صفحات من كتاب «حوار: لفاتح وأدونيس»

26 06

هو حوار جرى على مدى أربعة أيام في غاليري أتاسي بدمشق عام 1998، بين عملاقين هما فاتح المدرس وأدونيس، وحضره حينئذ حشدٌ من المهتمين. وقد وثَّقته غاليري أتاسي وأصدرته مؤخراً في كتاب، وتقيم حفل التوقيع من قبل أدونيس يوم الأحد 28 حزيران الجاري، ضمن الذكرى العاشرة على رحيل فاتح.

نقتطف بعض صفحات هذا الحوار الغني والمختص بالتشكيل، ومنه نستطيع أن نستنبط طريقةَ فاتح في فهمه وأسلوبه بالتعامل مع اللوحة، من خلال أسئلة غاية في الذكاء طرحها عليه أدونيس، ونشكر غاليري أتاسي لسماحها لنا بنشر ما نريد من هذه الصفحات على موقعنا.

أدونيس: أي لوحاتك أقرب إليك؟ وفي أية مرحلة؟
فاتح: مرحلة إيطاليا عندما كنت أحاول أن أتلمس بعض المعالم لإيجاد فن سوري. كانت مرحلة جيدة، كانت الأساس. وطبعاً هذا الأساس كان له سوابق في مدينة حلب. أما أجمل المراحل الصافية فكانت باللون الأبيض مع بعض الغرافيك البسيط، وكان هذا عندما عشت في لبنان من عام 62 إلى عام 67.
في لبنان كان يوجد التجمع الأدبي ليوسف الخال رحمه الله. هذه أجمل مرحلة، كان يوجد فيها نوع من التجلي والصدق، وكان عبارة عن جمل تشكيلية في منتهى الرهافة، ومنتهى البساطة، وكأنها آثار أقدام الطبيعة. إذا كانت الطبيعة تسير على الأرض ككلام معطى، كانت كأنها آثار أقدام الطبيعة عندما تسير على الأرض. كانت هذه أفضل مرحلة ودامت حوالي ثماني سنوات.

أدونيس: هل تحب فناناً، أم عملاً فنياً؟
فاتح: هذا سؤال صعب، لأنه يوجد العديد من الفنانين الجيدين ولكن غير أخلاقيين، ولهذا أصبح عندي نوع من الانكماش،وأصبحت أظلمهم في حكمي لأنهم لا أخلاقيين، مع أنهم جيدون في أعمالهم. لا بد من ربط الإنسان الفنان بعمله لأنه جزء منه. طبعاً هذا رأي ظالم ولكنني أؤمن به.


من أعمال فاتح المدرس

أدونيس: أي أن الأخلاق بالنسبة لك هي جزء أساسي من الفن؟
فاتح: الأخلاق هي سلوك مع خلايا اجتماعية. السلوك الجمالي كما أسميه. الفنانون الجميلون هم قلة وإن وجدوا فكل حركة يومون بها حتى وإن لم يرسموا هي فن. أي البحث عن الإنسان القوي النظيف.

أدونيس: جيد. إلى من تشعر بأنك أقرب: إلى فنان قوي يناقضك، أم إلى فنان ضعيف يقلدك؟
فاتح: أرفض الاثنين.

أدونيس: من هو الفنان من معاصريك، الذي رأيت أحد أعماله وتمنيت أن تكون أنت من أنجزه؟
فاتح: لا. أرفض الجواب على هذا السؤال.

أدونيس: عزيزي فاتح، سأبدأ سؤالي الأول عن اللوحة. إذا اصطلحنا اصطلاحاً بأن للوحة موضوعاً، وسمينا هذا الموضوع شيئاً. ما هو الموضوع الذي ترسمه في هذا الشي؟
فاتح: من هذا الشيء...

