قصر الحير الغربي

22 آذار 2012

للوهلة الأولى لا يخطر في أذهاننا أن تلك الصحراء الشاسعة التي تعرف باسم بادية الشام كانت عامرة، وجذبت الإنسان إليها منذ أقدم العصور وغدت موطنه الأول. فالبقايا الأثرية التي اكتشفت في صحراء تدمر لا سيما موقع بئر الـهـُمّـل يعد أفضل شاهدٍ على عظمة تلك الصحراء التي ضمت بين رمالها بقايا جمجمة إنسان بدائي (هومو إيريكتوس) تعود إلى حوالي 500 ألف سنة، وهو الاكتشاف الأول في منطقة الشرق الأوسط [1]. وإذا أخذنا بعين الاعتبار المواقع العديدة التي تعود لفترات تاريخية متتابعة سنجد أن الحياة لم تنقطع في هذه الصحراء، فحضارة تدمر الشهيرة ضمت ضمن طبقاتها الأثرية بقايا تعود لعصور البرونز[2]، ولا تزال الحياة مستمرة فيها حتى الوقت الحاضر.

ويعد قصر الحير الغربي إلى جانب القصور الأخرى شاهداً على إحدى فترات عظمة هذه الصحراء التي غدت مقراً أساسياً للخلفاء الأمويين الذين أدركوا أهمية هذه البادية وجعلوها عامرة بقصورهم وحدائقهم الكثيرة، وهذه المباني التي ظهرت خلال العصر الأموي شكلت القاعدة والأساس لفنون العمارة الإسلامية فيما بعد.

سنحاول هنا إلقاء الضوء على قصر الحير الغربي بشكل موجز ويمكن لمن يرغب بالتوسع العودة إلى قائمة المراجع التي تطرقت لها لاسيما نتائج أعمال شلومبرجيه «Schlumberger».

الموقع:
يقع قصر الحير الغربي على أطراف الطريق الواصل بين دمشق وتدمر، على بعد 42 كم إلى الشمال الشرقي من موقع القريتين، و60 كم إلى الجنوب الغربي من تدمر في وسط بادية الشام، عند تصالب الطرق التجارية بين الرقة ودمشق وحمص وشبه الجزيرة العربية (الشكل1).


الشكل1: موقع قصر الحير الغربي على خارطة سورية

الاكتشاف و بداية الأعمال الأثرية:
لم تكن الصحراء رغم وحشتها لتخيف الرحالة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، بل على العكس من ذلك، فهناك الكثير منهم ممن خاض مغامرة الصحراء وتجول فيها، وكتبوا مذكراتهم ووصفوا المناطق التي مروا بها. في الحقيقة، لم أجد ذكراً صريحاً لقصر الحير الغربي في الأبحاث التي تتعلق بالمناطق التي وصلها الرحالة في صحراء تدمر، أو ربما كان هناك ذكر صريح وكان يتوجب علينا البحث أكثر عنه. لكن يمكننا أن نستدل على وصولهم إليه من خلال ما ذكروه عن تدمر والمناطق المحيطة بها، فهناك العديد من الرحالة والباحثين والهواة الذين زاروا تدمر ومحيطها أمثال الإنكليزيين ج.داوكينز «G.Dawkins» و ر.وود «R.Wood» عام 1751م[3]، والرسام الفرنسي كاساس «L.F.Cassas» الذي ارتدى اللباس العربي ووصل إلى تدمر في 22 أو 23 أيار عام 1785م[4]، وفي عام 1813م زارت تدمر الليدي ستانهوب «H.Stanhope» ابنة أخ الوزير الإنكليزي وليم بيت «W.Pitt» وقابلت شيوخ القبائل وأقامت في تدمر[5]، كذلك م.دوفوغي «M.Devogue» في العام 1861م ونشر عن ذلك في أحد أجزاء كتابه[6] المُسمى «سوريا الوسطى Syrie centrale».

