أوجه التشابه والاختلاف بين المواقع البدوية والحضرية في البادية السورية في الألف السادس قبل الميلاد

22 تموز 2007

مقدمة تاريخية وإشكالية:
تقع حوضة الكوم في منتصف الطريق الذي يصل بين تدمر والرصافة. حيث تقوم البعثة الأثرية الفرنسية بإدارة الأستاذ الدكتور جاك كوفان بأبحاث سنوية منذ عام 1978.
ومن هذا الإطار الإداري وبفضل مساعدة مديرية التنقيب في المديرية العامة للآثار والمتاحف تم التنقيب في العديد من المواقع من قبل فريق عمل تابع لمركز الأبحاث الوطني الفرنسي (C.N.R.S) ومجموعة العمل (E.R.A.7) والمجموعة C.R.A. وبمشاركة بعض الباحثين وبعض الطلاب الذين قدموا من مختلف الجامعات.
إشكالية عامة:
لدراسة هذه الحوضة الطبيعية التي يبلغ قطرها 15 كم وتضم مواقع قديمة من مختلف العصور، أعد السيد جاك كوفان إشكالية عامة توضح كثافة وفائدة الطبقات القديمة المكتشفة حول حوضة الكوم، مما شجع في إجراء بحث لا يتمركز على الموقع فحسب ولكن على منطقة جغرافية محددة، وهي واحة الكوم في منظور متزامن ومتطور في الوقت نفسه، وهدفه إعادة تشكيل المظهر المميز والكيفية البيئية والثقافية للاستيطان البشري في جميع فترات ما قبل التاريخ (J. Cauvin, 1982a, p.7).
إشكالية تتعلق بمواقع العصر الحجري الحديث (النيوليت):
يعود الاستيطان النيوليتي الأول لحوضة الكوم إلى عصر النيوليت ما قبل الفخار "ب" الأخير (6000ـ5600 قبل الميلاد). وعلى الرغم أنه تأكد وجود النطوفي القديم في الألف العاشر قبل الميلاد فإن الحوضة بقيت بعد ذلك بدون استيطان طوال عصر النيوليت ما قبل الفخار "آ" وعصر النيوليت ما قبل الفخار "ب" القديم والمتوسط والحديث. وهكذا فإن سكان الحوضة الأوائل عرفوا الزراعة وتربية الماشية، حيث تظهر الحياة في القرى المبنية في حوضة الكوم في الألف السادس قبل الميلاد.
ولكن من أين أتوا؟ وهل يتعلق الأمر هنا بجماعة واحدة أو عدة جماعات ومن أصل مختلف؟
وما هو الشيء الذي طوروه؟! وما هي الحلول التقنية والاجتماعية والاقتصادية التي أعدوها ليتأقلموا مع هذا الوسط الجديد والقاسي في السهوب الصحراوية؟
هذه هي المشاكل العامة التي تطرح نفسها على الباحثين الذين يدرسون العصر النيوليتي في الكوم.
الإشكالية التي نجمت عن النتائج الأولية:
خلال الاثنتي عشرة سنة الماضية من البحث المتعدد الاختصاصات على المواقع العائدة لعصر النيوليت ما قبل الفخار "ب" الأخير في منخفض الكوم، توجه السيد كوفان والسيد أورانش لإعداد نظرية تشكل مرتكزاً هاماً لإدارات البحث الجديدة المنتشرة حالياً في الكوم.
في الواقع ومن عام 1978 إلى عام 1987 تم التنقيب في التل الثانوي بحوضة الكوم وهو الكوم -2- المسمى كاراكول أي المحفر (بإدارة السيدة ستودور) وتم الكشف عن ست طبقات متتالية من القرى المبنية في عصر النيوليت ما قبل الفخار "ب" الأخير (Stordeur D., Maréchal C. et Molist M., 1991) وفي عام 1979 أجرى السيد جاك كوفان التقاطاً منهجياً للآثار في موقع القدير -1- على بعد 8 كم من هنا حيث اكتشف تجمعاً مدهشاً من الأدوات الصوانية (Cauvin J. et al., 1979). وبناء على طلب السيد أورانش أجريت في عام 1980 عدة أسبار في القدير حيث وُجدت آثار استيطان كثيف، من عصر النيوليت ما قبل الفخار "ب" الأخير، مع مشاغل لطرق الصوان بخطوط متناثرة فقط وبُنى عمرانية نادرة (Aurenche O. et Cauvin M.-C., 1982). وإزاء أنماط الاستيطان المختلفة لهذين الموقعين طرح السيد جاك كوفان وأيده أورانش فرضية النشأة المتزامنة للمجتمعات البدوية والحضرية في حوضة الكوم (Cauvin J., 1982b p. 96 et 1990a et b; Aurenche O. et Cauvin M.-C. op cit).
وتدعم هذه الفرضية بملاحظتين اثنتين الأولى: في المعطيات الإثنو-أثرية (Ethnoarchéologique) المتوفرة من مجتمعات الاستيطان الحالي لهذه المواقع إذ أن تل الكوم، الما قبل تاريخي يقوم في قرية يسكنها قرويون حضر ويتبع هذه القرية الكبيرة الحالية والمبنية في الحوض وكذلك فإن موقع القدير هو موقع خالٍ تقريباً من البيوت خلال فترة ما قبل التاريخ وهو الآن مخيم مركزي للبدو الذين في طريقهم إلى الاستقرار (التحضر) (Aurenche O., 1981 et Desfarges, 1983) والملاحظة الثانية ذات طابع أثري حيث توجد عدة مواقع سطحية في الحوضة تدل على الاستيطانات القصيرة الأمد. وهذا يدعم ما وجدناه في القدير. إضافة إلى ذلك فقد عثر الباحثون على مواقع مشابهة في الأردن (Betts A., 1982; Garrard et Stanley-Price, 1925-1977).
وعليه فإن هذه الفرضية تقود لبحث معمق ودقيق وذلك لمعرفة ما إذا كانت المعطيات المتوفرة من الحوضة تسمح بإثبات وجود جماعات حضرية وجماعات متنقلة، كانت متواجدة ومتزامنة منذ الألف السادس قبل الميلاد.
وتشكل المرحلة الأولى من هذا البحث التنقيب في موقع القدير بشكل أكثر توسعاً وأكثر تفصيلاً. إن نتائج موسمي التنقيب الأوليين (1989ـ1991) في القدير مقارنة مع نتائج التنقيب الشاملة في الكوم -2- هي التي سمحت لنا بتقديم المحصلة الأولية.
وسوف ندون أوجه التشابه والاختلاف بين الموقعين ونحن نسترجع موضوعاً تلو آخر.
الحالة الجغرافية:
يتوضع هذان الموقعان اللذان يبعدان عن بعضهما البعض 8 كم، بالقرب من نبع، ويختلف القدير عن الكوم بميزتين اثنتين: نوعية مراعيها (الموجودة حالياً) ووجود مقالع الصوان من النوعية الجيدة على مسافة قريبة، أقل من 2 كم.
