أبو العلاء المعري

17 كانون الأول 2013

.

مقدمة


حكيم الشعراء وشاعر الحكماء، شاعر عباسي لم يقل الشعر كاسباً، ولا مدح أحداً راغباً، وهو مع علو كعبه في الشعر كان ملماً باللغة متبحراً في فنونها واشتقاقاتها والنحو. درس الأدب والتاريخ والفقه والأديان وصاغها في أدبه وشعره ورسائله وأفكاره، وامتاز عن باقي الشعراء بالقصد المبهم واللفظ الغامض وبفلسفته ودخوله إلى أعماق الأمور بوجهات نظر غريبة عن العوام في زمنه، فهو قامة فكرية عالج الدنيا بحكمته، وشاعر مارس هذه الحكمة قولاً وسلوكاً.

اتهم بالزندقة وقيل إنه كافر، لكن كل الدلائل تشير إلى أن الرجل ظلم وحمّل ما لا صلة له به. كان زاهداً من الصنف الرفيع، وعرف عنه تقشفه، وتجنبه اللحاق بالأهواء وارتكاب المعاصي، ولم يعاقر الخمر، ولم يقرب النساء، كما ابتعد عن أكل اللحوم رحمة بالحيوان فعاش نباتياً.

هو الشاعر الكبير أبو العلاء المعري واحد من كبار الأدباء العرب في العصر العباسي، ذلك العصر الذي يعد مـن أخصب العصور الأدبية وأثراها من حيث عدد الأدباء وغزارة نتاجهم الأدبي، وقد عد مؤرخو ونقاد الشعر، المعري من أكثر الشخصيات الأدبية عمقاً وثراء في اللفظ والمعنى، إذ تفرد الرجل بميزات عديدة كحدة ذكائه وحساسيته العالية وعقليته الفذة وسعة اطلاعه، فضلاً عن ميراثه العلمي كونه من بيت علم وقضاء. ويُنقل عنه قوله: «أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر، فقد صنع لي وأحسن بي إذ كفاني رؤية الثقلاء البغضاء».


نسبه



أبو العلاء المعري

أحمد بن عبد الله بن سليمان بن داود بن المُطَّهَر بن زياد بن ربيعة، ينتهي نسبه إلى قضاعة، وعند تيم اللات تجتمع أنساب تنوخ من أهل معرة النعمان، وهو من بيت علم وفضل ورياسة. تولّى قوم من أقاربه القضاء وكان منهم العلماء الأعلام والشعراء المطبوعون، ويقول ابن العديم «وأكثر قضاة المعرة وفضلائها وعلمائها وشعرائها من بني سليمان». فقد تولى أجداده قضاء المعرة وضم إليها جده أبو الحسن سليمان قضاء حمص أيضاً، وعرف بالفضل وكرم النفس، ومات سنة 290هـ، فولي بعده ابنه أبو بكر محمد بن سليمان عم أبي العلاء الذي قصده الشعراء بالمدح. يقول الصنوبري فيه:
بأبي يا ابن سليمان لقد سدت تنوخا..|..وهم السادة شباناً لعمري وشيوخاً
فلما مات ولي القضاء بعده أخوه عبدالله بن سليمان والد أبي العلاء، واختلف في سنة وفاته، وله من الولد، غير أبي العلاء، أبو المجد محمد بن عبدالله وأبو الهيثم عبدالواحد ابن عبدالله، وكانا شاعرين وخلّفا طائفة من الأولاد تولوا القضاء. واستمر مجد الأسرة حتى أواخر القرن السادس الهجري.

جدته لأبيه هي أم سلمة بنت أبي سعيد الحسن بن إسحاق المعري، كانت تروي الحديث وعُدّت من شيوخ أبي العلاء الذين سمع الحديث عنهم. أما أمّه من بيت معروف من بيوتات حلب الشهباء، وجده لأمه هو محمد بن سبيكة، وخالاه هما أبو القاسم علي وأبو طاهر المشرف، وكانا من ذوي الشرف والمروءة والكرم، ومن أرباب الأسفار طلباً للمجد والجاه. يقول أبو العلاء في رثاء أمه:
وكم لك من أب وسم الليالي..|..على جبهاتها سمة اللئام
مضى وتَعرُّف الأعلام فيه..|..غني الوسم عن ألف ولام

ويقول في خاله علي:
كأن بني سبيكة فوق طير..|..يجوبون العزائز والنجادا
أبالإسكندر الملك اقتديتم..|..فما تضعون في بلد وسادا

وكانت صلته بهم طيبة، كما كانوا به بررة يعينونه ويصلونه. وخاله أبو طاهر هذا هو الذي أعانه على رحلة بغداد، ولذا كان يكثر من ذكرهم، وله معهم مراسلات ومنها قصيدة بعث بها إلى خاله أبي القاسم علي، وكان قد سافر إلى المغرب فطالت غيبته:
تفدِّيك النفوس ولاتفادى..|..فأدن الوصل أو أطل البعادا

وكان المعري شديد التعلق بأمه يتحدث عنها بعاطفة مشبوبة متقدة، ولما رحل إلى بغداد كان حنينه إليها متصلاً وطيفها لا يفارقه، وتصحبه الهواجس والظنون، وبقي طوال عمره يذكرها ولم ينسها على مر الأعوام. يقول ـ وهو شيخ ـ لابن أخيه القاضي أبي عبدالله محمد:
أعبد الله ما أُسدي جميلاً..|..نظير جميل فعلك مثل أمي
سقتني درها ورعت وباتت..|..تعوذني وتقرأ أو تُسمي


حياته


ولد أبو العلاء في المعرة بسورية عام363هـ/973م، وأصابه الجدري سنة 367هـ فقد على إثره بصره في الرابعة من العمر، ولم يبقَ من ذكريات ما رآه إلا اللون الأحمر. قال: «لا أعرف من الألوان إلا الأحمر، لأني ألبست في الجدري ثوباً مصبوغاً بالعصفر، لا أعقل غير ذلك»، وقد أثر ذلك على حياته ومنهجه تأثيراً بليغاً وخلق منه -بالإضافة إلى عوامل أخرى محيطة- رجلاً ذا نظرة ثاقبة متميزة تختص بحدين؛ حد فلسفي وآخر واقعي.

بدأ أبو العلاء صغيراً في تلقي العلم على أبيه، وأول ما بدأ به علوم اللسان والدين على دأب الناس في ذلك العصر، وتُلمح الفائدة التي جناها من هذه الدروس إذ بدأ يقرض الشعر وله إحدى عشرة سنة؛ ثم ارتحل إلى حلب ليسمع اللغة والآداب من علمائها تلاميذ ابن خالويه. وكانت حلب في ذلك العصر إحدى حواضر العالم الإسلامي الكبرى تضم جمعاً من العلماء ممن استدعاهم سيف الدولة الحمداني إبان عنفوان دولته، ولم تذهب نهضتها بموته بل استمرت بعده. وفي حلب شهر تبريز المعري وروايته للأدب والشعر. فقد روي أنه صحّح رواية شيخه ابن سعد لبيت المتنبي:
أو موضعاً في فناء ناحية..|..تحمل في التاج هامة العاقدْ
فقال أبو العلاء: «أو موضعاً في فتان ناجية»
ولم يقبل شيخه ذلك حتى مضى إلى نسخة عراقية للديوان فوجده كما قال أبو العلاء، أيضاً تلقى أبو العلاء دروساً في السنة عن يحيى بن مسعر.

توجه من حلب إلى أنطاكية، وكانت بها مكتبة عامرة تشتمل على نفائس من الكتب فحفظ منها ما شاء الله أن يحفظ، ثم سافر إلى طرابلس الشام ومرّ في طريقه باللاذقية، ودرَس العدد من الأديان من المسيحية واليهودية، إضافة للمجوسية والهندية والمذاهب المختلفة، وصاغها في أدبه وشعره ورسائله وأفكاره، وعُدَّ فيلسوفاً حكيماً مفكراً ناقداً مجدداً.

ولما وصل أبو العلاء إلى طرابلس وجد بها مكتبة كبيرة درس منها ثم عاد إلى المعرة. تردد في طور لاحق في مكتبات بغداد ودور العلم بها. كان استعداده للعلم عظيماً وذكاؤه ملتهباً.

أشار ابن العديم إلى قوة حفظ أبي العلاء برواية حكاية عن ابن منقذ ذكر فيها أنه يقرأ عليه الكراسة والكراستين مرة واحدة فيحفظهما، ولم يعلم له من شيوخ بعد سن العشرين، وذكر هو نفسه أنه لم يحتج إليهم بعدها.


وفاة والده


اختلف المؤرخون في السنة التي مات فيها أبوه، فيذكر ياقوت أنه توفي سنة 377هـ بحمص، وبهذه الرواية يأخذ بعضهم ويبني عليها رأيه في نبوغ أبي العلاء الباكر وعبقريته الفذة. ويقول ابن العديم: إنه توفي سنة 395هـ بمعرة النعمان. ويؤيد جمع من الدارسين روايته لأسباب منها أنه كان يذكر أسانيد رواياته، وأغلب رواته من بني سليمان أو من تلاميذ المعري ومعاصريه، ويذكر طرق الرواية قراءة أو سماعاً أو مكاتبة، هذا فضلاً عن تخصصه واقتصاره على أخبار أبي العلاء بخلاف ياقوت في كتابه الجامع المانع. ومنها أن القصيدة التي رثى بها أباه شديدة الأسر محكمة التركيب فيها درجة من النضج الفني والفكري يصعب أن يتصف به ابن أربع عشرة سنة، وقد وصفت بأنها من عيون الشعر في الديباجة والأغراض والمعاني.

لقد خلفت وفاة والده جراحاً غائرة وأسى عميقاً في نفسه لعظم عطاء الوالد البر الذي كان اعتماد أبي العلاء عليه كبيراً في كثير من شؤونه، فأحس بعده بأنه مهيض الجناح ضائع أو شبه ضائع، وهذا الحدث أمده بكثير من الآراء التي عظمت عنده من سوء رأيه في الحياة ويقينه بفسادها.