أدونيس: أو فيه أو منه.
فاتح: إذا اعتبرنا أنه من الموجودات الصلدة في الطبيعة المادية أو الأشياء، وإذا اعتبرنا اصطلاحاً أو تجاوزاً أو حقيقة بأن الفكر مادة، فإن الفكر هو أيضاً شيء. نحن معشر الفنانين والأدباء والشعراء نؤمن شئنا أم أبينا بأن الفكر يُنتج مادة غير ملموسة طبعاً، ولكن الفكر يلمسها، فليست كل الأشياء تُلمس باليد أو بالحواس الخمس. الفكر له حواسه، له وسائله. فرسم شيء تراه بعينك هو في الواقع ما تراه بعين عقلك. أي لا تراه بيولوجياً، بل بفكرك. أنت تستطيع أن ترى وجه أمك الغائب بفكرك، حتى بتفاصيل لم تكن موجودة في الحياة، الخ. فسؤالك عن هذا الشيء الذي أرسمه، أنت لم تحدد فيما إذا كنت أراه بعيني أو بعين عقلي وهذا شيء جيد. بشكل أوتوماتيكي بالنسبة لي، يتناول الفكر هذا الموضوع ويثبت بعض المعالم، أو لنقل يثبت مادة الكونكريت، أو باللغة المعمارية مادة الهيكل البيتوني. طبعاً ليس هنالك هيكل بيتوني. أوتوماتيكياً، يُكون العقل شكلاً آخر، شيئاً آخر عن الذي تراه. طبعاً ليس لدى جميع الناس الوقت ليقولوا إن الذي بذهني يختلف عن الذي أراه. لا يأتيك صديق ليقول لك أنت أدونيس بذهني غير الذي أراه، مع أن أدونيس الذي بذهنه يختلف عن الذي يراه كلياً، من الممكن أن يكون هنالك شبه بمقدار 2 إلى 3% بتثبيت هذه العملية أيضاً هو بداية نشاط فكري جديد لتكوين الهيكل الذي من الممكن تكوينه أحياناً في ثانية أو ثانيتين، وأحياناً يغلق على الذهن ومن العبث البحث فيه. جدلاً، أن هنالك صحواً ونشاطاً ومحاكمات وصلت إلى المرحلة الأولى. المرحلة الثانية هي تثبيته بمادة كعنوان أو كمعمار. هنا تعمل ميكانيكية من نوع آخر حيث يدخل هنا ما يشبه المهندس. هذه المرحلة هي جدية أكثر لأنك تعكس على الورق أو القماش الشيء الذي تراه أمامك، ربما كان فلاة، سماء، طبيعة. هنا يتم تثبيته.

فاتح وأدونيس

أدونيس: قبل أن نتكلم عن التثبيت، هذا الشيء الذي اصطلحنا على تسميته بالشيء، أو بموضوع اللوحة، حين لا تستنفذه العين، أي الرؤية، العين المجردة لا تستنفذ أي شيء مهما كان بسيطاً...
فاتح: ماذ تقصد بـ تستنفذ؟

أدونيس: أي لا تحيط به العين المجردة، فإذاً لا بد من عين أخرى مع هذه العين، هذه العين الأخرى كيف تنسجم أو تتناغم مع العين البصرية. أي يوجد بصيرة ويوجد بصر، اللغة العربية جميلة جداً بهذا المعنى.
فاتح: فعلاً إنها جميلة...

أدونيس: فإذاً البصر لا يكفي وحده ولا بد له من بصيرة لكي يحيط، نسبياً حتى، بالشيء، لأن الشيء لا يستنفذ. كيف توحد، أو ما هو الشيء الذي يصل بالنسبة لك بين البصر والبصيرة؟
فاتح: فهمت عليك تماماً. سؤالك واضح. هنالك في العالم الإنساني أشياء اسمها التحول أو الرؤية من جديد، أو التجديد. هنالك أناس مارسوا هذا النشاط، تجديد الأشكال، تحويل الأشكال. ربط الشكل الموجود، لأنه موجود ولا داعي لتثبيته مرة أخرى. نحن لا ننتج وثائق موجودة سلفاً في الطبيعة، نحن ننتج عوالم جديدة. هذه المهمة يا أستاذ أدونيس تمارسها أنت كذلك كل يوم في حياتك لأنك تكتب بلغة جديدة وصور جديدة ومشاعر ذاتية جداً تختلف عن الآخرين، وإن كان هنالك محور ضخم يرتبط بالعالم، إن كان في العالم العربي أو في العالم الخارجي الذي يضم المجموعة البشرية. فهذه المهمة، أن يكون الشيء الذي رأيته إما بعينيك أو بعينيك الأخرى، أن يأخذ شكلاً جديداً. ما هو هذا الشكل الجديد؟ ما هي قيمته، ما هي فائدته؟ ليس له أي قيمة ولا أي فائدة ولا أية أسئلة. هذه مهمة العقل الأساسية، أن يحول العالم، يحوره، يغيره، يضيف إليه شيئاً من ذاتيته إن كان يوجد شيء. ولكن يا ترى، أسأل نفسي سؤالاً، هل هنالك شيء من العبث؟ هل هنالك البحث عن الفائدة؟ نعم يبحث العقل عن فائدة العقل. ولكن يبدو أن كل هذه الأسئلة لا تعطي أجوبة. الإنسان بني هكذا، ولكن الناس يتغاضون عن هذه الحقيقة. وهم يرون الأشياء ليست على ما هي عليه إطلاقاً. وهنا ترى أيضاً المصائب التي تصيب البشرية من جراء هذه الطاقة العجيبة عند الإنسان. ترى القتل، والظلم، ترى تفسير المأساة، ترى الحبور الذي يصيب المتفرج من هذه المأساة. وهذه طبعاً إشارات تدل على وجود خلل في التكوين التصويري للتعامل مع الحياة نحن نعيش في بحر من الأخطاء، وإن إدراك أخطاء هذه الشوربة التي يسبح فيها العقل البشري يحتاج إلى رقابة شديدة العدالة، وهذا مفقود. فالعقل البشري لا يفهم العدالة، ولذا لم يفهم الجمال. إن فهم الجمال هو مشكلة كبيرة جداً. لا أزيد على ذلك لأن المجال متشعب جداً...

