تل الأحمر

لقد كشفت التنقيبات الأثرية التي أجريت في موقع تل الأحمر على الضفة اليسرى لنهر الفرات إلى الجنوب من الحدود السورية - التركية؛ عن وجود استيطان بشري امتد من العصر الحجري المعدني وصولاً إلى العصور الفارسية الهيلنستية والرومانية. وقد ترك هذا الاستيطان آثاراً غنية تلقي الضوء على تلك الحقبة من تاريخ الحضارات القديمة.
يقع تل الأحمر على الضفة اليسرى لنهر الفرات على بعد حوالي 20كم إلى الجنوب من الحدود السورية ـ التركية. ويتوضع هذا الموقع عند حافة السهل الفيضي لنهر الفرات، وهو السهل الذي غمر بمياه بحيرة سد تشرين. الشكل العام لتل الأحمر نصف دائري بقطر يصل طوله إلى حوالي 1200م، ويشتمل على ثلاثة أقسام: التل الرئيس، أو القلعة، بأبعاد تبلغ 250×150م تقريباً، مرتفع طبيعي مسطح إلى الغرب من القلعة يحمل ما يسميه المنقبون "المدينة الوسطى" من المستوطن القديم، وأخيراً "المدينة السفلى" الواسعة التي تشغل القسم الشمالي الأكبر.
ابتدأت التحريات الآثارية في هذا الموقع من قبل بعثة فرنسية برئاسة ف.ثورو ـ دانجن "F.Thureau-Dangin" وذلك في عام 1928م وما بين عامي 1929 و1931م. واعتباراً من عام 1988م بدأت أعمال بعثة آثارية من جامعة ملبورن الاسترالية في الموقع بإدارة ج. بونينز "G.Bunnens"، وتواصلت هذه الأعمال لأكثر من عشر سنوات. وقد دلت تلك الأعمال على أن الاستيطان في الموقع امتد من العصر الحجري ـ المعدني حتى العصور الفارسية والهيلنستية والرومانية.
لقد دلت النقوش المسمارية الآشورية على أن الاسم القديم للمدينة التي كانت قائمة في تل الأحمر في الألف الأول قبل الميلاد هو تل ـ بارسب "Til-Barsib/p"، وكتب أحياناً بصيغة تَربوسِبا "Tarbusiba". وحينما استولى الملك الآشوري شلمنصر الثالث (858 ـ 824ق.م) على هذه المدينة أطلق عليها، أو على جزء منها، اسم "كار ـ شلمنصر". وتشير نصوص الدولة الحثية الحديثة، المدونة باللغة اللوفيانية والمكتشفة في تل الأحمر ومواقع أخرى، إلى أن الحثيين كانوا يطلقون اسم ماسواري "Maswari"على هذه المدينة. وفي العصور الهيلنستية أخذ اسم المدينة نفسها صيغة بيرسبا "Bersiba". ولا يزال الاسم الأقدم للمدينة، خلال العصور البرونزية، غير معروف حتى الآن.
شملت أعمال التحري الآثاري ثمانية قطاعات في أرجاء مختلفة من الموقع، وخصص المنقبون حرفاً لاتينياً لكل واحد من هذه القطاعات، من الحرف A إلى H. وحفر مجس لسبر الطبقات في الجهة الجنوبية ـ الشرقية من القلعة رمز له بالحرف اللاتيني S. وكان القطاع الوحيد الذي تم التوسع في التنقيب به هو القطاع C في الطرف الغربي من الموقع. وقد استمر التنقيب في هذا القطاع من عام 1989 حتى عام 1996م.
يعود تاريخ أقدم بقايا معمارية مكتشفة في تل الأحمر إلى أوائل الألف الثالث قبل الميلاد، أي العصر البرونزي المبكر الأول. ولكن قلة هذه البقايا وبساطتها تشير إلى إن المستوطنة كانت آنذاك مجرد قرية صغيرة. وتطورت هذه القرية في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، العصر البرونزي المبكر الثالث، لتصبح مركزاً مدنياً مع ظهور نخبة اجتماعية قادرة على تشييد بنايات كبيرة. ومن هذه البنايات واحدة كشف عنها جزئياً في القطاع S، وجدرانها مشيدة من الحجر بسمك يصل إلى مترين. ومن بقايا هذا العصر أيضاً ضريح بشكل حجرة كبيرة ثبت أنها كانت جزءاً من مجمع بنائي كبير. وكشف في القطاع S أيضاً عن سوية يعود تاريخها إلى العصر البرونزي الوسيط، النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد. وجد في هذه السوية أيضاً جزء من بناية كبيرة وخمسة قبور اتبعت فيها طريقة الدفن داخل جرة فخارية كبيرة ضمت الهيكل العظمي البشري مع ثلاث جرار فخارية. أما سوية العصر البرونزي الأخير فقد تعرضت إلى التخريب الذي سببته أعمال التشييد الخاصة بسوية العصر الحديدي اللاحق التي أقيمت فوقها.وشملت المكتشفات الأثرية من تلك السوية قطع الفخار التي يعود تاريخها إلى الجزء الأخير من الألف الثاني قبل الميلاد.
شهد مطلع الألف الأول قبل الميلاد ظهور عدد من الدويلات الآرامية في شمال سورية خلال القرنين العاشر والتاسع. وأصبحت مدينة تل ـ بارسب في تل الأحمر مركزاً لإحدى تلك الدويلات التي عرفت باسم بيت ـ أديني. عرف مؤسس السلالة الحاكمة في تل ـ بارسب آنذاك حاباتيلاس "Hapatilas"وكان من ذريته حامياتاس "Hamiyatas"الذي أعقبه في الحكم. ومن مخلفات حامياتاس التي اكتشفت في القطاع C من الموقع لوح حجري كبير منقوش بنص هيروغليفي باللغة اللوفيانية وكان قد أعيد استعماله ليكون عتبة لإحدى المداخل في بناية آشورية كبيرة.
