كيفورك مراد في صالة رفيا

12 06

تراب وكنز تحت قشرة اللون الاصفر!

كحصان عربي أسود يمخر بياض اللوحة، منتشياً برائحة الأرض، فيدور كنهر فراتي ملتفاً ومطوقاً راقصة الأسرار، هذه التي تحمل جرة وتسكب ألوانها بيادراً في عيون ولهى برائحة الأرجوان ونقوش النجوم على غبار الصحراء الأصفر، أرض لها ملمس وجه الحبيبة الأولى، ما أن تمتد يديك إليه حتى تسمع ترنيمة تتردد مطراً مع أول غيمة، ليسقط المطر تبراً بعدها، فتطفق طيور الليلك تغني جورياً، عند قامة بل، ويرفل الياسمين بقصيدة عطر.

«اكتشف سورية» التقى الفنان كيفورك مراد وكان هذا الحوار رحلة على ضفاف الفرات والقلب.

أصولك الأرمنية تبرز في لوحاتك بإيقاعها التعبيري بحثاً يعود فيها للجذور، فتكون الكتلة البشرية مشهداً حنينياً من الذاكرة، هذا التقطه في لوحاتك ولكنه لا ينفصل عن ذات المحتوى التعبيري العربي فكأنك تمزج بين الاثنين، متى نستطيع أن نفصل بينهما ومتى لا نستطيع؟

«قراءة أي كتاب تؤثر فيّ، أي قصة أي قطعة موسيقى تحكي عن الأرمن، عن التشرد والهجرة من مكان إلى مكان، تلقي أثراً، هذه الحركة هي التي تؤثر فيّ، أفكر فيها، يمتد الوقت وأنا أفكر، بعد هذا أبدأ بالرسم، أخرج إلى دائرة اللاوعي، تخرج الأشياء كبعض التطاريز على الألبسة أو بعض النمنمة على الأشكال فتكون أرمنية الامتداد لكن لا تستطيع إلا رؤية البعد السوري فيها، هذا يعبر عن تاريخ آت من المكان الذي كبرت فيه والذي هو سورية، الهجرة والتشرد كترسبات أرمنية موجودة، لكن عندما تنتهي اللوحة لا يكون هذا بمفرده، يكون متداخلاً مع باقي المفردات، ولا أستطيع تفريقهم، إذا حاولت أن أرسم بتعبير أرمني سيكون فيه شيء سوري، وإذا أردت أرسم تراثاً عربياً مشرقياً يظهر فيه بعد أرمني، أنا أتكلم عدة لغات فعندما أتكلم الأرمنية تخرج الكلمات العربية دون قصد، وعندما أتكلم العربية تخرج بعض الكلمات الأرمنية دون إرادة، أنا مزيج بين هذا وذاك، هذه هي شخصيتي، ولا يمكن الفصل!».


ثمة جو ملحمي من اختلاط الزمان بالمكان على فضاء بصري زاخر بحركية غرافيكية وتوشيحات لونية لها ذات النغمة تأخذنا إلى حميمية الذكرى المشتهاة، لتحدثني عن بقايا هذه الصور الذاكرية؟

«في أي لوحه أعمل بها أنطلق من فكرة الفراغ، ما بين خط وخط، ما بين نغمة ونغمة، تماماً كما الموسيقى، أنا أتأثر بهذا التفكير أثناء العمل، لأنه إذا لم يكن ثمة استراحة بين عنصر وآخر أو شخص وآخر، لا نجد لدينا التكوين والفراغ، لأنه ما بين شخص وشخص ثمة نافذة تفضي إلى البعيد، إلى الخيال، وهذا الخيال هو الذي يمنح المشاهد الرؤية والسؤال، لماذا هذه النوافذ الصغيرة التي تشبه الدوائر والنقط، تركيزي على هذا هو ذات التركيز على الأشكال أو الوجوه، وهذا يقوله الناس عندما ينظرون في هذه الفراغات إذ يقولون لي ثمة أشخاص هنا، نعم أنا أرسم لوحة داخل اللوحة عبر الفراغ، ويمكن أن تشاهد على هذا المثال لوحات كثيرة، إلا أن الفكرة جاءت من الفنان الأرمني العالمي أرشيل كوركي، إذ كان يحرص على رسم الفراغ بين الأشياء، مثل الفراغ بين الأشجار. أركز كثيراً على الفراغات بين الأشياء، مثل الموسيقيين عندما يتوقفون بين نغمة وأخرى، كإقلاع من درجة إلى أخرى أو من سلم موسيقي إلى آخر، هذا كله يعطي إيقاع الأسطورة أو الملحمة أو الحالة التي أريد التعبير عنها.