أدونيس: لكن حين تعطي شكلاً لأحاسيسك وشكلاً لمشاعرك وأفكارك، حين تعطي شكلاً مجسداً بألوان وبتركيب معين، أي صورة أخرى، فأنت تجدد معنى العالم بإعطائك هذا الشكل الجديد للشيء الذي ترسمه، أنت تعطي صورة جديدة للعالم الذي تعيش فيه عبر لوحتك...
فاتح: صحيح.

أدونيس: إذا كان هذا صحيحاً، فإذاً معنى العالم لا يتجدد إلا إذا تجلى في صور جديدة. ولذلك فللشكل من هذه الناحية أهمية كبيرة، لأنك لا تعرف أن ترى تجدد العالم إلا عبر أشكال، فأي معنى لا بد له من أن يتجلى في صورة.
فاتح: حسناً ما قلت. لبلوغ الاتصال بالعالم عن طريق نية التجديد وهذا ما أسميه الإبداع، يمر بمرحلة أساسية ورائعة. إن هذا الإنسان الذي يعمل في حقل الجمال أو الإبداع الفني، لا أسميه الجمال بل أسميه العمل التجديدي، هو ابن أرضه أولاً، وابن جغرافيته، وقد مرت عليه شروط هائلة وكونته. فإذا استطاع أن يتداول هذه المادة أولاً سهل عليه كثيراً الاتصال بالعالم الأبعد، أي الحلقة الثانية. مثلاً أنت سوري، لبناني، فأنت تنتج أشياءً من صلب المشاعر السورية أو اللبنانية. إذا لم تمر بهذه المرحلة الجغرافية الدقيقة، لأن هذه تفسح لك المجال للغوص في ما يسمى بمطلق الحساسية. شرط أساسي. طبعاً نحن نقول مطلق الحساسية، ولكن هل هي موجودة؟ هل هي سهلة التداول؟ هذا بحث آخر. فلكي تتكلم مع الحلقة الأبعد، مثلاً أنت تسافر إلى فرنسا أو إلى اسكندنافية أو أمريكا اللاتينية. إذاً يوجد أطياف أخرى لصيقة بشكلها الخام بالطيف الأول، أي المحيط الجغرافي الأول، البيئة. فالأشكال ثبت حتى الآن، إن كانت أدباً أو عمارة أو تشريعاً تبدأ بالبيئة الجغرافية، بدراستها بتعمق شديد وبإخلاص، ثم نستطيع أن نحاور العالم الخارجي. هذا البحث أقوله للمرة الأولى من ناحية استخدام المادة في صناعة، كلمة صناعة غير جدية في عطاء إنساني ذي قيمة. نحن بحاجة شديدة جداً للعطاء العادل، لأنه يبدو أن الإنسان قد فقد كثيراً من لحمه وأصبح هيكلاً عظمياً.

من أعمال فاتح المدرس

أدونيس: جيد. الآن وعلى ضوء تاريخ الأشكال واضحة جداً، أي إذا فهمت وجهاً بشرياً وكان شكل هذا الرسم واضحاً جداً كالوجه الذي تفكر فيه أو الذي تراه أمامك. الوضوح هو ما يجعل الأفق مغلقاً أمام الوجه الذي ترسمه. أي إذا ما قارنت بين منحوتات الوجه السومري والوجه اليوناني.
فاتح: يوجد اختلاف.

أدونيس: أنا أرى من جهتي، ولا أعرف إن كنت توافقني، أن الوجه السومري لأنه غامض الملامح هو أقرب إلى عمق الوجود والحياة من الوجه اليوناني الشديد الوضوح والبارز الملامح الذي يشبه الواقع.
فاتح: هذا صحيح.

أدونيس: ما السر في أنه لكي يكون الشكل أكثر تعبيراً أو أكثر وضوحاً بمعنى ما يجب أن يكون غامضاً. غامضاً بمعنى غير محدد القسمات كما نراه في شكل الوجه اليوناني؟ إن كنت توافق على كلامي.
فاتح: أنا موافق، لكن لدي تفسيراً آخر له. عندما ترى وجهاً سومرياً بعينين كبيرتين وفيه عاج وخرز وبهذا الأنف، فإن هذا الوجه يحتوي على الكثير من الأخطاء التشريحية رغم جمال البدائية الموجودة فيه. متى جاء جمال البدائية الموجودة فيه. متى جاء جمال البدائية؟ دخل الفن الحديث في أوائل هذا القرن، ولم يكن معروفاً من قبل...

أدونيس: أي أن الفن السومري أساس الحداثة أكثر من الفن اليوناني.
فاتح: هذا هو. أي أصبح القميص...

أدونيس: الفن السومري أو الإفريقي..
فاتح: القميص الذي لم يلبسه أحد بعد رفضه من الفن اليوناني...

