعل سيدي يرسله بسرعة؛ بقدر ما يستطيع. وعساه يجيء إلى إيتكما بسرعة؛ بقدر ما يستطيع. يا سيدي! لعله يخاف من حضورك. وها هي بلاد أُب تتمرد على سيدي! يا سيدي، انظر! ها هو، إيتكما يسير
25) إلى بلاد الحثيين، [ويحرض] العدو. ما يكنّ سيدي في قلبه...... وبلاد أُب..... يفعل. يا سيدي! لقد جاء إيتكما، وبلاد أُب بلاد سيدي في.....
30) وقد نهب ما في البيت (القصر) من فضة، نهب مئتي قطعة من الأرض....، ونهب ثلاث قطع من الأرض....، ونهب قطعة واحدة من الأرض... من أراضي بيت بيرياوازا.
35) يا سيدي! يضع توائي حاكم مدينة لابان، وأرزويا حاكم ميدينة رُخيزي نفسيهما في جوار إيتكما، وبلاد أُب بلاد سيدي يحرقها بالنيران.
40) يا سيدي! كما أميل أنا للملك سيدي؛ كذلك ملك بلاد نخشي وملك بلاد نيّا وملك بلاد سنْزر وملك بلاد تُنَنَب، وهؤلاء الملوك كلهم خدم موالون لسيدي.
45) حالما يستطيع الملك سيدي، عساه يجيء. ولكن يقال: لا لن يأتي الملك سيدي! فعسى سيدي يرسل كتيبة النبّالين، فتأتي إلى هذه البلاد. (ليفكر سيدي:) طالما أن الملوك هؤلاء يميلون إليه،
50) فليختر سيدي زعيماً (لهم)، وليحدد هداياهم، فيقدمونها. يا سيدي! إذا ما كانت هذه البلاد مما يشغل قلب سيدي، فعسى سيدي يرسل كتيبة النبّالين التابعة لسيدي، فتأتي إلى هنا. و(هاهم) رُسُل،
55) سيدي قد وصلوا إلى هنا. يا سيدي! إذا ما كان أرزويا حاكم رخيزي، وتواتي حاكم لابان سيظلان في بلاد أُب، ويظل تاشا في بلاد عمق، فعسى أن يعلم (نوايا) هم. يا سيدي عند ذلك لن تكون بلاد أُب لسيدي.
60) إنهم يرسلون كل يوم إلى غيتكما، ويقولون: تعال واحل بلاد أُب كلية. يا سيدي! حالما ترتمي مدينة دمشق في بلاد أُب بين قدميك، فإن قطناً أيضاً،
65) سترتمي بين قدميك. ويا سيد! إن المرء ينشد الحياة أمام رسولي، ولكني لست خائفاً أبداً بحضور كتيبة النبّالين التابعة لسيدي. وطالما أن كتيبة النبّالين تتبع سيدي فإنها ستدخل حالما يرسلها إليّ،
70) إلى مدينة قطنا.
أضواء على الرسالة
1) نَمخُرْيا ،نَبْخُرُزْيان نَبْخُرِّيا أسماء لامنوفس (أمنحوتب) الرابع، الذي صار يعرف باسم أخناتون أيضاً.
6) بلاد الإله تشّوب تعبير للدلالة على المملكة الميتانية، والمناطق الخاضعة لنفوذها، وقد كانت قطنا-المدينة التي أرسلت منها هذه الرسالةـ مدينة حدودية بين ميتاني ومصر. ونَسْبُ البلاد إلا الإله تشوب يعود إلى أنه كان إله الطقس وملك الآلهة الحورية. (راجع ج. فيلهلم: الحوريون تاريخهم وحضارتهم ص 98 وما بعدها).