ضريح أبو العلاء المعري في معرة النعمان

رحلته إلى بغداد


كان أبو العلاء فقيراً، وكان لا يتكسب بشعره، وكان له ثروة ضئيلة لا تتجاوز ثلاثين ديناراً في السنة جعل نصفها لخادمه. ويرى بعضهم أن الذي منعه من التكسب أمران: أولهما أن عزة النفس التي ورثها عن أسرته تمنعه من إراقة ماء وجهه، وتصده عن ذل السؤال، وثانيهما فطرته السليمة ودراسته الفلسفية اللتان صانتاه من الابتذال وصوغ الأكاذيب في الأمراء. والكذب عنده بشع قبيح، ثم إن المال الذي يأخذه عن طريق التكسب مال حرام استحل ظلماً وأولى به شيخ كبير وعجوز فانية وأرملة مهيضة الجناح وأطفال زغب.

كانت أمه تمانع في سفره أول الأمر، ولكنه أقنعها فأذنت له، وأعد له خاله أبو طاهر سفينة انحدر بها إلى الفرات حتى بلغ القادسية، وهناك لقيه عمال السلطان فاغتصبوا سفينته واضطروه إلى أن يسلك طريقاً مخوفة إلى بغداد، وعند وصوله نظم قصيدة قدمها إلى أبي حامد الأسفراييني واصفاً سفره وجور عمال السلطان طالباً مودة أبي حامد ومساعدته في رد سفينته. ويتظرف فيها واصفاً سفره البري باصطلاح الفقهاء:
ورب ظهر وصلناها على عجل..|..بعصرها من بعيد الورد لمّاع
بضربتين لطهر الوجه واحدة..|..وللذراعين أخرى ذات إسراع
وكم قصرنا صلاة غير نافلة..|..في مهمه كصلاة الكسف شعشاع

كان خروج المعري إلى بغداد في أواخر سنة 398هـ في منتصف الثلاثينات من عمره ودخلها في أوائل سنة 399هـ، ولم يأتِ بغداد مغموراً بل سبقته شهرته إليها، ولا يذكر المؤرخون أسباباً لرحلته تلك سوى أنها للسياحة وطلب العلم والحرص على الشهرة بمدينة السلام، وربما أشاروا من طرف خفي إلى فقره وطلبه الغنى، ولكن القفطي والذهبي ينصان على أن عامل حلب كان قد عارض أبا العلاء في وقف له، فارتحل إلى بغداد شاكياً متظلماً. وقد يكون الاضطراب السياسي في الشام آنذاك أحد الأسباب التي أخرجته وبغضت إليه المعرة فتركها ليقيم ببغداد مدينة العلم ودار الخلافة وحاضرة الإسلام ومركز الحضارة وتلاقح الفكر وملتقى الأشراف والتجار والأدباء والمثقفين، حيث ازدحم الناس على بغداد من كل أطراف الدنيا وسميت «دار السلام» حيث يقصدها الشعراء والأدباء والعلماء في شتى الفنون والمعارف والآداب، فكانت بغداد كعبة العلم والأدب فيها ماء عذب وظل ظليل وعلم جم وأدب ثرى وكل ما تشتهيه الأنفس، كما يصف حسين بغداد عندما رحل إليها المعري، قائلاً «كانت بغداد كباريس اليوم فلا ترى في العالم الإسلامي شاباً أتم الدرس في بلده إلا وهو يتحرق شوقاً إلى الرحلة إلى بغداد ودراسة العلم فيها من أصفى موارده وأعذب مناهله…). وكانت بغداد أيضاً مقصد صيادي الثروات من المرتزقين بالشعر عند أبواب الخلفاء والأمراء ولكن المعري كان عف النفس زاهداً لم يرتزق بشعره، ولقد رد شعراً على من غمزه بمظنة السؤال قائلاً:
أنبئكم أني على العهد سالم..|..ووجهي لما يبتذل بسؤال
وأني تيممت العراق لغير ما..|..تيممه غيلان عند بلال

وكرر هذا في رسائله لأهل المعرة ولخاله أبي القاسم جاء فيها «ورعاية الله شاملة لمن عرفته ببغداد فقد أفردوني بحسن المعاملة وأثنوا علي في الغيبة وأكرموني دون النظراء».
هو القائل: لنا ببغداد من نهوى تحيته..|..فإن تحملتها عنا فتحييتا
كذلك: متى سألت بغداد عنى وأهلها..|..فإنى عن آل العواصم سآل
إذا جن ليلى جن لبى وزائد..|..خفوق فؤادى كلما خفق الآل

كما نفى نفياً قاطعاً أن يكون خروجه ليستزيد من العلم: «ومنذ فارقت العشرين من العمر ما حدثت نفسي باجتداء العلم من عراقي ولا شامي. وانصرفت وماء وجهي في سقاء غير سرب، لم أرق قطرة منه في طلب أدب ولا مال». مع أنه كان أمراً مألوفاً في عصره أن يرحل الرجل ليستكثر من لقاء الشيوخ وكانت بغداد مما يقصد إليها الشعراء واللغويون والفقهاء والمحدثون. وقد صرح أبو العلاء بسبب سفره في بعض رسائله أنه أتاها قاصداً دار الكتب بها، وكان يسميها دار العلم. ويذكر أنه لما دخل بغداد طلب أن تعرض عليه الكتب التي في خزائنها. وأنه حضر إلى خزانة الكتب التي بيد عبد السلام البصري وعرض عليه أسماءها فلم يستغرب شيئاً لم يره من قبل بدور العلم بطرابلس إلا ديوان تيم اللات فاستعاره.

أبو العلاء المعري كان يحب بغداد كثيراً وقد دعاه البغداديون إليها، بعد أن ظلمه أمير حلب حتى كتب «والله يحسن جزاء البغداديين فقد وصفوني بما لا أستحق وعرضوا عليّ أموالهم ودعوني إلى بلادهم»، وقد وجد البغداديون المعري غير جذل بالصفات ولاهش إلى معروف الأقوام، وعشق بغداد وماءها، قائلاً:
شربنا ماء دجلة خير ماء..|..وزرنا أشرف الشجر النخيلا

إن وجوده في بغداد كان سبباً في الكثير من الأحداث والمنازلات الأدبية والدينية والمذهبية والفلسفية والفكرية في جو المدينة المشحون أصلاً بشتى المدارس والنزعات الأدبية والعقائد الدينية والتيارات الفكرية، وقد صادف يوم وصوله موت الشريف الطاهر والد الشريفين الرضى والمرتضى، وحصلت قصص ووقائع منها إنشاد الأشعار في المتوفى شاعراً بعد آخر، حتى قام المعري بقصيدته الرائعة ومطلعها:
أودي فليت الحادثات كفاف..|..مال المسيف وعنبر المستاف
وما أن سمع الشريفان ذلك، حتى هزت كيانيهما، فنزلا إليه إجلالا سائلين: «لعلك أبا العلاء المعرى»، قال «نعم»، فأكرماه وقدماه ورفعا مجلسه ثم استأثرا به.

مع ذلك كله كانت بغداد تمتحن الوافدين وهكذا كان الإمتحان صعباً مستصعباً في المعري لكنه نجح بتفوق وتميز نادرين، فينتزع منهم وهو الأعمى الاعتراف بقدراته التي تفوق قدرات المبصرين، فسمّوه منفرداً «أعجوبة الدهر وفريد العصر»، وذكره ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار: «احضروا دستور الخراج الذي في الديوان، وجعلوا يوردون عليه ما فيه مياومة وهو يسمع إلى أن فرغوا، فابتدأ أبو العلاء وسرد عليهم كل ما أوردوه له»، وأقروا له بالحفظ والعلم، والشعر معاً إذ قرأوا عليه ديوان سقط الزند.

عُرضتْ عليه كتب بغداد من «مدينة العلم» و«بيت الحكمة» وكثير من خزائنها فكان كما قال ابن الفضل «جعل المعري لايقرأ عليه كتاب إلا حفظ جميع ما يقرأ عليه». حضر المعري المجالس الكثيرة المتنوعة في بغداد، فجالس الأدباء وحاور الفلاسفة وأصحاب الملل والمذاهب ولم يكتف بالقراءة عنهم بل كان يذهب إليهم ويحاورهم مباشرة بتحدٍّ جرئ وحوار صريح وجدل علمي، ومن أهمها حواراته الجدلية مع إخوان الصفا ببغداد.

ويقول في مجمع سابور بن أردشير الذي كان يحضره:
وغنت لنا في دار سابور قينة..|..من الورق مطراب الأصائل ميهال
ويحضر مجمع عبد السلام البصري يوم الجمعة ويقول فيه:
تهيج أشواقي عروبة أنها..|..إليك ذوتني عن حضور بمجمع

ورغم هذا الحضور وتلك المشاركات العلمية الاجتماعية الحافلة إلا أن المقام لم يطب له ببغداد، وحدث له من الحوادث ما آلمه وزهده فيها. من تلك الحوادث ما يروى من أنه عثر يوم إنشاده المرثية في الشريف الطاهر برجل لا يعرفه، فقال له الرجل إلى أين يا كلب؟ فأجابه: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً. وأشد من هذا وقعاً على نفسه موقف الشريف المرتضي منه لما جرى ذكر المتنبي في مجلسه، وكان المرتضي يكرهه ويتعصب عليه ويتتبع عيوبه، فقال المعري: «لو لم يكن له إلا قوله: «لك يا منازل في القلوب منازل»، فغضب المرتضي وأمر بإخراجه فسحب برجله وأخرج، ثم قال المرتضي لجلسائه: «أتدرون لم اختار الأعمى هذه القصيدة دون غيرها من غرر المتنبي؟»، قالوا: لا. قال: إنما عرض بقوله:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص..|..فهي الشهادة لي بأني كامل

وحاول المعري حضور مجلس إمام النحو ببغداد أبي الحسن علي بن عيسى الربعي، ولما قصده واستأذن عليه قال أبو الحسن: ليصعد الاصطبل، وتعني الأعمى بلغة الشام، فانصرف من فوره مغضباً، ثم قرر المعري الانسحاب من بغداد، وما كان هيناً على البغداديين مفارقته فكانوا لرحيله كارهين ولفراقه محزونين وودعوه باكين. وودعهم بقصيدته المشهورة:
نبي من الغربان ليس على شرع..|..يخبرنا أن الشعوب إلى الصدع
ويذكر أبو العلاء سببين لرحيله هما فقره ومرض أمه:
أثارني عنكم أمران والدة..|..لم ألقها وثراء عاد مسفوتا
ويقال إن من أسباب خروجه أن فقهاء بغداد تعرضوا له في بيتين هما:
يد بخمس مئين عسجد وديب..|..ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض ما لنا إلا السكوت له..|..وأن نعوذ بمولانا من النار

ولما عزموا على أخذه بهما خرج من بغداد طريداً منهزماً ورجع إلى المعرة ولزم منزله فكان لا يخرج منه. ولا يذكر معاصروه شيئاً من هذا ولا المعري نفسه، الذي كان يقظاً في تسجيل ما يمر به من أحداث، بل إن إحدى رسائله تشهد بعكس هذا إذ يقول فيها: «يحسن الله جزاء البغداديين فقد وصفوني بما لا أستحق، وشهدوا لي بالفضيلة على غير علم، وعرضوا أموالهم عرض الجد».

