طريق الحرير وتدمر مدينة القوافل

24 حزيران 2007

أهمية الحرير:
يعتبر الحرير من أهم مكتشفات الشعب الصيني قديماً ومبتكراته الحضارية المفيدة عبر العصور. وقد تزايدت أهمية الحرير التاريخية والاقتصادية والفنية بمرور الزمن حتى غدا الحرير من أهم مواضيع التبادل التجاري والتجارة الخارجية العالمية. وقد أصبحت للحرير مهن فرعية مختلفة وأسواق تجارية خاصة. وإن تزايد أهمية الحرير وتجارته جعل (طريق القوافل التجارية) التي تنقله من الصين إلى روما يعرف عالمياً باسم (طريق الحرير).


الحرير التدمري

وإن أهمية (طريق الحرير) وأثره الكبير في التبادل التجاري والحوار الفكري والتفاعل الحضاري.... قد دفعت (منظمة اليونيسكو) كي تناشد مجتمعات العالم والدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة للقيام بكل ما من شأنه بحث واستقصاء ومتابعة آثار (طريق الحرير) عبر أقطار عديدة في قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا براً وبحراً... وذلك في سبيل متابعة طريق الحرير أملاً من منظمة اليونيسكو في فتح (حوار حضاري) جديد يسهم جدياً في تقارب الشعوب والأمم. وتقدم المجتمع الإنساني، وازدهار الاقتصاد، وتوثيق العلاقات المختلفة بين دول العالم.
وإذا كان (طريق الحرير) موضوع بحث علمي، ورمز إنجاز حضاري، وعامل اتصال تاريخي وحضاري وودي بين عالم الشرق وعالم الغرب قديماً، فانه غدا في عصرنا الحاضر موضوع بحث حوار فكري وتفاعل حضاري بين أقدم الحضارات الإنسانية العالمية التي نشأت وازدهرت في كل من الصين وتركستان وكوريا وأفغانستان وشبه القارة الهندية وإيران وبلاد ما بين النهرين وبلاد الشام وشبه الجزيرة العربية واليمن السعيد ومصر واليونان وإيطاليا... الخ.

وإذا كان التاريخ يبدو أحياناً في نظر بعضهم وكأنه فقط (تاريخ معارك وحروب وغزوات وحكام وقواد وملوك وأباطرة..)، فإن دراسة (طريق الحرير) تظهر من جديد أهمية دراسة (التاريخ الحضاري) محلياً وإقليمياً ودولياً وعالمياً.

مصدر اسم (طريق الحرير):
بعد قيام العالم الجيولوجي والرحالة الألماني (فرديناند فون ريتشهوفن Ferdinand von Richthoffen ) عام 1860م برحلاته العديدة والمختلفة إلى أقطار الشرق، وعاد منها إلى أوروبا عام 1872م أطلق على هذا الطريق التجاري الهام ـ المنطلق من الصين حتى روما اسم (طريق الحرير)، وذلك بعد ما كان قد استنتج أهمية الحرير التاريخية والعلمية والحضارية والاقتصادية المتميزة... فصار اسم (طريق الحرير) في عصرنا الحاضر مقبولاً وشائعاً. وموضع بحث علمي واهتمام جدي. ويتضمن هذا المصطلح العملي الجديد ما يلي:
1ـ طريق الواحات
2ـ طريق مدن القوافل التجارية
3ـ طريق الأراضي المقفرة
من الأساطير القديمة المتعلقة باكتشاف الحرير:
إذا كان لكل اكتشاف أسطورة خيالية أو قصة تاريخية... فإن لاكتشاف الحرير أكثر من قصة طريفة وأسطورة جذابة تدل على أهمية دقة الملاحظة الذكية في تحقيق الاكتشافات الهامة في تاريخ الحضارة الإنسانية، ودور الصدفة السعيدة في تحقيق منجزات مفيدة في ميادين الحياة.

وتوارثت الأجيال المتعاقبة تلك الأسطورة الطريفة. وذكرها المؤرخون والباحثون. ويمكن تلخيص أسطورة اكتشاف الحرير كما يلي:

في نحو عام 2640 ق.م كانت زوجة الإمبراطور (هوانج تي) الإمبراطورة (سي ـ لينغ ـ تشي  Si Ling – Chi) أو (لوي ـ تسي Loui-Tsé) قد لاحظت بذكائها المتميز ودقة ملاحظتها الذكية أن الشرانق تنحل إلى خيوط دقيقة وطويلة في الماء الساخن المغلي، فكانت هذه الملاحظة الذكية بداية قصة اكتشاف خيوط الحرير وحسن الإفادة منها.

وهناك من ينسب إلى هذه الإمبراطورة نفسها فضل تعليم الصينيين زراعة أشجار التوت Murier وتربية دودة القز على أوراقها.

كما ذكرت التقاليد الصينية القديمة اسم الحاكم الصيني (فوهشي Fuhsi) في نحو 2852 ق.م كأول حاكم صيني مستنير، علّم أبناء شعبه فنون الكتابة والموسيقا والصيد وتربية دود الحرير.

وهناك أيضاً من ينسب فضل اكتشاف الحرير إلى الإغريقية (بامفيلي Pamphili) في جزيرة (كوس).
من تقاليد الإشادة بهذا الانجاز الحضاري:
إن أهمية صناعة الحرير في بلاد الصين قديماً قد جعلت من تقاليد كل إمبراطورة أن تشيد بهذا الإنجاز الحضاري المتميز ومبدعه، وتضحي سنوياً على شرف تلك الإمبراطورة الصينية القديمة في المعبد الذي أقيم لها، وأهدي لها في العاصمة بكين. وقد استمرت هذه التقاليد حتى سنة الثورة عام 1911م.

وتشير النصوص القديمة أن بلاد الصين عرفت فن صناعة نسيج خيوط الحرير قبل حوالي خمسة آلاف سنة، فاشتهرت بهذه الصناعة الفنية، وأخيراً انتقلت من بلاد الصين أسرار معرفة الحرير من تربية دود القز إلى مختلف الأقطار المجاورة الواقعة في غربي بلاد الصين، وكان قدماء الرومان يطلقون على الأقطار الواقعة وراء نهر الغانج اسم بلاد الحرير Seres.