8) غيتكمّا حاكم قادش الذي عينه الملك الحثي شوبيلوليوما مكان أبيه شتترا، وهو المقصود هنا بملك بلاد الحثيين، والاسمان يبدوان حوريين متيانيين؟
34) بيرياوازا: الاسم حوري-ميتاني، وكذلك اسم أبيه شترنا. وهو زعيم دمشق وبلاد أُب، وسيرد الحديث مفصلاً عنه لاحقاً.
35) لابانَ، لابانا (بتفخيم الباء) مدينة تذكر في رسالتين فقط (EA 53, 54)، مرتبطة بالجوار مع مدينة رخيزي، وكانتا مواليتين آنذاك لقادش والحثيين. ثمة آراء عدة في تحديد موقعه أبرزها (شمالي بعلبك على العاصي، منطقة جبل حرمون، جنوب غربي دمشق، جهة صور). ويبدو الأول أنسب لسياق الشاهد، ولعلها المواقع المعروف حالياً باسم لبو شمالي بعلبك. (راجع: Knudtzon, VAB 2, 1111).
36) رُخيزّي، رُخِزّ، رُخَص مدينة تذكر أيضاً في الرسالة (EA 191). وقد أرسل حاكمها أرزويا رسالتين للفرعون (EA 191, 192). تبدو هنا متحالفة مع لابان وقادش والحثيين، وتحالفت مع المصريين أحياناً؛ كما في رسالتيه إلى الفرعون. طابقها موللر مع رَخُصَ المذكورة في قائمة رمسيس الثاني، واقترح وقوعها في جهات دمشق (راجع VAB2, 1111-1112)Knudtzon
41) بلاد نُخشّي تقع جنوبي حلب، تذكر في المراسلات إحدى عشرة مرة.
42) بلاد نِيّا، يِي تقع على العاصي الأوسط، في مناطق أفاميا؛ تذكر في (EA 59) أيضاً. أما بلاد سنْزَر فهي على الأرجح قلعة شيزر على العاصي الأوسط أيضاً، لا يرد ذكرها في رسالة أخرى.
43) بلاد تُنَنَبْ ربما تقع بين المشرفة وحمص، لا تذكر في رسالة أخرى.
47) الكتيبة (أو جند، قوات....) التي تعتمد في الحرب على رمي النبال.
58) بلاد عمق هي البقاع، تذكر في المرسلات ثماني مرات. وتاشا هو اسم خصم للمصريين، يذكر في الرسالة (EA 56) أيضاً.
لقد كتب أكيزّي حاكم قطنا أربع رسائل أخرى للفرعون أمنوفس الرابع. يؤكد في الأولى منها (EA 52) ولاء مدينته للفرعون (... ستجد أن بيوت قطنا تتبع سيدي وحده)، وبأنه لن يتمرد بالتأكيد ضده أو ضد حليفه بيرياوازا زعيم دمشق. وفي الثانية (EA 54) التي وصلتنا في حالة سيئة يبدو أن أكيزي يكرر التعبير عن مواجهته لإيتكما حاكم قادش الخائن وحلفائه، كما في الرسالة أعلاه. وتأتي الثالثة (EA 55) ضمن السياق نفسه، حيث يؤكد الولاء للفرعون والحرص على خدمة قواته، ويشجعه على احتلال نخشي وأمورو الذي أسر رجالاً من قطنا. ويتمنى أن يرسل له مالاً يفتدي به أولئك الأسرى، كما يطلب منه ذهباً لصنع تمثال لإلهة الشمس الحورية شيميك بدلاً من تمثالها الذي سلبه الحثيون. أما الرسالة الرابعة (EA 57) فهي مهشمة لدرجة يصعب ترجمتها.
هذه الرسالة (EA 53) تعود إلى الفترة التالية مباشرة للحملة التي قادها الملك الحثي شوبيلوليوما إلى وسط سورية، وتغلغل خلالها حتى واحة دمشق، وكان حاكم قادش شتترّا وابنه وإيتكما يحاربانه بقوة، فاضطر للعودة إلى قادش ونفى الأب وعين ابنه مكانه؛ بعد أن بدل موقفه.