ويذكر بعضهم أنه فارق بغداد كارهاً لها، زاهداً فيها، ولكن رسائله تبين أنه أحبها حباً جماً وفارقها مكرهاً، وكان يتمنى المقام بها وكأن مقامه بها كان يقتضيه أن يبذل ما لا يستطيع بذله من خلقه وعزته وأنفته، وما كان باستطاعته تغيير طبعه وقد شب عن الطوق. وتبين التائية شيئاً من عاطفته تجاه بغداد:
يا عارضاً راح تحدوه بوارقه..|..للكرخ سلمت من غيث ونجيتا
لنا ببغداد من نهوى تحيته..|..فإن تحملتها عنا فحييتا
يا ابن المحسن ما أنسيت مكرمة..|..فاذكر مودتنا إن كنت أنسيتا
سقياً لدجلة والدنيا مفرقة..|..حتى يعود اجتماع النجم تشتيتاً

وله من قصيدة أخرى:
متى سألت بغداد عني وأهلها..|..فإني عن أهل العواصم سآل
وتظهر على لسانه فلتات في ذم أهل بغداد في اللزوميات، لعلها أثر من آثار ما لقي من أذى فيها، أو لعلها صدى لسوء رأيه في الناس جميعاً إبان عزلته.
خرج أبو العلاء من بغداد لست ليال بقين من رمضان عام 400هـ، وحدد طريق عودته من بغداد إلى الموصل وميافارقين، ثم نزل بالحسنية ووصل بعدها إلى آمد، وقد مر في طريقه بطرف حلب ولم يدخلها تنفيذاً لقرار العزلة.

وفاة والدته


توفيت أمه وهو في الطريق من بغداد راجعاً، فرثاها بقصيدتين وكثير من النثر، وأضاف موتها إلى فواجعه ما ملأ نفسه ظلاماً وحباً في العزلة التي اختارها، وظل يذكرها طوال عمره ولا يرى عزاء إلا في لحاقه بها حيث يؤنسه أن يدفن إلى جوارها.
على أن قلبي آنس أن يقال لي..|..إلى آل هذا القبر يدفنك الآل

عزلته


بعد عودته من بغداد قرر أن يعتزل الناس جميعاً بسبب جزعه على وفاة والدته، مما ضاعف سواد الدنيا في عينيه، كما تروي عنه كتب «تاريخ الأدب» فقد انتقلت القتامة من عينيه إلى قلبه فمال إلى الزهد، ولزم بيته وسمى نفسه «رهين المحبسين» وحبس نفسه في منزله، كما سمى نفسه أحياناً «رهين المحابس الثلاثة»: العمى والمنزل ومحبس جسده المتبرم بروحه، وعبر عن ثلاثة سجون يعيشها بقوله:
أراني في الثلاثة من سجوني..|..فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي..|..وكون النفس في الجسم الخبيث

ولكن المعري لم ينزوِ في بيته المتواضع نتيجة فشل في بلوغ الشهرة والمال وقد كان حجة علماء عصره؛ ولا بغضاً بالبشر وهو الحاني على الضعيف يساعده بما يتدفق عليه من هبات؛ ولا تحاشياً لعشرة الناس، وهو الجامع حوله مريديه يلقي عليهم دروسه؛ ولا نفوراً من الخليقة وهو الرئيف بالحيوان نفسه؛ ولا ضغينة الناقم على مصيره، وفق تعبير نيتشه، وهو القادر على مجابهة قل نظيرها. لقد قرّر أبو العلاء الانقطاع عن الدنيا ومفارقة لذائذها، فكان يصوم النهار ويسرد الصيام سرداً لا يفطر إلا العيدين، ويقيم الليل ولا يأكل اللحوم والبيض والألبان ولا يتزوج، وكان يكتفي بما يخرج من الأرض من بقل وفاكهة:
يقنعني بَلْسَن يمارس لي..|..فإن أتتني حلاوة فبلس
والبلس من البقل العدس أو الفول، والبلس التين. وعبر عن تحريم ما ذكر في قوله:
فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالماً..|..ولا تبغ قوتاً من غريض الذبائح
ولاتفجعن الطير وهي غوافل..|..بما وضعت فالظلم شر القبائح
ودع ضَرَبَ النحل الذي بكرت له..|..كواسب من أزهار نبت صحائح
ويكتفي من الثياب بما يستره من خشنها، ومن الفراش بحصير من بردي أو لباد، وكان يكلف نفسه أموراً شاقة زيادة في مجاهدتها مثل الاغتسال شتاءً بالماء البارد:
مضى كانون ما استعملت فيه..|..حميم الماء فاقدم يا شباط

التزم المعري بقرار عزلته فلم يخرج من داره تسعاً وأربعين سنة إلا مرة واحدة مكرهاً بعد ما ألح عليه أهل بلدته طالبين شفاعته لدى الأمير أسد الدولة صالح بن مرداس، وذلك أن امرأة دخلت جامع المعرة صارخة تستعدي المصلين على أصحاب ماخور قصدوها بسوء، فنفر إليها الناس وهدموا الماخور ونهبوا ما فيه. وكان أسد الدولة في نواحي صيدا فأسرع إلى هناك وعسكر بظاهر المعرة وحاصرها وشرع في قتالها واعتقل سبعين من أعيانها، فلما ضاق الأمر بالمعريين لجأوا إلى أبي العلاء فخرج وقابل صالحاً واستشفع لديه فقال له: قد وهبتها لك يا أبا العلاء، وقد ذكر أبو العلاء الحادثة في قصيدة:
أتت جامع يوم العروبة جامعاً..|..تقص على الشهاد بالمصر أمرها
فلو لم يقوموا ناصرين لصوتها..|..لخلت سماء الله تمطر جمرها

من جهة أخرى، لم يفتح داره لأحد من الناس مدة من الزمان، وعن ذلك يقول ابن العديم: «أقام مدة طويلة في منزله مختفياً لا يدخل عليه أحد. ثم إن الناس تسببوا إليه وألحوا في طلب الشفاعة لديه من أقاربه الأدنين». ثم إنه استجاب لتوسلات المتوسلين ففتح داره لطلاب العلم من كل صقع وصوب، وصارت داره جامعة يؤمها الزائرون من شتى البقاع، وأخذ الناس يفدون إليه، وكاتبه العلماء والوزراء وأهل الأقدار.

ولكن بالمقابل فإن عزلته كانت الفترة التي شرع فيها في التصنيف، فنظم «لزومياته» وألَّف «رسالة الغفران» وكتباً أخرى، فملأت شهرته البلاد، وقصده الطلاب، وكاتبه من لم يصل إليه من علماء ووزراء من ذوي الرتب.

لم يتمكن المعري من تحقيق عزلته التامة فزاد اختلاطه بالناس، عبر طالبي العلم الذين كانوا يأتون إليه من أصقاع الشام وبلاد الرافدين، فيأخذون عنه الفلسفة والعلم واللغة. ومع ذلك كان راضياً بحاله، قابلاً بما هو عليه من صبر واعتزال:
وَحَالِي خَيْرُ حَالٍ كُنْتُ يَوْماً..|..عَلَيْهَا، وَهْيَ صَبْرٌ وَاعْتِزَالُ!


كتابه وتلاميذه


قال ابن فضل العمري: «أخذ عنه خلق لا يعلمهم إلا الله،كلهم قضاة وخطباء وأهل تبحر واستفادوا منه، ولم يذكره أحد منهم بطعن ولم ينسب حديثه إلى ضعف أو وهن».

ومن أشهر تلاميذه أبو زكريا الخطيب التبريزي وعلي بن المحسن بن علي التنوخي القاضي. وله كتاب يملي عليهم مصنفاته، منهم أبو محمد عبدالله بن محمد القاضي ابن أخيه، وكان براً بعمه وفيه يقول أبو العلاء:
وقاضٍ لا ينام الليل عني..|..وطول نهاره بين الخصوم

وأبو الحسن علي بن محمد أخو عبدالله، وأبو نصر زيد ابن عبدالواحد، وجعفر بن أحمد بن صالح التنوخي، وإبراهيم بن علي بن الخطيب، وأبو الحسن علي بن عبدالله ابن أبي هاشم المقرئ. وكان يذكرهم بالخير في شعره ونثره.
درس على أبي العلاء كثير من طلاب العلم ممن علا شأنهم في العلم والأدب، منهم:


وفاته


عمر أبو العلاء طويلاً وأصابته الشيخوخة بالوهن ووصفها بقوله:
«الآن علت السن، وضعف الجسم، وتقارب الخطو، وساء الخلق». ولكنها إن أصابت جسمه فما أصابت عقله وصفاءه وقريحته وتوقدها وحافظته وقوتها، فما نسي شيئاً مما حصَّل. وفي اليوم العاشر من ربيع الأول سنة 449هـ اعتل أبو العلاء وعاده الطبيب المشهور أبو الحسن مختار بن بطلان، وكان ممن يتردد عليه للزيارة والسماع أثناء مقامه بديار الشام، ووصف له كأساً من شراب أتاه به ابن أخيه القاضي فامتنع عن شرابه وأنشد:
تعللني لتسقيني فذرني..|..لعلي أستريح وتستريحُ

كما وصفوا له لحم الدجاج فلما وضعوه بين يديه لمسه بيده فجزع وقال:
«استضعفوك فوصفوك هلا وصفوا شبل الأسد». وتوفي بعد ثلاثة أيام وأوصى أن يُكتب على قبره مقولته الشهيرة:
هذا جناه أبي عليَّ..|..وما جنيت على أحد
وقف على قبره أربعة وثمانون شاعراً يرثونه، منهم القائل:
العلم بعد أبى العلاء مضيع..|..والأرض خالية الجوانب بلقع
ما كنت أعلم وهو يودع في الثرى..|..أن الثرى فيها الكواكب تودع
رفض الحياة ومات قبل مماته..|..متطوعاً بأبر ما يتطوع
قصدتك طلاب العلوم ولا أرى..|..للعلم بابا بعد بابك يقرع

ومن أشهر ما قيل فيه رثاء تلميذه أبي الحسن علي بن همام:
إن كنت لم ترق الدماء زهادة..|..فلقد أرقت اليوم من جفني دماً

ومن أروع القصائد هي للشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في ذكرى أبى العلاء وفيها يقول:
قف بالمعرة وامسح خدها التربا..|..واستوح من طوق الدنيا بما وهبا


ضريح أبو العلاء المعري في معرة النعمان

شخصية المعري

أخلاقه


كان المعري رغم عزلته ذا صلة حسنة بالناس، وكان مع فقره كريماً ذا مروءة يعين طلاب الحاجات وينفق على من يقصده من الطلاب يهدي ويُهدى إليه، ويكرم زائريه. ومن مروءته وكرمه أنه لم يقبل من تلميذه الخطيب التبريزي ذهباً كان قد دفعه إليه ثمناً لإقامته عنده. لم يرده إليه في حينه حتى لا يؤذي نفسه ويوقعه في مشقة الحرج، ولكنه احتفظ له به حتى تجهز قافلاً فودعه ورد إليه ما دفع.