إن آخر ملك محلي مستقل في تل ـ بارسب هو أخوني الذي أبعده الملك الآشوري شلمنصر الثالث في عام 856 ق.م حينما استولى على المدينة وحولها إلى عاصمة محلية تابعة للدولة الآشورية. وقد شهدت المدينة ازدهاراً كبيراً في القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد، وخصوصاً في عهد حاكمها المحلي شمشي ـ إيل (796 ـ 752ق.م). وتوجد مجموعة من الأدلة تشير إلى أن تل ـ بارسب كوّنت، آنذاك، مع مدينتي عانه وحماة مثلثاً تجارياً ودبلوماسياً له علاقات متميزة مع بلاد الرافدين. وتشير النقوش الملكية الآشورية من عهد سنحاريب (704 ـ 681ق.م) إلى ازدهار صناعة القوارب في هذه المدينة، وإلى استمرار أهميتها في عهود خلفائه من الملوك الآشوريين. ومن الواضح أن الإله الرئيس الذي كان يعبد في المدينة هو حدد (أدد)، إله العواصف والأمطار.
لم تتوصل التنقيبات الآثارية في تل الأحمر إلى الكشف عن بقايا بنائية من العصر الحديدي سابقة للعهد الآشوري في أي من قطاعات الموقع التي شملتها الحفريات. وكانت الأبنية الآشورية في القطاع C مشيدة على الأرض البكر. وهذا ما يشير إلى أن توسع المدينة وازدهارها الكبير حدثا تحت الحكم الآشوري، وإن المدينة في المرحلتين الحثية الحديثة والآرامية كانت محدودة المساحة ولعل بقاياها كانت ممتدة تحت منازل القرية الحديثة، التي قامت على جزء من الموقع، وفي القلعة التي لم تنقب كلياً بدورها.
لقد أدت تنقيبات البعثة الآثارية الفرنسية إلى الكشف عن قصر آشوري في القلعة وإحدى بوابات المدينة المعاصرة له. وكشفت تنقيبات البعثة الآثارية الاسترالية في القطاع C عن مجمع يضم ثلاثة أبنية على الأقل. ومن أبرز ما اكتشف في هذا المجمع ساحة رصفت أرضيتها بفسيفساء من الحصى الأبيض والأسود مرتبة بمربعات مشابهة لمربعات رقعة الشطرنج. وتغطي هذه الأرضية مساحة 190م2، وهي من أكبر الأمثلة من نوعها وأكثرها حفظاً في العالم القديم.
وقد شملت المكتشفات الأثرية من تل الأحمر تماثيل أسود بازلتية كبيرة ومسلات ومنحوتات بازلتية متنوعة وتمثال بالحجر الطبيعي لمسؤول آشوري كبير، ربما كان حاكم مدينة تل ـ بارسب. ويضاهي الفخار المكتشف ما وجد في المدن الآشورية الكبرى مثل كَلَخ (نمرود حالياً). وقد جاءت من هذا الموقع أفضل الرسوم الجدارية الآشورية حفظاً، وتؤرخ إلى القرن السابع قبل الميلاد. وكانت هذه الرسوم تزين القصر الآشوري، ويصل طول أحد المشاهد في هذا القصر الى 22م وتظهر فيه رسوم الملك ومحاربيه مع عربته وخيوله وعدد من الأتباع والأسرى. والرسوم ملونة بالأسود والأحمر ومؤطرة بزخارف هندسية ونباتية. واكتشفت أيضاً مجموعة من العاجيات المنحوتة بمهارة عالية، وهي تفصح عن أساليب فنية سورية وجد ما يشابهها في بلاد آشور.
اكتشف في أحد البيوت في القطاع C (البيت C1) أرشيف يتكون من خمسة وثلاثين رقيماً وكسراً طينية تحمل نصوصاً مسمارية آشورية حديثة تتضمن مواضيعها صفقات تجارية وقروضاً. وهذه النصوص مؤرخة ما بين عام 683ق.م وتاريخ سقوط الدولة الآشورية. ويتضح من التنقيبات التي أجريت في الموقع إن السوية الآشورية هجرت ولم تتعرض لهجوم مدمر. ويبدو أن المدينة بقيت مستمرة لفترة من الوقت بعد سقوط العاصمة الآشورية نينوى في عام 612ق.م. وقد اكتشفت بقايا معبد من العصر الهيلنستي شيد فوق موضع القصر الآشوري في القلعة. وكذلك عثر على بعض النقود السلوقية هناك.
مراجع للاستزادة:
- L.Abbate, "Wall-paintings from a Neo-Assyrian building at Til-Barsib", Abr-Nahrain 32 (1994), pp. 7-16.
- G. Bunnens, "Til – Barsib under Assyrian Domination: A brief account of the Melbourne University Excavations at Tell Ahmar", Assyria 1955, eds. S. Parpola and R.M.Whiting, (Helsinki, 1997), pp. 17-28.
- S.Dalley, "Neo-Assyrian Tablets from Til-Barsib", Abr-Nahrain 34 (1996-1997), pp. 66-99.
- F.Thureau-Dangin and M.Dunand, Til-Barsib, (Paris, 1936).

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

أحمد النجار:

ارجو من حضراتكم تزويدى بالمزيد من المعلومات والمراجع التى تعرض التاريخ السورى وبخاصة فى مرحلة العصر الحديدى- ولكم جزيل الشكر

مصر

مصر