وتعكس الرسالة الموقف الجديد لإيتكما الذي بدأ يقود الحرب مع الحثيين على المناطق المجاورة، ويحاول استمالة أكيزي إلى جانبه. ولذلك كتب أكيزي هذه الرسالة لنقل خبر الموقف الجديد، ويؤكد ولاءه للفرعون، ويرجوه إرسال قوات أو الحضور شخصياً ؟ لأن إيتكما بدأ يؤثر في حكام بلدان أخرى تابعة للفرعون أصلاً؛ فقد سار إلى بلاد أب ودفعها إلى التمرد على المصريين، بل نهب قصرها الملكي واستولى على كثير من أراضي زعيمها بيرياوازا، واستخدم في ذلك القوة، وعاونه في ذلك حاكما لابان ورخيزي.
ويؤكد أكيزي للفرعون أن الموالين له في المناطق السورية الداخلية (بين حلب وحماة) كثر، وهم مستعدون لتقديم الولاء وإرسال الهدايا له، وينتظرون إرسال مجموعات من النبالين للانتقام من إيتكما وحلفائه.
يبدو أن رسلاً للفرعون وصولوا إلى قطنا، وأخبروا عن تحركات ولقاءات في بلاد أب يمكن أن تؤدي إلى احتلال أبز ولهذا يؤكد أكيزي على الفرعون ضرورة سيره على رأس قوات تحتل دمشق وتسيطر على الأوضاع في البلاد، وسيستقبل بعدها قواته في مدينته، ويكون بالإمكان مواجهة قادش وحلفائها مواجهة تقضي على أطماعهم في توسيع إطار الوجود الحثي بدلاً من المصري في سورية.
إن أكيزي يعبر عن ولاء ووفاء حقيقي لمصر، ويحاول حماية مصالحها من الحثيين وأنصارهم. أما بيرياوازا زعيم دمشق فيبدو أنه كان أقل شأناً وحليفاً ضعيفاً للمصريين، يتأثر بسرعة بالأوضاع السياسية المستجدة.
العمارنة (107)
إنها موجهة من رب هدا حاكم جُبلا (جبيل، شمالي بيروت) إلى الفرعون، ويقول فيها:
رب هدّا يقول لسيده ملك كل البلدان، الملك العظيم، ملك المعركة، ما يأتي: عسى الإلهة سيدة الوفي للملك الشمس.
10) وبفمي (و) كلامي قلتُ الحقيقة للملك، ليت الملك سيدي يصغي باهتمام إلى كلمات خادمه الوفي. ليت قائد النبّالين.
15) يبقى في مدينة صُمٌر، ولتأخذ خائب إليك حقق معه واستعلم كلامه.
20) فإن بدا لك كلاماً طيباً حدد مراقباً عليه يكون سخصاً مقدراً لدى الحكام التابعين للملك.
25) وعسى سيدي يهتم بكلماتي، و(يعلم) الآن أن أزيرو بن عبدي أشرتا موجود في مدينة دمشق مع أخوته، فلترسل كتيبة
30) نبالين وتأخذه، فتصير بلاد الملك هادئة. أما إذا ظل الوضع كما هو فلن تظل مدينة صُمُر قائمة. إضافة إلى ذلك؛
35) عسى الملك سيدي يصغي إلى كلمات خادمه الوفي، لا يوجد مال (أو: فضة) لدفع ثمن الخيول، كل شيء صرف كي نحيا، ولذلك.
40) أعطني ثلاثين زوجا من الخيول مع العربات. يوجد لدي خيّالون من المرين، ولكن لا توجد عربات ولا خيول
45) لدي كي أقوم بحملة أعداء الملك. لذلك خائف أنا، ولذلك لم أسر على مدينة صمر.