كما كان رقيق القلب رحيماً عطوفاً على الضعفاء حتى شملت رقة قلبه الحيوان فلا يذبح ولا يروع بولده وبيضه. وكان وفياً لأصدقائه وأهله. وتفيض رسائله إلى أهل بغداد والمعرة وإلى أخواله بهذا الوفاء. ومن أهم خصاله الحياء الذي يكلفه ضروباً من المشقة والأذى، وكثيراً ما كتب كتباً ورسائل لأناس طلبوا منه ذلك، وكتب يستشفع لأناس عند الأمراء، وهو كاره لذلك ولكنه لفرط حيائه لا يستطيع لهم رداً. وكان سيئ الظن بالناس يعتقد فيهم الشرور والأسواء ويمقت فيهم خصال الكذب والنفاق والرياء. وانتهى أخيراً إلى أن الإنسان شرير بطبعه، وأن الفساد غريزة فيه ولا يُرجى برؤه من أدوائه:
إن مازت الناس أخلاق يقاس بها..|..فإنهم عند سوء الطبع أسواء

عماه وأثره في شخصيته


يبدو من شعر المعري إحساسه الشديد بهذه العاهة التي أصابته:
ومابي طرق للمسير ولا السرى..|..لأني ضرير لا تضيء لي الطرق
وقوله:
ويا أسيرة حجليها أرى سفهاً..|..حمل الحلي لمن أعيا عن النظر

وقد دفعه عماه إلى تحدي الصعاب والرغبة في التكيف واكتساب العلم والمعرفة والتفوق فيهما على البصراء. ويتبدى تحديه هذا في لعبه النرد والشطرنج، ولكن هذه العاهة رغم تكيفه معها واكتسابه صفات تعويضية، أورثته شعوراً عميقاً بالألم والحزن ملأ شعره بالزفرات الحارة مما يدل على مالها من أثر شديد على نفسه.

اتهامه بالزندقة


اتُّهم المعري بالزندقة والإلحاد من بعض معاصريه، ولا شك أنه كان يناقش في مجالسه قضايا الفلسفة ويشرح للطلاب أشعاره ويفسر لهم ما صعب منها. وربما قاده الشرح إلى الحديث عن مختلف الآراء الفلسفية التي لا يرتضيها عامة الناس. يضاف إلى هذا تبتله وتركه الزواج وامتناعه عن اللحم وما أشبه ذلك، وفيه ما فيه من مجانبة لسنن الدين ولحوق بفلسفات برهمية هندية. وقد استند متهموه إلى ما في رسالة الغفران من أخبار الزنادقة وأشعارهم. أما أشعاره فيبين في بعضها الشك والانكار.

ولكنه وجد من يدافع عنه نافياً هذه التهمة. ومن هؤلاء القفطي وابن العديم، وسمى الأخير كتابه: «كتاب الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري»؛ وقال في مقدمته متحدثاً عن حساده ومنتقديه: «رموه بالإلحاد والتعطيل، والعدول عن سواء السبيل، فمنهم من وضع على لسانه أقوال ملحدة ومنهم من حمل كلامه على غير المعنى الذي قصده فجعلوا محاسنه عيوباً وحسناته ذنوباً وعقله حمقاً وزهده فسقاً، ورشقوه بأليم السهام وأخرجوه عن الدين والإسلام».

ومن أحسن الشهادات في حقه شهادة الإمام الذهبي المتوفي سنة 747ه/1346م، حيث قال: «وفي الجملة فكان من أهل الفضل الوافر والأدب الباهر والمعرفة بالنسب وأيام العرب. وله في التوحيد وإثبات النبوة وما يحض على الزهد وإحياء طرق الفتوة والمروءة، شعر كثير والمشكل منه فله ـ على زعمه ـ تفسير».
وكان أبو العلاء نفسه كتب رداً على متهميه بالإلحاد أسماه «زجر النابح» أوضح فيه طرائقه الشعرية في عرض آراء الفرق المختلفة، ومقاصده الأصلية من أشعاره. وكشف في كتاب آخر أسماه «الفصول والغايات» عن إيمانه بعذاب القبر والبعث والنشور، وبكل ما له علاقة بعقيدة الأمة فيما يتصل بالغيب.


مؤلفاته


ألف أبو العلاء مصنفات جمة ناهزت السبعين ما بين منثور ومنظوم ضاع أكثرها ولم يصل إلينا منها إلا النزر اليسير. يقول القفطي والذهبي إن أكثر كتبه باد ولم يخرج من المعرة، وحرقها الصليبيون فيما حرقوا من المعرة، وأحصيا له من الكتب خمسة وخمسين كتاباً في أربعة آلاف كراسة، تشمل الشعر والنثر فقد ذكر له كتاب اسمه استغفر واستغفري فيه عشرة آلاف بيت ضاع مع ما ضاع. ويذكر الرحالة الفارسي ناصر خسرو أن أبا العلاء نظم مائة ألف بيت من الشعر وذلك سنة 438هـ قبل موته بإحدى عشرة سنة. كما عدَّ ياقوت من مصنفاته اثنين وسبعين مصنفاً. وبقي من شعره ثلاثة دواوين: سقط الزند، والدرعيات، وهو ديوان صغير طبع ملحقاً بالسقط، واللزوميات.

ومن أشهر مؤلفاته النثرية «رسالة الغفران» التي أملاها رداً على رسالة الأديب الحلبي علي بن منصور بن القارح، وكانت أكثر كتبه يؤلفها رداً على طلب طالب وكان بعض الأمراء يسألونه أن يصنف لهم. ومن ذلك:
كتاب «تضمين الرأي»، وهو عظات وعبر وحث على تقوى الله يُختم كل فصل منها بآية؛ و«تاج الحرة»، وهو خاص بوعظ النساء ومقداره أربعمائة كراسة، كما يقول ابن العديم؛ «سجع الحمائم»، في العظة والحث على الزهد أيضاً؛ «اللامع العزيزي»، في تفسير شعر المتنبي؛ «جامع الأوزان في العروض والقوافي»؛ «الصاهل والشاحج» و«لسان الصاهل» و«الشاحج والقائف»، وهذه الثلاثة ألفها للأمير عزيز الدولة شجاع بن فاتك والي حلب من قبل المصريين؛ «الفصول والغايات»؛ «شرف السيف»؛ «معجز أحمد» في شرح شعر المتنبي؛ «ذكرى حبيب في شعر أبي تمام »؛ «عبث الوليد» في شرح شعر البحتري؛ «رسالة الملائكة»، وغيرها كثير. لكن آخر ما أملى من الكتب كتابا المختصر الفتحي وعون الجُمل، ألفهما لابن كاتبه الشيخ أبي الحسن علي بن عبدالله بن أبي هاشم.

وكان المعري شديد الاهتمام بكتبه وعلمه وأدبه يجمعها ويفسرها ويدافع عنها. شرح ديوانه سقط الزند بكتاب ضوء السقط، كما شرح اللزوميات بكتابين ودافع عنها بثالث. وشرح الفصول والغايات بكتابين، وشرح الرسائل بكتاب سماه خادم الرسائل. وهذا الجهد -فضلاً عن عنايته بها- يدل على غزارة علمه وثقته بنفسه، كما يدل على خوفه من التأويل والكذب عليه. وتدل أسماء كتبه على ذوق رفيع.


نثر المعري


بقي من نثره رسالة الغفران ورسالة الملائكة، وهي صغيرة، وأجزاء من الفصول والغايات وطائفة من الرسائل كان يوجهها إلى أصدقائه. ويمتاز نثره بالغريب وكثرة الغموض واللجوء إلى السجع مثل أهل عصره. وقد طرق في نثره موضوعات مختلفة مثل المدح والعزاء والوصف.


رسالة الغفران



رسالة الغفران

تغنى المعري بمخيلته الابداعية في «رسالة الغفران» التي أوحت للكاتب الإيطالي دانته رائعته «الكوميديا الالهية» وسبق غوته و«شيطانه»، كما سبق ميلتون الشاعر الانجليزي الأعمى في ملحمته «الفردوس المفقود»، وسبق الكاتب الانجليزي الشهير فنسون أديسون في قصته «الحياة الأزلية» التي يصف فيها الآخرة بشيء من السخرية والنقد والتندر. وثمة مراجع كثيرة عالمية تشير إلى أن أفكار كل هذه الأعمال قد اقتبست عن «رسالة الغفران» التي عُرفت مبكراً في أوروبا، ووصلت إلى الأندلس، وترجمها الطبيب اليهودي ابراهيم الحكيم إلى القشتالية في عام 1264م قبل مولد دانتي بعام واحد، ومنها تمت ترجمتها إلى اللاتينية والفرنسية القديمة، وإلى لغات أوروبية أخرى، وجرى تداولها في أوروبا.

في هذا الشأن، بيّن المستشرق الاسباني الشهير ميجيلأسين بلاثيوس أن «رسالة الغفران للمعري قد كوَّنت أسس الكوميديا الإلهية لدانتي»، واعتمد في قوله هذا على دراسة قام بها استغرقت ربع قرن، عرضها في كتاب له على امتداد 405 صفحات من القطع الكبير، نشره بمناسبة تعيينه عضواً في الأكاديمية الملكية الإسبانية في عام 1919، عنوانه «الأخرويات الإسلامية في الكوميديا الإلهية» أجرى فيه مقارنة مركَّزة بين نصوص الكتابين «رسالة الغفران والكوميديا الإلهية» حدد على أساسها دلائل التشابه بينهما، كما بين أيضاً دلائل كثيرة تؤكد على تأثر دانتي بأبي العلاء، وأنه قلد رسالته وأخذ عنها، وقد أثار هذا الكتاب ثورة كبرى -على حد تعبير عبد الرحمن بدوي- في مختلف الأوساط العلمية في العالم كله.

والمستشرقون بوجه عام يشتركون في تقدير المعري ومدحه، يضعونه في مقام عالٍ بين شعراء العربية، من حيث أسلوبه ونظرته إلى الحياة والوجود، ويعدونه شاعراً للإنسانية جمعاء سبق زمانه ومكانه بعلمه وتفكيره وآرائه العقلانية.

في «رسالة الغفران» يزور المعري الجنة والنار ويسأل الشعراء الذين دخلوا الجنة وهم من الملحدين ثم يزور النار وشعراءها سائلاً عن سبب عدم الغفران لهم، وجاءت هذه الرسالة في سياق رد أبي العلاء على رسالة ابن القارح أي علي بن منصور الأديب الحلبي الشيخ الذي خدم آل المغربي بمصر فينتقد آراءه وبدع زمانه ويناقشها ثم يرفضها، ثم يأتي ليذكر أدباء ونقاد ليناقشهم مع سخرية واستهزاء بأدب وفطنة. كما تظهر في «رسالة الغفران» مقدرة المعري اللغوية ومقدرته على السخرية والنقد.

لقد بنيت رسالة الغفران برؤية دينية وحملت مشكلات العلماء والشعراء والمغنين والمغنيات والآراء والفرق، إنها رسالة الفن والعلم والخيال والواقع والثنائيات، بناها أبو العلاء لتكون قبراً لابن القارح وأمثاله من الانتهازيين والمتسلقين، وهم نماذج بشرية تتراءى صورها في كل زمان ومكان على اختلاف الأحوال.


الفصول والغايات


صورة أخرى للزوميات، فقد أورد فيه كثيراً من الآراء التي أوردها هناك، وألفه المعري تقرباً إلى الله وتمجيداً وتسبيحاً له قال: «علم ربنا ما علم.. أني ألفت الكلم، آمل رضاه المسلم وأتقي سخطه المؤلم»، وقد التزم أن يختم كل فصل بكلمة يلتزم آخرها في جملة من الفصول، ثم رتب هذه الكلمات على حروف المعجم كلها فيلتزم الهمزة في بعض الغايات ثم الباء إلى آخر الحروف. وتكون الغاية ساكنة قبلها ألف، وأحياناً يلتزم حرفاً قبل الألف، ويلتزم السجع أحياناً ويضيف إليه قيداً آخر بحيث يلتزم حرفين أو أكثر على نحو ما فعل في اللزوميات، وقد يضيف إلى السجع التزاماً آخر فيجري السجع على حروف المعجم. وتطول الفصول وتقصر بلا ضابط معين، وتكون مستقلة أحياناً ومرتبطة ببعضها أحياناً أخرى.

وكان الشائع المشهور أنه ألف هذه الفصول متأثراً ببلاغة القرآن الذي هو المثل الأعلى للبلاغة والبيان، وما وجد أديب وشاعر إلا فتن بأسلوب القرآن.


شعر المعري

مكانته الشعرية ورأي النقاد فيه


كان القدماء، إلا أقلهم، يعترفون بشاعرية المعري، ويعرفون تقدمه، وينشد الناس أشعاره ويتظرف بها الظرفاء. أما المحدثون فمنهم من جعل المعري فيلسوفاً وجرده من الشعر، وعده آخرون شاعراً مجرداً من الفلسفة، وجمع له فريق ثالث بين الحسنيين.

فبينما يرى بعضهم فيه شاعراً فيلسوفاً حقاً لم يعهد المسلمون في قديمهم وحديثهم فيلسوفاً مثله؛ يرى آخرون أن ليس له مذهب فلسفي، بل له اتجاهات تخل بالمنهج الفلسفي إخلالاً واضحاً، فهو رجل وجدان، دقيق الحس، عميق الإدراك، صادق التعبير، جريء التعرض للمعاني والخواطر. بينما جعله فريق ثالث مع سقراط والقديس أوغسطين والغزالي وتوما الأكويني وشوبنهاور في طبقة واحدة، فضلاً عن من عده فيلسوفاً له نظرياته في الفلسفة أو مجدداً لأصول الفلسفة أو هو الفيلسوف الأكبر.

لكن أكثر النقاد يرونه شاعراً إنسانياً متأملاً في المحل الأرفع بين شعراء العربية، له مقام فريد لا من حيث أسلوبه وفنه فحسب، ولكن من حيث روحه ونظرته إلى الحياة والأحياء من حوله.

كما أدلى المستشرقون بدلوهم في هذا الشأن، فعدوه شاعراً عالمياً سبق زمانه بآرائه العقلية والأخلاقية والسياسية والدينية.


دواوينه


بقي من شعر المعري ثلاثة دواوين: «سقط الزند» و«الدرعيات» و«اللزوميات».


سقط الزند


كتاب سقط الزند

ديوان شعري يضم أكثر من ثلاثة آلاف بيت، نظمه أبو العلاء في صباه وشبابه وشيئاً من شعر الكهولة، وسماه كذلك لأن السقط أول نار تخرج من الزند فشبه شعره الأول به، وقد رتبه أبو العلاء ووضع له مقدمة. ويظهر في شعر صباه المبالغة والتكلف والمحاكاة. وكلما تقدم به العمر اكتسب شعره صفات تجعله متفرداً. فتبدو فيه ظاهرة استعمال الاصطلاحات والإشارات العلمية، كما في قصيدة توديع بغداد.

أما الشعر الذي نظمه في كهولته ففيه نضج في الفكر وإتقان للمعاني وبعد عن الضرورات والمبالغات. ويلجأ فيه للقوافي الصعبة ويطيل فيها مثل الطائية التي بعث بها إلى خازن دار العلم ببغداد. وفي هذا الديوان تأثر واضح بالمتنبي، وكان به مغرماً ولأشعاره دارساً، وبينهما صفات مشتركة أهمها التفوق والنبوغ والشعور بالامتياز والطموح والشعور بفساد الحياة والأحياء في عصريهما. ويأتي تباينهما من اختلاف طباع كليهما وظروفه. فبينما آثر المتنبي الحرب والثورة وسيلة للإصلاح آثر المعري النقد السلبي والاعتزال وتصوير القبائح والسخرية منها، وهذا الذي جعل له التفرد والأصالة.

ويحوي ديوانه أغراضاً مختلفة كثيرة من أهمها:

المدح

لم يمدح أبو العلاء أميراً طلباً لنواله، وقد سطر في مقدمة هذا الديوان: «ولم أطرق مسامع الرؤساء بالنشيد، ولا مدحت طلباً للثواب، وإنما كان بغرض الرياضة وامتحان القريحة» وسلوك الطريق التي سلكها الشعراء قبله، وإن كان له مدائح نظمها في أناس من أصحابه، أو أجاب بها نفراً من الشعراء أرسلوا إليه قصائد. ولهذا السبب جاء مدحه مختلفاً عن مدائح من سبقوه. فليس هو محتاجاً لأن يتزلف الممدوح أو يسبغ عليه صفات مبالغة. ومن هذا النوع النونية التي بعث بها إلى الشريف أبي إبراهيم العلوي، وكان قد بعث إليه بقصيدة:
غير مستحسن وصال الغواني..|..بعد سبعين حجة وثماني
يقول أبو العلاء:
عللاني فإن بيض الأماني..|..فنيت، والظلام ليس بفان

الفخر

جعلت نفسية أبي العلاء الزاهدة وحياته المنعزلة التي عاشها للفخر حظاً ضئيلاً في صناعته الشعرية، فلم تظهر فيه الأنا المتضخمة، ولم يبتل بالحساد لأنه ترك للناس ما يمكن أن يزاحموه عليه من حطام الدنيا، ووجدنا له قليلاً من الفخر في صباه يعبر عن عنفوان هذه المرحلة من العمر وجنوحها. ومن أشهر ما قاله في الفخر قصيدته:
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل..|..عفاف وإقدام وحزم ونائل
وفيها البيت المشهور:
وإني وإن كنت الأخير زمانه..|..لآت بما لم تستطعه الأوائل
وهذه القصيدة علامة من علامات المتنبي حتى يكاد القارئ يظن أنها ضلت طريقها من ديوان أبي الطيب إلى سقط الزند. ثم إن المعري ترك الفخر في آخر عمره.

الوصف

يحاول المعري وصف الأشياء المحسوسة، ويزين لفظه حتى يعوض ما يحس به من نقص تجاه وصف المبصرين، ولعله كان يعمد إلى الوصف الحسي ليثبت أنه لا يقل قدرة عن المبصرين في الوصف. ومن جميل شعره في الوصف قوله:
رب ليل كأنه الصبح في الحسن..|..وإن كان أسود الطيلسان
ليلتي هذه عروس من الزنج..|..عليها قلائد من جمان
هرب النوم من جفوني فيها..|..هرب الأمن عن فؤاد الجبان
وكأن الهلال يهوى الثريا..|..فهما للوداع معتنقان
وسهيل كوجنة الحب في اللون..|..وقلب المحب في الخفقان

الغزل

في ديوانه مقطوعات غزلية رقيقة، ولم ينقل المؤرخون عنه أنه أحب فتاة بعينها في صباه، ويراه بعضهم ضريراً زاهداً محزوناً لا سبيل للحب إلى قلبه، ويرتفع شعره القليل في الغزل عن أن يكون رياضة كما قال في المديح أو محاولة لإكمال الديوان بالموضوعات التي استنها الأوائل ففي بعضه لوعة حقيقية، وغناء واله مشوق:
يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر..|..لعل بالجزع أعواناً على السهر
وإن بخلت عن الأحياء كلهم..|..فاسق المواطر حياً من بني مطر
ويا أسيرة حجليها أرى سفهاً..|..حمل الحلي لمن أعيا عن النظر
ما سرت إلا وطيف منك يتبعني..|..سرى أمامي وتأويباً على أثري

