الياس الزيات في حوار خاص مع اكتشف سورية

21 04

اللوحة التي تبحر بين أورفاليس ودمشق

يصعب أن ُتعرّف الفنان الياس الزيات بكلمات، وهذا طبيعي أمام قامة من قامات الفن في سورية.

الياس الزيات كما شجرة باسقة أوغل ولوحته جذوراً في الأرض ليلتقط عبر نسغ ريشته ماءً عمره الكثير من العبق، ليكوّن تلك الأغصان المتسامقة، والمثمرة عطاء، وأمام هذا العطاء يصعب عدم الانحناء.


«اكتشف سورية» تابع الاحتفاء بالفنان الياس الزيات في معرضه «تحية إلى جبران»، وعلى هامش هذا المعرض، والذي أقيم في صالة رفيا، كان هذا الحوار.

إلى جبران:

لماذا إلى جبران خليل جبران؟
جبران خليل جبران هو أكبر من أن ُيحد بمكان فهو ملك الحضارة الكونية، ولكنه لم يتخل في كتاباته عن جبل لبنان وسورية وكذلك لم يتخل عن انتمائه للغة العربية فقرأ كبار المؤلفين العرب من ابن خلدون إلى ابن الفارض وتخيلهم ورسمهم. جبران جدد في اللغة العربية انطلاقاً من الأصول، جدد في اللغة العربية بمعنى أنه نحت نحتاً جديداً من بناء اللغة الأول. كما أنه جدد في الفن دون أن يسير في التيارات الحديثة أثناء وجوده في باريس، ومن رسائله لمي (مي زيادة) بعد مشاركته في معرض عالمي في باريس يقول عن تيارات الحداثة بأنها لن تعيش ولكن الذي سيبقى هو فكر هذه التيارات، هذا أعتبره نبوءة! هو لم يرسم وفق هذه التيارات وبقي رساماً كلاسيكياً. جبران ابن هذه الأرض، وأخلص حتى اللحظة لها، كما إن هذه الأرض هي التي جعلت منه قبساً من ضوء في الكون كله. لو أردنا الحديث لماذا جبران، فلن أنتهي أبداً.



الفنان التشكيلي الياس الزيات

كان جبران يرسم حتى الطبيعة من صخور وشلالات بلغة العاري، الأمر الذي لم نره في معرض لا سيما ومعرضك الحالي هو إلى جبران، كيف ـفهم هذا الامتناع عن رسم العاري وقد أعتبره جبران جوهر الحقيقة؟
رسمت العاري سابقاً كثيراً، ولم يخطر على بالي عندما رسمت بوحي من جبران، أن أهتم بهذا الأمر، وعندما سئل جبران لماذا يرسم العاري قال: لأن الطبيعة والحقيقة عاريتان! ولماذا لم أقاربه من هذه الناحية لأني أنا لم أقلد جبران أنا أستوحيه وأطرحه برؤية خاصة بي، بالفعل جبران مزج العاري مع الطبيعة، وبالنسبة لجبران ينطلق من فهم هذا العاري من خلفية ثقافية كونية حيث كان يرى الوجود وما بعد الوجود، فهو عندما ودع سكان أوروفاليس قال: سأذهب إلى امرأة أخرى لم تلدني!

في حياة جبران أمه التي أثرت حياته وفكره وكذلك ماري هاكسل، وميشلين، وكلهن قدمن الكثير لجبران، من هذه الزاوية أثمة نساء أثروا حياة الياس الزيات أو تركوا أثراً على فكره أو فنه؟
لا يمكن الحديث عن أثر المرأة علي من نفس الزاوية، فجبران - وهذه ليست مذمة - استغل أمه وأخواته وقد دعمنه شتى أنواع الدعم فقد كانت أمه وأخته تعملان بالتطريز لتسددا نفقات تعليمه، وهذا الأمر حدث مع ماري هاكسل، فقد ساعدته مادياً ومعنوياً إلى أقصى الحدود فهي التي أرسلته إلى باريس لدراسة الفن. بالنسبة لي الأمر مختلف، يمكنني أن أقول هنا إن زوجتي لها كل التقدير في هذا المجال فهي ساندتني طيلة حياتي معها، وأقل ما يمكن قوله إنها لم تشكل علي ضغطاً كامرأة شرقية لرجل شرقي. ولا يمكنني أن أنسى الأثر الطيب الذي تركته والدتي عليّ، وكذلك دعم والدي أيضاً، لكن قريبتي من والدتي إميلي الحلبي كان لها أثر طيب وخاص، فقد كانت تساندي وترسل لي المجلات المتخصصة في الفن إضافة لعلب الألوان، لهؤلاء النسوة أدين بالكثير.