أضواء على الرسالة
4) الإلهة سيدة مدينة جبيل هي الإلهة الكبرى في المدينة. ورد ذكرها في النقوش الفينيقية أيضاً (ب ع ل ت ج ب ل)، ولعلها تقابل الإلهة حاتور المصرية وأشيرة الكنعانية. يتردد ذكرها في مراسلات العمارنة كثيراً.
15) صُمُرك تعد -مع جبلا- أكثر المدن ذكراً في مراسلات العمارنة، وهي مركز إمارة أمورو. يعتقد بمطابقتها مع موقع تل الكزل الواقع على نهر الأبرش في سهل عكار (جنوبي طرطوس)، تجري في الموقع تنقيبات أثرية للجامعة الأمريكية في بيروت بإدارة د. ليلى بدر. (راجع بحث د. ليلى بدر، ضمن: د. فاروق إسماعيل: أبحاث الندوة العالمية حول تاريخ سورية والشرق الأدنى القديم، 1996م).
16)خائب، خابي (بباء مفخمة) اسم أحد ممثلي الفرعون في البلاد. يرد ذكره في (EA 132, 133, 149) أيضاً.
26) أزيرو (عزيرو) هو ابن عبدي أشرتا وخليفه في حكم بلاد أمورو. يرد ذكره في رسائل كثيرة، واسمه يعني «المعين أو المعان». كان يتبع سياسية محاباة طرفي الصراع الحثي-المصري.
42) مريان، مري ينّي طبقة عليا في المجتمع الحوري، تميزت بأعمالها العسكرية وبامتلاكها الخيول والأراضي الزراعية الواسعة. (راجع: ج. فيلهلم: الحوريون. ص88).
إن رب هدّا يعقب على رسالة سابقة أو على لقاء مباشر مع الفرعون نقل خلاله أخباراً له، تتعلق بأوضاع وأحداث حاصلة في صمر عاصمة بلاد أمورو. وينبه الفرعون إلى خطر وجود ملكها أزيرو المتكرر في دمشق، فهو -كما يبدو- يحاول استمالة الزعيم الدمشقي إلى جانب الفريق الموالي للحثيين من الإمارات السورية.
وتعكس هذه الرسالة مرة أخرى الصورة الضعيفة للحكم في دمشق، وإمكانية تحولها من التبعية لمصر.
العمارنة (197)
إنها موجهة من بيرياوازا زعيم دمشق إلى الفرعون، وهي تعد آخر رسائله، ويقول فيها:..... قال لي، عندما كان خادمك في أدِرا. لقد أعطوا خيوله وعرباته إلى العفيرين، ولم يعطوها
5) للملك سيدي. ومن أنا؟! غايتي (الوحيدة) هي أن أكون خادم الملك، (وكل شيء) لدي يعود للملك لقد رأى برشوا هذا العمل، وحشد قوات ينومّا للتمرد ضدي، وسد البوابة خلفي،
10) وأخذ العربات من مدينة أشترت، وأعطاها للعفيرين، ولم يعطها للملك سيدي، (وعندما) أبصر ملك مدينة بُصْرُنا وملك مدينة خَلُنَّي (ذلك) شنوا
15) حربا بالمشاركة مع بردشوا ضدي، وهم يقولون لبعضهم باستمرار: تعال نقتل بيرياوازا، ولا ندعه يغادر إلى..... وأنا قد تخلصت من
20) بين أيديهم، وأقيم في.... مدينة دمشق. كيف يمكن أن أخدم الملك سيدي بنفسي؟ إنهم يقولون باستمرار: نحن خدم ملك بلاد الحثيين،
25) وأنا أقول باستمرار أنا خادم ملك بلاد مصر. لقد عاد أرزويا إلى مدينة كيزّاوأخذ (قسما من) قوات أزيروا، واحتل مدينة شدّو وأعطاها إلى
30) العفيرين، ولم يعطها للملك سيدي. والآن انتبه إلى أن إيتكمّا تسبب في دمار بلاد كيزّا، وهاهو أرزويا ـ بالمشاركة مع بردشوا ـ يدمر بلاد أب.