الحرير مادة ترف وبذخ:
تميز الحرير بلونه الأبيض الجميل الضارب إلى الصفرة، وخصائصه المتميزة العديدة (كالنعومة والمتانة، وشبه الشفافية الجميلة الجذابة.. الخ)، مما جعل الحرير مادة جميلة حرص الملوك القدماء وكبار السادة الأغنياء من رجال ونساء على شرائها والظهور بها بمظهر الغنى والترف والبذخ والجمال والوقار والاحترام.. في عصر كان فيه (ثمن الحرير بوزنه ذهباً).

ومنذ القرن الأول الميلادي، استخدم الحرير الصيني الجميل في (صناعة الملابس الحريرية الجميلة Sericae Vestes) التي كانت مطلوبة كثيراً في روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية، وسيدة العالم القديم، في عصر تميز بتذوق جمال الضخامة والعظمة والإثارة الجمالية. ولم تكن النساء الإمبراطورات والثريات وحدهن الراغبات في التدثر بتلك الملابس الحريرية الجميلة والثمينة والنادرة... لأن أباطرة روما وكبار الأغنياء كانوا أيضاً يرغبون في ذلك في سبيل الظهور بتلك الملابس الحريرية الجميلة بمظهر العظمة والجلال والوقار والاحترام والجمال، وإثارة شعور التقدير والإعجاب بهم في نفوس الآخرين أجمعين. وقد ورد في (تاريخ أوغست) أن الإمبراطور (إيلاجبال 218-222) كان أول من أبدع عادة تدثر أباطرة روما بالملابس الحريرية الجميلة الصافية. فاعتبر بعضهم ذلك بمثابة تصرف غير مناسب للرجال Degradante.

وكانت ندرة الحرير، وارتفاع ثمنه الباهظ جداً مما كان يحول دون حياكة الأقمشة من خيوط حريرية صافية فقط، لهذا كان الحائكون ينسجون الأقمشة من خيوط كتانية وقطنية مع خيوط حريرية وذلك بنسب مختلفة. وكثيراً ما كانوا يضطرون إلى إعادة استخدام خيوط الأقمشة الحريرية الصافية المستوردة من الشرق. ومنذ القرن الثالث الميلادي، بدأ التمييز الدقيق بين نوعين من الملابس الحريرية المختلفة كما يلي:

1ـ ملابس قماشها من الحرير الصافي Vetement de Holo Sericae Vestas Pure Soie التي لم تكن عامة الانتشار، بل كانت خاصة بالأباطرة وكبار الأثرياء قديماً.

2ـ ملابس قماشها من خيوط كتانية وقطنية مع خيوط حريرية وذلك بنسب مختلفة Vetement de Semi-Soie أو Vestas Subsericae.

وفيما بعد، انتشر تذوق الحرير وصار استخدامه تدريجياً على نطاق واسع، حتى غدا بعض الأشخاص من ذوي الإمكانات المحددة يتدثرون بملابس من أقمشة من خيوط كتانية وقطنية مع خيوط حريرية بنسب مختلفة. كما غدا الحرير من أجمل الهدايا الرسمية الثمينة المقدمة في المناسبات الرسمية. وكان الإمبراطور الروماني يحرص على اغتنام فرص المناسبات والاحتفالات والألعاب، وذلك كي يقوم بتوزيع هدايا من ملابس حريرية وغيرها، على من كان يستحق التكريم والتقدير والمكافأة.

صعوبة اجتياز طريق الحرير قديماً:
كانت الفتن والاضطرابات التي يثيرها أفراد قومية (شيونغنو/الهون) القديمة في الصين من أهم أسباب صعوبة اجتياز طريق الحرير قديماً، مما كان يؤدي إلى خسارة مادية وأزمات اقتصادية لها نتائجها الخطيرة المختلفة. مما جعل الإمبراطور (وو ـ دي 140 ق.م - 87 ق.م) من أسرة (هان الغربية الملكية) يهتم بهذا الموضوع الخطير والهام. ويرسل مبعوثاً من قبله يدعى (تشانغ تشيان) مرتين الى أقطار آسيا الوسطى لمعالجة الموضوع، وذلك بإجراء اتصالات عديدة ومفيدة مع:

ـ دويلة داروتشي القديمة (في شمالي نهر آموداريا).

ـ دويلة دوسون (في حوض نهر بيلي، في شمال جبال تشيان).

فوصل هذا المبعوث الإمبراطوري تشانغ تشيان إلى أقطار عديدة مجتازاً نحو خمسة آلاف كيلومتر، في فترة تزيد عن عشر سنوات، تجشم خلالها المتاعب المختلفة والمصاعب العديدة، وواجه الأخطار المختلفة. ولكنه بذكائه ودهائه وإخلاصه وحرصه على حسن قيامه بمهمته، استطاع أن يتعرف على مناطق مختلفة، ويطلع على شؤونها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، ويلاحظ عادات سكانها وتقاليدهم الاجتماعية وكل ما يتعلق بهم. مما جعله باكتشافاته بمثابة (كولومب بلاد الصين). وبعد عودته إلى بلاده، رفع تقريره الرسمي، وتوصياته المفيدة والعديدة الى الإمبراطور (وو ـ دي) الذي هنأه على حسن إعداد تقريره الرسمي، وتبنى توصياته التي كان منها ما يلي:

ـ إقامة العلاقات الودية مع سادة تلك المناطق المختلفة، ما أسهم جدياً في تسهيل عملية مرور القوافل التجارية في طريق الحرير عبر أراضيها، وذلك بكل أمن وأمان واطمئنان وسلم وسلام.

ـ تأسيس أربع ولايات (هي: وو دي، تشاتفيه، جيو تشيوان، دوا نهوانغ)، فتحت أبوابها التجارية للعالم الخارجي. أضف إلى ذلك بناء أسوار الحراسة، وإقامة الأبراج النارية للمراقبة والإنذار، وتنظيم جنود مرابطين فيها، يقومون بعملية إصلاح الأراضي، وإقامة دائرة خاصة للإشراف على هذه المناطق في غربي بلاد الصين نيابة عن السلطة المركزية... الخ.