دراسة 2
من لوحات معرض إلى جبران

لا مجد إلا في الفن، ولا جمال إلا فيه، هذا ما قاله جبران في أحد أحاديثه مع ميخائيل نعيمة، الياس الزيات ماذا يقول هنا؟
لا شك أن الفن ينبع من الحياة، لا ينبع وحسب بل ويعود إليها ليفجر طاقة أخرى مضافة لجمال الطاقة التي تعطيها الحياة والفن. إذا الفنان لم يأخذ مما حوله سينضب، لا يكفي أن يكون منهل الفنان ذاته لذا ينبغي عليه إغناء نفسه بالتفاعل مع عناصر الحياة من حوله. هذه مشكلة يواجهها الفنان حالياً، فمن خلال استقراء النتائج الفنية أخلص إلى أنها ليست غنية، فإذا لم تغنِ الفنان الثقافة والمعرفة بتاريخه وتاريخ أمته وتاريخ العالم فإنه لا يكون منتمياً وخاصة أن الفنانين اليوم يعتمدون على المراجع الأجنبية في خبراتهم الثقافية والفنية، ولا يكفي أن يطلعوا على الفن من خلال الصور المطبوعة، وهذا كان على أيامنا إذ استفدنا نحن من هذه المراجع والكتب خلال الخميسنيات والستينيات لكن لم نكن بهذا العدد الكبير، الآن الواقع يفرض معطيات جديدة، نحن كنا نعيش هذه الحالة لضرورة البناء على مختلف الصعد، فقد أتينا في مرحلة الاستقلال وبناء المؤسسات، الآن لدينا المؤسسات الكبيرة، وعلينا أن لا نفكر بتلك الطريقة، الظروف اختلفت جذرياً، وثمة الكثير مما علينا مواجهته.

أعتقد أنه ثمة ضرورة بأن يعرف الفنان لأي حضارة ينتمي ومن الضروري أيضاً أن تكون هذه المعارف جزءاً من دراسته وثقافته كي لا يخرج عن روحية انتمائه المكاني والزماني؟
ما تقوله صحيح، وهذا سؤال كبير ويستحق بحثاً موسعاً، وفي سياق معرض جبران ستجد هذا، لكن الحديث عن هذا الأمر بحاجة لأن يكون موضوعاً مستقلاً.

لو لم يكن جبران قادراً على الرسم لم يكن جبران، فهو استطاع أن يقول بالصورة ما تعجز عن بلوغه الكلمة، وبتعبير أدق استطاع بالفن تصوير التصور وليس فقط مجرد الصورة، فهل توافقني؟
جبران يتحدث عن هذا من خلال ما سجلته ماري هاكسل، وهذه المذكرات منشورة، هنا يمكن القول: إن جبران الفنان استطاع عرض أفكاره ووصف انطباعه بكلتا الحالتين، فهو عندما يكتب يكون عقلانياً، وعندما يرسم فهول يقول أشياء روحانية، جبران لم يكن يرسم ويكتب فقط بل كان موسيقياً وأول كتبه كان عن الموسيقى، يمكن أن نختصر هنا أن جبران كان يكتب ويصور روح الفكر.


الفنان الياس الزيات والسيدة كلود عطا الله زوجته

دعني أشبه هذا المعرض بناي جبران، فهل استطعت عبر لونك ولوحتك إنشاد جبران، هنا كيف يقيم الفنان الياس الزيات معرضه؟
هذا المعرض هو محاولتي لاستلهام جبران، مع أن ما نريده في العادة هو حكم الآخرين على العمل وهذا ما فعلته الدكتورة حنان قصاب حسن في مقدمة الكتالوج المرافق للمعرض وكيف عادت فتعرفت على جبران مرة ثانية في معرضي. لكن إذا كنت تقصد تقييمي الذاتي لهذا المعرض فدعني أقول: في معرضي أنا لم أخرج عن أسلوبي التشكيلي وخبراتي المتراكمة بل طرحت فيه ذات التقنيات، إنما في هذا المعرض أنا جوّدت أدواتي ومعرفتي بجبران، لكن منذ زمن بعيد وأنا أستوحي جبران ببعض الأعمال وكانت لدي الفكرة منذ زمن أن أقيم معرضاً بالكامل لجبران، وهذا المعرض ما هو إلا بداية ستستمر فجبران يستحق أكثر من هذا، جبران فتح لي الكثير من النوافذ على آفاق متعددة، كنت أكتب قبل أن أرسم، فالأدب يعني لي الكثير لكني لم أصور الأدب وكثيراً ما ضمنت لوحاتي كتابات للكثير من الشعراء، والكتابة تأتي لتكمل المعنى في اللوحة، لذا تجدني هنا ضمنت اللوحة الكتابة المتوافقة مع التشكيل وفكر جبران، وإن كان الخط في اللوحة متماشياً مع حركة اللون فاللوحة لدي ليست حروفية.

استكمالاً للسؤال السابق، عزفت على ناي جبران، ونهلت من نبع جبران، وكأن هذا التقاطع مع جبران هو تقاطع مع ذاتك، وتلك الروح التي تحلق في سماء جبران هي ذات الروح التي تحلق في سمائك، ما هي الإضافة التي قدمها الزيات في هذا المعرض انطلاقاً من هذه الرؤى؟
هذا اللقاء ليس لقاء قسرياً ولا عبثياً، ربما يعود هذا التلاقي إلى تكويني وثقافتي وانتمائي، مجموع هذا يشكل التحاماً مع فكر ورسم جبران، ومن هنا هذا اللقاء كان طبيعياً، وغير طبيعي أن لا يكون، مع أني لم أسع إليه بشكل قصدي.

أعتقد هذا لأنك تشارك جبران الفكر والروح والصورة والكلمة والانتماء.
فقط أن لا تكون المرأة الأخرى التي ذهب إليها، هي أنا!


المطرة
من معرض إلى جبران

إذا كانت المرأة هي هذه الأرض السورية فأنتما الاثنان تنتميان لها.
لا بد وأن يكون هذا.

دعني أستكمل السؤال، هل ثمة إضافة ما من خلال هذا التلاحم بينك وبين جبران قدمتها بهذا المعرض وتحمل خصوصيتك على سبيل المثال؟
لا أعتقد هذا، لم أضف شيئاً ولم أفكر أن أضيف شيئاً، فيكفني أن أنهل من هذا النبع، أنا لست بمحاذاة أو على صف جبران، أنا أكون في الجهة المقابلة له وأحاوره.

نلاحظ إضافة لهذا التلاحم الفكري والروحي فإننا نجد على صعيد التشكيل وفي لوحتك تمازجاً ما بين وجهك ووجه جبران فهل هذا إقحام أم تتمة لهذا التلاحم؟
لا، لقد حاولت سابقاً رسم جبران وماتيس، وإذا سألت عن الرابط بينهما سأقول أنا من أقام هذا الرابط. في هذا المعرض توجد لوحتان حاولت أن أرسم جبران بهما. دعني أخبرك سراً هنا، الرسام دائماً عندما يرسم وجهاً لا بد وأن يكون شيئاً من نفسه، وإن حدث أن وجهي هنا هو الأوضح ربما يمكن رده إلى المصادفة، وإن كانت الصدفة لا تأتي من لا شيء!

هل أستطيع هنا استكمالاً لهذا الفهم أن أقارن في مقاربة وجهك من جبران، بما فعله شاغال عندما رسم نفسه بين كبار الفلاسفة؟
لا، لا تستطيع أن تقيم هذا الشبه هنا، أنا أقدر شاغال كمصور جدد في فن التصوير، لكن شاغال واضح الانتماء للصهيونية، شاغال كان صنيع هذه الحركة، لا يمكن المقارنة هنا، ما فعله شاغال كان نابعاً من جنون العظمة.