35) فليراقب الملك بلاده كي لا يأخذها الأعداء طالما أن أخوتي يمارسون العداوة ضدي فسأظل أحمي مدينة كومد، مدينة الملك سيدي. وليت الملك يظل متفهما مع خادمه،
40) ولا يتخلى الملك عن خادمه. وليت ملوك....وملوك بلاد أب يبصرون عن.... قد رأيتُ كتيبة النبالين.
أضواء على الرسالة
2) تقدير اسم مدينة أدُرا يعتمد على الاقتراح الوارد في (Na’aman, UF 20 (1988) 183). وهي من مدن بلاد جرو Garu -حسب الرسالة (EA 256)-، وتقع شرقي بحيرة الجليل.
7) بردشوا هو حاكم مدينة أشترتن يذكر في الرسالة (EA 196) أيضاً.
8) ينوأمّا مدينة يرد ذكرها في هذه الرسالة فقط. يختلف الباحثون حول موقعها ومطابقتها، راجع: Moran, AL 392; Knudtzon BAB 2, 1291
10) مدينة أشْتَرْتُ تذكر في الرسالة (EA 256) أيضاً، ويعتقد أنها تطابق الموقع الحالي تل عشتره غربي أزرع، جنوب غربي دمشق.
13) بَصْرُنا هي بصرى الشام. تذكر في الرسالة (EA 199) أيضاً.
خلنّو اسم موقع قريب من بصرى، لا تذكر في موضع آخر.
27) كيزّا، كينزا، قيزّا، قدْشي، قدْشي هي صيغ متعددة للاسم القديم لموقع تل النبي مند قرب بحيرة قطينة ومدينة حمص، وغالباً ما يذكر الاسم في الدراسات بصيغة قادش (التواراتية). كانت هذه المدينة مركز إمارة ذات دور مهم في الصراع الحثي-المصري، وقد شكلت معركة قادش (1275ق.م) تحولاً أساسياً في ذلك الصراع ـ للاستزادة؛ راجع:
H. Klengel: Geschichte Syriens im 2. Jahrtausend v.u.Z. Teil 2. Akademie-verlag, Berlin (1969) 139-177.
29) مدينة شدو من مدن سهل البقاع التابعة لدمشق، لا يرد ذكرها في موضع آخر.
38) كومد هو الاسم القديم لموقع كامد اللوز القريب من راشيا جنوبي لبنان (على بعد نحو 60كم غربي دمشق). جرت فيه تنقيبات أثرية ألمانية بدءاً من 1963. راجع: سلسلة كامد اللوز التي يصدرها R. Hachmann.
كانت مدينة كومد مركزاً أساسياً للإدارة المصرية سهل البقاع خلال فترة العمارنة، ويعتقد أن زعيم دمشق كان مسؤولاً عنها، ولو لفترة قصيرة.
تنبع أهمية هذه الرسالة من كونها تعبر عن موقف دمشق على لسان بيرياوازا نفسه. وهي -كما يبدو- رد على الاتهامات الموجهة إليه في الرسالة (ea 189). ففي تلك الرسالة المرسلة من إيتكما حاكم قادش إلى الفرعون؛ يبين إيتكما افتراء بيرياوازا عليه، إذ يقول: (ولكن الخبيث بيرياوازا تمادى في تشويه صورتي لديك) (وعندما كان يشوه صورتي لديك، نهب أملاكي في بلاد قادش التي ورثتها كلها عن أبي، وأشعل النيران في مدني. ولكن أؤكد لك أن ممثلي الملك ومراقبيه العامين يعلمون ولائي...) (القد تخلى بيرياوازا عن كل مدن الملك سيدي للعفيرين في مناطق نخشي وأب، ولكني وصلت إلى هناك، وجاء آلهتك وشمسك لتقودني، واستعدت المدن من العفيرين للملك سيدي؛ من أجل خدمته، وفرقت العفيرين) لقد تسبب بيرياوزا في دمار كل بلادك، وغايته هي الإساءة فحسب. ولكني أنا خادمك إلى الأبد).