التأريخ (الكرونولوجيا):
ليس بين أيدينا الآن سوى تأريخ واحد تم تحليله بطريقة الكربون 14 لمنطقة القدير، في حين لدينا هناك 4 تأريخات متجانسة وعلى قدر جيد من الدقة تسمح بتحديد تاريخ الكوم بشكل أفضل وبما إن الخطأ محتمل في هذه التأريخات ممكن أن نقول إن هذين الموقعين يتعاصران لفترة مدتها 500 سنة، من 8000 إلى 7500 قبل الميلاد، أو في النصف الأول من الألف السادس قبل الميلاد، وهذا يعني الفترة الخامسة حسب تأريخ بيت المشرق في ليون (Aurenche O. et al., 1981).
الانتماء الحضاري:
بلا شك ينتمي الموقعان إلى عصر النيوليت ما قبل الفخار "ب" الأخير المعروف حالياً ولاسيما في الأردن وسورية ويسمى من قبل البعض عصر النيوليت ما قبل الفخار "ب" (Rollefson et Simmons, 1985). ويشغل هذا العصر النيوليتي الأخير النصف الأول من الألف السادس وهي فترة كان الفخار معروفاً فيها في حوض الفرات والساحل السوري واللبناني في حين بقي غير معروف في المناطق الصحراوية، في الأردن والبادية السورية.(Période 5).
وفي كل الأحوال فإن عصر النيوليت ما قبل الفخاري الأخير وكما يبدو منذ مرحلته الوسطى يمثل مجموعة حضارية واسعة وسلسلة معقدة من التقاليد الإقليمية والمختلفة بشكل واضح. وسنرى فيما بعد وعند تحليل النماذج المختلفة للأثاث أو لفن العمارة، أن هذين الموقعين اللذين يعودان لعصر النيوليت ما قبل الفخار "ب" بشكل نموذجي، لا يبدوان مرتبطين بنفس المناطق. وهناك تشابه واضح بين الكوم وضفاف الفرات وبلاد ما بين النهرين العليا، في حين أنه ممكن أن يكون للقدير ارتباط غربي أكثر. ولاسيما أن القدير يختلف عن الكوم بصفات تقربه إلى بنية معينة وليس إلى منطقة جغرافية محددة. لأن الصناعة الحجرية فيه (Aurenche O. et Cauvin M.- C., 1981) هي في الواقع من النموذج المسمى "النيوليت ما قبل الفخار ب الصحراوي" وله سمات خاصة نجدها في سورية والأردن والسعودية (cf. infra). كما نريد أن نشير أنه عندما نحدد هذه الخصوصية فإننا لا نؤوّلها فقط في أجلٍ ذي حتمية بيئية كما أننا لا نعرف أيضاً ما هو التفسير الصحيح لها.
بنية المواقع:
يختلف الموقعان عن بعضهما البعض تماماً من حيث البنية العمودية (الستراتيغرافية) والأفقية (طريقة شغل المكان).
الستراتيغرافيا:
الكوم -2- تل عادي يتألف من خمس طبقات من الاستيطان العمراني أو من القرى. في حين نجد بنية القدير على شكلة ربوة (تلة) فيها نبع ماء (Besançon J. et al., 1982)، وتكوين طبقاتها مختلف تماماً وتتلاءم مع طبقات استيطان خالية من أية إشارة عمرانية على نطاق واسع، وفوق الطبقات الحتية تقوم بنية واحدة معزولة بطبقة ما، والكل مغطى بترسبات سميكة ذات منشأ ريحي.
طرق إشغال المكان:
في الكوم -2- تختلف قليلاً طرق الاستيطان من القاعدة إلى قمة التل. وتميزها سلسلة متراصة من المنازل المستطيلة الشكل ذات حجرات متعددة ومتشعبة. ونجد في الطبقات الأكثر حداثة طبقتين نموذجيتين ومتلائمتين، كما تظهر واعتباراً من الطبقة الأولى للاستيطان وحدات سكنية ذات حجرات صغيرة ومتصلة ببعضها وتشترك بمنازل تتميز بغرفة رئيسية على شكل T مع تناسب طولي، ومساحات خارجية أو ساحات رُدمت شيئاً فشيئاً من جراء بناء المنازل الحديثة.
وعلى السطح الخارجي للموقع توجد مناطق طرح قمامة حيث تتراكم نفايات طرق الصوان والنفايات المنزلية.
وفي القدير من الضروري تمييز طريقتين لإشغال المكان حسب وجود أو عدم وجود البناء. أما في القاعدة فقط حُفظت طبقات الاستيطان بشكل رائع وذلك بفضل الترسبات الريحية الشديدة السرعة. وبفضل هذا حُفظت أيضاً مشاغل لطرق الصوان في مكانها الأصلي وبشكل دقيق. وهناك دلائل على وجود مساكن خفيفة أشكالها غير مفهومة، بقيت في نفس أمكنتها قبل رحيل سكانها. وستسمح هذه الدلائل الأولية بدون شك بتصور مفصل لتصرفات الناس الذين هجروها.
وبالمقابل عندما تظهر في الطبقات بنية عمرانية معزولة؛ فإن المساحات الواسعة التي تحيط بها تدل على نفس الأنشطة ولكن تنتظم آثارها، التي انتقلت من مكانها الأصلي بطريقة مشوشة. وإذا وجدنا مشاغل لطرق الصوان هذه المرة على شكل مطارح، (كما في الكوم)، متطابقة ومختلطة مع بقية الشواهد المنزلية كالمواقد المنفصلة والمخلفات المختلفة. إذاً نجد أوجه الاختلاف كاملة بين الموقعين على مستوى طرق أشغال المكان.
الهندسة المعمارية:
نحن لا نصف هنا الهندسة المعمارية المعقدة خصوصاً والمتطورة (Stordeur D., 1989a.)؛ وسنحاول فقط توضيح العناصر الأكثر تلاؤماً والمشتركة بين الموقعين أو العناصر المختلفة.
التقنية:
نجد أن تقنية البناء هي نفسها بشكل عام: قاعدة البناء وجدران القاعدة في مدماكها الأول من الحجر، جدران من اللبن، الأرضية والجدران المطلية بالجص، بنية جيدة ودقيقة ودائماً نستطيع تبين الاختلاف بالتفاصيل. كذلك في المنزل الأكثر قدماً في القدير نجد أن القاعدة أقل سماكة منها في الكوم -2- ومركبة فقط من كتلة صلصالية متماسكة. وأيضاً وخلافاً لما نجده في الكوم ليس فقط قاعدة الأساس بل الجدار نفسه يتألف من أساسات حجرية. ويسيطر دائماً التشابه في المفهوم الهندسي في قائمة أوجه الاختلاف هذه.