الفهم السوري في فكر ورسم الزيات:

إلى أي حد يكون تأثير اسمك عليك نفسياً وروحياً وفكرياً وسورياً، وخصوصاً إذا علمنا أن الياس هو تحوير لكلمة إيل الصفة إلى اسم على يد الإغريق مستفيدين من السين اليونانية في آخر الاسم، وهذا الاسم آو الصفة (إيل) يعود إلى 3000 سنة قبل الميلاد في سورية وأول إشارة في العالم على التوحيد تأتي ارتباطاً بهذا الاسم ومن سورية؟

مدينة أورفليس
للتشكيلي الياس الزيات من معرضه الأخير
إلى جبران

ما تقوله صحيح، فهذا الاسم موجود في المنطقة من القديم وهذا الاسم موجود في القرآن (الياس واليسع)، هذا الاسم ينبع من هذه المنطقة، من حضارة سورية منذ القديم، نعم أعرف أن الياس من إيل وحديثك بهذا الشأن يثبت شعوري بالانتماء إلى أعرق الحضارات، وفي المقابل لا بد أن يكون لكل امرئ من اسمه نصيب، ومن هنا يأتي رسمي وتوجهي الفكري ودون سابق إصرار فكري على التوجه بهذا الاتجاه الذي يحاكي فكر المنطقة وجذورها المعرفية، الإنسان أو الفنان إذا ما تصالح مع نفسه لا بد أنه سيعكس الجوهر الذي ينتمي إليه، ونحن بكل تواضع نعرف الطريق إلى الجوهر كما جبران الذي أصغى إلى روحه فسطر همساتها فكان هذا الجبران الكوني.

لوحاتك باعتراف الكثير من الفنانين السوريين تلخص للثقافة والحضارة السورية ولكن بلغة معاصرة؟
هذا ما وجدت نفسي أعمل عليه بوعي مقصود أو غير مقصود، فأنت تجد نفسك مندفعاً إلى جذورك، كما تندفع جذور الشجرة في الأرض لتتسامق في السماء، كنت أكتب وأرسم منذ مراحلي الدراسية الأولى، وعندما بدأت الأكاديمية تعلمت الأصول على يد كبار الفنانين الذين تتلمذوا على يد الألمان أو الواقعية الألمانية، وهؤلاء الأساتذة الذين درسوني الفن أغنوني كثيراً بتاريخ الفن وهذا ما درسته بكثير من العمق وقد كانت ملاحظات الأساتذة الذين درسوني تاريخ الفن تخبرني على الدوام أن بلادي فيها جذور الفن الأول، وعندما عدت إلى سورية تعرفت على الحضارات السورية القديمة وعلى تمازج الحضارتين الإسلامية والمسيحية وعلى تمازج الفن السوري القديم مع الفن الهلنتسي والروماني، هذا ما تعمقت به ولا أزال أبحث حتى اليوم، مجموع هذا جعلني أتعرف على حضارتي السورية والعربية وعندما تبنيت فكرة التجديد في الفن من خلال اطلاعي على أساليب التجديد في الغرب، أصبح لازماً علينا اليوم أن لا نجتر فنوننا القديمة ونبقى منعزلين عن العالم، وإذا بقينا نكرر تراثنا فإننا نحول هذا الإرث إلى فلكلور. ينبغي أن نأخذ من المدارس الحديثة والمعاصرة ولكن أن نقدمها بروحنا وبثقافتنا، وهذا ما أفعله أنا بفني الذي أردته أن يكون معاصراً، وجبران عندما يدخل في لوحتي يدخل من هذه الزاوية وربما أستطيع لاحقاً أن أطرح فكر أعلام آخرين.

نستطيع القول إن لوحة الياس الزيات تقوم على استلهام الموروث السوري وتقديمه بلغة معاصرة.
لكن يجب أن نركز على أنه في سورية تلتقي الحضارات كما كانت مكاناً لصهر هذه الحضارات إذ لم يكن مرور الحضارات في سورية مروراً عابراً، وهكذا كان الفنان السوري يتشرب هذه المنتجات الثقافية ثم يقدمها بقالبه الشخصي، ليضيف على ثقافة الآخر، وإذا سألتني عما إذا كان الفنان السوري قادراً على الإضافة إلى الفن العالمي أقول نعم ولكن عليه العمل كثيراً.


أعطني الناي

هذه اللغة المعاصرة التي نراها في لوحتك تميل إلى اللغة الفنية في فترة الخمسينيات والستينيات، فكيف تكون معاصرة وأنت لم تغير كثيراً في أسلوبيتك؟
لا، تجربتي تطورت كثيراً ومررت بعدة مراحل فأنا رسمت الواقع والتجريد، ثم عدت لأشكل أسلوباً يستفيد من هذا المزج، وتراكم خبراتي جعل لوحتي تأخذ شكلها التشكيلي الحالي، لا يمكن أن تتحدث عن تحول جذري في اللوحة التشكيلية، يمكن الحديث عن تراكمات معرفية وفنية تمنح اللوحة خصوصيتها المكانية والثقافية وهذا في إطار من خصوصية المعاصرة الشخصية، ونتيجة لكل هذا تكون هذه اللوحة.