من أعمال التشكيلي
كيفورك مراد

الزمان متصل بالمكان له بداية ولا نهاية له، لذا نجد خط الأفق يؤكد على الأرض المكان، لكن الشكل العمودي هو خط التفكير المستمر إلى اللانهاية، من الماضي البارحة واليوم إلى المستقبل، أما بؤرة اللوحة فهي الحاضر، وهناك أيضاً ما تحت اللوحة وفوقها، حيث يستطيع المتلقي أن يكملها من مخزونه، أما فراغ اللوحة فهو كصحراء أو بحر تسبح فيه الكتلة، يكون بمثابة الخيال الحاضن لهذه الأشكال، أو الزمن أو الأرضية وهذا كله من الذاكرة لكنه نحن! الأشكال أو كتل الأشياء تأتي لتنهض فوق المكان في هذا الفراغ، كما نحن نقف على ارض هذا الفراغ، المكان الأرضي، أو المكان الزمني.

لوحتي تأتي من الماضي وأستقدمها للحاضر، ليستطيع المشاهد أن يأخذ من هذا الحاضر ولكن ليعود به إلى الماضي ليستطيع بناء على كل هذا رؤية المستقبل».

تعيش بعيداً عن سورية منذ أكثر من عشر سنوات، لكن لوحتك تتنفس جو الشرق كسحر وعبق، كتعبير ومفردات ولون، لكن موسيقاها السريعة الإيقاع والعالية هي ما تجعلها في المقلب الآخر، فهل أعتبر أن حضور لوحتك ونجاحها يأتي من هذا الرسم المختلف في مكان مختلف؟

«كلما ابتعد الفنان عن جغرافيا المكان يقترب أكثر من جذوره، وهكذا يعود ليقدر المكان أكثر وأكثر، وهو عندما يرجع لذات المكان فهو يرجع مستعداً ليعطي مجتمع هذا المكان، يكون مستذكراً كل التفاصيل التي لا ينتبه إليها الإنسان العادي من حركة الأشخاص في الشوارع إلى شكل الكلمات وحركات التعبير، عندما أسافر أسترجع كل هذا ويسهم في بنائي كفنان وتكويني كشخص وينعكس كمفردات في لوحتي، هنا الكثير من الحميمة والعفوية في التعامل، نحن عاطفيون وطبيعيون، في الخارج هناك الكثير من الحدود، حتى عند السلام يداً بيد تُفرض عليك حدود في التعبير، هنا الحدود مفتوحة. كلما جئت إلى سورية وجدت صعوبة كبيرة في الخروج منها.

عندما تركت سورية للدراسة في أرمينيا كان عمري 20 سنة ولم يكن لي نشاط فني باستثناء معرض غير احترافي في حلب، عندما كنت أدرس في أرمينيا بين عامي 1990 و1996 كان تركيزي ينصب على الدراسة الأكاديمية، بعد هذا دُعيت إلى أمريكا سنة 1998 لأطلع على حركة الفن هناك، سافرت بينما كنت أحضر للدكتوراه في الفن. عندما وصلت بدأت أكون نفسي دون أن أشترك بأي نشاطات، حيث ركزت على رسمي وصرت أتابع النشاطات فكانت مدينة جاز عاصمة نيو أورليانز مهمة بالنسبة لي، حيث تجد فيها الموسيقيين في الشوارع يعبرون عن أنفسهم بحرية، وبدأت أرسم وأنا أمشي في الشوارع، وأجوب المدن وأتفاعل مع كل شيء بتوق إلى المعرفة والتعلم، حتى وصلت إلى نيويورك، وفيها وجدت المكان الفني الذي يرفدني بما أحتاجه لأتكون فيه كفنان، ترحالاتي عبر مجموع الطرق التي سرت عليها كانت هي الخطوط الموجودة في لوحاتي، خطوطي في لوحاتي هي حركتي أنا، هذه الحركة وهذه الخطوط أخذتني لموضوعي أنا، وهذا ما يعطيني القوة، فهناك فنانون يعتادون إجراء طقوس بعينها ليستقدموا الإيحاءات إلى لوحاتهم، كنت أنظر في أمريكا ولم أشاهد هذه الإيحاءات، لأن الإيحاءات كانت موجودة في، أنا أستكشفها وما زلت في بداية الطريق».