وفي هذه الرسالة يسعى بيرياوازا إلى دحض ما ذكره إيتكما، ونفي صلته بالعفيرين، وبيان ولائه للفرعون. ويركز على مشكلة تحالف أخوته حكام جنوبي دمشق وشمالها الغربي ضده؛ مما جعله يفقد أجزاء من بلاده. فقد تعاون ضده بردشوا حاكم أشترت، وحاكما بصرنا وخلنو، سعوا إلى قتله لمنعه من السير إلى مصر -على الأرجح-، كما يشتكي من أن أرزويا حاكم رخيزي توجه إلى قادش، وقاد قوات منها، واحتل مدينة شدو في أقصى الشمال الغربي من بلاده، وسلمها للعفيرين. لقد صار أعداؤه يحتلون أراضي بلاد أب من الجنوب والشمال، ولم تعد الإقامة في دمشق وبلاد أب آمنة، فخرج إلى أطرافها الغربية ثم انسحب غرباً إلى كومد التي يعتقد أنه كان مسؤولاً عنها -رغم وجود ممثل عام (رابص) مصري فيها- ويقيم فيها أحياناً، وربما كانت بمثابة مصيف له. ويعتقد أنه مات فيها.
لقد كان بيرياوازا محاصراً بالأعداء المحليين، وهو يتمنى أن يتفهم الفرعون وضعه، ويظل راضياً عنه لأن غايته الوحيدة هي خدمة الفرعون.
إن الرسالة تعكس مدى التفرق والتنافس والضغينة بين حكام المدن والإمارات السورية، وانشغالهم بخلافات داخلية منعتهم من التفكير في توحيد القوى ضد السيادة الخارجية. وربما كان موقف بيرياوازا هو الأصعب، نظراً لأهمية موقع بلاده في الحركة التجارية والعسكرية، إضافة إلى سعة مساحتها. كامد اللوز.
عثرت البعثة الألمانية بإدارة هاخمان سنة 1969م على أربعة رقم طينية في موقع كامد للوز (كومد القديم). الأول منها يحمل رسالة من الفرعون (أمنوفس الرابع) إلى زلايا زعيم دمشق يقول له فيها:
إلى زلايا زعيم مدينة دمشق، قل ما يقوله الملك: هأنذا أرسل إليك هذا الرقيم (الذي يحمل) كلامي إليك.
5) أمرٌ ثانٍ، أرسل إلى الناس العفيرين، الذين كتبتُ لك بشأنهم ما يأتي: سوف أسلّمهم في مدن بلاد كاشا (النوبة).
10) للإقامة في داخلها، بدلاً من الناس الذين هَجّرتهم (منها). ولتعلم أيضاً أن الملك سليم كالشمس في السماء. قواته،
15) عرباته كثيرة. (كل شيء) من البلاد العليا حتى البلاد السفلى، من مشرق الشمس حتى مغرب الشمس، في أحسن حال.
تعد هذه الرسالة من مراسلات العمارنة، وإن كانت من موقع آخر. وثمة احتمالات عدة لسبب وجودها في كامد اللوز، راجع ما كتبه ادزارد في الكتاب:
Hachmann: Kamid el-Loz 1970, 57.