أدونيس: أو الروماني.
فاتح: أو الروماني. الفن اليوناني أو الروماني له مقاييس تشريحية يعتقدون أنها متكاملة، فوقعوا في شروط مسبقة الصنع. بعد عشرات القرون رفض هذا في الفن الحديث. فقالوا نحن لا نريد الصورة الموجودة في الطبيعة، لأنها موجودة سلفاً، بل نريد الصورة ذات العطاء السيكولوجي. وما هو العطاء السيكولوجي؟ أن ترسم أشياءً بعيدة عن علم التشريح؟ لا، لا أريد أن أرسم أشياء بدائية مغلوطة. لا، لكن هنالك ما يسمى بالشكل الثاني للوجه. ما هو الشكل الثاني؟ أن يكون مرسوماً بعقل غبي؟ لا، فعندما رسم بيكاسو وجوهه لم يكن غبياً. أيضاً عندما رسم النحات الآشوري وجه نبوخذ نصر لم يكن غبياً. الفنان الآشوري وضعه؟ أما بيكاسو فقد حطم الشكل الموجود، رفضه، قال لست بحاجة إليه، أنا أرسم وجوهاً تحمل الكثير من المعاني، النقد، السخرية. بنية إقفال الوجه كله. للوصول إلى تكوينات بصرية ذات تناغم أو تضاد هرموني. أي أنه فتح باباً على ساحة مجهولة. هي ليس مجهولة، نسميها ساحة الشجاعة في تغيير العالم، ولو كان ذلك على حساب التغاضي عن قيمة البراعة. البراعة يا أستاذ أدونيس في العمل الفني ليست فناً.

أدونيس: إذاَ نستطيع أن نقول إ الفنان الحقيقي حينما يرسم وجهاً أو شجرة لايرسم الوجه المرئي أو الشجرة المرئية، وإنما يرسم وجهاً داخل هذا الوجه يراه هو، ويرسم شجرة داخل هذه الشجرة يراها هو، والذي أسميته أنت بالشكل الآخر.
فاتح: أنا فهمت مما قلته من لحظة يا أدونيس أنك تعطي تفسيرات لشعرك...

الدراويش لفاتح المدرس

أدونيس: لأنه توجد علاقة قوية بين الشعر والرسم.
فاتح: لأنك تصف ميكانيكية شعورك. هذا صحيح. أنا كمصور موافق على هذه المقدمة. ترسم الشيء الموجود داخل الشجرة وليس الشجرة. أنا أقول ترسم الشجرة الجديدة...

أدونيس: الشيء نفسه...
فاتح: هو نفس الشيء ولكنه يدخل بين الصورة البصرية، وعندك أنت الصورة الذهنية. فحتى هنا يوجد اختلاف شديد.

أدونيس: أخبرنا عن وجوه الاختلاف.
فاتح: وجود الاختلاف ضروري بين الشاعر والرسام. فالشاعر لا يحرم الوجود من الفلسفة، ولكنه يضع فلسفته بشكل لطيف جداً. بينما الرسام يشطب على الفلسفة ويريد أن تكون كحارس لا مرئي خلف اللوحة...

أدونيس: والشعر الحقيقي يجب أن يكون هكذا.
فاتح: أنت رجل يفهم البنية الفلسفية المرهفة، ولا نقول لغة التخاطب، فأنت لا تتخاطب بلغة الناس، بل تعطي وجوهاً للتواصل. لا تعطي كلمة، ولا صوت، بل تعطي وجوهاً للاتصال، وتداولها ممكن بأي قدر بسيط من النباهة. فقضية الجمال مرفوضة آنياً في الفن أي أن كلمة الجمال مرفوضة. وكلمة الجمال هي شيء آخر، فأنت ترسم خطاً بقلم رفيع، ثم تلقي بالقلم، وتنظر إلى هذا الخط وتتساءل عن مدى الحساسية الإنسانية في هذا الخط الذي ليس له جمال ولكنه موجود.

أدونيس: أنت أيضاً، حين أرى الوجوه والتكوينات الموجودة في لوحاتك إجمالاً، هذه التكوينات مع أنها ظاهرياً تردني إلى مرجعية في الواقع، لكنني عندما أتعمق فهي تردني إلى واقع آخر داخل هذا الواقع. لا تردني إلى وجوه مرئية، ولكن تردني إلى احتمالات وجوه، إلى احتمالات تكوينات، ولكنها موجودة في الواقع. أنا لا أقرأ في لوحتك الواقع كما هو وكما نعيشه، وإنما أقرأ احتمال الواقع الأجمل والأفضل الكامن في هذا الواقع نفسه.
فاتح: شكراً لأنك تقول أجمل وأفضل، أصلاً هذا الكلام فيه الكثير من التفاؤل. فسحب مفاهيم ومشاعر جديدة من العالم السري الذي هو على بعد أمتار منا ـ ولكنه عالم جديد ـ كأنك تخترق جداراً بخفة وتنطلق إلى عالم جديد. الفكر البشري يتوق إلى هذا العالم، وبقدر ما يمتح منه الفنان أو العالم أو الأديب أو الشاعر يستطيع أن يمنح العقل البشري ذلك الحس بالأمومة، بأنه فعلاً ابن هذا الرحم الكبير السري الموجود على بعد متر منه، ولكن هنالك جدار لا نستطيع بسهولة أن نخترقه. فثمة جهد يبذله المبدع لاختراق هذا الجدار الإطلال على هذا الفراغ الذي يشبه كثيراً فراغ الكون. نحن نشبه الكون كثيراً ولا بد أن نشبه لأننا من مادة الكون. فهذا السلوك العقلي عند الإنسان أظن أنه من أنبل أنواع السلوك وهو الذي بحث عنه فيما مضى الأنبياء، نجحوا أم لم ينجحوا ليست مهمتنا نحن.. ولكنهم بحثوا عنه.