من أعمال التشكيلي
كيفورك مراد

كانت معادلة العودة إلى الجذور لاستنهاض قيمها الفكرية والتعبيرية والإرثية والجمالية وصوغها في قالب تشكيلي حداثوي مطلباً حيوياً، يتلكأ الكثير من الفنانين في تحقيقه، أنت تفعل هذا كيف لي أن أفهم ما يدور في ذهنك حول هذا؟

«لنعود لفكرة العمل في المرسم التي تشبه طقوس التركيز على الأعماق والنفس الداخلية، أنا أجري هذا الطقس على القماش يومياً لأكثر من سبع ساعات، إذ أستحضر الحالة الداخلية وهي تتم بشكل عفوي، أبدأ برسم الخطوط التي تخرج بشكل غير واع إلى اللوحة عبر مفردات خطية عربية أو منمنمات أرمنية لتكون باباً إلى جذري، وكأن لوحتي تدعوني في كل مرة لمزيد من البحث والتأمل، وهذا ما أفعله إذ أواظب على زيارة الأجنحة الإسلامية والشرقية في المتاحف لأعرف أكثر حول الحرف العربي، السجاد، الحفر أو النحت، لأستمد من جديد من هذه الأفكار وأضيفها إلى لوحتي بما يسهم بصقل وتعزيز حضور اللوحة.

عندما يعمل الفنان يجد طريقه، أنا لا أعرف إن كنت أمتلك أسلوباً أم لا! لوحتي أهي جميلة أم لا، لا أعرف! أنا أرسم متعمقاً في روحي ولوحتي وكل ما أحرص عليه أن تكون صادقة، هذا يستمر ويتجه إلى نقطة واحدة هي إظهار التعبير الداخلي، أنا لا أعرف كم أنا مختلف عن الآخرين أنا أركز على ما بداخلي وأرسم، وما يخرج فليخرج».

يبدو التاريخ السوري في لوحتك شهياً، قريباً، وكأنك كنت تلمسه وأنت ترسم! ولا يمكن أن تكون مقنعاً إلى هذا الحد ما لم تمتلك هذه الخلفية من المعرفة والحب، لنتحدث عن هذا؟

«أي لوحة هي باب تدق عليه فيفتح، أعني بهذا ملمس اللوحة، وكما تعرف فإن أي مادة تتعرض لحرارة الشمس والعوامل الجوية ستتأثر، أنا لوحتي ذات ملمس تاريخي معماري وشكلي ولوني، كالبيوت التاريخية القديمة ونوافذها والأشياء التي يلمسها الناس أثناء مرورهم، هذه مفردات خطوط لوحتي، فيها تجد طرقات بعض الحارات القديمة مقوسة إلى الأسفل من كثرة ما مر عليها ناس، جدران بعض الحارات القديمة ملساء من كثرة ما لامستها أيدي الناس، كل هذا التراكم والتداخل ما بين الحس والزمن هو موجود في لوحتي، أنا أفكر بهذا، أكثر مما أفكر بالشكل التاريخي المجرد، أنا أركز على النكهة الإنسانية التاريخية، كصورة بصرية حسية، لوحتي تنهل من هذا التاريخ القديم والحاضر، هذا فيّ وأنا ارسم».

مفرداتك اللونية لا تبتعد كثيراً عن ألوان الأرض والسماء وما بينهما، في معظم صياغاتك اللونية، كيف أفهم هذه المباشرة اللونية الثرية والمتقشفة في آن، رغم مقدرتك التصويرية الكبيرة؟

«لون الأصفر الترابي من أهم الألوان لدي فهو يعبر عن هذه الأرض، كتراب الصحراء قبل أن تخرج أي نبتة عليه، أنا أرسم بلون هذا التراب لأقول أن كنزاً يوجد تحته، كيف أستطيع أن أقشر هذا السطح لأصل إلى الأشياء الموجودة تحته؟! هذا الكنز موجود، كنوع من التاريخ والتراث والعادات والتقاليد والتي هي عطاء الأجداد! الآثاريون ينقبون في التراب، أنا أنقب أو أعمر باللون، وأترك ما يشف ويدل على هذا، على المتلقي أن يسحب هذه الخطوط! بالقليل من هذا اللون الكثير، للوصول إلى اكبر إحساس».