تكمن أهميتها في أنها تقدم اسم حاكم أو زعيم في دمشق، غير معروف في وثائق أخرى، ويبقى من الصعب توضح هوية زلايا ومكانته ريثما تتوافر شواهد أخرى. ولكن يمكن مبدئياً طرح عدة افتراضات محتملة، هي:
أ) أن يكون زلايا شخصية مهمة في مناطق غربي دمشق، وربما كان مقيماً في كومد، ويحتل مكانة منافسة لبيرياوازا. ولذلك عوّل عليه الفرعون إمكانية القيام بتجميع العفيرين المشاغبين المتنقلين غالباً في الأرياف، وإرسالهم له، والخلاص من دورهم التخريبي هناك. ولكن لماذا خاطبه الفرعون بـ «زعيم/رجل مدينة دمشق»؟ هل كان مرشحاً لأن يكون كذلك؟
ب) اعتماداً على إمكانية تاريخ الرسالة -من حيث أسلوبها التعبيري، وحديثها عن حركة العفيرين، ومشابهتها للرسالة EA 162-، بمطلع عهد الفرعون أمنوفس الرابع، يمكن افتراض أنه كان زعيم دمشق قبل بيرياوازا لفترة قصيرة؟
ج) يمكن افتراض حصول انقلاب على بيرياوازا الذي كان يجمع فترة حوله جموعاً من العفيرين -وقد أقر بذلك في الرسالة EA 195-، وانتهى بانتقال زعامة دمشق إلى زلايا، لفترة من الزمن.
بيرياوازا زعيم دمشق
بعد أنه عرضنا الرسائل الأربعة التي ذكرت دمشق، وما يتصل بها، واستكمالا للموضوع لابد من تتبع أخبار زعيمها بيرياوازا الذي يرد ذكره في ثماني رسائل أخرى من عهد الفرعون أمنوفس الرابع أيضاً.
في الرسالة (EA 7) يكتب الملك الكاشي بورابورياش الثاني (1349-1323ق.م) إلى الفرعون ما يأتي: (لقد تعرضت قافلة صَلْمُ رسولي الذي أرسلته إليك للنهب مرتين، في المرة الأولى نهبها بيرياوازا، وفي الثانية نهبها فماخ الحاكم بتكليف منك. متى سيقضي أخي في هذا الأمر؟ وكما تحدث رسولي أمام أخي سابقاً، فإن صلم سيقول أمامه مثله الآن أيضاً. أشياؤه يجب أن تُردّ له، ويجب أن يعوض عن خسائره).
تعود هذه الرسالة إلى مطلع عهد أمنوفس الرابع (السنوات الخمس أو الست الأولى)، وهي تدل على أهمية بيرياوازا وأهمية موقع بلاده في الطريق التجاري بين مصر وبلاد بابل آنذاك، وتشير إلى أن فماخ كان يحكم في منطقة قريبة منه (ربما في فلسطين)، وأن كليهما كان تابعاً للسيادة المصرية.
وفي الرسالة (EA 129) المرسلة من رب هدّا حاكم جُبْلا (جبيل) حديث مطول عن العلاقة المتوترة بين جبلا وأمورو يشتكي فيها من تجاوزات زعماء أمورو، ومن خطهم على مدينته التي ينوون احتلالها، ويطلب دعم الفرعون وحمايته السريعة.
وفي هذا السياق ينبه الفرعون إلى أن اعتماده على كل من بيرياوازا زعيم دمشق، وزعيم غزو، وزعيم كومد أمرٌ غير مجدٍ. فالأول يخاف ولا يفعل إلا ما يقوله الملك (المصري) تماماً، والآخران معاديان سلم البلاد على العفيرين.
أما الرسالة (EA 151) المرسلة من أبي ملكو حاكم صورّو (صور) ففيها أيضاً حديث مطول عن العلاقة المتوترة بين صورّو وصيدون (صيدا)، ويتضمن رجاءاً حاراً لأبي ملكو من الفرعون بأن لا يتخلى عنه، وهو يمر بأزمة اقتصادية. ويحاول التقرب منه أكثر بأن ينقل له أخباراً من بلاد كنعان؛ كما كلفه الفرعون. يقول له: (لقد مات لمك دانونا، وصار أخوه ملكاً بعد موته، بلاده تشهد السلام. النيران التهمت القصر الملكي في أوغاريت، تهدم نصفه، ونصفه زال، وليست هناك قوات حثه حوله. إيتكما أمير قادش وأزيرو يخوضان حرباً، والحرب هي ضد بيرياوازا).