الشكل2: البرج البيزنطي كما بدا خلال أعمال التنقيب

مع بداية القرن العشرين بدأت الأعمال الأثرية تأخذ طابعاً علمياً منظماً بدأها الألمان بإدارة ت. فيغاند «T.Wiegand» بعمل أسبار أثرية ودراسة معمارية لمعبد بل ووادي القبور نُشرت فيما بعد في مؤلف من قبل فيغاند عام 1932م[7]. تلاها العديد من البعثات خصوصاً زمن الإنتداب الفرنسي في عشرينيات القرن العشرين، وكان أول من أشار إلى موقع قصر الحير الغربي هو بواديبارد «A.Poidebard» الذي قام بأخذ العديد من الصور الجوية للبقايا الأثرية ومن بين الصور الجوية الملتقطة منطقة قصر الحير الغربي[8]، وكان من أهم ما تم تمييزه من تلك الصور بقايا القصر المتمثلة بسور مستطيل، وأحد الأبراج المؤرخة على العصر البيزنطي (الشكل2)، وقناة ماء ممتدة بين القصر وسد خربقة (الشكل3). أما بخصوص الأعمال الأثرية الأولى في الموقع فكانت من قبل شلومبرجيه[9] عام 1936 واستمرت حتى عام 1938 م، لتتوقف الأعمال بعدها حتى خمسينيات القرن العشرين، حيث قامت المديرية العامة للآثار بنقل واجهة القصر إلى دمشق وتم إعادة تركيبه بإشراف المرحوم نسيب صليبي فوق واجهة المتحف الوطني بدمشق وما زال كذلك حتى الوقت الحاضر (الشكل4).

الشكل3: صورة جوية لسد خربقة من أرشيف المعهد الفرنسي

تاريخ بناء القصر:
يعود تاريخ القصر ومنشآته إلى العصر الأموي، وهو أحد القصور العامرة التي بناها الخلفاء والأمراء الأمويون في بادية الشام والأردن، وقد تم تأريخ قصر الحير الغربي إلى جانب قصر الحير الشرقي على فترة هشام بن عبد الملك عام 728م، وقد عثر على نص كتابي فوق ساكف إحدى بوابات الخان القريب من القصر (الكتابة محفوظة حالياً في حديقة المتحف الوطني) ومضمونه: «بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، أمر بصنعة هذا العمل عبد الله هشام أمير المؤمنين أوجب أجره، على يد ثابت بن ثابت في رجب 109». إلا أن موقع القصر كان مشغولاً سابقاً خلال العصر البيزنطي، ومن بقايا تلك الفترة البرج الذي ينتصب أمام القصر، ويعتقد أن القصر بني على أنقاض دير يعود للعهد الغساني، إلى جانب ذلك تم العثور على العديد من البقايا الأثرية المنقولة من مكانها والتي تعود لفترة أقدم، في حين أن ما هو مؤكد بخصوص الأبنية التي تعود لفترات أقدم هو بناء سد خربقة، حيث أثبتت الدراسات الأثرية التي قام بها شلومبرجيه أن أساسات السد معاصرة لفترة تدمر خلال العصر الروماني[10].

الشكل4: واجهة قصر الحير الغربي بعد إعادة تجميعها في المتحف الوطني

مخطط القصر:
صمم مخطط القصر على شكل مربع تقريباً ويبلغ طول ضلعه 70 متراً، ونجد في الزوايا أبراجاً دائرية الشكل، وفي منتصف أضلاعه الثلاثة برج نصف دائري، تتوضع واجهته الرئيسية في الجهة الشرقية التي تتألف أيضاً من برجين نصف دائريين يخترقهما مدخل يفضي إلى باحة القصر (الشكل5).

الشكل5: مخطط قصر الحير الغربي

وقد أظهرت البقايا الأثرية أن القصر كان مؤلفاً من طابقين: أرضي، يعلوه طابق آخر تعرض للتخريب بالكامل، في حين أن الطابق الأرضي يمكن أن نقسمه إلى ستة منازل وكل منزل مؤلف من عدد من القاعات والمقاصير، أي يبلغ عدد القاعات والمقاصير ومجموع ما هو موجود ضمن هذا الطابق 59 قسماً.

الشكل6: مخطط توزيع قنوات المياه في قصر الحير الغربي

وكانت هناك منشآت أخرى ملحقة أيضاً، نذكر منها الحديقة والتي كان يبلغ طولها 1050 متراً، وعرضها 442 متراً، ويحيط بها سور أساساته من الحجر ومداميك من اللبن تعرضت للتخريب بالكامل. وقد عمد الأمويون لتأمين المياه لهذه الحديقة بشق قناة تمتد من سد خربقة حتى القصر والحديقة (ربما تعود هذه القناة لفترة الدير البيزنطي)، وعمدوا فيما بعد إلى إنشاء سد أو خزان تصب فيه مياه القناة ومن ثم يتم توزيع المياه بعدها إلى منشآت القصر (الحمام والحدائق) عبر قنوات أصغر يتم التحكم بها من قبل شخص عين لهذا الغرض (الشكل6). كما تم العثور على العديد من السدود الصغيرة في المنطقة التي كانت تتوضع ضمن مجاري الوديان وبالتالي كان يتم الاستفادة من مياه الامطار أيضاً من خلال تجميعها ومن ثم تحويلها إلى الخزان الرئيسي أو ما يعرف باللغة العامية بالبركة[11].

أما الحمام فنجده في الجهة الشمالية من القصر على بعد 30 متراً من البرج البيزنطي وله مخطط مستطيل الشكل تقريباً، وهو يتألف من عشر حجرات مع قمرات التسخين والتي تقسم بدورها إلى قسمين أحدهما دافئ والآخر بارد (الشكل7)، وجدرانه مبنية من الحجر الكلسي واللبن، ولا تزال بعض الجدران محفوظة حتى ارتفاع مترين تقريباً. وقد تم العثور أثناء أعمال التنقيب على بقايا قطع رخام وطينة كانت تغطي بعض الجدران، إلا أنه لم يتم العثور على رسومات كانت تزين جدران الحمام الداخلية كما هو الحال في حمام قصير عمرة في الأردن. وعموماً يمكن القول أن الحمامات الأموية تظهر تغيراً في مخطط الحمام الذي كان سائداً خلال العصور السابقة، وتشكل الانطلاقة لتطور عمارة الحمامات في العصور الإسلامية اللاحقة.


الشكل7: مخطط الحمام في قصر الحير الغربي

وإلى جانب فن العمارة، فقد قدم قصر الحير نماذج رائعة من الفنون الأخرى التي عثر عليها داخل قاعات القصر كالرسوم الجدارية[12] والزخارف الجصية وأرضيات الحجرات وغيرها من النقوش الفنية التي تناولت مواضيع مختلفة نباتية وهندسية وحيوانية وإنسانية (الشكل8)، والتي تشهد على جمالية الفن الأموي، علماً أنه جمع في أسلوبه الفنون السابقة وأضاف عليها فخرج بفن جديد اعتبر أفضل نموذج للفن الأموي.


الشكل8-أ: من نماذج الرسوم الجدارية والزخارف الجصية في قصر الحير الغربي


الشكل8-ب: من نماذج الرسوم الجدارية والزخارف الجصية في قصر الحير الغربي


الشكل8-جـ: من نماذج الرسوم الجدارية والزخارف الجصية في قصر الحير الغربي





الحواشي:
[1] لوتونسورير جان، محيسن سلطان: 2005، الإنسان الأول في الصحراء السورية، ت: أمجد القاضي، المعهد الفرنسي للآثار، دمشق.
[2] ALMAQDISSI M; 2000, Note sur les sondages réalisés par Robert Du Mesnil Du Buisson dans la cour du sanctuaire de Bel à Palmyre, SYRIA, VOL 77, N1, Paris, pp. 137-158.
[3] Wood R, DAWKINS D; 1829, Les ruines de Palmyre, Paris.
[4] CASSAS L F; Voyage pittoresque de la Syrie, de la Palestine et de la Basse-Egypte en 1799.
[5] SARTRE-FAURIAT A. SARTRE M; 2008, Palmyre , La cité des caravanes, Paris, p.14.
[6] DE VOGUE M; 1865, Syrie centrale, Paris.
[7] WILL E; 1992, Les Palmyréniens, Armand Colin, Paris, p.17.
[8] POIDEBARD A ; 1934, La trace de Rome dans le désert de Syrie, recherche aériennes 1925-1932, Paris.
[9] SCHLUMBERGER D ; 1939, Les fouilles de Qasr el-Heir el-Gharbi (1936-38), Syria, tome 20, Beyrouth, pp.195-238.
[10] SCHLUMBERGER D ; 1986, Qasr el-heir el Gharbi, Paris, p. 16.
[11] SCHLUMBERGER D ; 1986, p. 7, 8, 9.
[12] لمزيد من المعلومات عن الرسوم الجدارية يمكن مراجعة
SCHLUMBERGER D; 1946, Deux fresques omeyyades, Syria. Tome 25 fascicule 1, Beyrouth, pp. 86-102.


إعداد: همّام سعد

اكتشف سورية

Share/Bookmark

مواضيع ذات صلة:

    صور الخبر

    موقع قصر الحير الغربي على خريطة سورية

    صورة تظهر البرج البيزنطي في قصر الحير الغربي أثناء أعمال التنقيب

    صورة جوية لسد خربقة من أرشيف المعهد الفرنسي لآثار الشرق الأدنى

    بقية الصور..

    اسمك

    الدولة

    التعليق

    نور:

    شكرا معومات قيمة استفدت بحلقة بحثي

    سوريا

    حسن:

    شكراً لكم ولاهتمامكم ولموقعكم الرائع ... انا طالب مرحلة(4) ولدي مشروع حول القصر الحير الغربي وانا هون بالعراق ما في اي صلة او مرجع حول هذا الموضوع بتمنا تساعدوني اتصلت بسوريا للاسف الوضع الطلبة صعب جداً الله يحفظكم ((((((اخوكم المغترب من ديريك محافظة قامشلو

    العراق