تبرز كراقص غرافيكي محترف إلى حدود الارتجال، كيف تخضع لوحتك إلى هذا الارتجال دون أن تخشى الانزلاق بعيداً عن دائرة رقصك؟


من أعمال التشكيلي
كيفورك مراد

«برأيي 90 بالمائة من نجاح اللوحة هي المغامرة، وهذه المغامرة تتجلى بشيء بسيط أحياناً، كأن تكون بحركة خط أو إيقاع لون أو ضربة ريشة كلمسة أولى ونهائية، وتحمل كل إحساسك وثقافتك الفنية، هذا يتم بكل بساطة، وكأنك عارٍ من أي تجميل، تعلمت من الجامعة كل العلوم الأكاديمية، لكني أنساها لأكون جاهزاً للمغامرة! المغامرة قريبة من الارتجال والرقص الحر وهكذا يجب أن تعبر ضربة الريشة عن فلسفتك وروحك. هناك درجات لونية للخط من الفاتح إلى الغامق لكن هذا ليس الأهم ما لم يكمن فيه إحساسك، فخطك هو الذي يقول كم تمتلك من رهافة، بهذه البساطة تقول كل شيء فليس بالضرورة أن ترسم كل الدنيا لتقول هذا. ليس لدي خوف أبداً، لأنه إذا لم تغامر فإنك لا تكون صريحاً بعملك، وعندما لا تكون مغامراً، فإنك تكون كأي رسام ينقل عن أي رسام آخر».

أكثر ما نراه سماعاً في لوحتك هي الموسيقى، أي موسيقى هذه التي لا تنقطع عن لوحتك، وأي موسيقى تترك أثرها على تشكيل لوحتك؟

«هناك روح موسيقية لأن الخط له بداية ونهاية، الخط لا يمحى كما الصوت، إذا دخلت في اللوحة وحاولت أن تغني مع الخط، فإنك تأخذ نوتات هذا الخط من اللوحة ليكون معزوفة موسيقية، الرقص، الشعر، الموسيقى، كلها لوحات تشكيلية في النهاية، عندما أبدأ الرسم فإنني أبني لوحة موسيقية، وأنا أسمع الموسيقى أثناء الرسم، ولكن عندما تدعوني اللوحة إلى جديد فيها ويكون مفاجأة لي أوقف الموسيقى، لأتأمل الشكل الجديد، بكل تركيز».

القصور، الملوك، الأساطير مفردات لوحتك، هل تعرفنا أكثر إلى هذه المفردات، وخصوصاً أني لا أشاهد إلا هذا العرض من مجموع تجربتك؟

«المدن اللامرئية اسم كتاب لإيتالو كالفينو، وهو كاتب إيطالي حداثوي، أثرت عليّ كتاباته، يقول ما معناه، أننا نعيش في مكان ثم ننتقل إلى مكان آخر فنأخذ ذكرياتنا إليه، المدن اللامرئية عبارة عن كثير من المدن غير المرئية ولكنك تمر بها ولها أسماء وهي تعطيك انطباعاً جميلاً وتستطيع أن تراها أو لا تراها، الكتاب يتحدث عن الكثير من المدن مر بها الكاتب لكنه في النهاية يتحدث عن مدينته الأم! كفنان أرى هذا، أرى في الشام هذه المدن، وأقصد بالشام سورية، في كل مرة أراها من زاوية مختلفة، من زاوية القصور أو الأساطير، رسمت الكثير من المدن الخيالية الجميلة لكنها في النهاية تعبر عن دمشق».

تأخذ من المفردة العربية (الحرف) إيقاع شكلها وتحوله إلى مفردة بصرية في إطار الشكل الذي يحتوي الكثير من العناصر، أنت تمزج إيقاعات الحرف لترقص في هذا الفضاء البصري دون قيد أو مرجعية كلاسيكية، لأفهم رؤيتك للحرف العربي من هذه الزاوية؟

«عندما تكتب أي رسالة ليس بالضرورة أن تنتمي إلى أي نوع محدد من الخطوط (كوفي، ديواني..الخ)، وعندما أرسم الشكل تتشكل خطوط أفقية أو عمودية يكون لها من الخارج معمار الحرف العربي ويشبه إيقاع حركته، ويعطي تراكم خطوطي فوق بعضها البعض الشكل الإنساني وشكل الخط العربي، والفراغات الموجودة بين هذه التقاطعات يعطي إحساس المنمنمات، اللوحة وهي تتكامل وتخرج إلى شكلها النهائي تحتوي كل هذا».