وبذلك نسمع رأي مراقب محايد في الأحداث المذكورة في الرسالتين (EA 189, 197) اللتين عرضنا لهما سابقاً.
وثمة رسالة موجهة من سَتتنا حاكم عكّو (عكا) (EA 234) يعلم فيها الفرعونَ بأن زردم يشدا خان بيرياوازا، ولجأ إلى المندوب المصري شتا، ثم ذهب إلى مدينة الحامية العسكرية (مجدّو)، وأخيراً حل لديه. ولكن شتا كتب له: (تحوّل من جانب زردم يشدا إلى جانب بيرياوازا)، ولكنه لم يوافق على التخلي عنه وتسليمه، فعاد شتا لمخاصمته. ثم يطلب من الفرعون أن يرسل أحد ممثليه لينقذه ويأخذه إليه.
تعكس الرسالة أهمية بيرياوازا في البلاط المصري لدرجة دفعت المندوب المصري في المنطقة إلى التدخل. وكان شتتنا يدرك ذلك، ولهذا أسرع في إعلام الفرعون بهدف إيجاد حل للأزمة.
وتتضح أهمية بيرياوازا في الرسالة (EA 250) الموجهة من بعل فُراد زعيم إحدى المدن الفلسطينية إلى الفرعون، يعلمه فيها أن لبآيو (حاكم شَكْم، نابلس حالياً) قد تمرد عليه، وأن ابني لبآيو يسألانه مستنكرين: (لماذا سلّمت مدينة جيتّيبدلاّ (في أنحاء طولكرم) إلى الملك سيدك، وهي مدينة احتلها من قبل لبآيو أبونا!؟). ويطلبان منه التكفير عن عمله قائلين له: (شنّ حرباً على سكان مدينة جينا (جنين) لأنهم قتلوا أبانا، وإن لم تشن الحرب فإننا سنصير أعداءك). ولكن بعل قراد يرفض محاربة أهل جينا، ويتمنى أن يكون موقفه هذا صحيحاً في نظر الفرعون، ويطلب منه (ليته يرسل أحد مراقبيه العامين (رابص) إلى بيرياوازا، ليعلمه: عليك أن تسير بحملة ضد ابني لبآبو، وإلا تعد متمرداً على الملك).
ولعل هذا يدل على مكانة بيرياوازا وأهميته في المناطق الجنوبية وقيامه بمهمات عسكرية في فلسطين، وإن كان الضعف يغلب على مواقفه في صراعاته مع زعماء سورية الداخلية الذين كانوا يستندون إلى دعم حثي.
ومما يدلل على أهميته أيضاً وجود أربع رسائل وجهها شخصيا ًإلى الفرعون أمنوفس الرابع وهي -إضافة إلى EA 197 التي مرت سابقاً- :
العمارنة (194)
إلى الملك سيدي، هذه رسالة بيرياوازا خادمك. أجثو على قدمي الملك سيدي سبعاً وسبع مرات.
انظر! نحن هم الخدم الذين خدموا الملك منذ عهود سحيقة. مثل شُتَرْنا أبي، مثل خَشـ....ـتَر جدّي....... لحماية المدن. والقافلة (أو: الحملة) التي أرسلتها إلى بلاد نَخْريما (أي: ميتّاني).......... خائفة جداً. مع هذه (الرسالة) أرسل إليك أخي.
العمارنة (195)
قل للملك سيدي، هذه رسالة بيرياوازا خادمك، الغبار الذي على قدميك، اليابسة التي تطؤها، الكرسي الذي تجلس عليه، مسند قدميك. أجثو على قدمي الملك سيد؛ الشمس التي تشرق فوق البشر، سبعاً وسبع مرات.
سيدي هو الشمس في السماء، وكشروق الشمس في السماء ينتظر خدمك صدور الكلم