الترتيب المنزلي:
الترتيبات المنزلية في الكوم مختلفة جداً ومن الصعب إجراء مقارنة بينها وبين القدير وذلك بسبب أن منزلين اثنين فقط ظهرا جزئياً ويعودان لطبقتين مختلفتين معروفتين في القدير. وأحواض الماء المستطيلة الشكل والمطلية هي صفة مشتركة بين الموقعين وبالمقابل تختلف كلياً تركيبة المواقد في كل منهما. وإذا كانت كل المواقد في الكوم قد بنيت بعناية على أرض مرتفعة ومعدة ولها أشكال متعددة ومختلفة (الأعشاش ـ المواقد والأفران المستطيلة الشكل والمناقل)، فإن الموقد الوحيد الذي ظهر في القدير على أرض مطلية لمنزل لا يبدو أنه مجهز ومعد فعلاً. إن هذا الموقد على شكل حوض بيضوي مجوف قليلاً، وهو من نفس النوع الذي وجد في الطبقات الخالية من البُنى العمرانية ويشكل مطابقة للمواقد التي خلفها البدو الحاليين بعد رحيلهم.
طريقة العيش في المنازل:
كانت لسكان الموقعين عادة تبديل ترتيب منازلهم خلال فترة استيطانهم. وبالرغم من ندرة العمران في القدير فإن هذا السلوك ينكشف على مستوى بناء المستودعات والتي أنشأت ثم سُدّت مع مرور الوقت. وهناك أرضيات أعيد طلائها بشكل دوري. ونجد دائماً فرقاً جذرياً في طرق العيشة بين الموقعين.
ففي الكوم -2- تُفصل ترميمات الأرضيات بالكلس بطبقات من الحصى أو الرمل أو الملاط (خليط من الرمل والكلس) يتم نشرها قبل الطلاء، ولكننا لا نجد بقايا أثرية إلا بصورة استثنائية في هذه الطبقات. وبالمقابل نجد الأرضية الأخيرة مغطاة بطبقة من التراب مما يدل على وجود آثار معيشة في هذا المكان ثم تبعه رحيل عن المنزل. (كما نلاحظ اليوم في هذه القرى حيث نجد دائماً منزل أو اثنين مهجورين). وقد سمينا هذا النموذج من الطبقات التي تتطابق بسهولة "طبقات استيطان ما بعد وجود العمارة".
في القدير يختلف الأمر حيث تكون الأرضيات المطلية لمنزل واحد مفصولة في بعض الحالات بطبقة مرصوصة تبلغ سماكتها 20 سم. ومن نفس طبيعة الطبقة التي وصفناها من قبل. إذاً هل من الممكن أن نستنتج وجود استيطان من نموذج "Squatter" في منازل القدير النادرة قبل أن تهدّم؟ إن هذا السؤال على قدر كبير من الأهمية.
أنشطة في الهواء الطلق:
قليلة جداً هي الأنشطة العمرانية المحسوسة في موقع الكوم -2- وقد تم تجهيز مكان ضيق، بعناية، يقع بين منزلين كان قد ردم شيئاً فشيئاً من جراء حت الصخور وذلك ليسمح بمرور الماء، وقد تم طليه بالكلس ومن ثم بُلِّطَ ليجف وذلك قبل هجر المنازل التي تحيط بها. وهناك ساحة كبيرة كان يؤمها الناس كثيراً، يدل على ذلك آثار وطئ الأقدام ومساكن صغيرة مستديرة الشكل. كما يوجد حفر عميقة مجوفة وذلك لاستخراج مواد البناء وقد رُدمت تدريجياً بأبنية جديدة. وإذ لوحظت أعمال تشذيب للأدوات الصوانية فهي غالباً ما تكون بالقرب من العتبة الخارجية للمنزل التي هي غالباً على شكل فسيلة ناتجة عن طرق الصوان تظهر في المناطق المجاورة للجزء المبني للمنشأة. وتتمازج هذه البقايا مع الفضلات المنزلية مما يثبت حرصاً نسبياً على النظافة داخل القرية.
في القدير وفي الطبقات الأكثر قدماً وبسبب طبيعة الأبنية غير الواضحة، نجد من الصعب التمييز بين مناطق السكن والمحتمل أنها كانت مغطاة في المناطق الخارجية بتركيبة عمرانية قابلة للتلف. وإذا كان هناك بعض المشاغل قد قدمت صورة متميزة ومنظمة لعمل ثابت وخارجي فإن منطقة السكن تستحق أيضاً أن ينقب فيها بشكل واسع وذلك لتوضيح التنظيم. وفي الواقع نستطيع ومنذ الآن أن نعيد تطور عمل هذه المشاغل والتي كان من المحتمل اختصاصها في صناعة أسلحة القذف. وكل هذا يجعلنا نفكر بأن تجهيز النوى المعقد، الثنائية القطب، هو ما يميز هذه المنشآت التي لم تستثمر تلك النوى إلا لغرض واحد فقط وهو توفير هذه الأسلحة التي كانت على قدر كبير من دقة الصنع.
إن بقية المعدات المصنفة على الموقع كانت مصنوعة من الشظايا والشفرات التي لم تكن مستخدمة للحصول على الأسلحة الهجومية، وبالمقابل لا تحدد المناطق المخصصة للسكن إلا بوجود المواقد وفضلات الطعام والبقايا المختلفة.
لازلنا نجهل أين يبدأ الملجأ القابل للزوال أو الخيمة وذلك بسبب عدم تمكننا حالياً من الكشف على حفر للأساسات أو المحامل العائدة لها. وتظهر أهمية الأنشطة الإنتاجية في الطبقات العليا من القدير ولكن رأينا أنها تأخذ هيئة مطارح على شكل ركام غير منتظم. وليست مادة الصوان الوحيدة هنا لتكون مادة لعمل مكثف يضاف إليها الآن إنتاج الجص الذي يؤكده وجود الأفران الكبيرة (أو المدافئ وذلك حسب المصطلح المتبنى)، والذي يبلغ طولها عدة أمتار.
خارج الموقع:
يجمع الموقعان نشاطين اثنين مهمين، فقد تأكدت فيهما زراعة الحبوب اعتباراً من الطبقات الأكثر قدماً، من خلال البقايا النباتية المتفحمة وبعض آثار الاستعمال المميزة على شفرات المناجل. والنشاط الثاني هو تربية الماشية في كلا الموقعين (Helmer, 1989 et 1992). كما مورس هنا الصيد وجني الثمار. وفيما بعد سنرى بأن الفرق في كيفية الحصول على الطعام تسمح بالكشف أحياناً عن بعض السلوكات المختلفة بين القدير والكوم.
الأثاث:
وإذا كان الأثاث الذي عثر عليه في الكوم-2- قد دُرس بشكل تام وهو في طريق النشر فإن الأثاث الذي عثر عليه في القدير يستحق أيضاً ساعات طويلة من التحليل. ونستطيع دائماً أن نجري بداية من المقارنة مرة بين الموقعين ومرة بينهما وبين معاصريهما الأكثر بعداً.
الجص:
بالإضافة لاستعماله في البناء، استُخدم الجص في كلا الموقعين خلال فترة الاستيطان فيهما في صناعة الأواني والأغراض المختلفة. وقد درسته ك.مارشال بطريقة مفصلة (1982). وفي الكوم نراه مستخدماً لصناعة أحواض وأواني المائدة الكبيرة الحجم ذات الفتحة المربعة أو مستديرة الشكل. وأشياء صغيرة أخرى كالأطباق والمخاريط (سدادات؟) أو الكرات. ونجد نفس نوع الأشياء السابقة في القدير حيث تكون دائماً عجينة الجص على الأغلب خشنة.
إن هذا الإنتاج يعود لمواقع في الشرق كتل صوان وباغوز وأم الدباغية. كما تشبه أيضاً ما وجد في سوبيرد وهو موقع تركي يقع بعيداً في الشمال الغربي من الكوم. إذاً لا شيء يستحق الذكر على مستوى تصنيع الجص يفصل الكوم عن القدير، بل سنرى أنه حتى جسم صغير مميز على شكل قالب لصناعة السلاسل يقربهما من بعض وبشدة.
الصناعة العظمية:
يكمن وجه التشابه في الصناعة العظمية بين الموقعين بشكل رئيسي في بساطتها وفي القليل من الحالات من استعمالها وتصنيعها. وإذا لم تكن التوجهات التقنية، كما سنرى، دائماً نفسها في الموقعين فعلى الأقل نستطيع القول أن الاستخفاف بهذه المادة كان مشتركاً فيهما. ولقد اقتصر إنتاج اللوازم العظمية هذه على المجال المنزلي كالمكاشط والمثاقب والمصاقل والسكاكين المسطحة. كل هذه الأدوات كانت تستخدم في دباغة الجلود وصناعة السلال وبالرغم من وجود صناعة النسيج في الكوم فإننا لا نجد أية معدات خاصة لها علاقة بهذه الأنشطة. ومع إخلاء السكان لحوضة الكوم نريد أن نشير إلى أن هذه الصناعات العظمية غير النموذجية تعد من مميزات عصر النيوليت ما قبل الفخار "ب" الأخير تقريباً في مجمل المواقع في الشرق الأوسط.
الأواني ومواد أخرى حجرية:
تقتصر الأواني على مجموعة أواني صغيرة (غالباً قطرها 10سم). ويظهر هذا النوع من الأواني في الكوم متجانساً وذا تقنية وجمالية فريدة من نوعها. ومنحوتات حجرية صغيرة ومزهريات دقيقة الحافة مصنوعة من الرخام الناعم ـ المسمى أحياناً "onyx" ـ ومصقولة بعناية لغاية تجميلية، وهناك ألوان متضاربة للرخام نفسه (أبيض وأحمر) أو من مشتقاته الأكثر دقة. كما يوجد أيضاً بعض المزهريات الصغيرة من المرمر والكالسيت.
إنه نفس التقليد الذي نجده في القدير حيث سنسجل وجوداً استثنائياً في الطبقات العليا لقصعة (قدح) أكبر من الأواني في الكوم. ولكنها أيضاً ثنائية الألوان جوفها أبيض وعلى حافتها زخرفة منتظمة ذات خطوط حمراء.
وقد طرحت هذه الأواني عدة نقاط لم تحل حتى الآن. المشكلة الأولى من الناحية التقنية: هل كان اختلاف الألوان فيها طبيعياً أو أنها تمددت عن طريق حرارة مقصودة؟ ثم هناك مشكلة خاصة: هذه الأواني التي لا نجد عليها أية إشارة تدل على تصنيعها (بقايا ـ أواني غير مكتملة... الخ) هل صُنعت في هذا المكان أم نقلت إليه؟ هنالك عدة دلائل ترجح النظرية الثانية، وفي الواقع إن هذه الأواني قريبة جداً من تلك التي نجدها على بعد 100 كم تقريباً إلى الشرق على حوض الفرات في بقرص (Akkermans P., 1981). وإذا كان يوجد في هذا الموقع أوان كبيرة وصغيرة فإن التي نجدها في الكوم تكون دائماً ذات حجوم صغيرة جداً. وبالتالي يمكن أن نتساءل هنا هل تمّ نقل هذه القطع القيّمة بعد التقليل المقصود من وزنها وحجمها؟ وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه الأواني ليست وحدها من المنتجات الحجرية المرتبطة حصراً بالأواني الموجودة في بقرص: حسب رونبرغ فإن هاوناً حجرياً من الكوم -2- مطابق لقطعة ثانية في بقرص وممكن أن يكون هذا الهاون أيضاً قد نقل من مكان آخر. وبالنسبة لرأس فأرة من الرخام، الذي سنصفه عند الوصول لقطع الزينة، فهو يشبه فن تجسيد الحيوانات في موقع الفرات بدون أن يكون هناك أيضاً أية إسقاطات أثناء النقل.
وسوف ترجح التحليلات الفيزيائية الكيميائية عملية نقل أو تقليد بسيط لنماذج القطع الحجرية "الرائجة" في حوض الفرات. حيث أن هناك تقارباً واضحاً بين هذا النوع من الأدوات بين المنطقتين، والفرات والبادية وكذلك من الموقعين الكوم والقدير. ونجد هذه الصلات أيضاً عندما نصل للوازم الطحن (هاون بازلتي) كما أشارت لنا السيدة ماري كلود نيرليفاكويتس.
أدوات الزينة:
وجد القليل من عناصر الزينة في الكوم والقدير (خلال دراسة ك.مارشال) ففي الموقع الأول يصنف رأس الفأرة الذي أشرنا له سابقاً تماماً في أسلوب فن رسم الحيوان في بقرص في حين أن عنصراً حجرياً آخر ومبسطاً أكثر يمثل رأس حيوان صغير ذو عنق طويل ملتوي يشبه قطعة ثانية في أبو هريرة من عصر النيوليت ما قبل الفخار "ب" وهو عبارة عن نوط (جوهر متدل من قرط) صدفي مصنوع في قالب مثقوب من الطرفين، والشكل الطبيعي لهذا القالب يدل على أنها صنعت في مكان الموقع من أحد القواقع المائية وممكن أنها أتت من السبخة المجاورة أو من حوض الفرات.
وفي القدير نميز عنصراً وحيداً وهو عبارة عن نوط من السبج (أوبسيديان) مثقوب من الطرفين ويشبه قطعة أخرى عُثر عليها في رأس شمرا (Contenson H. de, 1977-1978, Fig. 16 no2).