تتوغل تشريحياً، مادياً، ونفسياً، في الشكل لتصل إليه عبر خيوطه أو خطوطه، وكأنك تتلمس من خلالها أغوار طاقات انتماءاتها وانفعالاتها، إلى أي حد تلمس أو يلمسك هذا؟

«رحلتي في تشكيل اللوحة لا تستهدف إخراج الشكل لذاته، بل لتطرح تشكيلاً من نوع آخر، كيف يكون للمشاهد أن يشارك في عمارة اللوحة ويزيد عليها هذه الطبقات من الخطوط (أشكال، ألوان) إلى كل هذه الطبقات المتراكمة فوق بعضها، بحيث لا تخضع لذات التراتب الزمني وهي غير قابلة للاكتشاف من النظرة الأولى، إذ تحتاج إلى وقت، أنا يهمني هذه النكهة الأثيرية أكثر من الشكل أو الخط، هذه النكهة تأخذ كل الطاقة لتصل في النهاية إلى المتلقي».

لنتحدث عن الشكل الروليفي النحتي السوري القديم، وكيف دخل بذات الانطباع إلى لوحتك كتشكيل خطي، لوني، كتلي، ملمسي إلى هذا الحد؟

«الروليف والزخارف التي لا تنتمي إلى مكان معين بالتحديد، لكن نكهة هذا الروليف تعبر عن تاريخ بعينه وهو يأتي لدي بهذا الشكل، والجميل أنه لو نظر أرمني إلى هذا الروليف يرى فيه أبعاداً أرمنية، ولو نظر إليه شخص آخر سيرى فيه ما يخصه».

تتميز الكتلة لديك ببنائها النحتي، كصدى لإيقاع نفسي روحي مقصود، يبدأ من خارج الكتلة ولا ينتهي بإطارها، فهي حالة مستمرة من المكان في الزمان، هل تساعدني بفهم هذه الحالة العمودية المستمرة الحركة للشكل؟

«الكتلة الموجودة مقطوعة قصداً، ضمن إطار معين لتعطي انطباعاً ما، ماذا تحت الإطار؟ خيال بإمكان المشاهد أن يزيد عليه، خيال يعود إلى ماضي المتلقي يستطيع تلمسه. عمودية الشكل تلح على فاعلية التفكير والحراك من أجل غد يتمتع بذات الألق الكائن في البعيد، أو القادم منه، هذا إشراك لعين المتلقي لدخول عوالم ذاتي أو للمساهمة في إعادة تأليفها أو بنائها».

أخيراً، لا أجد في عروضك المرافقة للموسيقى أنك ترسم في خلفية الموسيقى، كما اعتدت أن أرى، هلا قربت الصورة لنا لندخل تلك الحالة من التداخل ما بين الموسيقى والرسم؟

يقوم العمل على تشاركية التأليف ما بين النص الموسيقي المسموع والنص المرئي، وامتزاجهما بحيث يكونان مسموعين ومرئيين في الوقت ذاته، عبر بناء عماري موسيقي وتشكيلي، رسم حي يرافق الموسيقى أو ترافقه لتكتمل صورة التعبير عن ملحمة أو أسطورة! أنا والموسيقي نعمل معا لإخراج لوحة حداثوية بهذا الشكل من التآلف، فيصبح المرسوم مسموعاً والمسموع مرسوماً».


عمار حسن

اكتشف سورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

هيام مصطفى قبلان:

كيفورك مراد/ الفنان الذاكرة :قد يكون المكان رمزا لرائحة ، أو لظلّ ، قد يكون ورقة على فنن ، أو ايقاع ، أو يكون عصفورا دون أجنحة ، أو لونا أزرقا وأصفر لبحر وصحراء ، حفنة بنية من تراب الوطن ، هذا ما ألمسه هنا من خلال الحوار بين الصحفي الفنان عمار حسن والمبدع كيفورك مراد ، المغترب السوري العائد الى الجذور . ان قضيةلمس اللون والايقاع هي قضية تتعلق قبل كل شيء بنشوة المتلقي المشاهد حين تسقط عليه من السماء رذاذات من مطر صيفي ، أو هالةنور لتبعث فيه رعشة ممزوجة بالحنين والشوق ، وهنا ( العودة الى الجذور ) في لوحات كيفورك ليست فقط الطبيعة بخيراتها وجمالها ، انما برائحة المكان التي بقيت في الذاكرة لتصنع من لوحاته هذا الشبق والعبق للعودة الى الوطن الى تاريخ المكان ، الى هجرة وتشرد / وعندما نتكلم عن تاريخ المكان لا بدّ وأن نعود الى ( الذاكرة) باعتبارها خابية العمر التي تتعتّق بها خمور السنين ، تستبد بالفنان ، لتشعل فيه كأس الخوف من الضياع فيثمل ، تشعل داخله ياقوتةالحنين الى وطن الذكرى والأماكن والخيال ، حين تلامس الريشة والأقلام لوحاته تحدث نغما وخطا وموسيقى ، فتترك فراغا يدعو الى التأمّل ، الى الخيال ، ومن هنا ( الذاكرة) بين أصابع الفنان تتوهج برومانسيتها الظامئة لمراوغة اللوحة المتداخلة داخل لوحة أخرى .النغمة عبارة عن وتر لوجد دافء يعتمل بالروح فتنبثق من بين الفراغ لتشكّل ذاكرة المكان الواقف على أرض الفراغ كمعاقرة كؤوس الفراغ هي الذاكرة ، حين تزاوج الزمن / اذن هنا البعد الزمني والمكاني وهي مكتملة لتحدث اضمامات من الذاكرة تفوح برائحة الوقت المغموس بالخيال . يؤكد من خلال اللوحات أنّ الانسان كلما ابتعد عن المكان جغرافيا يلتحم به أكثر ، ليبدأ من الجذور ، من الأرض ، والفنان بطبيعته ميال الى العطاء فكيف به لا يمنح وطنه الأوحد من طاقته وحواسه التي تقبض على وهج الفرح الباقي لتصنع تراثا وتأريخ حضارة ؟ انها العفوية والعاطفة معا ، انها الخطوط التي تكوّن ذات الفنان وحركته ( هو) انه الايحاء الداخلي الذي لا مفر منه . وبما أنّ الخطوط لدى كيفورك مراد هي عبارة عن حركة فهي تبدو عفوية وغير مؤثثة وغير محضرة مسبقا لكنها تبقى الباب لأساس أو أقول : ( جذر) ، هذا هو الابداع الذي يدعو الفنان الى البحث للمعرفة أكثر وأكثر ، لكن المعرفة لا تخرج للعمل ان لم تتداخل مع العمق الروحي في لوحاته .لوحاته التي أمامي ( بأسطوريتها )السردي وبلون الأرض بملمسها عبارة عن ( تأريخ) الأمكنة من فن معماري وبيوت قديمة وزقاقات وتقوسات تدل على زمن قد مرّ بأناسه من هنا ليترك أثر أقدامه على الشوارع والجسور ، هذا ما يسمى بانصهار ( الحواس بالزمن) ، انّ لوحاته ليست شكلا بقدر ما هي ( حسّ وبصر ) ، تلاحم بين الأحاسيس الداخلة والزمن ، تبعث في المشاهد رائحة الزمن والمكان ليلمس الأشياء والملامح حتى وان لم يزرها من قبل . اللوحة الثالثة المعروضةأمامنا هنا بألوانها تعبّر عن ( الجذور) والانتماء للأرض ، وطن داخل صحراء وقد تكون صحراء النفس التي يريد لها الفنان أن تتحول الى أرض خصبة، فاللون الأصفر بمعناه هو الترابي بلون صحراء النفس التي يبتكر منها مكانا آخر يجعلها حيّة ، خصبة ، نابضة ، تخرج مكنوناتها المختزنة ، في هذه اللوحة أراه فاق لغة الوعي والادراك ، فالى أين سيصل بنا هذا الفنان المبدع بفلسفته ومغامرته ؟ ربما تنبت في الذاكرة بذرة أخرى لم يكتشفها بعد ،،، سنكتشفها نحن الذين نتابعه .. !
أحييك الفنان كيفورك مراد فالحديث يطول وذو شجون ، وقد تناولت وجها واحدا من أبعادك لازالة الركام الزمني والجغرافي الممتد عبر ذاكرتك بعودة الى الجذور .. !ولا أنسى شكر الفنان الصحفي عمار حسن على هذا الحوار اللبق والماتع لتعريفنا بفن متألق ومدهش ...!
بقلم : هيام مصطفى قبلان
شاعرة وناقدة ( فلسطينية)

فلسطين