الرثاء

رثى أبو العلاء أباه وأمه وطائفة من الناس، وفي ديوانه سبع مراث، وفي أغلبها حزن وتفجع لأنها أحزان شخصية وليست تعزية. وأجود ماله في الرثاء الدالية التي أبَّن بها أبا حمزة الفقيه الحنفي، يقول عنها طه حسين: «نعتقد أن العرب لم ينظموا في جاهليتهم وإسلامهم ولا في بداوتهم وحضارتهم قصيدة تبلغ مبلغ هذه القصيدة في حسن الرثاء» ومنها:
غير مجد في ملتي واعتقادي..|..نوح باك ولا ترنم شاد
وشبيه صوت النعي إذا قيس..|..بصوت البشير في كل ناد
أبكت تلكم الحمامة أم غنت..|..على فرع غصنها المياد
إن حزناً في ساعة الموت..|..أضعاف سرور في ساعة الميلاد
خفف الوطء ما أظن أديم..|..الأرض إلا من هذه الأجساد
رب لحد قد صار لحدا..|..مرارا ضاحك من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين..|..في طويل الأزمان والآباد
تعب كلها الحياة فما..|..أعجب إلا من راغب في ازدياد
سر إن اسطعت في الهواء..|..رويدا لا اختيالا على رفات العباد
قبيح بنا وإن قدم العهد..|..هوان الآباء والأجداد

الهجاء

لم ينظم المعري في هذا الغرض من أغراض الشعر بمعناه التقليدي المعروف، بمعنى أن يتجه الشاعر إلى شخص، فيثلبه ويذمه. فليس للمعري عدو ليفعل به هذا. ولكنه تتبع عيوب البشر عامة ونقائصهم فأظهرها في لهجة قاسية متجنباً الفحش والإقذاع، وليس غرضه الإساءة والتشهير، بل الرحمة والإصلاح. ولا نجد هذا الموضوع في سقط الزند بل في اللزوميات، ويعده النقاد ضرباً من ضروب السخرية، وإن كان القدماء عدوه هجاء. وقد انتقد المعري ظواهر متعددة في مجتمعه، منها الادّعاء باسم الدين والرياء، وخص بنقده الواعظ المنافق:
يحرم فيكم الصهباء صرفاً..|..ويشربها على عمد مساء
إذا فعل الفتى ما عنه ينهى..|..فمن جهتين لا جهة أساء

الدرعيات

قصائد وصف بها الدرع، طبعت ملحقة بسقط الزند. والغريب أن المعري يصف فيها شيئاً من عدة الحرب وهي الدروع مع أنه لم يخض غمار معركة ولا استعد لها. وقد افتن في وصفها، فمرة يصفها على لسان رجل أسَنَّ فترك لبسها، أو على لسان رجل رهنها، وجعل وصفها مرة محاورة بين درع وسيف، ووصفها على لسان رجل يبيع درعاً أو رجل خانه آخر في درع أو على لسان امرأة توصي ابنها بلبس الدرع والانشغال بها عن الزواج. والدرعيات موضوع جديد في الشعر العربي يدل على براعة وأصالة. ويجعلها النقاد مقابلة للطرديات «شعر الصيد» عند الشعراء الآخرين، كما يراها آخرون محاولة من المعري لتحقيق قوله:
وإني وإن كنت الأخير زمانه..|..لآت بما لم تستطعه الأوائل

ومن أشهر هذه الدرعيات:
عليك السابغات فإنهنه..|..يدافعن الصوارم والأسنه
ومن شهد الوغى وعليه درع..|..تلقاها بنفس مطمئنه

اللزوميات


لزوميات المعري

كتابه «اللزوميات»، أو «لزوم مالا يلزم» أو «اللزوم» ديوان شعر كبير مرتب على حروف الهجاء، وسمي كذلك لأن صاحبه التزم قبل الرَّوِيِّ حرفاً إذا غير لم يكن مخلاً بالنظم، وقد نظمه الشاعر بعد عودته من بغداد وقد اكتملت شخصيته ثقافياً وشعرياً وفلسفياً. وإذا تأملنا لزوميات أبي العلاء لوجدنا فيها مشابهة من سجونه التي اختارها. فإن القافية والتزام رويها سجن للشاعر فلم يرض المعري حتى يجعل لنفسه سجناً آخر هو الحرف الذي التزمه، فكتاب «اللزوميات» يمثل حياة عقل أبي العلاء، ووجدانه وخلقه تمثيلاً صادقاً، وآراءه التي كان يلقي بها إلى طلاب العلم.

ينفرد كتاب اللزوميات بمكانة خاصة في مجال الشعر العربي كديوان فلسفي وحيد في اللغة العربية، ويؤكد طه حسين في هذا الجانب على «أن اللزوميات فن جديد في الشعر العربي» وأن أبا العلاء «أحدث فناً في الشعر لم يعرفه الناس من قبل، وهو الشعر الفلسفي».

تجدر الإشارة إلى أن المعري لم يكن أول من ابتكر هذا الفن، فلغيره مقطوعات قليلة فيها هذا الالتزام، ولكن الجديد في صنع المعري أنه نظم ديواناً كاملاً على هذا النمط حاوياً جميع حروف المعجم فجاء عملاً يحمل بصماته مقترناً باسمه، وظل ديوانه هذا نسيج وحده، ولم يستطع شاعر أن يحذو حذوه إلا في المقطوعات المحدودة. وقد قدم له المعري قائلاً: «وقد تكلفت في هذا التأليف ثلاث كلف: الأولى أن ينتظم حروف المعجم عن آخرها، والثانية أن يجيء رويه بالحركات الثلاث وبالسكون، والثالثة أنه لُزم مع كل روي فيه شيء لا يلزم». وفوق هذا لم يضعه قصداً للبراعة اللفظية والمقدرة اللغوية فحسب، وإنما قصد به إلى معان فلسفية، كذلك جاء من أحد عشر ألف بيت في مائة وثلاثة عشر فصلاً. وقد جاء الديوان مثقلاً بالغريب واستعمال المصطلحات، وجاءت القيود المتراكمة هذه على حساب الوحدة المعنوية في المقطوعات أحياناً إذ يركز فيها على وحدة القوافي.

ويرى بعض النقاد أن المقطوعة أو القصيدة في اللزوميات تطول وتقصُر تبعاً لصعوبة القافية وسهولتها، فقد تساعده القافية السهلة فيمتد نفسه الشعري، فيكثر من الأبيات وإن استوفى المعنى المراد، وقد ينقطع نفسه عند البيتين والأبيات القليلة، وإن كان في المعنى متسع لأن القافية تضطره إلى ذلك. ومثال واحد من الديوان يكفي للرد على هذا القول وهو اللزومية:
نوائب، إن جلت، تجلت سريعة..|..وإما توالت في الزمان تولت
وهي خمسة أبيات، وكان يمكن أن تطول جداً، إذ قافيتها سهلة. ومن أمثلة إثقال الأبيات بالعلوم والمصطلحات قوله:
مالي غدوت كقاف رؤبة قيدت..|..في الدهر لم يطلق لها إجراؤها
أعللت علة قال وهي قديمة..|..أعيا الأطبة كلهم إبراؤها
ويقول:
فصحيحة الأوزان زادتها القوى..|..حرفا فبان لسامع نكراؤها
ويقول:
ووجدت دنيانا تشابه طامثا..|..لا تستقيم لناكح أقراؤها

أثر علمه وثقافته في شعره


يعد عصر المعري عصراً ذهبياً في نضج العلوم وانتشارها على اختلاف مشاربها، فالعلوم الشرعية وعلوم القرآن من تفسير وقراءات وإعجاز، وعلوم الأدب والنقد ثم الفلسفات المنقولة كانت قد استوت على سوقها، وكان للمعري مشاركات جادة فيها، وهو مع هذا يتواضع ويضع من شخصه وعلمه:
ماذا تريدون لا مال تيسر لي..|..فيستماح ولا علم فيقتبس
أتسألون جهولاً أن يفيدكم..|..وتحلبون سفياً ضرعها يبس


أبو العلاء المعري

علم اللغة


كان علمه باللغة والنحو والأدب هو الغاية القصوى حتى قيل إن المعري بالمشرق وابن سيده بالمغرب ليس لهما في زمانهما ثالث في اللغة. وذكر التبريزي أنه لا يعرف كلمة نطقت بها العرب ولم يعرفها أبو العلاء. وكان المعري حريصاً على إظهار علمه باللغة يرصع شعره ونثره بالغريب النادر، ويدل على باهر علمه باللغة وحذقه لها تحويله لقافيتي بيتي النمر بن تولب وقد عرض لهما في رسالة الغفران:
ألم بصحبتي وهم هجوع..|..خيال طارق من أم حصن
لها ما تشتهي عسلاً مصفى..|..متى شاءت وحُوَّارَى بسمن

ويستطرد إلى حكاية وقعت بين خلف الأحمر وأصحابه، فإنه سألهم لو أنه وضع أم حفص موضع أم حصن ماكنتم تقولون في البيت الثاني؟ فسكتوا، فقال خلف: وحُوَّارى بلمص واللمص الفالوذ. فذكر خلفٌ تغييراً واحداً وعجز أصحابه عنه. فيأتي أبو العلاء ويظهر مقدرته اللغوية. ويفرع على هذه الحكاية مغيراً حرف الروي على كل حروف المعجم ويشرح الألفاظ الغريبة التي جاء بها. وكان مع الشرح يشير إلى الخلافات اللغوية، ويورد الشواهد ويفرق بين الاستعمال الحقيقي والمجازي. ومن وسائله في الإفصاح عن التمكن اللغوي إتيانه باللفظ ثم يفسره أو ينفي عن سامعه ما قد يتبادر إلى ذهنه من معناه مثبتاً معنى آخر:
نوديتُ ألويتَ فانزلْ لا يرادُ أتى..|..لوى الرملِ بل للنيتِ إلواءُ

ويكثر عنده لذلك الجناس والتورية والطباق والاستعارة، ولها صلة قوية بالتفنن اللغوي. ومن أمثلة ذلك في التشبيه:
سبحان من برأ النجوم كأنها..|..درٌّ طفا من فوق بحر مائج
وفي الاستعارة:
ركبنا على الأعمار والدهر لجة..|..فما صبرت للموج تلك السفائن
وفي الكناية:
ولو وطئت في سيرها جفن نائم..|..بأخفافها لم ينتبه من منامه
وفي الجناس:
وفوائد الأسفار في الدنيا..|..تفوق فوائد الأسفار
والأسفار الأولى جمع سَفَر وهو الرحيل، أما الأسفار الثانية فجمع سِفْر وهو الكتاب.
وفي التورية:
وحرف كنون تحت راء ولم يكن..|..بدال يؤم الرسم غيره النقط
وفي الطباق:
غير مجد في ملتي واعتقادي..|..نوح باك ولا ترنم شاد