بما أنك تلح على أن تكون لوحتك بملامح سورية كيف يمكن أن نرسي هذا المفهوم للجيل الشاب من الفنانين؟
هذا السؤال هام جداً وصعب جداً، ماذا يعني لوحة سورية، لا توجد هذه اللوحة السورية، وهنا نكون أمام حلين أحدهما أن نأخذ ما هو موجود بالمتحف السوري ونعيد تكراره وهذا خطأ برأيي، أما الأمر الآخر فهو أن تنطلق من عمق ذاتك التي تشربت هذه الحضارة، هنا روح سورية، لكن لا يوجد فن سوري يمكن وصفه بالكلمات، لدينا روح إنسان ينتمي لهذه المنطقة ويعمل بلغة فنية معاصرة، هذا ما يجب أن نحرض الشباب عليه بأن يكونوا مستشعرين انتماءهم لجذورهم الحضارية والمعرفية وذلك من خلال تعرفهم أكثر فأكثر على هذه الثقافة، وبعد ذلك عليهم أن يتعرفوا إلى المعاصرة ثم لا ينبغي عليهم أن يطرحوا نفسهم كإيطاليين أو فرنسيين بل أن يطرحوا أنفسهم كفنانين معاصرين بما لديهم وبما ينتمون إليه.

اللوحة والفن في فكر وممارسة الزيات:

عندما نتحدث عن لوحة الياس الزيات نقول أن هذه اللوحة تقوم على عدة عناصر واللون هو أحد عناصرها المهمة وهذا اللون هو لون ينتمي إلى جغرافيا المكان فهل أعتبر نفسي مصيباً هنا؟
أنت كمختص تقول هذا، وأنا أشاطرك الرأي تماماً.

رسمت الأيقونة وبحثت في تاريخها وارتباطاتها وقدمت في هذا المجال الكثير، فإلى أي حد لا زالت لوحتك مشبعة بهالة الأيقوني، وهل يمكن ربطها سورياً بخصوصية هذا المكان؟
موضوع الأيقونة تعرفت عليه من خلال دراستي لتاريخ الفن، ولكن جذورها المحلية السورية تعود إلى تدمر ومصر في القرن الثالث والرابع قبل الميلاد مع بعض الاختلافات بين المكانين، لقد كان هناك تلاحم وتمازج بين فنون المنطقة لأن الحدود لم تكن مغلقة، وكان من الصعب الفصل تماماً مع تبادل التأثير، لقد وجدت حجر الأيقونة في جداريات دورا أوروبوس، وقد استهوتني هذه الطريقة في التعبير وأحببت أن أرسم أيقونة تنطلق من هنا، لكن الناس لم تعجب بتلك الطريقة في الرسم، ثم انكفأت عن الرسم بهذه الطريقة. عندما تقول فكر الأيقونة وفكر الأسطورة وفكر جبران فمن هذا الثالوث تنبع طريقتي في الرسم، وجبران قام بهذا أيضاً إذ تخيل أورفاليس المدينة في كتاب النبي وأجرى الحوارالمدرحي (المادي والروحي) على لسان المصطفى وأبناء أورفاليس، فجبران بالإضافة لكونه طرح أفكاراً مثالية، طرح فكره عن العمل بطريقه اشتراكية وبفهم للرأسمالية، أما أيقونتي فهي تأتي من هنا، لكن مدى تقبل الناس لهذه الطريقة هو ما توقفت عنده.

الفنان التشكيلي الكبير الياس الزيات
أثناء حواره مع اكتشف سورية

يركز الياس الزيات على رسم المدينة كثيراً، وبما تحمله اللوحة من خطاب بصري وفكري وروحي، يجعلني أرى الأمر من نفس الزاوية التي كتب بها جبران النبي، هل أردت أن تكون لوحتك كما السفينة في أورفاليس؟
ما تقوله صحيح وفق مقاربة ما، لطالما رسمت المدينة، مدينتي هي ما بين دمشق والقدس، جبران رسم أورفاليس بالكلمات أما أنا فأرسمها منذ زمن بعيد باللون، علاقتي مع المدينة ومع غصن الزيتون في المدينة والشهيد في المدينة والمصلوب في المدينة، والعشاء الأخير في المدينة، وهي لوحة أعالج بها الوضع والاعتصامات في القدس، أنا رسمت القدس وتسنى لي زيارة القدس، المدينة بالنسبة لي هي الإنسان أيضاً، لوحتي هي مدينة وإنسان، وليس بالضرورة أن نربط الأمور بهذه الطريقة، هي هكذا دون مقارنة، فاللوحة هي رسالة، والفنان الذي يحمل مشروعاً صاحب رسالة.

رسم الياس الزيات حالة الصلب وأخرجه من مفهومه الديني إلى مفاهيم أخرى، كيف يصير الصلب مفهوماً حياتياً متغيراً إلى هذا الحد لديك؟
لقد رسمت الإنسان المصلوب كثيراً، لكن في المراحل الأخيرة من أعمالي تحرك هذا المصلوب ونزل عن الصليب إلى أرض المدينة ليرقص من شدة ألمه، من شدة نشوته الصوفية، ورغم الألم الشديد إلا أن هناك حالة خاصة يعيشها هذه المصلوب، بمعانٍ أخرى هناك أشياء أشد إيلاماً من الصلب.

سبق لفاتح المدرس وأن قال أن الفن هو تجوال في عالم لاهوتي غير مرئي، هنا ألا يكون التجريد اللغة البصرية الأقرب إلى التعبير عن هذا التجوال؟ وتتمة لهذا، لمَ لم يصل الياس الزيات إلى التجريد وإلغاء الشكل؟
ما تقوله صحيح إنما تطبيقه صعب حتى أن فاتح المدرس لم يصل إلى التجريد فأن ترسم تجريداً هذا يعني أن تؤلف موسيقى باللون وهنا نعود إلى كاندنسكي فمن خلال علاقته بالموسيقى والموسيقيين وضع أسس التجريد، الكثيرون استسهلوا التجريد والتجريد هو القمة في الفن، وهو بحاجة إلى من يفهمه. بعد دخول الفرقة السيمفونية إلى سورية بدأت الناس تستمع إلى هذه الموسيقى وتتقبلها، وهذا يكون من خلال التعود عن هذا النوع من الموسيقى، ثم بدأت الناس تحبها. وكذلك التجريد يحتاج إلى من يستطيع فهمه، وهكذا الأمر بالنسبة للمعاصرة في الفن، نستطيع أن نتعود على المعاصرة في الفن، ولا أقول إننا سنصبح غربيين بل معاصرين نفهم هذه الأنواع من الفنون ونبقى سوريين، وهكذا التجريد والموسيقى السيمفونية، التجريد يعبر عن حاله نفسية وفكرية كما عبر بيتهوفن وغيره من الموسيقيين، هؤلاء عبروا بالموسيقى والموسيقى تجريد ورياضيات، فأن تصل بفن الشكل إلى تجريد من الشكل هو أمر صعب، أنا حاولت، لكن لم يشبعني هذا النوع من الرسم، أنا أرى وجود الشكل في الرسم أمراً ضرورياً.


البحر
من معررض إلى جبران

هل يشترط الوصول إلى التجريد بمرحلة عمرية معينة؟
لا أبداً هذا ليس بشرط.

تتمة لهذا السؤال، عندما تكون الحالة أو الحال أمراً روحياً أو نفسانياً معاشاً عند الفنان ألا يمكن عندها التعبير عنها بالتجريد رسماً أو موسيقى؟
ممكن، ولنأخذ مثالاً الفنان شفيق عبود، فهو استطاع الوصول إلى هذه الحالة تقريباً، التجريد بحاجة الكثير من الخبرات الروحية، وهذا شرط ضروري إضافة إلى امتلاك الخبرات الأكاديمية.

أنت رسمت العشاء الأخير، وهو يختلف عن العشاء الأخير حسب لوحة دافنشي، كما الاختلاف والخصوصية التي رسمتها في لوحات الصلب، هلا حدثتنا عن العشاء الأخير حسبما عبرت عنه؟
لوحة العشاء الأخير التي رسمتها تمثل الفدائي قبل ذهابه إلى تنفيذ إحدى مهامه ولا يعرف إن كان سيستشهد أم لا، إلا أن عشاءه هذا وداعي، هو عشاء بسيط، بعض حبات الزيتون والبصل الأخضر، إلا أن وجهه مختلف عن وجوه عائلته الحالية.