صناعة السلال والنسيج:
عرفت صناعة السلال بشكل غير مباشر وبفضل وجود بصمات جصية سواء في الكوم أو القدير (Maréchal C., 1989). وتسود التقنية اللولبية في كل الموقعين ولكننا نجد في الكوم أيضاً حُصراً قصبية. وفي هذا المجال يتشابه الموقعان مع بقية المواقع من شمال بلاد الشام (قبرص ـ سورية ـ تركيا) والتي ترتبط منذ ظهور صناعة السلال الأولى بطريقتي التصنيع هاتين وبهما فقط (Stordeur D., 1989b).
وقد لفت انتباهنا ثلاث قطع متشابهة بشكل كبير. الأولى سليمة تقريباً أتت من الطبقات الخالية من العمار في القدير. ووجدت الاثنتان الباقيتان مجزأتين في ركام الكوم. ويتعلق الأمر هنا بأوان مسطحة حوافها عمودية ومنخفضة على شكل طوق من السلال اللولبية ذات جوف كبير وسميك. ونتبين هنا من خلال ميزان التشابه المتأرجح بين الموقعين أنه من الصعب أن نعتبرها كلها مجرد مصادفة. وبالمقابل فإن صناعة النسيج ليست مؤكدة (حالياً) إلا في الكوم حيث وُجدت علامات واضحة لقماش منسوج.
الصناعة الحجرية:
الصوان والصناعة الحجرية في الكوم -2- وأسبار عام 1980 في القدير كانت قد درست من قبل ماري كلير كوفان (Aurenche O. et Cauvin M.-C., 1982) وليست واضحة هنا مسألة استرجاع نتائجها بشكل كامل ولكن كما نفعل بمجمل الوثائق، نستخرج منها النقاط القوية التي تشير لأوجه التشابه وأوجه الاختلاف بين الموقعين والدلائل المحتملة حول أصل السكان.
وعموماً نستطيع القول أن كلا الموقعين لهما سيماء سورية من عصر النيوليت ما قبل الفخار "ب"، وتتميز بالمطابقة الجماعية لتقنية تقصيب الحجارة ولنموذج الأسلحة الهجومية (الحراب) التي ظهرت في بداية عصر النيوليت ما قبل الفخار "ب" في الحوض الأوسط للفرات. كذلك التقصيب الثنائي القطب والنوى الزورقية بالأشكال ذات مفهوم محدد لإنتاج رؤوس نبال من نوع نبال جبيل "المتطاولة والضيقة ذات الساق (Pédonculé)" كما وُجد التشذيب المسطح لهذه الأسلحة في كلا الموقعين، ومع هذا واعتباراً من الطبقة الأولى نجد فرقاً بينهما.
ونظرة عامة على الصناعة الحجرية تبين الصفة اللانموذجية نسبياً بالنسبة للصناعة الحجرية في الكوم حيث يظهر القليل من النوى الزورقية بنفس الوقت في حين تبقى رؤوس سهام جبيل استثنائية وغليظة الصنع تذكر بقطع بقرص. وعموماً، فإن هذه الصفة التي أشرنا إليها ليست علامة لفقدان تقاليد المنشأ ولكنها بالأحرى علامة تهاون ما على مستوى احترام المعايير والمتطلبات الجمالية التي لاحظناها مسبقاً في وصف الصناعة العظمية للموقع. أما في القدير فعلى العكس تماماً حيث تظهر الصناعة الحجرية تقليدية بنواها الزورقية الكاملة من أجل الحصول على منتجاتهم الأكثر طلباً وهي رؤوس نبال "جبيل".
وهناك صفة ثانية على المستوى العام تفصل دائماً بين الموقعين. ففي الكوم (م. ـ ك. كوفان، قيد النشر)، يتجلى الاقتصاد بالمادة الأولية من خلال عادات الاستهلاك الأعظمي للنوى بغض النظر عن نوعية المنتجات. بينما في القدير فعلى العكس تماماً حيث نرى إدارة أكثر اتساعاً وأكثر دقة للمادة الأولية.
وعلى مستوى الأشكال التقنية للأدوات نجد أن الأداة التي تسيطر في كلا الموقعين هي المثقب ولكن ومن جهة أخرى فإن هذا التفوق، المشترك والعادي في هذا العصر يقابل بفروق نموذجية هامة وهذه هي حالة بقية الأدوات.
وعند العودة للمثاقب تجد أن هذا النوع من المثاقب ليس فقط ممثلاً جيداً ولكنه موضح جيداً. ففي الكوم تسيطر المثاقب المعترضة في جميع الطبقات أما في القدير فلا تكثر إلا في الطبقات العليا وبطريقة جذرية أقل من التي في الكوم. إنه نموذج آخر للمثاقب التي تسيطر في القدير، مثقب ذو رأس مقعر، ونجده في الطبقات الأكثر قدماً في حين يختفي تماماً في الكوم. إن هذا المثقب المميز الذي يسمى بـ "مثقب الصحراء" نجده دائماً في المواقع الصحراوية في عصر النيوليت ما قبل الفخاري. ونجده في منطقة تدمر والسعودية (أم وأل، رطبة، دوقيرا) ونجده أيضاً في المناطق الصحراوية في الأردن على سبيل المثال في كاماجالا2، ووادي دهوبة B أو في واحة الأزرق كذلك في موقع عين غزال (Rollefson, et al., 1990). وأخيراً وعلى الصعيد المحلي (J.et M.-C. Cauvin, D. Stordeur 1979). توجد هذه المثاقب في عدة مناطق سطحية لمنخفض الكوم: ندوية 7 و4 وبئر العين صبى (جبل بشري)، كذلك في موقع مهم في أم التلال التي تمثل طبقات معاصرة للتي في الكوم والقدير ولكن لا يوجد أية إشارات لقرية ما إلا في الموقع الأخير (Molist M. et Cauvin M.-C., 1990).
إذاً لا يظهر المثقب ذو الرأس المقعر فقط في القرائن التي نعرفها كدليل "الصحراء" ولكن كدليل ممكن لعدم الثبات في المكان. وسيكون من الضروري التحقق في مكان آخر من هذه العلاقة المتبادلة وذلك لمعرفة دوره الصحيح. وبالإضافة للمثاقب تعطي المكاشط بدورها بعض الدلالات.
فهناك مكاشط صغيرة دائرية الشكل مشتركة في كلا الموقعين ذكّرت جاك كوفان بـ "نيوليت الرعاة" في سهل البقاع، العزيز على لورين كوبلاند.