ـ حسن الإفادة من ممرين في شمالي (قانسو) في ضواحي محافظة أو ولاية (دوانهوانغ) في: يوغين، يانفقوان. مما جعل القوافل التجارية تنطلق من تشانغان عاصمة أسرة هان الغربية الملكية في طريق الحرير مجتازة الولايات الأربع والممرين الهامين، وكان هذا الطريق يتفرع إلى:

ـ طريق فرعي جنوبي: يتجه نحو الغرب من شمالي جبال أرجين وكونلون، مروراً بمناطق تشيمو، وجنيجيوي، وخوتان، وبيشان، وشاتشه...، إلى أن يخترق هضبة البامير، ثم ينعطف في جهة الجنوب الغربي إلى أقطار شبه القارة الهندية، أو إلى جهة الغرب حيث هناك مناطق شمال نهر آموداريا، ومنه إلى بلاد إيران فبلاد ما بين النهرين، فبلاد الشام، فالساحل السوري، فاليونان، فايطاليا، فأقطار أوروبا.

ـ طريق فرعي شمالي: يتجه إلى جهة الغرب من جنوبي (جبال تيانشان) مروراً بمناطق (بانتشي، وولي اكوتشار، آكسو، كاشفر...) حتى يخترق (هضبة البامير) حيث هناك مدن هامة ومراكز اقتصادية متميزة (مثل: فرغانة، سمرقند...) ثم يعطف الطريق إلى جهة الجنوب الغربي كي يصل أخيراً إلى بلاد إيران فبلاد ما بين النهرين فبلاد الشام فالساحل السوري فبلاد اليونان.. إلى روما.

وكانت (طريق الحرير البرية) تمتد وتنحرف وتتجه وتنعطف نحو المناطق التي توفر للقوافل التجارية في طريق الحرير الأمن والأمان والاطمئنان، والسلم والسلام والراحة، والاستقرار والفعاليات والازدهار.

وهكذا كانت تلك القوافل التجارية تنطلق من بلاد الصين (بلاد الحرير) من مدينة تشانغان في طريق الحرير البري عبر ممر فهشي الذي يفيد اسمه معنى ممر غربي النهر. ويشتهر باسم ممر قانسو الذي جرت فيه معارك عديدة وذلك في سبيل الحفاظ على طريق الحرير مفتوحاً أمام القوافل التجارية.

وكثيراً ما كان تجار الحرير ينقلون بضائعهم بوساطة القوافل التجارية حتى بلاد تركستان إلى المدينتين الحدوديتين الهامتين وهما: كاشفر وخوتان. ومن هناك ينطلق طريقان إلى بلاد الشام والساحل السوري إلى عالم البحر المتوسط، وذلك إما من جهة بحر قزوين... أو عبر نهر الفرات.

وكانت مدينة (تشانغان/مدينة شيان الحالية في مقاطعة شنشي) نقطة البداية في طريق الحرير، إذ أنها كانت عاصمة البلاد في عهد أسرة هان الغربية الملكية 206ق.م-220م وأسرة تانغ الملكية 816-907 ق.م.
وإذا كانت طريق الحرير البرية تمر بـ (Sogdian) فإن هناك طريقاً بحرياً للحرير كانت مراكبه تتجه إلى سيلان لنقل الحرير وغيره إلى المرافئ المختلفة في الخليج والبحر والأحمر وعالم البحر المتوسط. وكان طريق الحرير البري هاماً أيضاً، ويمتد من شبه القارة الهندية المرتبطة بمناطق هامة (مثل باكتريان، كابول..) ويتجه:
ـ إما نحو مرافئ الخليج.
ـ أو نحو مرافئ شواطئ البحر الأحمر.

وإذا كانت أسرة (هان الخامسة الملكية 206ق.م-202م) قد اتخذت كل ما يلزم لحماية أمن وسلامة القوافل التجارية في طريق الحرير البري، فإن هذه السياسة الاقتصادية قد استمرت أيضاً في عهد الأسرتين الجنوبية والشمالية 420-589م. وأصبح لطريق الحرير ثلاثة منطلقات من شيان، ومن شمالي قانسو، ومن دونهوانغ. وقد استمرت هذه السياسة الاقتصادية أيضاً في عهد أسرة سوي 581-618م الملكية التي اهتمت بحماية طريق الحرير، وأسست عدداً من المراكز والنقاط الأمنية في مناطق غربي بلاد الصين، وقامت باتخاذ كل ما يلزم في سبيل تأكيد سلامة أصحاب القوافل التجارية على امتداد طريق الحرير.

ولكن انهيار حكم أسرة تانغ 618-907م الملكية، وضعف سيطرة الحكومة المركزية على شمالي غربي الصين، وظهور سلطات محلية انفصالية أثارت الفتن والاضطرابات في المناطق الغربية وشمالي قانسو. كل هذا قد أدى إلى تراجع فعاليات التبادل التجاري على طريق الحرير البري، وزيادة أهمية طريق الحرير البحري في اتصال الصين بأقطار العالم. مما أسهم في مجيء أفواج الرحالة الملاحين والتجار والمسافرين. وكان من تلك الرحلات المشهورة رحلة ماركو بولو 1254-1323م ومشاهداته المختلفة التي ذكرها في كتابه، فأسهمت في اطلاع الأوروبيين على حضارة الصين الراقية وأسرارها الغامضة.

المحافظة على أسرار فن تربية دودة القز وصناعة الحرير:
منذ اكتشفت الإمبراطورة الصينية سي ـ لينغ ـ تشي بذكائها ودقة ملاحظتها طريقة الحصول على خيوط الحرير من الشرانق، أدرك سادة الصين أهمية هذا الاكتشاف وفوائده العديدة، ووجوب المحافظة على أسرار فن تربية دود القز وصناعة الحرير الصيني التي اشتهر بها الصينيون وأفادوا مادياً من هذه الصناعة الفنية فائدة كبيرة. مما جعلهم يدركون ضرورة المحافظة على هذه الصناعة الفنية وأسرارها واحتكارها وذلك لضمان استمرار مواردها الاقتصادية الهامة والكبيرة، ووجوب متابعة سياستهم الاقتصادية المتعلقة باحتكار هذه الصناعة الفنية، واتخاذ كل ما يلزم لاستمرارها وازدهارها وحسن الإفادة منها بتصدير منتوجاتهم الحريرية إلى أسواق العالم القديم براً وبحراً.

كل هذا جعل صناعة الحرير سراً من الأسرار العلمية والفنية الغامضة طيلة فترة طويلة من الزمن، استطاع الصينيون خلالها أن يحتكروا هذه الصناعة الفنية الهامة، ويفيدوا منها كثيراً من احتكارها والمحافظة على أسرارها، وبيع إنتاجها بأسعار مرتفعة جداً، في عصر كانت فيه أهمية الحرير كأهمية الذهب والماس وقيمته بوزن الذهب. مما يوضح مدى اهتمام سادة الصين القدماء باتخاذ كل التدابير المختلفة اللازمة والفعالة في سبيل تنفيذ سياستهم الاقتصادية، والمحافظة على أسرار هذه الصناعة الفنية، واحتكار إنتاجها الثمين.

وفي الواقع، كانت تدابير سادة الصين القدماء فعالة ومجدية إلى حد كبير، وحققت لهم حماية هذه الصناعة الفنية، واستمرار احتكارهم معرفة أسرارها، ومتابعة الاتجار بمنتوجاتها الحريرية بأسعار مرتفعة جداً مدة طويلة من الزمن.

وكان الرومان ـ كغيرهم من الشعوب القديمة ـ يجهلون كلياً طبيعة الحرير، وأسرار صناعته الفنية، واستمر ذلك في العصر البيزنطي حتى عام 555م، وكان بعضهم يعتقد بأنه يصنع من زغب نباتي، وأن أصل الحرير نباتي.. الخ. وقد دام هذا الاعتقاد حتى فترة حياة المؤرخ والجغرافي الإغريقي بوزانياس في القرن الثاني الميلادي. فأخذ بعضهم يشير إلى الأصل الحيواني للحرير، وكانوا يسمون البلاد الواقعة فيما وراء نهر الغانج باسم بلاد الحرير من لفظ الحرير مما يدل على أن اسم الحرير مصدره من الصين.

وفي الواقع، كان الغرب يجهل اللؤلؤ والحرير، وغيرهما من روائع الشرق القديم ومكتشفاته ومنجزاته الحضارية. ودام عدم معرفة الغرب اللؤلؤ حتى العصر الهيلينستي، وغدا بعدئذٍ من البضائع التي تهتم بها قوافل طريق الحرير، وذلك نتيجة انفتاح الغرب على الشرق منذ حملة الإسكندر المكدوني 356-323ق.م. وإذا كان تصدير الحرير الصيني إلى أوروبا متأخراً زمنياً، فإن حملات الرومان الحربية المختلفة في أقطار الشرق القديم وبخاصة في حوض الفرات جعلتهم على صلة مباشرة مع عالم الشرق القديم وفعالياته المختلفة وتحفه ونفائسه وروائع صناعاته الفنية منذ نهاية القرن الأول قبل الميلاد.

والجدير بالذكر أن عمليات تصدير الحرير الصيني كانت تتم في ثلاثة أشكال كما يلي:
1ـ حرير خام.
2ـ خيوط حريرية صينية.
3ـ أقمشة حريرية صينية.
وكانت صناعة الأقمشة الحريرية تشمل ما يلي:
1ـ حياكة خيوط الأقمشة الحريرية.
2ـ صنع الخيوط الحريرية بالألوان، وبخاصة بالأرجوان الأحمر القاني الجميل.
3ـ المطرزات المختلفة... مما كان يضاعف السعر.

تسرب أسرار فن تربية دود القز وصناعة الحرير من الصين:
رغم كل التدابير المختلفة التي اتخذها سادة الصين القدماء في سبيل المحافظة على أسرار فن تربية دود القز وتقنية صناعة الحرير، فقد تسربت هذه الأسرار خارج الصين بطرق مختلفة ومن قبل جهات مختلفة. مما هدد احتكار الصين لهذه الصناعة الفنية ومواردها الاقتصادية الهامة والكبيرة.

فقد ورد في كتاب المناطق الغربية في عهد أسرة تانغ الملكية 618-907م أن دويلة تشويسادانا في خوتيان / من شينجيانغ حالياً كانت تجهل زراعة أشجار التوت وفن تربية دود القز وتقنية صناعة الحرير الفنية. وأدرك ملكها بذكائه وخبرته أهمية الحرير الاقتصادية، فرغب في نقل هذه الصناعة الفنية الهامة إلى بلاده للإفادة منها اقتصادياً وفي مختلف ميادين الحياة. فبعث موفدين إلى الدولة الشرقية(أي الصين المتميزة بأشجار التوت العديدة والمفيدة والخبراء في ميادين تربية دود القز وصناعة الحرير الفنية. استقبل ملك الصين الموفدين الذين حدثوه عن مهمتهم، بأن معرفة أسرار أشجار التوت ودود القز والشرانق من بلاده يقع تحت طائلة العقوبات الجزائية الصارمة. مما أثار استياء ملك تشويسادانا الذي أخذ يفكر من جديد في الطريقة المجدية التي من شأنها أن تحقق رغبته في معرفة أسرار صناعة الحرير الفنية. فبدت له فكرة ماكرة من شأنها أن تحقق غايته ومآربه البعيدة وذلك بمشروع زواج ملكي. طلب ملك تشويسادانا يد أميرة من أميرات الدولة الشرقية / أي الصين، وذلك بأجمل العبارات الأدبية والمختارة والمنمقة، مرفقة بأجمل الهدايا الملكية الثمينة والفاخرة والنادرة، مما أسهم في الحصول على الموافقة على مشروع زواج تلك الأميرة الشرقية. وبعدئذ عهد ملك تشويسادانا إلى مندوبه بإعداد كل ما يلزم لحسن استقبال تلك الأميرة الشرقية، وإعلامها سراً بأنه ليس في مملكة تشويسادانا حرير، وأنه من المستحسن أن تحمل معها أو مع أمتعتها عدداً من بيوض دودة القز. استجابت تلك الأميرة الشرقية الفتاة لهذا الطلب، وقد وثقت بالمندوب الموفد لمساعدتها في السفر من بلادها إلى مملكة تشويسادانا، فوضعت عدداً من بيوض دود القز سراً في لباس رأسها. وعندما مرت مع موكبها بمركز المراقبة والتفتيش على حدود بلادها، كان من الطبيعي أو لا يجرؤ أحد على تفتيشها. فتسربت للمرة الأولى أسرار فن تربية دود القز وصناعة الحرير خارج الصين موطنها الأصلي. والجدير بالذكر أن عالماً آثارياً غربياً عثر في عام 1900م في أطلال معبد قديم في (خوتيان/من شينجيانغ حالياً) على أثر فني قديم ثمين وهام يمثل قصة هذا الزواج الملكي كما يلي:
ـ في الوسط: تبدو الأميرة الفتاة سيدة عظيمة متدثرة بالملابس الحريرية الجميلة والثمينة والفاخرة، ويعلو رأسها تاج فخم... وقد وقف إلى يمينها رجل يحمل دولاب الغزل وتبدو إلى يسارها سلة مليئة بشرانق دود القز... كما تبدو خادمة تشير بيدها اليسرى إلى تاج هذه الأميرة الفتاة.

مما جعل هذا الأثر الفني الهام المكتشف يمثل وصفاً جميلاً ودقيقاً لحكاية تلك الأميرة الشرقية الفتاة وحادث خروجها من بلادها الصينية إلى بلاد زوجها في مملكة تشويسادانا ناقلة معها سراً عدداً من بيوض دود القز.... وهكذا حقق ملك تشويسادانا بذكائه رغبته في معرفة أسرار صناعة الحرير الفنية، فتسربت أسرار فن تربية دود القز وصناعة الحرير الفنية خارج بلاد الصين.

اهتمام البيزنطيين بمعرفة أسرار صناعة الحرير:
كان مرور القوافل التجارية في طريق الحرير عبر الأراضي الإيرانية قد أفاد كثيراً بلاد إيران اقتصادياً وحضارياً، ولكن سوء العلاقات بين الفرثيين والرومان، وبعدهم الساسانيين والبيزنطيين... كان يترك أثره الخطير على القوافل التجارية عابرة طريق الحرير.

حاولت الإمبراطورية البيزنطية تجنب ادعاءات الساسانيين والحد من أطماعهم وسوء تصرفاتهم وذلك بتغيير طريق القوافل والاستغناء عن عبور أراضي الساسانيين... كما أعدت خطة تهدف إلى الاعتماد على الصناعات المحلية. وذكر أحد المؤرخين في العصر البيزنطي قصة كاهنين نسطوريين تمكنا من الوصول إلى بلاد الصين والاطلاع عن كثب على أسرار تربية دود القز وصناعة الحرير الفنية في الصين في فترة إقامتهما فيها. وعند عودتهما إلى الإمبراطورية البيزنطية أخفيا سراً عدداً من بيوض دود القز في عصا مجوفة لكل منهما فكانت بداية جدوى اهتمام البيزنطيين بمعرفة أسرار صناعة الحرير، وتسرب هذه الأسرار من الصين إلى الإمبراطورية البيزنطية التي حققت من ذلك ما يلي:
1ـ التحرر من احتكار الصين أسرار فن تربية دود القز وصناعة الحرير الفنية.
2ـ التحرر من مضايقات الفرثيين ومن بعدهم الساسانيين للقوافل التجارية عابرة طريق الحرير.
3ـ بداية ظهور صناعة حرير فنية محلية جديدة في الإمبراطورية البيزنطية (مثل سورية... وغيرها...) أسهمت في الازدهار الاقتصادي. والجدير بالذكر أن شهرة منطقة بيلوبونيز بأشجار التوت وتربية دود القز... جعلها تعرف منذئذ باسم بلاد موره Morée من لفظ أشجار التوت Muriers...
4ـ تزايد عدد القادرين على التدثر بالملابس الحريرية المختلفة، بعدما كان ذلك مقتصراً على الملوك والأمراء وكبار الارستقراطيين الأغنياء.

وكانت حياة الترف والبذخ في القصر الإمبراطوري البيزنطي موضوع هجوم عنيف ونقد عنيف من قبل القديس يوحنا فم الذهب 347ـ407 الذي أشار إلى ثوب الحرير للإمبراطور البيزنطي تيودوسيوس 408ـ450 يزينه وحشان متقابلان مطرزان. والجدير بالذكر أن بعض المؤرخين ينسب فضل تسرب أسرار صناعة الحرير إلى الإمبراطورية البيزنطية إلى الإمبراطورة تيودورا وزوجها الإمبراطور جوستيان 537ـ566 اللذين عهدا بهذه المهمة إلى راهبين نسطوريين.

تسرب أسرار صناعة الحرير من الصين إلى البلاد العربية والإسلامية:
كان من نتائج انتصار الجيوش العربية والإسلامية على جيش القائد الصيني كاو ـ سين ـ تشي قرب تالاس في ترانسوخيان Transoxiane سقوط عدد من الجنود الصينيين أسرى، وقد أسهموا في نشوء صناعة المنسوجات الحريرية في البلاد العربية والإسلامية. ويذكر بعض الباحثين أسماء عدد من أولئك الصناع الفنيين (مثل: تو هوان Tou-Houan ويو هوان Yo-Houan و لو لي Lu-Li...) الذين كانوا من هو تونغ (Ho-Tong) في شنشي.

وعندما قام القس الألماني لودوف فون سوخم برحلته إلى بلاد الشام وتنقل في الأراضي المقدسة عام 1336-1341م تحدث عن طرق مدينة عكا المظللة بالحرير المنسوج وبسواه، وذلك تجنباً لشدة أشعة الشمس وحرارتها صيفاً في بلاد الشام. كان الحرير السوري قد غدا على رأس قائمة المنتجات السورية في العصر العثماني. وكان السوريون منذ أبد قد سادوا طريق الحرير وأسهموا في تنظيم تجارة الحرير ونقله من الشرق إلى الغرب منذ أواخر العصر الهلنستي وعهد ازدهار تدمر. واستنتج الباحثون المختصون بالمنسوجات الحريرية مايلي:
1ـ مهارة الحائك السوري عبر العصور التاريخية
2ـ كثرة استخدام اللون الأحمر القاني الجميل والجذاب والأكثر ارستقراطية في الشرق
3ـ مدى انتشار عادة التدثر بالملابس الحريرية
4ـ استخدام الخيوط الحريرية مع الخيوط الصوفية والقطنية، مما كان يخفي الحرير في العهود الإسلامية
5ـ انتشار طريقة الفتل في جهة اليسار في أقطار الشرق الأدنى القديم.
6ـ تزايد الترف والبذخ في تدمر أكثر من مصر نفسها
7ـ وجود خيوط مفتولة إلى جهة اليمين، مما يفيد في عمل الخيوط. كما أن وجود خيوط حريرية يفيد في تقوية الخيوط الصوفية والأقمشة المنسوجة
8ـ وجود حرير ارجواني اللون. وإن عملية صباغة خيوط الحرير اللحمية فقط قد تم قبل عملية الحياكة والنسيج.
وصول أسرار صناعة الحرير إلى أوروبا:

وشهدت جزيرة صقليا في عهد ملكها روجر الثاني 1093-1154 اهتماماً خاصاً بزراعة أشجار التوت وتربية دود القز وصناعة الحرير الفنية في العاصمة باليرمو التي انتقلت منها أسرار صناعة الحرير إلى عدد من أقطار أوروبا وبخاصة فرنسا واسبانيا. واهتمت إنكلترا بصناعة الحرير المحلية في القرن السابع عشر.
والجديد بالذكر أنه بفضل جهود العرب والمسلمين ازدهرت زراعة أشجار التوت وتربية دودة القز وصناعة الحرير في اسبانيا وبخاصة في المدن الأندلسية غرناطة، طليطلة، إشبيلية، فالانسيا.

قطع طريق الحرير الدولي:
شهدت تجارة الحرير الدولية ازدهاراً كبيراً في عهد إمبراطورية جنكيز خان 1162-1227 الممتدة من الدانوب حتى منشوريا، ومن جيورجيا حتى كوريا، ومن بلاد ما بين النهرين حتى الصين الجنوبية. وخلفه أوغوداي وقوبلاي 1260-1294 الذي حضر موفدوه مؤتمر ليون عام 1274. وكان الكثيرون يتحدثون عن إمبراطورية جنكيز خان وحزمه ودقة إدارته، ويذكرون بعض التفاصيل مثل توفر نحو... 300 حصان في مختلف المحطات على امتداد طريق الحرير التي كانت تفصلها عن بعضها مسافة نحو ثلاثة أميال مما يؤكد سلامة طريق الحرير والقوافل التجارية وأصحابها وممتلكاتهم. فكان لانهيار إمبراطورية جنكيز خان أثره الكبير على فعاليات طريق الحرير وسلامته.

إسهام تحسين الملاحة البحرية في تنشيط فعاليات طرق التجارية عبر البحار:
منذ العصر الهيلينستي والروماني، كانت ثروات الشرق القديم وفعالياته الاقتصادية المتميزة تثير أطماع الغرب وتدفعه إلى القيام بحملات حربية مختلفة كحملة القائد الروماني مارك أنطونيو 83-30 ق.م ضد تدمر لسلب ثرواتها الضخمة ليتابع حملاته الحربية ضد خصومه، وحملة القائد الروماني ايليوس جالوس الفاشلة الى بلاد العرب لاكتشاف طرق التجارة البرية العالمية الرابحة والسيطرة عليها.
وتابعت أوروبا سياستها الاقتصادية في سبيل الحصول على ثروات الأقطار المختلفة مثل:
ـ لؤلؤ الخليج
ـ ذهب السودان
ـ توابل الهند
ـ حرير الصين المادة الثمينة والنفيسة والمطلوبة كثيراً من قبل الأباطرة والملوك والأمراء وكبار الأغنياء. وقد أسهم تحسين الملاحة البحرية في تنشيط فعاليات طرق التجارة العالمية عبر البحار. وتحققت رغبة أوروبا في البحث عن طريق الحرير المستقل والمباشر من أقطارها إلى أقطار آسيا نفسها، وذلك في عصر الاكتشافات الكبرى المتميزة بتقدم الملاحة الأوروبية وتطورها الكبير.

تدمر مدينة القوافل التجارية ومحطة طريق الحرير الرئيسية:
تدين تدمر بوجودها إلى مياه نبعها وغزارة آبارها وسعة واحتها الخضراء التي تزهو بأشجار النخيل والزيتون والرمان وغيرها... وتضفي جمال الخضرة على مكان يبدو كبحر من الرمال الذهبية اللون اللامحدودة الاتساع المتألقة بأشعة الشمس، مما يجعل واحة تدمر تشبه الزمردة الخضراء وسط رمال الصحراء.
وتدين تدمر بازدهارها الاقتصادي إلى أهمية موقعها على طريق تجاري أصبح فيما بعد طريق الحرير الدولي الممتد من بلاد الصين شرقاً حتى روما غرباً، وذلك عبر أقطار الشرق القديم (الصين وتركستان وأفغانستان وشبه القارة الهندية وإيران وبلاد ما بين النهرين وبلاد الشام... وأقطار الغرب كاليونان وايطاليا...)
إن موقع تدمر المتميز في قلب بادية الشام في منتصف الطريق بين مدن حوض الفرات شرقاً ومدن الساحل السوري غرباً. وإن فتح حوض الفرات للتجارة العالمية والقوافل التجارية قد جعل طريق الحرير العالمي عبر تدمر هو الطريق الأقصر مسافة، والأكثر سهولة، والأفضل عبوراً ومروراً، والأكثر أمناً وسلامة للقوافل التجارية وأصحابها التجار وممتلكاتهم المختلفة. وأدى كل ذلك إلى أن يصبح هذا الطريق التجاري البري الدولي متفوقاً بأهميته على أهمية طريق الحرير البحري الذي كان يمر عبر البحر الأحمر، ويزدهر أو يتخلف أو يهجر تبعاً للظروف المختلفة، مما جعل مرافئ البحر الأحمر (مثل: حواره Leuke – Kome) تتأثر إلى حد كبير بالتطورات والمتغيرات المختلفة، وتتأرجح بين الازدهار الاقتصادي والأزمات الاقتصادية والمالية المختلفة.. وهكذا كان طريق الحرير البري الدولي عبر تدمر قادراً على المنافسة المضمونة والرابحة والمنتصرة على طريق الحرير البحري. وكان طريق الحرير البري الدولي عبر تدمر بمثابة أكبر شريان لفعاليات التجارة الدولية في ذلك العصر، أسهم في جعل تدمر تسود التجارة الدولية وطريق الحرير البري وتسهم في تنظيم حركة نقل الحرير وعمليات تجارة الحرير الدولية.

وبعدما كانت تدمر في الماضي البعيد شبه مقفرة، يعاني فيها الإنسان ويكافح ضد قساوة الطبيعة وبرودتها ليلاً وشتاءً، وحرارتها نهاراً وصيفاً، ويبتهج بانتظار وصول القادمين مع القوافل، أصبحت تدمر محطة شبه إجبارية للقوافل التجارية المتجهة من الشرق إلى الغرب وبالعكس، تفيد من موقعها الهام وتوفر المياه فيها لأفرادها وإبلها. كما تفيد هذه القوافل من الخدمات العديدة التي تقدمها لها، مما جعل تدمر بمثابة محطة هامة لهذه القوافل التجارية ومخزناً لبضائعها المختلفة، وعاصمة لرجال القبائل العربية وزعماء القوافل.

وإن شهرة السوريين القدماء في ميادين التجارة الداخلية والخارجية ومهاراتهم وخبراتهم ورحلاتهم، قد يوضح إسهام التجارة في ازدهار تدمر، ودور أولئك السوريين في تنشيط فعاليات التجارة العالمية في عصر كانت فيه القوافل التجارية تهتم بكل ما أبدعه الفنانون التطبيقيون والصناع الفنيون من نفائس وتحف وطرائف وبدائع وروائع فنية كان يتهافت على اقتنائها الملوك والأمراء وكبار الأغنياء. فكانت هذه المنتوجات النفيسة والثمينة والنادرة تشكل المواد الهامة للتبادل التجاري، وفعاليات حركة التجارة العالمية وقتذاك.

وكان دور التدمريين القدماء في حسن تنظيم رحلات هذه القوافل التجارية ورعايتها وحمايتها وتقديم الخدمات إليها، والإسهام في فعالياتها. قد جعلهم من كبار الأغنياء والأثرياء. وجعل مدينتهم بمثابة مركز تجاري هام ورئيسي، ومحطة هامة للقوافل التجارية في طريق الحرير البري الدولي. وإن تعاون التدمريين القدماء فيما بينهم وفق تقاليدهم المحلية المتعارفة، ومساواتهم وتعلقهم بمبادئهم وقيمهم، كل ذلك جعل تدمر تبدو بمثابة (عاصمة جمهورية أغنياء التجار وأمراء القوافل التجارية)، تعتمد على التجارة والقوافل التجارية التي كانت تبدو بمثابة جدول متتابع ومستمر لا ينقطع، وتسهم في نمو التجارة الخارجية الدولية.

وكانت مكانة تدمر التجارية، وفعاليات التدمريين التجارية، وسياستهم الدولية القائمة على مبدأ التوازن الدقيق والذكي بين الإمبراطوريتين الفرثية ـ الساسانية والرومانية، قد حققت لتدمر والتدمريين مكاسب مفيدة وعديدة أهمها ما يلي:
1ـ تنظيم حركة القوافل التجارية في طريق الحرير البري عبر تدمر، والاهتمام بكل ما يتعلق بها وبحمايتها وسلامة أصحابها وذلك بفضل فرقها المقاتلة المعدة لهذه المهمة.
2ـ توسع فعاليات التدمريين التجارية في الخليج، وبخاصة في خرقيدونيا ومكاتبهم في خرقس في شمال الخليج، وصلاتهم بمراكب الهند، والمرافئ المختلفة، وبناء أسطول تدمري في الخليج، ووصول فعاليات تدمر الاقتصادية حتى الصين.
3ـ تمتع التدمريون بنفوذ كبير في مناطق كانت تسيطر عليها الإمبراطورية الفرثية ثم الساسانية في فولجيسياد Volgesiade في عصر بدت فيه تدمر وكأنها سيدة التجارة الدولية وطريق الحرير البري الدولي. مما يدل على مدى نجاح الدبلوماسية التدمرية، وحسن توثيق علاقاتها الدولية مع كل من الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفرثية. أضف إلى ذلك علاقاتها الدولية مع سوسة Susiane وميسان Mesène وغيرها.
4ـ الازدهار الاقتصادي الذي جعل تدمر كعاصمة الترف والغنى والرفاه والسلام بل والأحلام، مما أسهم في تقدمها العمراني والفني والثقافي والاجتماعي، كما أسهم في تزايد عدد سكانها والعاملين فيها والمتجهين إليها، وتنوع فعالياتهم الاقتصادية، وتزايد ثروات تجارها، فظهرت ضرورة سك النقود التدمرية الخاصة بها. أضف إلى ذلك تزايد الطرق المتجهة إليها والمنطلقة منها، وإن اكتشاف أحجار المسافات يوضح أهمية تدمر كعقدة طرق مواصلات هامة.
5ـ حسن انفتاحها على آفاق العالم الخارجي، وذلك بعدما وصل طريق الحرير واحتها الخضراء ببقية الواحات على امتداد طريق الحرير البري الدولي.
6ـ إن مهارة التدمريين الدبلوماسية والسياسية الذكية أثارت إعجاب الرومان الذين عهدوا إليهم ببعض المهمات وبخاصة في المناطق التي كان التدمريون يتمتعون فيها بنفوذ كبير وهي تحت السيطرة الفرثية. كما أن مهارة التدمريين القدماء في الرماية والقتال جعلهم في طليعة المقاتلين. وأفادت منهم الإمبراطورية الرومانية في القضاء على الفتن والاضطرابات والخصوم والأعداء. مما يدل على الإمكانات والطاقات الكبيرة التي كان يتمتع بها قدماء التدمريين في العصر الروماني،وذلك بفضل منطقتهم الواسعة التي كان يتعذر على الرومان أنفسهم السيطرة عليها أو التحكم فيها وذلك لخصائصها الطبيعية المتميزة. وبفضل مؤهلات التدمريين القتالية بالفطرة (ممارستهم رياضة الصيد بأنواعه، حسن تحملهم المشقات والمتاعب والبرد والحر والجوع في بيئتهم القاسية...) وخبرتهم في الرحلات والغزوات معتمدين على الجمل سفينة الصحراء الوحيدة الذي يمكنه حمل الأثقال لمسافات طويلة وفي ظروف بيئية صعبة يهلك فيها الخيول والبغال من الجوع والعطش؛ في حين أن الجمل يقتصر غذاؤه على نباتات شوكية جافة في الصحراء.
وتوضح الكتابات التدمرية الأثرية المتعلقة بقادة وزعماء (مثل وود وسواد Soados، وأولبيوس يرحاي...) دور مثل هذه الشخصيات التدمرية البارزة وحسن مكافأتهم من قبل مواطنيهم التدمريين والرومان مع كثير من التقدير والإعجاب والاحترام.
7ـ تأكيد دور تدمر السياسي والاقتصادي في عهد أذينة وزنوبيا: فإذا كانت كتابات بليني القديم 23م وآبيان تعبر عن أهمية تدمر المستقلة، فإن سياسة روما في سبيل التسرب الاقتصادي والسيطرة السياسية تدريجياً منذ حملات الإمبراطور تراجان (92-117م) في بلاد ما بين النهرين وعهد تيبريوس (14-37م) كان لها أثر كبير في محاولات الحاكم الروماني في التدخل في شؤون تدمر ولكن عهد الإمبراطور هادريان (117-138م) أدرك أهمية تدمر وطاقاتها وإمكاناتها وميادين الإفادة منها. وتمتعت تدمر بامتيازات عديدة ومفيدة مختلفة في عهود الأباطرة السيفيريين السوريين (193-235م).
وبقيت تدمر موضوع القلق الأهم لكل من الإمبراطورية الفرثية فالساسانية والإمبراطورية الرومانية مما يفسر عدوان شابور واستيلاءه على مملكة خرقيدونيا، وقضاء الإمبراطور أورليان أخيراً على مملكة تدمر في عهد ملكتها زنوبيا عام 273م.
8ـ تدل المنحوتات التدمرية على جمال ملابس التدمريين والتدمريات الحريرية الجميلة الثنيات والمطرزات الدقيقة التي تجسّد ذوقاً فنياً متميزاً وثقافة جمالية، ومطلباً اجتماعياً. وإن ما تمثله من حلي ومجوهرات تدل على مدى ترف التدمريين.
وتدل بقايا الملابس الحريرية المكتشفة في مدافن تدمر وحلبية، على مدى توفر مادة الحرير في تدمر في عصر كان فيه الحرير نادراً جداً في أوروبا، ويحرص الملوك والأمراء وكبار الأغنياء على التدثر به والظهور بمظهر الغنى والترف والسيادة...
9ـ وإن بناء معبد بل الضخم عام 32م يعتبر بمثابة نقطة تحول هامة في تاريخ العمارة التدمرية الدينية والمدنية وإن المباني الجميلة المختلفة التي شهدتها تدمر تجسد ذلك الرفاه والازدهار والفعاليات الاقتصادية المختلفة. وقد تحدث المؤرخون عن المباني التي كانت تزين منطقة الساحة العامة، والتي كانوا يطلقون عليها اسم تتراديون مما يجسد ويؤكد أهمية العمارة كمرآة الحضارة ومجمع فنون جميلة وفنون تطبيقية.

الخلاصة:
مما تقدم تبدو أهمية دراسة طريق الحرير وتدمر مدينة القوافل التجارية، مما جعل منظمة اليونسكو تناشد أقطار العالم والدول الأعضاء في هيئة الأمم للقيام بكل ما من شأنه بحث واستقصاء ومتابعة آثار طريق عبر الأقطار العديدة في قارات آسيا وافريقيا وأوروبا براً وبحراً، وفتح حوار حضاري جديد يسهم جدياً في تقارب الأمم والشعوب وتوثيق علاقاتها الودية فيما بينها.

فإذا كان قدماء الصينيين ابتكروا هذا الانجاز الحضاري واحتكروا أسرار صناعة الحرير الفنية فترة طويلة من الزمن، فإن أسرار هذه الصناعة قد تسربت أخيراً خارج بلاد الصين، وأصبح المجتمع الإنساني في أقطار العالم يتمتع بما ابتكره الشعب الصيني من نوع جديد من الأقمشة والملابس الجديدة والمتميزة التي أسهمت في تطوير الذوق الفني والحس الجمالي كما أسهمت في تحقيق الازدهار الاقتصادي وتقدم الحياة الاجتماعية وتنمية العلاقات الودية بين الشعوب والأمم. فازدهرت المناطق التي مرّ بها طريق الحرير الدولي، وحدث تفاعل حضاري وصلات إنسانية بين سكان أقطار متباعدة جغرافياً وتاريخياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً وجمالياً.
إن طريق الحرير الدولي أنشأ علاقات اقتصادية بين تلك الشعوب والأمم، ومهد لظهور علاقات سياسية واجتماعية وثقافية، وأسهم في تلبية متطلبات المجتمعات النفعية والجمالية.

وإن رحلات ماركو بولو (1254-1323) وغيره، فيما بعد، أسهمت في إغناء المعلومات والتعريف بالمجتمعات والحضارات والثقافات، ونشر المعرفة التاريخية والجغرافية والفولكلورية المتعلقة بأقطار شرقية كانت مجهولة أو غير معروفة جيداً لدى الآخرين.

وصار للحرير مشاغل ومعامل، وفنانون وعمال فنيون، وتجار وأسواق تجارية خاصة بالحرير، وأصبح عنصراً هاماً في عالم الاقتصاد وأحد مواضيع أحاديث المجتمعات وتفاخرها، والتشبيه به في عبارات بيانية ووصفية.

وإن تدمر التي أسهمت في حماية طريق الحرير والقوافل التجارية وأصحابها من مختلف البقاع والأقطار وقدمت خدماتها المختلفة في سبيل أمن طريق الحرير وسلامة القوافل التجارية في ذهابها وإيابها، وأفادت كثيراً من الرسوم المالية التي كانت تجبيها بموجب نصوص القانون المالي في 18 نيسان 137م، قد واجهت خطر شابور الأول (241-272) الذي استولى على مملكة خرقيدونيا Characene المنفذ البحري الهام لفعاليات تدمر الاقتصادية في الخليج مما جعله يصطدم مع أمير تدمر أذينة. كما واجهت بعدئذ خطر أورليان (270-275) الذي قضى على مملكة تدمر في عهد زنوبيا عام 274م. وهكذا قضت هذه الحروب العدوانية على مسيرة نمو الازدهار الاقتصادي والتقدم الاجتماعي والإشعاع الثقافي في تدمر. وبدت تدمر الآن بأطلالها كأنها تتحدث بصوت الصمت ولغة الفن الخالد عن ذلك الازدهار والإشعاع يوم كانت تدمر عاصمة الفعاليات الاقتصادية والترف الاجتماعي والأمن والسلام والهناء والأحلام.


بشير زهدي

الحوليات الأثرية العربية السورية|المجلد الثاني والأربعون|1996

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

:

شكرااااااااااا شكراااااااااااا شكرااااااااااااا
استفاديت هوايا شكرااااااااااااا