ثمة اختلاف بين لوحتي العشاء الأخير لدافنشي وتلك اللوحة الموجود في دير معلولا إذ يكون السيد المسيح في وسط اللوحة عند دافنشي بينما هو ليس كذلك في اللوحة الشرقية، ألهذا مدلول ما؟
هذا يعود إلى تراكمات الفكر والعادات في المنطقة، فالسيد المسيح في لوحة معلولا يأتي من مقولة كبير القوم خادمهم، بينما في لوحة دافنشي يكون سيدهم، أيقونة معلولا مرسومة في القرن الثامن عشر بأسلوب بيزنطي ولكنها ليست بيزنطية، وهي مرسومة بملمح شعبي سوري، وهذا يقودنا إلى اختلاف في مفهوم المسيحية، في الشرق عنها في الغرب، والرسم في اللوحتين يخضع لنفس هذا الاختلاف في الفهم للمسيحية.

إذا كان لا فرق بين الفنين الإسلامي والسرياني، إلى ماذا يقودنا التشابه؟
لا أقول أنه ليس هناك فرق بالمعنى الدقيق للكلمة، لكني أقول أنه في منطقة الموصول اشتغل المسلمون والسريان وصوروا الكتب في ورشات مشتركة وهذا قاد إلى فن متشابه بين الفن السرياني والإسلامي، والمشترك في الكتب والأيقونات أن الأسلوب متشابه، حتى أن الكثير من الفنانين الإسلاميين صوروا موضوعات مسيحية من خلال الأيقونة، هذا كان في القرن الثالث عشر الميلادي، في ذلك القرن كان هناك جو من التسامح وتلك الفترة بحاجة للدراسة أكثر من قبل الباحثين.

إذا كنا ورثة حضارة الوجه، أيقودنا هذا إلى مفهوم تحضر الإنسان في هذه المنطقة، كيف جسد الياس الزيات هذا الإنسان في لوحاته؟
نحن ورثة حضارة غنية، ففي متحف عمان هناك قطعة غاية في الأهمية والجمال، مرسوم عليها وجه، مجرد عينين وأنف وفم، نحن ورثة هذه الحضارة ولكن ليس بمعنى الوجه كرسم، بل كمعنى وقيمة، كمفهوم للوجه والرأس، نحن أعطينا الوجه واحداً على ستة. الإنسان لدي وبدون مقصد يميل إلى أشكال تدمر الإنسانية، إذ تصل نسبته إلى واحد على ستة ونصف لا أكثر، وسبق لي أن أحضرت تمثالاً تدمرياً وحللته، وقلت لأساتذة كلية الفنون أنتم تدرسون التماثيل الكلاسيكية الغربية لكنكم لم تقدموا للطالب التمثال التدمري لدراسته، هذا التمثال هو الكلاسيك النحتي بالنسبة لنا، أنا أرسم الإنسان وأعتد به انطلاقاً من هذه الثقافة، ولذا على الآخرين أن يدرسوا هذه الثقافة لأنها ستكون أساساً للتعبير الفني لاحقاً.

في لوحتك نرى عمارة تشبه الإنسان إلى حد كبير، هي ليست بالمعنى المعماري المادي كشكل، بل كمضمون ومعرفية روحية وثقافية، هلا نتحدث عن هذا الفكر البنائي؟
سبق وأخبرتك أني درست تاريخ الفن، وتاريخ الفن ليس فناً فقط بل عمارة ونحت، العمارة لها علاقة بالإنسان، والعمارة تتجاوز الأشكال المجردة بل هي التي تحتضن الإنسان. لقد كانت العمارة في عصر النهضة الأوربي عمارة ليعيش الإنسان فيها أو لتسيطر عليه من خلال فكر الكنيسة والإقطاع، أما العمارة المعاصرة فلقد صممت لتتوافق وحاجات الإنسان مع وجود العنصر الجمالي فيها، العمارة لها علاقة بالإنسان وبنسبه، وهكذا بالنسبة للعمارة السورية القديمة، بالنسبة لي عمارة اللوحة تأخذ بعين الاعتبار بناء المدينة كجسد واحد، يملكها الإنسان يعيش بها وتعيش به، ليس بالمعنى المادي للكلمة بل بالمعنى الإنساني للمدينة، الإنسان والمدينة في لوحتي يمتلكان ذات الروح ويتحركان عبر الزمان.