وهناك مكاشط أخرى على شكل شفرات أو شظايا لكنها لا تعطي أية دلائل خاصة وبالمقابل نجد أداة غنية بالمعلومات المختلفة (عناصر المنجل أو سكاكين الحصاد). إن الآثار الدقيقة للاستعمالات التي لُوحظت على بعض هذه الدلائل تؤكد أن كلا الموقعين قد مارسا حصاد الحبوب المزروعة ولكن أشكال أدوات الحصاد مختلفة تماماً بين الموقعين. أما في الكوم فنجد مناجل كبيرة كفاية من النصال أو من أدوات أخرى وغير نموذجية. أما في القدير فإنها غالباً ما تكون ذات تركيبة نادرة الوجود وذات ظهر مُحدّب مع وجود تعديلات أساسية ومسننات عميقة تشبه لحد ما التي في تل الرماد (Contenson H. de, 1969) أو التي في موقع لبناني من الألف الخامس قبل الميلاد، يدعى تل أرسلان، (J. Cauvin, 1968, Fig. 123:9) من عصر النيوليت ما قبل الفخاري الحديث للجزيرة الشمالية.
وأخيراً تأتي رؤوس السهام في آخر مجموعة أدوات الإنسان القديم التي تعطي للموقعين ألواناً مختلفة، إذ هي نادرة في الكوم ومتعددة جداً في القدير وسوف لا نندهش أبداً باكتشاف أنها فطرية ـ بدائية ولا نموذجية، في الكوم وهي ممثلة بالنمط المسمى "رأس نبل من جبيل". الذي يغطيه تشذيب ممتد يشابه النمط المعروف من موقع بقرص كما أشار إلى ذلك السيد رودنبرغ 1986. أما في القدير فتشترك رؤوس جبيل وبعض رؤوس من نوع "العمق" الجميلة المصنوعة بعناية وتدل على السعي وراء الكمال الجمالي الذي يميز المواقع في منطقة دمشق والسواحل السورية واللبنانية وسهل العمق حوالي 6000 سنة قبل الميلاد.
السبج /الاوبسيديان/:
درست السيدة كوفان السبج في الكوم والقدير ووجدته نادراً وعلى شكل نصيلات غير مشوبة وخام، ومن جهة أخرى وجدت نوى النصيلات في جميع المواقع، إحدى هذه النوى فيها أخدود مصنع قصداً حول سطح الطرق، ربما بهدف تحويله إلى قلادة، كما في الكوم. وأخيراً وجد سهمان متشابهان الأول في الكوم والثاني في مشغل لطرق الصوان في القدير. إذاً يوجد تجانس محدود بين منتجات السبج في كلا المنشأتين حيث ترتبط مقالعهما الأصلية في منطقة كبادوكيا وشرق الأناضول (Cauvin M.-C., 1991; Cauvin M.-C. et al., 1992; Gratuze et al., sous press).
التنظيم الغذائي:
الطعام اللحمي: (البقايا العظمية)
حسب رأي هلمر (1989-1992) فإن أنواع الحيوانات المدجنة والبرية هي نفسها في القدير والكوم. ففي الأنواع المدجنة في كلا الموقعين نجد الغنم أكثر من الماعز، ويصطاد الغزال بوفرة كذلك الثعلب وحمار الوحش والأرنب البري... الخ.
وتظهر دائماً بعض الفروق على مستوى إدارة الصيد وتربية الماشية حيث وصلت نسبة تربية الخراف والماعز إلى 75% في أم التلال و70% في القدير وكلا الاثنين خاليتان من الأبنية الريفية. أما في الطبقات السفلى من الكوم فتصل إلى 50% ثم تزداد إلى 75% في هذا الموقع. وفي موقع الكوم (فقط في الطبقات الوسطى) نجد استهلاك الحيوانات الأليفة أقل مما هو عليه في المخيمات الأساسية المجاورة. وفي نهاية الاستيطان في الكوم نجد الغزال الحيوان الأكثر استهلاكاً (50% تقريباً).
إن إدارة قطعان الماشية الأليفة وطريقة الاستفادة من هذه الحيوانات تتطور دائماً على مر الاستيطان حتى في الكوم. وبعد الدراسة، استطاع هلمر التأكد من أن الحليب واللحم والصوف استهلكت في الطبقات السفلى في حين يبدو أن اللحم فقط كان مطلوباً في نهاية الاستيطان. إن كل هذه الملاحظات والتي يدعمها تضاؤل حجم الخروف تدريجياً تجتمع لتدل على تتابع زمني بين المواقع الذي كانت مراحله على الشكل التالي: القدير ثم أم التلال والكوم، في الطبقات السفلى وأخيراً الكوم في الطبقات العليا. وتستحق هذه النتائج أن تقارب مع النتائج التي حصلنا عليها في المجالات الأخرى.
الغذاء النباتي: (النبيت)
درس السيد مولان النباتات في الكوم. حيث تم التأكد من زراعة القمح والشعير من القاعدة إلى القمة. وفي القدير تؤثر مشاكل التخزين الخطيرة في البقايا النباتية، وبالرغم من هذا استطاع ولكوكس أن يكتشف اعتباراً من القاعدة علامات تدل على زراعة القمح والشعير، حيث نجد بعض الأدوات في الطبقات الخالية من البنى العمرانية في موقع القدير تحمل آثار استخدام دقيقة تدل على أن جمع المحصول جرى في سياق الحقول المزروعة، ونستطيع القول أن سكان الموقع ذاتهم كانوا يقومون بعملية الحصاد.
ومهما كانت طريقة الاستيطان والمعيشة في كلا الموقعين، فإننا نستطيع القول بأن سكانهما كانوا يمارسون أنشطة زراعية. وإذا بُرهن أن القدير هو موقع استيطان مؤقت فإننا نستطيع استخدام صفة نصف رحّل بالنسبة لسكانه كما عُرِّفت من قبل كازانوف (1984). وسوف نرى أن هذا التأكيد يقرب أيضاً أكثر بين جماعات ما قبل التاريخ التي كانت تعيش في القدير وبين السكان الحاليين من البدو.
نتائج وآفاق:
ما هي العناصر التي تقرب كلا الموقعين: الكوم -2- والقدير وما هي العناصر المختلفة بينهما؟ وبالأحرى ما هي دلالات التشابه والاختلاف هذه؟ وهل تعطينا علامات حول أصل السكان؟ وهل يتعلق الأمر هنا بجماعتين مختلفتين؟ وهل لدينا إشارات عن أسبقية زمنية للبعض على الآخر أو لتعاصرهما؟ وفي الحالة الأخيرة هل ظهرت إشارات حول علاقاتهم؟ وما هي طرق تبادلاتهم التجارية وعلاقاتهم؟ وأخيراً ما هي الدلائل التي تؤكد حضريتهم أو ترحالهم؟ هناك الكثير من الأسئلة بخصوص تنظيم عناصر البناء حيث يظهر التكامل بين البدو والحضر اعتباراً من العصر النيوليتيكي.
موقعان، جماعتان:
إننا نتعامل مع موقعين متجاورين يعودان لنفس العصر، النيوليت ما قبل الفخاري الأخير، ويملك سكانهما نفس المعدات التقنية المشتركة ونفس المعارف فيما يتعلق بفن البناء، وصناعة الأدوات الصوانية والعظمية وتحويل الجبس إلى ملاط وصناعة السلال وزراعة الحبوب وتربية الماشية. كما يعرفون أيضاً نفس الطرق وربما كانوا يتبادلون السبج مع نفس الشعوب وكذلك المزهريات الحجرية الصغيرة. وبنظرة شاملة فهذا يشابه المجتمعات المختلفة والمتنوعة في سورية حالياً، كما يعودان لنفس الفترة ولنفس السياق التاريخي. ولكن إذا فحصناهما بالتفصيل ستظهر معنا عدة فروق.
والأكثر وضوحاً في هذه الفروق يخص طريقة السكن. فالكوم تشكل قرية حضرية نموذجية مبنية جيداً ومنظمة جيداً. أما في القدير فعلى العكس حيث لا يضم الاستيطان أية أبنية صلبة ولا يتطور لحدود بناء منزل (أو اثنين) منعزلين ويبدو أن المعيشة فيهما كانت عرضية. في حين يتركز الاستثمار المبدع في الكوم تقريباً فقط على بناء المنازل ووسائل المعيشة فيها بالضبط (ترتيب متكلف فيما يتعلق بطهي الأطعمة والصرف الصحي). وفي القدير تبرز منتجات الصناعة اليدوية المختصة. ونفاجأ بالفرق الواضح بين "العمل على الصوان" المختص بالتقنيات المعدة للمنتجات المتقنة الصنع والنموذجية حيث طُوعت واستعملها سكان القدير بطريقة مكثفة. في حين تقتصر المنتجات اليدوية في الكوم على معدات السلاح المصممة خصيصاً ليستفاد منها وبدون أية اعتبارات خاصة، الأمر الذي لا يوصل لأية خطوط تقليدية مميزة حقاً.
لذا من الأصح أن نقول أن القدير يشتهر بصناعة معروفة بوضوحها الأكبر في حين نجد الصناعة في الكوم غير نموذجية بالأحرى. وعلاوة على ذلك سنلاحظ بأن الكوم معزولة في الحوضة، لأن كل المواقع السطحية تدل على تمركز ما ولمدة قصيرة وكذلك موقع أم التلال العديد الطبقات (Molist M. et Cauvin M.-C., 1990) الذي يشبه بشكل واضح القدير ولكن لا يوجد شبه بينه وبين الكوم إطلاقاً.
جماعتان من أصل مختلف:
يبدو واضحاً أن كلا الموقعين الكوم والقدير قد استوطنا من قبل مجموعتين مختلفتين. ولكن هل أصلهما واحد وهل نستطيع تحديد منشأهما في مناطق مختلفة؟ إن تحليل الفروق يقودنا لتحديد أكبر عدد من الشواهد التي تقع إلى الشرق بالنسبة إلى الكوم، وإلى الغرب والجنوب الغربي بالنسبة لقدير.
في الواقع هناك نقاط مشتركة بين هندسة البناء في بقرص وياريم تيبيه ـ1ـ، سواء على الصعيد التقني أو الأصعدة الأخرى. وفيما يخص قطع الجص في نفس الموقع نجد نقاطاً للمقارنة مع بقرص وتل الصوان وباغوز وأم الدباغية. وترتبط الصناعة الحجرية أيضاً وبسبب صفاتها غير النموذجية بكل هذه المواقع الشرقية حيث نجد في تلك الفترة تراجعاً نمطياً واضحاً، وكما رأينا أيضاً أن النقاط التفصيلية التقنية كانت تقرب مرة أخرى الكوم من بقرص (تصنيع رؤوس نبال جبيل).
ومن جهة أخرى سوف تدعم هذه الشواهد عند ظهور الفخار الأول النيوليتي في تل الكوم منذ نهاية الاستيطان النيوليتي ما قبل الفخاري. والأمر يتعلق هنا بفخار قريب جداً من الفخار الموجود في بقرص ولاسيما في تل السن، كما نُقلت بعض الأواني الفخارية من حوض الفرات الأوسط (M. Le Mière, 1986). إن السهام المصاحبة لمجموعة الفخار هذه سوف تماثل إذاً السهام في أم دباغية (M.-C. Cauvin,) قيد الطبع.
وفي القدير تشكل الصناعة الحجرية شاهداً على الإدارات المختلفة، الشيء الذي يبدو طبيعياً بالنسبة لجماعات بدوية. إن بعض العناصر، كالأزاميل ذات اللمعة، ذات سحنة صحراوية. والعناصر الملمعة، ذات الظهر المسترق في ذات التنوع النموذجي، هي أسلحة كانت الأخرى أيضاً في عصر النيوليت ما قبل الفخاري وعلى مساحة واسعة تشمل دمشق وحوض الفرات الأوسط من المشال. ولكن في بداية الألف السادس قبل الميلاد، وهو موضوع بحثنا الآن، فإن هذه الأدوات لا تظهر إلا في المنطقة الساحلية من المشرق في حين نجدها تستعمل من قبل منشآت الحضر في المنطقة الجافة كما في بقرص ولكن ذات أنواع عادية، أما القدير فهي الاستثناء في هذا التطور حيث ازدادت صلتها منذ ذلك الوقت مع المناطق الساحلية. كما تضاف بعض العناصر لعلامات الأصل الغربي للقدير هذه: القلادة السبجية المثقوبة من الطرفين والتي تذكر بالمعروف منها في رأس الشمرة (هـ. دوكونتاسون) وأخيراً قوقعة بحرية متوسطة تم تحديدها من قبل ج. كولان ـ جيرار.
جماعتان متعاصرتان:
هل هما جماعتان متعاصرتان؟ مازال هذا السؤال بعيداً عن الحل ويبدو أن البقايا الحيوانية في القدير توحي بأنه كان أقدم ولو بشكل جزئي من الكوم. ولكن هناك إشارات أخرى ـ صحيح أنها صغيرة جداً ولكنها تؤكد بأنهما جماعتان متعاصرتان، وتصدر هذه الإشارات عن بعض القطع المتشابهة في كلا الموقعين: أطباق جصية على شكل تاج من القش وقطع أخرى منقولة من السبج كالشفرات المصنعة نتيجة الضغط والسهمين المصنعين من نفس المادة الخام. كما نضيف إليها القطع الحجرية التي تقود للمناطق الشرقية ولحوض الفرات الأوسط (الحالة الوحيدة فيما يخص القدير).
إذاً الآن نستطيع أن نستبعد أسبقية الكوم على القدير.
وقبل أن نتابع يبدو أنه من الضروري أن نشير لمفارقة مشتركة بين كلتا المجموعتين اللتين كانتا تعيشان في القدير والكوم بين 6000 قبل الميلاد و5600 قبل الميلاد. وتتعلق هذه المفارقة بصفة عدم وجود الفخار.
وسواء أتوا من الغرب أم من الشرق فإن هاتين الجماعتين كانتا تجاوران شعوباً عرفت الفخار. وربما نستطيع أن نتصور أن رحيلهم عن هذه المناطق جرى قبل أن تمارس هذه التقنية فيها ولكننا رأينا أن الاتصال بقي قائماً على الأقل مع حوض الفرات (وخصوصاً بقرص طيلة مدة الاستيطان في كلا الموقعين). إذاً كيف نفسر أن أناساً يميلون بما يكفي لطلب مواد غير معروفة قادمة من بعيد (سبج، حجارة، قواقع) لم يجلبوا حتى أدنى حد من الأواني الفخارية؟ (Stordeur D. et al., 1982). لم يصنع هؤلاء الفخار ربما لأن الصلصال المحلي سيء فيهما، في حين نستطيع الحصول من الجبس على مختلف المنتوجات الجصية ومن النوع الجيد، ولكن عدم وجود الفخار في القدير والكوم، هو ميزة صحراوية هامة لهذين الموقعين حيث في بداية الألف السادس كان الفخار غائباً في كل المناطق الصحراوية والسهبية المحصورة في قوس يستمر إلى المناطق الأكثر اعتدالاً حيث يتداول الأواني الفخارية. إذاً الكوم والقدير لديهما صفة مشتركة لها أهميتها في هذا المجال.
جماعتان وطريقتان للمعيشة:
رأينا سابقاً أن الاختلاف الأساسي بين الموقعين، الكوم والقدير، كذلك بين سكان الموقعين يكمن في الطريقة التي استوطنوا فيها.
الكوم: ولاسيما إذا أخذنا بعين الاعتبار التل الفسيح الذي يعود كلياً لعصر النيوليت ما قبل الفخاري والذي يهيمن على التل المجاور والذي نقبنا فيه، نحد أن الكوم عبارة عن قرية مبنية من الحجارة وأُعيد بناؤها على الأقل لاثنتي عشرة مرة ولا مجال للشك في أن سكانها القدامى كانوا كسكانها الحاليين حضراً تمركزوا بقوة وتعايشوا جيداً مع الجوار. وقد كانوا مزارعين ولكن إذا سنحت لهم الفرصة كانوا ملتقطي ثمار ونباتات ومربي مواشي صغيرة، وحبهم للغزال دفعهم لمعرفة الوسط الذي يعيش فيه وذلك لاستثماره بطريقة اصطفائية. ومن الغريب أننا لم نتوصل حالياً لالتقاط إشارات حول تنقلاتهم داخل الحوضة. غير أنه من الواضح أنهم لم يسعوا في طلب المواد الأولية أو الصيد أو الرعي على مساحات واسعة. وربما أنهم كانوا يذهبون لما هو أبعد من ذلك عندما يلجؤون لممارسة الانتجاع في سنوات القحط (كما في أيامنا هذه)، والذي كانوا يقومون به بأنفسهم أو يعهدوا به للآخرين.
القدير: ونستنتج من القدير أن التمركز البشري كان خالياً في البداية من أية آثار بناء قوي، وحدّه الأعظم إقامة بناء منعزل (أو اثنين). إن سكان القدير ليسوا من المستقرين ولا من عابري الطريق بغاية رعي مؤقت أو صيد أو طرق الصوان.
ولو كانوا مستقرين لكانوا أقاموا البيوت لأنهم عرفوا تقنية البناء عندما تستدعي الحاجة حيث أن هذا التطور نفسه الذي قادهم وفي وقت من الأوقات لإنشاء بناء صلب، لا يمكن أن نعتبره تحضراً واستقراراً حقيقياً. وببساطة يتعلق الأمر هنا بالنسبة لشعب دائم الترحال هدف إلى بناء مأوى أو مكان للتخزين (كما سبق لنا أن رأينا في طريقة المعيشة أن هذه المنازل لم تكن نفسها منازل الحضر). إن الدراسة التي يقوم بها السيد أورانش (1984) حول قرية القدير الحالية، هي دراسة غنية بالمعلومات بهذا الخصوص. ولكن إذا لم يكونوا حضراً مستقرين إذاً إلى أي درجة وصل رحلهم وماذا كانوا يفعلون في القدير؟
وفي جميع الحالات يسمح وجود الزراعة في جميع الطبقات أن نعتقد أن الأمر يتعلق وعلى الأقل بإقامة موسمية. إذاً فهم لم يأتوا لطرق الصوان فقط مع أن هذه الأنشطة كانت مهمة أيضاً. كانوا يتمركزون في القدير بانتظام وتأصلوا فيها في نفس المواقع دائماً (حيث تتطابق المشاغل كذلك مناطق السكن)، وكانوا يستهلكون مواشي قطعانهم ويفضلون الغزال الذي كان يعيش في الجوار. وحسب مصطلح خارانوف (1984) فإن الصفة الأنسب لهم هي في إطار الترحال في طلب المرعى وهو ما يسمى بـ "البدو نصف رحل" حيث تبقى لدينا بعض النقاط بحاجة للإيضاح.
الخاتمة:
من خلال هذه الملاحظات الأولى، فإن برنامج بحث بخصوص الاستيطان النيوليتي لحوض الكوم أصبح أمراً واقعاً حتى تعرف قضية الظهور الأول لمجتمعات البدو ـ الرعاة الرحل، وعلاقاتهم مع مجتمعات الحضر. وسيتطور هذا البرنامج أيضاً على الأرض وفي المخبر. وسوف تستكمل عملية التنقيب الواسعة والمكثفة في القدير وذلك باستئناف العمل في الكوم (التل الرئيسي). وبشكل موازٍ سيكون هناك سعي في التنقيب هدفه تحديد كل المواقع الممكن تحديدها وتعيين انتمائها الحضاري بدقة والهدف منها (صيد، طرق الصوان، الخ). وأخيراً وبانتظار المزيد من الأبحاث المتخصصة في الميكرومورفولوجيا (تحديد الأشكال مخبرياً) والحيوانات القديمة (Archéozoologie) وعلم النباتات القديمة (Archéobotanique) وعلم الجيولوجيا وتحليل المعادن... الخ وذلك للتوصل لمعطيات محددة بخصوص موسمية الاستيطانات ومدتها والأنشطة المحددة لسكان مختلف المواقع وعلاقاتهم التي كانت قائمة. إذاً ستكرس عدة سنوات أيضاً للبحث في العصر النيوليتي في الكوم الذي تبين أنه، كبقية فترات الاستيطان الأخرى للحوضة، هام في إيضاح التطور في فترة ما قبل التاريخ في الشرق الأدنى.


دانييل ستوردور أحمد طه

الحوليات الأثرية العربية السورية|المجلد الثاني والأربعون|1996

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

حمد :

اريد عن الاختلاف بين النباتات

الامارات