أدونيس: إذاَ نستطيع أن نقول يا أستاذ فاتح أن الرسام كالشاعر لا يرسم الشيء بحد ذاته وإنما علاقته بهذا الشيء أو يرسم دوافعه وحواسه تجاه هذا الشيء، لا يرسم الشيء، هل أنت موافق على هذا؟
فاتح: موافق.

أدونيس: إذاَ نحن لا نصل إلى حقيقة العالم أو حقيقة الموضوع أو الشيء كما اصطلحنا عليه بأن نعكسه بشكل مرآتي أو بشكل فوتوغرافي، وإنما نصل إلى حقيقة هذا الشيء بتكوين تشكيلي أو كلامي أقرب إلى الحدس، أقرب إلى سديمية هذا الشكل، وكأن طريقنا إلى الحقيقة ليس الحقيقة وإنما المجاز. نصل إلى الحقيقة عن طريق المجاز.
فاتح: ماذا تعني بالمجاز؟

أدونيس: المجاز، أي نرسم ما يشبه هذا الشيء، نرسم العلاقة بيننا وبين هذا الشيء، نرسم الجسر الذي يصلنا بهذا الشيء، ولا نرسم الحقيقة كما هي، أو الشيء مرئياً كما هو.
فاتح: فهمت من مجمل تساؤلك، أن الإنسان يتعامل مع مادتين، المادة الشيء الملموس إن كان حياة الشارع، مأساة أو فرحاً... مادة ملموسة. ويتعامل أيضاً مع ما يشبه المادة، وهذا ما سمي بالفيزياء بالمادة المضادة، أي ضد المادة...

أدونيس: Anti-matière.
فاتح: بالضبط. وهذا الإنسان هو الذي يصنعها، ربما كانت موجودة في الطبيعة فيزيائياً ولكن لم يثبت ذلك بعد. يقولون إنه يوجد كون آخر مؤلف مما يشبه متوازية للمادة، ضد المادة، ولكنه يشبهها. فتحويل المادة إلى لا مادة هو من أحلام الإنسان في تكوين عالمه، وخاصة اللبنات الأولى في ميكانيكية التحكيم عنده، أنا لا أستطيع أن أحكم على صواب المادة جمالياً أو خطئها أو فسادها أو فائدتها النفسية أو المادية إلا عن طريق التجميل العقلي للأشياء. وهذه الوسيلة استخدمت سيكولوجياً في الإعلام التجاري، العالم يستعملها حالياً ولكن هذا ليس بحثنا، بحثنا أبعد من هذا. نحن نبحث عن ميكانيكية البناء الستاتيكي للعاملين في هذا المجال الذين كرسوا حياتهم من شعراء وأدباء وفنانين ومشرعين ومهندسين، كرسوا حياتهم لعطاء له علاقة بوحدة الوجود بين الإنسان والكون. طبعاً هذا كلام صعب قليلاً ولا يقبله جميع الناس ويتهيبون منه، مع أنه موجود منذ الخليقة، الوحدة رغماً عن ضوضاء الكون وفوضاه هي وحدة موجودة، وحدة عضوية، فيزيائية محضة. لكن الإنسان تجاوز المفهوم الفيزيائي إلى عوالم في منتهى الجمال، ولكن ماذا تعمل في عالم يحول مادته، في عالم صعب جائع يحول المادة النبيلة إلى غائط. ما قولك في هذا؟ شيء مؤسف أليس كذلك؟ أنا آسف للكلمة البذيئة.

من أعمال فاتح المدرس

أدونيس: لا، يجب أن تقول كل ما تشعر به.
فاتح: آسف، لكنني أراه بعيني. مثلاً قضية الطعام. قضية استهلاك المواد النبيلة في الطبيعة، مثلاً تأخذ الحجارة أو الملاط وتبني بيوتاً للجرذان. فالبشر يسكنون الآن بيوتاً ليست بأفضل من بيوت الجرذان، 70 بالمائة من العالم مسكين، يسكن كما تسكن الجرذان، وكما تأكل الجرذان، ويحول مادة في منتهى الجمال أو النظافة إلى منتهى القذارة، فالعمل في محيط من هذا النوع له صعوبته، ويستلزم الكثير من الضغط على النفس للاستمرار ليس في عملية تجميل العالم، بل عملية ترميمه، مع الأسف.

أدونيس: لننتقل إلى نقطة أخرى مرتبطة بهذا الشيء. إذا اتفقنا أن الشيء أوسع وأغنى من أن يستنفذه شكل ما مهماً كان عظيماً وجميلاً...
فاتح: هذا من مهمة الشاعر أكثر من الرسام...

أدونيس: وحتى... هل تستطيع أن تقول مثلاً أن هنالك لوحة استنفذت الوجه البشري أو وجهاً ما. من الصعب قول هذا الشيء.
فاتح: لا، هذا صعب.

أدونيس: إذا اتفقنا على أن أي شيء أغنى وأوسع من أن يستنفذه شكل معين، فمن الممكن أن نفترض أنه جاء فنان آخر وعبر بالرسم أو بالكلام عن الشيء نفسه الذي رسمته أنت قبله أو بوقت معاصر. إذاً أعطى للشيء نفسه شكلاً آخر غير الشكل الذي أعطيته أنت. موضوع واحد مثل الموت، مثل الحب، مثل شجرة في الطبيعة، إلخ. أين هو مكان التقويم بالمقارنة بين التعبيرين؟
فاتح: لقد فهمت من سؤالك يا أستاذ أدونيس أنك تعطي قيماً كريمة للمادة التي هي الشيء الذي يتداوله الفنان نتيجة إعطائه مجالاً لقيم أكبر. هذا صحيح. أي إذا تغاضينا عن أن كل إنسان يعطي قيماً مغايرة قليلاً أو كثيراً للأشياء، عملية الإغناء هذه موجودة ومهمة جداً. تبقى الجسور الموجودة ما بين الكائن البشري إن كان بحواسه الخمس أو بحواسه العقلية مع الشيء. إن كان الشيء إنساناً أم طبيعة أم نظرية هندسية أم شكلاً صناعياً. في هذه الجسور هنالك قاسم مشترك أصغر أو قاسم مشترك أكبر، هذا واضح. لكن ما يهمني أولاً أن مجال المقارنة أولاً مرفوض لأن من قيم الإنسان أن يعطي أحكاماً مخالفة لأحكام إنسان آخر، ولكن بحدود. مثلما قلت لك عملية إغناء الشيء، هذا كأساس إذا قبلناه جدلاً وكان كلامك صحيحاً، ولكنني أعود وأصر على عامل إضافة قيم فكرية جمالية للأشياء التي تشكل العالم. أي ميزان يستطيع أن يزن هذه التفاصيل أو هذا التكامل أو هذا التطرف في إعطاء القيمة أو بخسها؟ هذا الميزان من جماليته أنه غير موجود، وإن وجد فهو يستعمل بشكل خاطئ، وهذا أيضاً جميل، من جماليته أنه يستعمل بشكل خاطئ لأنه تظلم هنالك معارك لطيفة جداً بين العقول وهذا موجود في الفن، ولذلك لم يتطرق النقد الفني إلى هذه النقطة: أن التباين في إطلاق الأحكام على العمل الفني الذي صنع من قبل إنسان «س» واختلافه بالنسبة لإنسان آخر. لا أستطيع أن أستفيض في شرح هذه النقطة لأنني مسؤول عن نفسي.

أدونيس: إذاً دعني أوضحها أكثر. آخذ مثلاً بسيطاً. لنفترض أن فنانين حولا هذا الشيء الذي أمسكه بيدي إلى تشكيل جمالي، لوحة، أو مثلاً خذ موضوعات ذهنية كالثورة الفلسطينية مثلاً، هنالك العديد من الشعراء كتبوا عنها... وقارنا بين هذين العملين للشيء نفسه، فأين يكون مكان التقويم، في الشيء نفسه، أن في التعبير عنه؟ في الثورة الفلسطينية أم في التعبير عنها؟
فاتح: فهمت عليك. تشكيلياً الشكل الأساسي المرسوم مرفوض لأنه موجود. هذا الفنجان موجود ومن العبث أن ترسمه مرة ثانية، ولكنك استغليت تكوينه في مساحات أو غرافيك معين أو لون معين كنوع من أنواع المؤثر البصري. فوجود عملين لشكل واحد من قبل فنانين مختلفين، أنا أعتقد أن الحكم يعود إلى قوة الإثارة البصرية تشكيلياً فقط. هذا من ناحية الرسم. أما أن ترسم معركة ما بين أطفال الحجارة وما بين الجيش الإسرائيلي في لوحة فهذه قضية لها منحى آخر. فاستعمال رموز لونية ورموز غرافيكية من دون أي موضوع تصبح التسمية خطأ، لأنها تنقل الـ Fact المأساوي للثورة الفلسطينية بلوحة ذات معطى بصري خالص لا يحتمل أي فلسفة ولكن من الممكن أن يمنحك جزءاً بسيطاً جداً أنت تصنعه من رؤيتك للمأساة وترجمتها لوناً وغرافيكاً. أما الشاعر الذي يستعمل مجردات ذات مغزى، شعر العقل بمأساتها وصورها بذهنه، قضية الدم والقتل والظلم والوحشية الموجودة في الموضوع. فالحرية المعطاة في الشعر غير الحرية المعطاة للرسام، هنا يبدو واضحاً الاختلاف الشديد ما بين العاملين الفنيين، الشكل ورفضه لقبول أي معنى لفظي وبين الشعر. يا ترى هل يمكن الشعر أن يصل إلى مفهوم المجرد التصويري؟ ممكن، وهذا السؤال مطروح عليك أنت.