اللون في لوحتك يحمل الكثير من الخصوصية، هل نتحدث عن مرجعية هذا اللون؟
اللون كما النغمة، فأنت لا تستطيع على وتر غير موزون أن تعطي نغماً، فاللون يأخذ إيقاعه مع اللون المجاور له وهذا يتطلب فهماً ووعياً، فحتى تكتب شعراً يجب أن تعرف القواعد في اللغة، وهكذا في اللون هناك نسب وتوازن، وأنت تتجاوز القواعد عندما تتقنها، لغتي اللونية هي ارتجال يستند إلى خبرتي، واللون في لوحتي لا يأتي فقط من فهمي للتوازنات والنغمات، فهو يأتي من إيقاع المكان والمعرفة المتصلة بهذا المكان، اللون انعكاس للروح المشبعة بكل هذا.

بين التخطيط المسبق لرسم اللوحة، أو الرسم المباشر، أين يكون الياس الزيات؟
أرسم بتخطيط مسبق وأرسم بشكل مباشر، لكن ليس بالضرورة أن يأتي الرسم المخطط له أو المسبوق بدراسات بذات الشكل، فقد أخرج عنه، وهذا تماماً ما حدث في لوحة العشاء الأخير.

لا أستطيع القول أنك تتقصد السيطرة على عين المتلقي أو إبهاره بلوحتك، هنا، ما هو القول المناسب للحظة الصدام البصري الأول مع هذه اللوحة بالنسبة للمتلقي؟
لوحتي لا تصور شيئاً مباشراً لتجذب المتلقي، لوحتي هي دعوة للتأمل، ولا يمكن اكتشافها مرة واحدة، هي بوابة للسفر والتجوال، وكلما أطال المتلقي من لقائه بها كلما رأى بها أشياء أكثر.

تحفل لوحتك بالكثير من الأشكال والرموز، هل نتحدث عن أكثر الرموز رسماً في لوحتك؟
أكثر الرموز والدلالات التي أرسمها في لوحتي هي اليد والعين والقدم والطائر الأسطوري والشجرة التي تمثل الحياة، فالشجرة والإنسان يصنعان الحياة، ولا حياة لأحدهما بمعزل عن الآخر، السفينة هي الأخرى من رموز لوحتي.

الوجه يصبح في لوحتك وجهين، أهي مقاربة مع جبران؟
أحياناً أرسم بوضعيتين لرأس واحد، أي حركتين لذات الوجه، وهذه الطريقة في الرسم لم أخترعها بل رأيتها، وهذا الرسم يتيح لي التعبير بلغة أكثر عمقاً عن الانفعال الداخلي لما أرسمه، وحركة الشكل في الرسم هي لغة معاصرة في التعبير، ولا أقول إني أقارب جبران هنا.

المتحف خزان الأمة الحضاري، لكن ومن خلال المتابعة فنحن نفتقد وجود طلاب الفنون فيه، ألا تعتقد أن المتحف هام كمعرفة وانتماء لطلاب الفنون؟
أعتقد أنه من المفروض أن لا يخرجوا منه، هو بمثابة قاعة أخرى خارج كلية الفنون، ونحن نعمل بهذا الاتجاه وإلى أي حد يمكن أن نغير؟ لا أعرف!

كونك أحد رواد الفن في سورية، يهمني أن أعرف مدى رضاك عن الحراك التشكيلي في سورية الآن؟
ليس كثيراً، لأن الفن لدينا يتغرب ويتعَصْرن بشكل خاطئ، المنهج الواعي مفتقد لدينا أو ليس صحيحاً، أين ومن أين نأتي وإلى أين نذهب، هذه هي الأسئلة الأكثر أهمية والتي يجب إعادة طرحها، يجب آن يصار إلى حركة تصحيحية جديدة في الفن.

كنتَ أحد رواد إحدى الحركات التصحيحية وهي مجموعة العشرة، ترى ألا يمكن أن تتكرر مثل هذه المجموعة لتنادي بتصحيح المسار في الفن التشكيلي السوري؟
لم يعد لدينا تجمع ولم يعد لدينا حوار ولا أعرف السبب! اليوم نجد شريحة الشباب من الفنانين ليسوا على الطريق الصحيح وهذا يمثل خطراً على رفد الحركة التشكيلية السورية.

ألا يفرض هذا على المؤسسات أن تقوم بدورها؟
يجب أن تقوم بدورها، لكنها لا تقوم بهذا الدور، ونأمل أن تقوم بدورها في المستقبل.


عمار حسن

اكتشف سورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق