بطل من هذا العصر: الدكتور مأمون عبد الكريم مدير الآثار في حوار مع دانييل روندو

14 تموز 2015

.

أجرى الكاتب الفرنسي المتخصص السيد دانييل روندو (*)، لقاء مع الدكتور مأمون عبد الكريم أثناء زيارة خاصة إلى باريس، ونشره في مجلة لو پوان «Le Point» الفرنسية.

مأمون عبد الكريم هو المدير العام للآثار والمتاحف في سورية. فمنذ بداية الأزمة، أراد برفقة زملائه حماية ما يمكن حمايته من الآثار السورية التي كانت عرضة للسرقة والتدمير بسبب الحرب التي دمرت البلاد.

ويعد عبد الكريم واحداً من الأبطال مثل الأب نجيب مايكل، الدومينيكان العراقي الذي أنقذ مخطوطات وكتب مكتبة الموصل وأعاد ترقيمها. فكل خبراء أوروبة يتابعون بإعجاب شديد الجهود التي يقوم بها مأمون عبد الكريم لينفذ أمراً يبدو محالاً للجميع.



أتواصل معه عبر البريد الالكتروني منذ أكثر من عام، كما التقيتُه منذ أسبوعين في واحدة من زياراتي القصيرة والنادرة إلى باريس؛ ووجدتُه يتكلم الفرنسية ويفكر بها أيضاً، فهو وريث أندريه بارو، عالم الآثار ذاك الذي كان صديق الكاتب الشهير مالرو.

يتكلم مأمون هنا عن حياته في دمشق، وإصراره الشديد على تأمين المخبأ الحصين للقطع الأثرية الشاهدة على «الإنسانية الإلهية في الفن».

كيف وجدتَ نفسك في الصف الأول في هذه الأزمة في سورية؟

كان ذلك خلال صيف 2012، عندما كانت سورية تدخل عامها الثاني من الاضطرابات والتخوفات الكبيرة من سرقة القطع الأثرية التي كان يبلغ عددها حوالي 300 ألف قطعة موجودة في 34 متحف ذي قيمة عالية في البلاد. حيث أننا نجحنا في حماية 99% من هذه القطع التي تم وضعها في أماكن آمنة.

قبلت مهمة تسميتي كمدير العام للآثار والمتاحف لحماية هذه الآثار من أجل إقناع كل السوريين بضرورة حماية روح وعقل شعبنا. كان يتوجب على الآلاف من الزملاء العاملين في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة أو خارجها، أن يبقوا متحدين وأن يكون الشعب السوري حاضراً في مشروعنا هذا. نحن نعتبر أن الإرث الذي تحتويه المتاحف السورية يعود إلى آلاف السنين، لذا كان صراعنا من أجل وجود ثقافة تستحق أن تعيش ويكون لها مكانتها. فإن خسرنا هذه الثقافة، ستكون خسارة للبشرية بأكملها. أنا فخور لأنني أعمل على رأس مجموعة من الزملاء الذين يتعرضون للمخاطر في كل صباح يذهبون فيه إلى العمل.

أخبرنا عن حياتك اليومية!

دائماً ما يسقط عدد من الضحايا في دمشق، فهناك قذائف الهاون التي تسقط على أحياء المدينة القديمة. ولا ندري في أي لحظة سنموت. تربى أولادي في زمن هذه الحرب وغيَّروا غرفهم لكي لا يكون فيها نوافذ تطل على الشارع. فموضوع القذائف متوقع في أي لحظة. فكم من صديق لي فقد منزله؟

أكثر من 10 ملايين سوري غادروا منازلهم وكثير منهم فقدوا من أقاربهم، لكنهم آثروا البقاء هنا من أجل تراث سورية. لا يمر يوم دون أن أفكر بهم وبعائلاتهم.

د. مأمون عبد الكريم في مكتبه بدمشق

أصبحت حياتنا فوضوية حتى أصبح من الصعوبة أن نجد فترة راحة ونوم. رواتبنا الشهرية فقدت أكثر من 75% من قيمتها، وكل شيء ارتفع سعره كثيراً. بالنسبة لي، أتواجد في مكتبي من الساعة التاسعة صباحاً وحتى الساعة الخامسة وأنا أتابع ملفات العمل. وفي المساء، أتواصل مع أصدقاء لي يتواجدون خارج دمشق من خلال وسائل الاتصال الالكترونية، ويقوم زملائي بدورهم بإخباري عن جديد عملهم.

في مكتبي، العمل الأساسي الذي أقوم به هو تدوين وفهرسة القطع التي وصلت إلى دمشق، والتعريف بهذا التوجه من أعمالنا، ويقودني عملي إلى تقديم مشاريع إصلاحية للأبنية الأثرية الموجودة في مناطق يمكن الوصول إليها. على الرغم من كل شيء، فإن ورشات التنقيب تعمل دائماً في دمشق وطرطوس، وفي أماكن أخرى.


د. مأمون عبد الكريم


جميعنا يؤمن بمهمته، نحاول أن نعمل كما لو أن كل شيء طبيعي، وأن نجد الوقت لنجتمع سوية في نهاية الأسبوع في مطعم ما، أو أن نتنزه في أحياء دمشق القديمة إذا كانت الأجواء هادئة وتسمح لنا بذلك.

وفي كل سنة، نحاول الذهاب لإمضاء أسبوع على شواطئ بحرنا، البحر المتوسط. ولكن الخوف لا يتركنا وشأننا أبداً.

كيف تدخلتم عندما اقترب داعش من تدمر؟

لكي نتفادى سقوط محتويات المتاحف في أيدي الجماعات التابعة للشبكات العالمية التي ستقوم ببيعها، أو مباشرة في أيدي داعش، قمنا بنقل أكبر عدد ممكن من القطع الأثرية وخاصة التماثيل الكاملة والنصفية منها إلى دمشق. نفذنا عملية أخيرة، تماماً قبل أن تسقط المدينة بساعتين أو ثلاثة فقط. أصيب ثلاثة من فريق عملنا، إلا أننا تمكنا بفضل الزملاء من دائرة الآثار هناك، وبفضل الدعم الذي قدمته قوات خاصة من الأمن السوري أن ننقذ قسم من هذه القطع التي نقلناها عبر الصحراء إلى حمص ومنها إلى دمشق.

كنتُ متخوفاً منذ المحاولة الأولى لداعش من أجل السيطرة على المدينة، لذا فقد جهزنا وغلفنا ووضعنا القطع في الصناديق خلال أسبوع قبل أن تجتاح داعش المدينة. كنا بحاجة لأسبوع آخر لإنجاز المهمة ووضع المئات من القطع في مكان آمن.

نستطيع أن نؤكد بأن الكنز الفني التدمري في مكان آمن. لكن بالطبع، هناك ما تبقى من تماثيل ومن قطع مصنوعة من الجص والسيراميك من غير الممكن إزاحتها، فبقيت هناك للأسف.

تستمر الحياة في دمشق، ولكن مع ظروف عملكم الراهنة، تراجع التعاون بينكم وبين المؤسسات العلمية الأجنبية، كفرنسا مثلاً التي أغلقت معهدها!

المعهد الألماني لعلوم الآثار في دمشق مفتوح دائماً على عكس المعهد الفرنسي الذي أغلق من دون شك بسرعة فائقة. من الواجب أن لا نخلط بين السياسة وحماية التراث، لأن السياسة تتغير لكن التراث ثابت لا يتغير.


د. مأمون عبد الكريم


نعم لحسن الحظ، استمر القليل من التعاون، فقد لاقيت استقبالاً جيد جداً في ألمانيا، وما زال المعهد الألماني لعلوم الآثار يدعو زملاءنا في العمل ليخوضوا دورات تدريبية. والجدير بالذكر بأن متحف بيرغامون الواقع في برلين إضافة إلى بعض المؤسسات يقدمون الدعم لنا في هذه الأزمة. كما يصلنا دعم كبير من اليونسكو ومن الأمين العام الدكتورة إيرينا بوكوفا، وكذلك من بعض خبراء من العالم كله. أتمنى أن تعود باريس لتهتم بالتراث السوري، كما هو حال روما وبرلين. هناك بعض علماء الآثار الفرنسيين العاملين في سورية قد بقوا إلى جانبنا وإنني أقدم لهم جزيل الشكر. فالعلاقات العلمية الأثرية بين سورية وفرنسا مهمة وقديمة جداً.

إلى أصدقائي الفرنسيين وإلى أطفالي الذين يعيشون معي ومع أمهم في دمشق، أود أن أقول بأننا في عملنا هذا ندافع عن التنوع الثقافي في سورية، وعن الإرث الحضاري لكل السوريين وعن علمانية الدولة السورية. نود أن نتمسك بالأمل وأن نفكر دائما بأن الحياة ستكون أقوى من كل شيء، بالرغم من أننا نعيش الآن لحظات لا نتشارك فيها إلا الأحزان.

ــــــــــــــــــــ
* دانييل روندو كاتب متخصص في الشؤون الثقافية، سفير سابق لفرنسا ويعمل حالياً في اليونسكو كممثل عن جامعة الأمم المتحدة.


ترجمة باسل الحموي

اكتشف سورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق