رؤية بصرية جديدة في مسلسل أبو خليل القباني تقدمها إيناس حقي

18 أيلول 2010

من الظلم أن يمرَّ مسلسل «أبو خليل القباني» للمخرجة الشابة إيناس حقي في هذا الموسم الرمضاني دون الحديث عنه في وسائل الإعلام، خصوصاً أنّه يتناول قصة رائد المسرح العربي أبو خليل القباني، ويؤرّخ لمرحلةٍ غاية في الأهمية من تاريخ مدينة دمشق إبان الفترة الممتدة بين 1833 و1903؛ في ظلِّ سيطرة الفنتازيات على ما يسمى مسلسلات البيئة الشامية، والتي اعتمدت على قصص يغيب المنطق والدراما عن بعضها، ويسيطر على البعض الآخر الطابع القصصي الأشبه بقصص الجدات، والتي في كثير من الأحيان ما حملت مغالطات تاريخية، لاعبةً على النستالوجيا للمشاهد البسيط لتوريطه في عملية المشاهدة، ظاهرةً بأسوأ الأشكال الفنية في تاريخ الدراما السورية.

ولعلّ الأهم في مسلسل «أبو خليل القباني» هو الرؤية الإخراجية التي قدمتها حقي في المسلسل، والتي اعتمدت على توثيق أدق التفاصيل في البيئة الشامية إبان تلك الفترة؛ ولم تكن كاميرا حقي مجرد ناقل للحكاية، كما عودتنا الدراما السورية باستثناءاتها القليلة، بل أضافت بعداً جمالياً بصرياً جديد في التعبير عن العلاقة بين الشخصيات وتفاعلها مع الأحداث، ووضعتنا أمام تشكيلات بصرية غاية في الجمال، ضمن إيقاع وحركة كاميرا مدروسة، تشي بمحاولة الخروج من منطق تتبع الحكاية وتكريس الفرجة البصرية بالدرجة الأولى. في أحد مشاهد المسلسل تخرج عائلة أبو خليل إلى السيران في غوطة دمشق؛ نحن أمام تشكيل بصري أخاذ وأمانة حقيقة في إظهار الأحداث، إذ أنّ المشهد لا يحوي أي موقف درامي مؤثر، لكنّه مليء بالتفاصيل الغنية، والتي تشعر المشاهد أنّه أمام سيران حقيقي في تلك الفترة التاريخية. إنِّ التفاصيل التي اشتغلت عليها حقي بعثت شخوص تلك الفترة الزمنية وأحيتها أمامنا، حيث رأبت هذه التفاصيلُ الكثيرَ من الفجوات الدرامية التي تضمنها النص، كتركيزه في الحلقات الأولى على عائلة أبي خليل، ضمن تجاهل العديد من الأحداث الدامية التاريخية التي يمكن أن تمثل وثيقة تاريخية درامية تغني العمل من حيث إيقاعه. نحن أمام مخرجة تعي أدواتها وتعرف مبررات حلولها الإخراجية، التي من الواضح أنّها لا تخضع لديها لعملية التجريب العشوائية، التي اعتمدها العديد من المخرجين في هذا الموسم الدرامي؛ حيث قدموا مجموعة من الحلول الإخراجية التي لا تحمل أيّ مبرر درامي أو بصري.

«أبو خليل القباني» ليس مجرد مسلسل سيرة ذاتية لأحد الشخصيات الثقافية التنويرية، لكنه مشروع فكري، اشتغلت عليه حقي بجهد، ويبدو هذا واضحاً من المقدمة التي تظهر في بداية كل حلقة من حلقات المسلسل؛ حيث تظهر صورة طولانية لباسل الخياط بالأبيض والأسود على يمين الشاشة بزي أبي خليل، وإلى جانبها تظهر عبارات منتقاة بدقة لأبي خليل يتحدث فيها عن الممثل وأهميته وأهمية التمثيل في المجتمع. واللافت في هذه المقدمة جمالها البصري وتناغم عناصرها: الصورة بالأبيض والأسود، والكلام الذي يظهر بجانب الصورة مع صوت باسل الخياط الرخيم المتقن ذي القراءة الهادئة والعميقة؛ بالإضافة إلى أنّها رسالة مهمة جداً توجه إلى المشاهد طوال حلقات المسلسل. وفي المشهد الأخير من المسلسل يظهر أبو خليل في مكان ما في دمشق غير واضح المعالم ولا نعرف إلى أيّ فترة ينتمي، بجانب مجموعة من الخرائب التي لا تعطي أيّ دلالة تاريخية للمكان، حيث يستعيد أبو خليل مجموعة من الذكريات، عبر فوتو-مونتاج يحمل أكثر المشاهد درامية ومفصلية في مسيرته، في ظل سرد بصري ممتع ورائع، وأداء مذهل لباسل الخياط الذي فتح العنان لقدراته الفنية ليستطيع طوال ما يقارب 20 دقيقة صامتة اعتمدت على نظرات وتعابير بسيطة أن يبعث الألم والأسى، وأن يجعلنا نتفاعل مع هذه الذكريات بطريقة طفولية، إذ أشعرنا الخياط أنّنا أمام أبي خليل حقيقةً وهو يستعيد هذه المسيرة الطويلة والحافلة، لترتفع كاميرا حقي ببطء، ولنكتشف أنّ أبا خليل يجلس في منزله الكائن حالياً في كيوان، وهو عبارة عن أطلال بائدة، وينتهي المسلسل بلقطة عامة لمدينة دمشق. إن هذا المشهد يحمل أهمية كبيرة في سياق المسلسل، ليس فقط في أهميته الدلالية العميقة والمؤثرة والتي تحمل العديد من الرسائل على مختلف المستويات، ولكن في الجمال الإخراجي الذي قدمته إيناس لهذا المشهد، كما أنه دليل على أنه ليس عملية ارتجال أو أننا أمام مخرجة تعلمت تقنيات الإخراج فقط كما يحدث الآن، ولكن يؤكد على الموهبة التي تمتلكها حقي، وعلى النضج الذي وصلت إليه والذي يضعها دون مبالغة في مستوى أهم المخرجين في سورية.

لا نستطيع الحديث عن هذا المسلسل دون الحديث عن أداء الممثلين الذين ظهروا جميعهم بأداء متقن، وهذا دليل بأن حقي تعي أهم عملية من عمليات الإخراج، وهي إدارة الممثل، فالجميع في المسلسل قدموا شخصيات استثنائية، وتبدو أنّها مختلفة، بالرغم من ظهور العديد منهم في مسلسلات البيئة الشامية الأخرى. فالممثلة وفاء موصلي التي جسدت شخصية فريال في مسلسل «باب الحارة»، تبدو هنا ممثلةً مختلفة تماماً، وهذا لا يرجع إلى اختلاف طبيعة الشخصية، ولكنه يعود إلى الإحساس الجديد الذي قدمته موصلي في المسلسل، وهذا ما ينسحب على جميع الممثلين، مما يُحسب بالطبع لحقي التي استطاعت أن تدير جميع طاقم العمل ليظهر بنفس السوية دون وجود فروقات من ناحية الأداء بين النجوم والممثلين العاديين.

لا يمكن لمسلسل «أبو خليل القباني» أن يقدم على أنّه مسلسل بيئة شامية أو مسلسل سيرة ذاتية، يبدو تصنيف هذا المسلسل بهذه الطريقة معقولاً في ظل ازدهار صناعة الدراما، ليس تسويقاً، وإنما فنياً، ولكن في ظل تردي هذه الصناعة فنياً، من غير الممكن تصنيفه بهذا السياق، والأفضل أن يقدم المسلسل كنموذج لصناعة الدراما السورية، وقد يبدو أننا نبالغ في قولنا هذا من الناحية النظرية، لكن المبالغة تسقط عندما يطرح المسلسل حلولاً بصرية طوال 30 حلقة تستطيع أن تجذب المشاهد طوال المسلسل، في ظل غياب التشويق في النص الذي اقترحه الروائي خيري الذهبي، والذي ركز على أبي خليل والمقربين منه. ربما قدمت أعمال درامية ممتعة في الدراما السورية طوال 30 حلقة، مثل أعمال حاتم علي ووليد سيف، لكن أعتقد أن العديد من الظروف ساعدت في نجاح هذه المسلسلات أهمها النص المحكم للأخير، بالإضافة إلى حرفية حاتم علي. ولكن في مسلسلنا هذا نحن أمام جهد إخراجي واضح، ضمن منهجية إخراجية جيدة، ومنطق مختلف عن طريقة الإخراج السائدة والتي تقترح حكايا يرافقها رؤية بصرية. وما يميز أبو خليل أنّه يقدم رؤية بصرية يرافقها حكايا، وهذا هو الأهم في الصناعة البصرية في العالم.

كثيراً ما يتردد في الأوساط الفنية، وإن كان همساً، أنّ السبب الوحيد لعمل إيناس كمخرجة هو كونها ابنة أحد أهم المخرجين في سورية وهو هيثم حقي، وأنّها إلى الآن لم تعمل سوى مع شركة الإنتاج التي يديرها والدها، ولكن إيناس استطاعت أن تثبت في هذا المسلسل أنّها مخرجة من الطراز الرفيع، بالرغم من صغر سنها وحداثة تجربتها، وأنّها تمتلك الحساسية الفنية والرؤية الإخراجية العميقة، التي يفتقر إليها العديد من المخرجين السوريين الذين عملوا لسنوات في الدراما السورية، والذين قدم بعضهم هذا الموسم أسوء نماذج الدراما بصرياً، في ظل سيطرة «بروبوغاندا» إعلامية تسوق لهذا النوع من الدراما، والتي من شأنها الذهاب بالدراما السورية إلى مواقف لا تُحمد عقباه إن لم نتنبه لذلك.


عروة المقداد - دمشق

اكتشف سورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

سائد وسوف:

الشكر كل الشكر لاناس الموهبة المزهرة والعظيمان هيثم حقي و خيري الذهبي

syria

منال:

لعل هذا المسلسل من أهم المسلسلات المثيرة للجدل والنقاش لكن عرضه كان مقتصرا على قنوات الاشتراك ولم يعرض على اي فضائية عربية لكنه بالتاكيد مسلسل ناجح وايناس صديقتي ومخرجة متميزة وموهبه حقيقية وشكرا

سوريا