المسيح لفاتح المدرس

أدونيس: من الممكن أنني لم أحسن التعبير... أقصد أنه عندنا في المجتمع العربي، كي أبسط الأمور أكثر، يوجد إلحاح على الموضوعات، أي على الأشياء، كما اصطلحنا عليها، أكثر من الإلحاح على مستوى طرق التعبير...
فاتح: هذا خطأ.

أدونيس: بالضبط. وتقوم الأعمال الفنية سواء كانت فنية تشكيلية أو فنية كلامية شعرية بحسب موضوعاتها لا على مستوى طرق التعبير.
ولذلك أسألك أن التقويم...

فاتح: التقييم.

أدونيس: لغوياً التقويم، ولكن الشائع هو التقييم، أي إعطاء القيمة. القيمة تنبع لا من الشيء نفسه وإنما من تشكيله الكلامي أو اللوني. إذا كنت موافقاً على هذا... أي أنه في النهاية لا قيمة للموضوع في عملية التقويم، سواء أكان الموضوع الثورة أم الفقر أم السماء أم الفنجان أو أي موضوع آخر.
فاتح: لقد سبقنا غوته بزمن بأنه أعطى القيمة الفنية للشكل سواء كان ذلك في الأدب أم في التصوير. أي القيمة الكبرى للشكل،اللباس الذي يرتديه العمل الفني، إن كان في الأدب أم في الرسم. فأرى هنالك مأزقاً، هل يستطيع الرسام أن يصور مأساة تقع كل يوم بكل موادها؟ وإذا فعل ذلك هل يستطيع أن يبلغ حجم المأساة؟ الذين يستعملون الكلمة نصف الطريق محلول لديهم، ولكنني أظن أن الفنانين التشكيليين محرومون من ذلك. أي تحتاج إلى الكثير من التنازلات في مفهوم طهارة الشكل، الشكل كتجريد بصري، وحتى الآن لم تحل هذه النقطة عندنا، عند المصورين. إلا إذا استعملت أشكال آدمية أو حيوانية.

أدونيس: اللوحة مثل القصيدة، أليس للقصيدة عمق، بعد عمودي، من الممكن للوحة أن يكون لها بعداً عمودياً، ومثلما يوجد في القصيدة إيقاعات وموسيقى، من الممكن أن يوجد في اللوحة إيقاعات وموسيقى. ومثلما القصيدة فيها أفق غامض وراء الكلمات، من الممكن أن يكون في اللوحة آفاق غامضة وراء الأشكال أو الألوان. تقرأها وإذاً، أعود فأقول إن القيمة ليست فيما تفصح عنه هذه الأشكال، وإنما فيما توحي به.
فاتح: لكي نصل إلى جواب مقنع، لدينا أمثلة تمت في أواسط هذا العصر، منها لوحة غيرنيكا لبيكاسو، إنها لوحة وطنية ومأساوية ومهمة جداً، لكننا نحن الرسامين ننظر إليها بصفتها عملاً تشكيلياً محضاً لا علاقة له لا بغيرنيكا ولا بشيء. قيمتها تأتي من تحطيم الأشكال والوصول إلى المؤثر البصري. يعني يكاد يكون بين الكاريكاتير والبهلوانية والبراعة في لصق أوراق الجرائد. أي أن قيمة عمل غيرنيكا هو في قيمتها الفنية الخاصة، أي في تحويل المادة إلى لا مادة أنتم الشعراء حظكم أقوى من حظنا، فبكلمة واحدة أو كلمتين تستطيع أن تحصل على عشر دزينات من الصور. عالم الكلمة واسع، أما الشكل البصري فهو تعس.

أدونيس: إذاً لا يمكن أن يكون العمل نتيجة لذلك جواباً. العمل الفني هو سؤال دائم. لا يمكن أن يقدم أي جواب. هل من الممكن أن نصل إلى هكذا نتيجة؟ هل توافقني؟
فاتح: أنا أوافق.

أدونيس: وكل عمل فني يقدم نفسه على أنه جواب عن مشكلة، لا يكون عملاً فنياً، وإنما...
فاتح: يحد نفسه، تحديده يقتله، يقصر عمله الفني.