ومن أبرع ما وجد عنده، استغلاله المعارف النحوية واللغوية للتعبير عن الآراء الفلسفية والملاحظات المتفكرة في الحياة والأحياء:
والمرء كان، ومثل كان وجدته..|..حَالَيْه في الإلغاء والإعمال
والباء مثل الباء..|..يخفض للدناءة أو يجر
يقصد بالباء الأولى الجماع. كما يستخدم أيضاً مصطلحات البلاغة:
تجانست البرايا في معان..|..ولم يجلب مودتها الجناس


العروض والقافية


للمعري معرفة بالعروض نادرة، وقد ألف كتاباً فصل فيه ضروب الشعر وقوافيه ومثل لها من نظمه. ويدل على اهتمامه بذلك نثره المعلومات العروضية في كل تآليفه. ونجد في شعره لفتات عروضية مثل:
وإن الطويل نجيب القريض..|..أخوه المديد ولم ينجب
أو:
وقد يخطئ الرأي امرؤ وهو حازم..|..كما اختل في وزن القريض عبيد
أو:
وأكرمني على عيبي رجال..|..كما رُوي القريض على الزحاف


التاريخ والقصص


ولعل المعري هو أول من اهتم بالأساطير وفلسفها لتدل على ما يريد الإفصاح عنه من آراء. وقد أشار إلى معارفه التاريخية بقوله:
ما مر في هذه الدنيا بنو زمن..|..إلا وعندي من أخبارهم طرف
وقد اهتم بالقصص الديني وغير الديني كقوله:
مثلما فاتت الصلاة سليمان..|..فأنحى على رقاب الجياد
أو قوله:
ومن لصخر بن عمرو أن قصته..|..صخر وخنساءه في السرب خنساء
وهو معنى عميق يجعل فيه صخر بن عمرو في قصة الخنساء المشهورة رمزاً للجسد ابن الدهر، والخنساء رمزاً للنفس شقيقة الجسد ترتاع لفراقه وتتحسر عليه.

تمثال أبو العلاء المعري في معرة النعمان

فلسفة المعري


تأثر المعري بمختلف الفلسفات التي سادت في عصره وأضاف إليها تجربته الشخصية وآراءه التي استقاها واختارها لنفسه. وأكثر آرائه الفلسفية حوتها اللزوميات. وكان يرى قدم المادة الكونية والزمان، وهذا أثر من أثار أرسطو، كما كان يرى خلودها وبقاءها:
نرد إلى الأصول وكل حي..|..له في الأربع القُدُم انتساب
ولكنه لا يثبت على هذا الرأي فيعبر في مواضع أخرى عن فناء المادة الكونية وحدوثها:
وليس اعتقادي خلود النجوم..|..ولا مذهبي قدم العالم

كما يؤمن بتناهي الأبعاد وهذا متصل بقدم العالم:
ولو طار جبريل بقية عمره..|..من الدهر ما استطاع الخروج من الدهر

رأيه في الأديان


آمن المعري بالله إيماناً فطرياً وعقلياً يجعله لا يرتاب في وجود الخالق:
أثبت لي خالقاً حكيماً..|..ولست من معشر نُفَاة
بل إن صلته بربه قوية وأعز عنده من الدر والياقوت:
وشاهدٌ خالقي أن الصلاة له..|..أجل عنديَ من دري وياقوتي

والإيمان العقلي من آثار المعتزلة، ولما كان العقل المجرد قاصراً عن النفاذ إلى جوهر الدين وليس كل شيء يدرك به، جاء اضطرابه في مسألة النبوات، والبعث بعد الموت الذي يبدو ـ من اللزوميات ـ إنكاره له أو اضطرابه فيه:
إن الشرائع ألقت بيننا إحناً..|..وأورثتنا أفانين العداوات


رأيه في الجبر والاختيار


يبدو المعري مؤمناً بالجبر إيماناً قوياً غالباً عليه:
ما باختياري ميلادي ولا هرمي..|..ولا حياتي فهل لي بعد تخيير
وفي مواضع أخرى يثبت عكس هذا:
تعالى الذي صاغ النجوم بقدرة..|..عن القول أضحى فاعل السوء مجبراً

ويبدو أنه انتهى إلى ألا جبر مطلق ولا اختيار مطلق، بل المرء متأرجح بينهما، فالعبد هو الذي يسعى ويطلب الأسباب باختياره ليصل إلى ما قدر الله مثل الذي يأخذ النار بيده فتحترق. فله حرية الأخذ أو الترك ويستلزم الأخذ جبرية الاحتراق:
إذا قضى الله أمراً جاء مبتدراً..|..وكل ما أنت لاقيه بتسبيب

رأيه في الدنيا


أكثر آراء المعري صراحة هي تلك التي قالها في الدنيا، وكان يكنيها أم دفر وهو من أكثر من ذمها وكرهها، وبسبب ذلك كره الوجود وآثر العدم. وتمنى لو أنه لم يولد بل ويتمنى الموت لكل وليد لأنه سيقاسي الشرور:
فليت وليداً مات ساعة وضعه..|..ولم يرتضع من أمه النفساء
ومن ثم كره الزواج ولم يتزوج. أما عن آرائه الاجتماعية، فهو كان يبغض انقسام الناس إلى أغنياء وفقراء، ولذلك حث على أداء الزكاة وحمدها:
وقد رفق الذي أوصى أناساً..|..بعشر في الزكاة ونصف عشر
ونادى بالمساواة:
لا يفخرن الهاشمي..|..على امرئ من آل بربر

فلسفة الزهد


وكان فيها متأثراً بأبيقور حين يقرر أن زهده كان زهد اضطرار لا زهد اختيار:
وقال الفارسون حليف زهد..|..وأخطأت الظنون بما فرسنه
ولم أعرض عن اللذات إلا..|..لأن خيارها عني خَنَسْنَهّْ
فهو زاهد لأنه عجز عن تحقيق آماله، وقد راض هذه الآمال فامتنعت عليه فطلقها وهو ساخط لأنه عجز، وقد كان صريحاً في التعبير عن حبه الغريزي للذائذ، ولكن عقله كان يقف بالمرصاد للغرائز ويبين مساوئها حتى استطاع التحكم فيها نهائياً ولكن بعد جهاد طويل:
نهاني عقلي عن أمور كثيرة..|..وطبعي إليها بالغريزة جاذبي
ومما أدامَ الرُّزءَ تكذيبُ صادقٍ، ..|..على خُبرةٍ منّا، وتصديق كاذبِ

لقد شهد جميع شعراء عصر المعري بفطنته وحكمته وعلمه، وعندما توفي ودفن في مدينته معرة النعمان اجتمع حشد كبير من الشعراء والأدباء لتكريمه. ولقد ألف العديد من معاصريه، ومن بعدهم كتباً ودراسات حول آراء المعرّي وفلسفته، مثل: «أوج النحري عن حيثية أبي العلاء المعري»، ليوسف البديعي، و«مع أبي العلاء المعري»، لطه حسين، و«رجعة أبي العلاء» لعباس محمود العقاد، وغيرهم كثير. كما ترجم كثير من شعر المعري إلى غير العربية. وقال ابن خلكان: «ولكثير من الباحثين تصانيف في آراء المعري وفلسفته».
وكلما أبحر القارئ أكثر في سيرة «فيلسوف الشعراء»، سيصل إلى نتيجة تؤكّد أنه قال شعراً منذ آلاف السنين، صار يصلح لهذا الزمن الرديء.


قائمة مؤلفاته


رسالة الغفران
ديوان اللزوميات
ديوان سقط الزند
رسالة الصاهل والشاحج
رسالة الملائكة
رسالة الهناء
رسالة الفصول والغايات
فقرات وفترات
الأيك والغصون في الأدب يربو على مائة جزء.
تاج الحرة في النساء وأخلاقهن وعظاتهن، وهو أربع مائة كراس.
عبث الوليد، شرح به ونقد ديوان البحتري.
معجزة أحمد «يعني أحمد بن الحسين المتنبي»
شرح اللزوميات
شرح ديوان الحماسة
ضوء السقط، ويعرف بالدرعيات
رسالة الصاهل والشاحج


قصائده


إيّاكَ والخمرَ، فهي خالبةٌ

تمثال أبو العلاء المعري

من ليَ أن أقيمَ في بلدٍ
ما الثريّا عنقودُ كرمٍ مُلاحـ
أطلّ صليبُ الدّلو، بين نجومِه
إذا كُفّ صِلٌّ أُفْعوانٌ، فما لهُ
إذا كان رُعبي يورثُ الأمنَ، فهو لي
إذا شِئتَ أن يَرْضى سجاياكَ ربُّها
لَعمْركَ! ما غادرتُ مطلِعَ هَضبةٍ
إذا ما عراكُمْ حادثٌ، فتحدّثوا!
اللَّه لا ريبَ فيه، وهو مُحتجبٌ
إن يصحبِ الروحَ عقلي، بعد مَظعنِها
لا تفرَحنّ بفألٍ، إنْ سمعتَ به
لو كنتمُ أهْلَ صَفْوٍ قال ناسبُكم
الأمرُ أيسرُ مما أنتَ مُضمرُهُ
قد يَسّروا لدفينٍ، حانَ مَصْرَعُهُ
رَغِبْنا في الحياةِ لفرط جهلٍ
عيوبي، إنْ سألتَ بها، كثيرٌ
لذَاتُنا إبِلُ الزّمانِ، ينالها
عَلِمَ الإمامُ، ولا أقولُ بِظنّه
سمّى ابنَهُ أسداً، وليس بآمنٍ
إن عذُبَ المينُ بأفواهِكم
يحسُنُ مرأى لبني آدمٍ
هذا طريقٌ، للهدى، لاحبُ
إصفحْ، وجاهر، بالمرادِ
دنا رجُلٌ إلى عِرسٍ لأمرٍ
ألا عَدّي بكاءً، أو نحيباً
تريبُ، وسوف يفترقُ التريبُ
إذا هَبّتْ جَنوبٌ، أو شَمالٌ
لسانُكَ عقربٌ، فإذا أصابَتْ
أخلاقُ سكانِ دنيانا معذَّبةٌ
إذا كان علمُ الناسِ ليسَ بنافعٍ
إذا صاحبتَ في أيام بؤسٍ
يا ملوك البلادِ، فُزتم بنَسءِ
أوصيتُ نفسي، وعن وُدٍّ نصحتُ لها
القلبُ كالماءِ، والأهواءُ طافيةٌ
الساعُ آنيةُ الحوادثِ ما حوت
ما خصّ، مِصْراً، وبأٌ، وحدَها
تقواكَ زادٌ
انفردَ اللَّهُ بسلطانه
قضى اللَّه أنّ الآدميّ معذَّبٌ
أقيمي، لا أعد الحج فرضاً:أقيمي، لا أعُدُّ الحجّ فرضاً
إذا قيل لك: اخشَ اللَّه
سرَيْنا، وطالبنا هاجعٌ
حياةٌ عناءٌ، وموتٌ عنا


قالوا عن المعري


قال ياقوت الحموي فيه: «كان غزيرَ الفضلِ، شائعَ الذكرِ، وافر العلمِ، غاية الفهمِ، عالماً باللغةِ، حاذقاً بالنحوِ، جَيّدَ الشعرِ، جزلَ الكلامِ. شُهرتُهُ تُغني عن صفته، وفضله ينطقُ بسجيته».
فأبو العلاء، عند ياقوت، ذو فضل في مواقفه وعطائه، وصاحب صيت وشهرة بالعلم لغة ونحواً وفلسفة، وذو مهارة بالشعر، وجزالة في الكلام نثراً وشعراً، وفي شهرته آية ناطقة بصحة وصفه، وطيب سجيته التي جُبِلَ عليها.

كتب عنه أحمد عبد المعطي حجازي: «المعرّي بالنسبة لي شاعر قبل أي صفة أخرى، لكنه شاعر فريد لم يتكرر في الشعر العربي، فليس شعره من نسيج الذاكرة الجامعة الحافظة وتلفيقاتها، وإنما هو خيال شجاع محلق مغامر يمزق الصمت، ويطرق الأبواب، ويطرح الأسئلة الرهيبة، أسئلة الشاعر الملهوف المثقف المعذب بالتجربة الباحث عن الجواب. الشاعر كما تمثل في المعرّي كان عند الكثيرين طارئاً غريباً على الشعر العربي، أو كان مفكراً يستخدم الشعر، أكثر من كونه شاعراً يعيش الشعر بكل كيانه وجوارحه، أو لا يعيش إلا الشعر، فليس له شغل، ولا لغة، ولا متعة، ولا نسب، ولا قضية، ولا التزام إلا الشعر».

يقول المستشرق الانجليزي نيكولسون: «الفيلسوف عندي هو الرجل الذي يبحث عن الحق ما استطاع، فإذا استكشفه أو استكشف ما يعتقد أنه الحق، لائم بين علمه وعمله ورتب حياته اليومية على ما يهديه إليه عقله من حقائق الأشياء وأصول الأخلاق، وفهمت من الفلسفة ما كان يفهمه منها قدماء اليونان والعرب أيضاً ورتبتها على نحو ما كانوا يرتبونها، فقسمتها إلى فلسفة طبيعية، وفلسفة رياضية، وفلسفة الاهية، وفلسفة عملية، ثم رأيت إن أبا العلاء قد كان فيلسوفاً بهذا المعنى الذي كان به فلاسفة اليونان والعرب فلاسفة».

ويقول عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين: «لم يكن أبو العلاء أفلاطونياً، من أصحاب ارصطاليس، أو أنه كان من أصحاب الرواق، أو أنه كان من أصحاب ابيقور ولكنك تستطيع أن تقول أنه كان من هؤلاء جميعاً، يأخذ من كل فريق منهم ما يرضيه وما يلائمه في اللحظة التي يفكر بها. لم يكن أبو العلاء فيلسوفاً مقلداً أو مقصوراً على مذهب من المذاهب أو فرقة من الفرق وإنما كان متخيراً يأخذ من الجميع ويمزج ويستخلص فلسفته المتناقضة التي تمتلئ بها اللزوميات وفي كتبه المختلفة».

كما يكتب طه حسين في موضع آخر متناولاً الجانب الديني بقوله: «أبو العلاء صادق فيما يقول فهو إنما ألف الكلم يبتغي بها رضا الله ويتقي سخطه، كُتبه نوع من أنواع التقرب إلى الله، ولون من ألوان العبادة له والإمعان في تسبيحه والثناء عليه، ولكن أبا العلاء يعبد الله ويتقرب إليه كما يريد هو ويختار، لا كما يريد الناس ويختارون».

كتب الأستاذ فخري أبو السعود يقول: «ليس أبو العلاء أحد فحول شعراء العربية فقط، يحل منهم في الطبقة الأولى إلى جانب المتنبي وأبي تمام وابن الرومي، وليس هو أحد أساطين كتابها، يباري ابن المقفع والجاحظ وبديع الزمان، بل هو بين أدباء العربية شخصية فريدة فذة، يتشابه الآخرون في أشياء كثيرة حتى كأنهم أبناء عصر واحد، ويختلف عنهم جميعاً في أشياء كثيرة كأنه ابن عصر وحده، أو كأنه يمت إلى أدب وتراث ثقافي غير تراثهم وهذا التميز أهم سمات أبي العلاء».

روى الثعالبي عن أبي الحسن المصيصي الشاعر قوله: «لقيت بمعرة النعمان عجباً من العجب، رأيت أعمى شاعراً ظريفاً يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كل فن من الجد والهزل يكنى أبا العلاء، وسمعته يقول: أنا أحمد الله على العمى، كما يحمده غيري على البصر، فقد صنع لي وأحسن بي إذ كفاني رؤية الثقلاء البغضاء».
كما وصفه الشاعر أدونيس بالقول: «كان برجاً يرتفع وحيداً عالياً في حضارة البشر، وفي الجهات كلها يُرى ويتلألأ».


تحطيم تمثاله



قطع رأس تمثال أبو العلاء المعري في معرة النعمان

في الوقت الذي تعطي فيه الدول الغربية أبا العلاء المعري مكانةً عاليةً بين أعلام العالم الكبار في الأدب والفكر والشعر، إلا أنه يلاقي الكثير من الجحود من أبناء أمته وأهله مع خفوت المد النهضوي العربي، والمحزن أن يد الغدر الجبانة قطعت مؤخراً رأس تمثاله الكائن في مسقط رأسه بتاريخ 11 شباط 2013 بحجة أنه كان كافراً زنديقاً وأن تمثاله من الأصنام، كما جرى إسقاطه من قاعدته، الذي تم نصبه تكريماً للمعري العام 1944 في مسقط رأسه في معرة النعمان، بمناسبة مرور ألف سنة على وفاته، وهو من أعمال النحات السوري فتحي محمد قباوة. لكن القضية أكثر مِن قطع رأس تمثال لأن السَّياف ما كان يقصد التِّمثال، فلو قصد ذلك لهدمه كاملاً، لكنه كان يقصد صاحبه، في عمل إجرامي يحمل في ثناياه اغتيالاً لعقول الفكر العربي التنويري.


كلمة أخيرة


لقد ترك أبو العلاء المعري حواراً وجدلاً، شغل به الأجيال والعصور، ولعله كان الأكثر حضوراً بين مجايليه في التراجم والرُّدود، فقد عاش عصره كواحد من العقول الرحبة يمزج الفلسفة بالشعر والشعر بالفلسفة بخيط من توقذ الذهن وقوة الذاكرة، ومواهب نظرية فريدة تأتت له، وعلوم واسعة حصلها بجده وبحثه، وعماه الذي كان بصيرة هزمت الباصرة، فكان بصيراً بين عميان تمايز عنهم بحكمة وفلسفة ونقد خرق الحجب وتجاوز المحرم وأباح الممنوع، فوصل إلى معدن المعرفة وأساسها العقل وهو يقول «لا إمام سوى العقل»، موصياً أن يُكتب على قبره «هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد» لتكون وصيته خالدة للأجيال مثيرة جدلاً مستمرا ًكما أثاره في حياته.

المراجع


- أبو العلاء المعري: عبد الكريم محمد حسين، الموسوعة العربية، المجلد الثالث عشر
- أبو العلاء المعري: المكتبة الشاملة: http://shamela.ws/index.php/author/84
- تجديد ذكرى أبي العلاء: طه حسين، القاهرة، دار المعارف، ط 6، 1963
- أبو العلاء المعري: موقع المعرفة:
http://www.marefa.org/index.php/%D8%A3%D8%A8%D9%88_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D8%A1_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%8A
- رهين المحبسين كتب كثيراً ولم يبقَ سوى القليل: جريدة الشرق الأوسط، تاريخ النشر 19 حزيران 2006: http://www.aawsat.com/details.asp?section=19&article=373799&issueno=10095
- أبو العلاء المعري وبغداد بين الدين والفلسفة: نبيل الحيدري، موقع إيلاف، الخميس 21 تشرين الثاني 2013
- أبو العلاء المعري حياته وشعره: كمال عيزوق، المكتبة الحديثة للطباعة والنشر، بيروت 1986.
- أبو العلاء المعرّي اعتزاله وعلاقته بالنجم سهيل: عادل نايف البعيني، جريدة «النور» السورية؛ العدد 613، تاريخ 5 شباط 2014
- شعرية الفلسفة في أشعار أبي العلاء المعري: ليلى الدردوري: http://www.alnoor.se/article.asp?id=193522#sthash.WbDQov1R.dpbs
- المعرّي، الفلسفة رهان أخلاقي على الحق: بطرس الحلاق: http://www.alawan.org/المعرّي-الفلسفة.html
- المعري ــ الخيام ــ طاغور... توافق وتعارض: عادل نايف البعيني، جريدة «النور» السورية؛ العدد 617، تاريخ 5 آذار 2014.


إعداد: علاء أوسي

اكتشف سورية

Share/Bookmark

صور الخبر

قطع رأس تمثال أبو العلاء المعري في معرة النعمان

ضريح أبو العلاء المعري في معرة النعمان

أبو العلاء المعري

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق

hassanhasnow:

بارك الله فيكم على هذا الموضوع حول الكبير المعري

سوريا

ابراهيم الهندوان:

الله اكبر الله اكبر الله اكبر ولله الحمد سوريا بلد الاولياء الصالحين سوريا بلد العلماء المخلصين العارفين سوريا بلد الاتقياء الزاهدين نسال الله تعالي بحق هؤلاء ان ترحم سوريا الغاليه وتبعد عنها شرور العابثين بحق شهر شعبان ورمضان وبحق سيدنا وحبيبنا محمد صلي الله عليه وسلم يارب

حضرموت اليمن