أدونيس: تماماً. يكون جواباً أيديولوجياً قاصراً. وإذاً نخلص من هذا إلى القول بأن اللوحة أو القصيدة ليست فيما تقوله وإنما هي في طريقة قول الشيء الذي تقوله.
فاتح: إن الجسر ما بين اللوحة نفسها والمتلقي، ليس الفنان نفسه بل الزائر لهذا العمل الفني، إن لديه مطلق الحرية في أن يترجم ويحور، نحن لا نتدخل. ولكن المفروض أيضاً مشاركة المتلقي بمعطيات التحديث في بناء الشكل. التحديث ضروري جداً لأنه خطوة إلى عالم جديد. خطأ، صواب، ولكنه خطوة إلى عالم جديد. الاتجاهات الفنية في أوروبا الآن لا يهمها إن كان يسير في اتجاه خاطئ أم لا. المهم التجديد الذي يقوم به عقل بشري يعيش في عام 1998. هذا أمر هام جداً.

أدونيس: ننتقل إلى نقطة أخرى مرتبطة بهذا الشيء. إذاً الوجه في الرسم الإيطالي، لنقل وجه الموناليزا مثلاً، والوجه عند بيكاسو. الوجه عند بيكاسو محطم ملغى، ولكن يوجد تقاطيع غير قائمة على أسس تشريحية، والآخر قائم على أسس تشريحية. فإذاً هنالك تناقض مطلق في التعبير عن الوجه البشري. لماذا نقبل هذا التناقض فنياً ولا نقبله فكرياً. لماذا التناقض في الفن مقبول والتناقض الفكري غير مقبول؟
فاتح: لقد شعر العالم أن وجه الموناليزا هو وجه سقيم وتافه وعادي جداً، ولكن دوماً الإنسان يمنح الأشياء ثوباً لا مادياً. هذا من جمالية الإنسان وتعاطفه مع ما يمسى الفن. أما الحقائق المفروضة من ميكانيكية العصر بأن معطيات الماضي هي خط يفصل في المفاهيم التي تسعى بشكل حثيث إلى تجديد العالم، أعطت بيكاسو الحق الأول بأنه إنسان يريد تخليص الشكل من معناه... الحقيقة هنالك أناس قبل بيكاسو، نحن نعطي بيكاسو كمثل.

أدونيس: بالطبع يوجد تجريديون حتى في عام 1880... حتى قبل، في العالم القديم كان يوجد هكذا موقف.
فاتح: نعم. فهل يحق لنا القول إن دافنشي قصر أو أساء. كلا. كون المفاهيم التشكيلية كانت ذات حرمة معينة ومقاييس جمالية معينة، الخ، أي أن الإرث البشري له احترامه. ولكن يوجد أيضاً مع الأسف العديد من الفنانين الذين يعدون عبادة الماضي عبءً على أكتافهم. أنا أشك أن فناناً حديثاً فرنسياً يقف لثانيتين أما لوحة دافنشي. وهذا خطأ، ولكن أيضاً من خلق البشر.

أدونيس: إذاً أنت كفنان وأنا كشاعر، وأنت كشاعر أيضاً، ممكن ويجب أن تحب فناناً آخر، تحبه أو تعجب به، لا أعرف، يناقضك في اتجاهك الفني. أي قد تجد فناناً متناقضاً تماماً مع اتجاهك الفني وتراه جميلاً، بينما إيديولوجياً أو فكرياً يظل بعيداً عنك وتلغيه. وبهذا المعنى، الفن يوحد حتى في تناقضاته البشر، بينما الفكر وبشكل خاص الإيديولوجي يجزئ بينهم ويقسمهم. باختصار، وكأن العقلانية والفكر العقلاني ليسا ضد الفن، بل ضد الإنسان في إبداعيته الأخيرة.
فاتح: إن العقل البشري خبيث جداً، ثلاث أرباع قاذورات، لأنه يقتل، يسرق، يكذب، يسجن، يُفقِر البشر. العقل البشري هو ماكينة ليست محترمة جداً، وكل جزء منها جميل. يوجد جزء بائس في العقل البشري، من الممكن أن يكون عاطلاً عن العمل، ولكنه موجود. سؤالك عن فنان من العراق مثلاً ـ نأخذ بلداً عربياً لأن مشاكلنا الجمالية متشابهة تحت قبة مشتركة تختلف عن تلك التي يعالجها الفنان الفرنسي أو الألماني. إذ ثمة اتصال هائل بيننا في رؤية العالم بهذه العين الحزينة ـ هنالك فنانون جيدون في العراق وفي تونس وفي السودان، وهنالك نقاط ثقل حساسية بيننا في العمل التشكيلي، أنا أتكلم عن الرسامين. الشعراء، تتكلم عنهم أنت. فانا أشعر بنوع من الجار الحسن، النبيل، الذي يسكن بجانبي وأرحب به. وأنا أعتقد أنه كلما كثر هؤلاء الناس كانت الدنيا بخير. لأنه كما قلت لك إن اضطرار سواد الناس إلى تحوي المادة إلى قاذورات هو شيء متعب. لقد أصبح العالم مقرفاً ولاتستطيع أن تهرب منه، لأنك غاطس إلى ركبتيك فيه.


من كتاب فاتح وأدونيس: حوار
من صفحة 63 الى 84
غاليري أتاسي - 2009


كتاب: فاتح وأدونيس: حوار

اكتشف سورية

Share/Bookmark

مواضيع ذات صلة:

اسمك

الدولة

التعليق