من ذاكرة الشعر...سليمان عواد شاعر التمرد والحرية والإنسان

06 شباط 2014

قصائده توهج عشق وحشي أخاذ أساسه الكلمة

بعد ما يقارب سبعة عقود من السنوات على وجود القصيدة النثرية على الساحة الثقافية العربية والسورية بالذات، وما شهدته هذه الفترة المعروفة بتقلباتها السياسية والاقتصادية والمجتمعية الكبرى من مواجهات صعبة خاضها شعراء هذا اللون الأدبي الجديد الذي اعتبره البعض فتحا هاما في مجال الشعر العربي يخلق مساحة فسيحة من المنافسة باتجاه التجديد والابتكار والإبداع بعدما ظل الشعر العربي قرونا ثابتا على شكله ومضمونه وأغراضه.

بينما اعتبره آخرون منذ لحظة طرحه غزوا ثقافيا مدروسا في إطار مؤامرة أجنبية غربية تهدف إلى تقويض الشعر العربي التقليدي المعروف بالعمودي والمقفى الذي ظل يتسيد الموقف والمساحة منذ بدايات الوعي الثقافي العربي، وتضخم في عصر النهضة الثقافية العربية لأنه يحمل صفته (لغة العرب) المحببة إلى قلوب الشعراء والنقاد الذين رسخوها في كل مؤلفاتهم لكي يظل مسيطرا على العقول والقلوب في كل زمان باعتباره قيمة فكرية إبداعية جمالية وموسيقية يتفرد بها الشعراء العرب عن كل شعراء العالم لأنهم برأيهم يتمسكون ببحور الخليلي الشعرية.

أما شعراء شعر التفعيلة الذين كانوا يتقدمون في أربعينيات القرن الماضي بهدوء على الساحة الثقافية بحثا عن أرضية صلبة يعتمدون عليها لإيجاد موقع قوي معترف به لشعرهم المستنسخ بطريقة ما من الشعر العمودي إذ يعتمد على تفعيلات بحور الخليلي بشكل مفرد مقتربين مما عرف بمجزوءات البحور الشعرية دون الالتزام بها، هؤلاء الشعراء ومؤيدو شعر التفعيلة وجدوا في القصيدة النثرية هجوما مباشراً على نهجهم ومحاولتهم تطوير الشعر العربي مع المحافظة على الوزن وموسيقاه كركيزة أساسية للشعر العربي يهدف إلى تقويض خططهم قبل أن تنتشر وتُعمم، ووصل الأمر ببعضهم إلى اتهام كبار شعراء العمودي بأنهم اخترعوا الشعر النثري لمحاربتهم بنهج يعتقدون أنه لا يمكن أن يستمر أو يكبر لأنه غريب على عقول وآذان وقلوب العرب والوجدان العربي الأدبي الذي تربى على الشعر العمودي الراسخ قرونا طويلة دون أي تغيير يذكر.

وكان توقع المتهمين (بكسر الهاء) أن الشعر التقليدي عندما يسقط سيصحب معه شعر التفعيلة المولود من رحمه وينتهيان معا، لكن هذا الاتهام لم يكن أكثر من وهم صنعوه ليكون ذريعة لمحاربة الوافد الشعري الجديد الذي يتقدم على الساحة الأدبية والثقافية العربية بخطا ثابتة، وصار له شعراؤه ومريدوه المدافعون عنه ومطبوعاته وقراؤه ومنابره، إلى جانب ذلك كان هناك من ركب موجة الشعر الجديد وليس من أهله فاستسهل كتابة تركيبات لغوية عبثية لا معنى ولا قيمة فنية لها سماها قصيدة نثرية، وكان هناك من تلقفها ونشرها ما أتاح الفرصة لرافضي الشعر النثري أن يسخروا من هذا الجنس الأدبي المهم بطريقة قاسية ومؤلمة واتهام شعرائه بالغموض والإبهام وأكثر من ذلك، ولجأ كثيرون حتى ممن لا يهتمون بالشعر كله إلى السخرية الممجوجة من الشعر النثري بمجمله على مختلف المنابر ومن بينها المسرح.

ويرى العديد من النقاد أن شعراء القصيدة النثرية شجعان وقادرون على التعامل مع الموجات العاتية من الرفض والاتهام وحتى التخوين التي واجهتهم بقوة وصبر وقدرة على امتصاص حدة الهجوم والثبات على بذل الجهد والتقدم وتطوير شعرهم حتى أخذ مكانته التي تليق به على الساحة الأدبية العربية، وأصبح شعراؤه أكثر شهرة وشعبية وانتشارا من كبار شعراء العمودي، كما أن معظمهم لا ينسب إلى نفسه أنه رائد القصيدة النثرية الوحيد ويكبر بذاته حين يؤكد أنه أحد المساهمين في وجودها وانتشارها، فمثلا الشاعر محمد الماغوط أحد أبرز شعراء القصيدة النثرية العربية الكبار قال: لولا سليمان عواد لما تعرفت على قصيدة النثر وكتبتها، وفي كلامه هذا إيحاء بأنه يعترف له بالريادة وأنه من أوائل من كتب القصيدة النثرية، وأكد ذلك أيضاً الشاعر إسماعيل العامود الذي يصنف أيضاً واحدا من أبرز شعراء النثر إذ قدم أكثر من عشرة دواوين من هذا الشعر ودراسات عن أهم شعراء النثر فقال: من يتحدث عن ريادة الشعر النثري يجب أن يدرك أنها تعود لسليمان عواد.

سليمان عواد الشاعر الذي خلق تجربته الشعرية وغاص في كل تفاصيلها وأبعادها، والمتفردة بألوان تنويعاتها الإبداعية والجمالية واللغوية والفنية والموسيقية والحسية، والمتمازجة مع تفاصيل حياته التي عاشها منذ طفولته متنقلا بين سلمية وحمص وطرطوس ولبنان للدراسة ودمشق التي استقر فيها حتى وفاته للعمل، وهي تفاصيل كافية لينطلق عملاق الشعر الكامن في داخله بما فيها من حزن وقلق ورحيل واغتراب وشوق واكتشاف وانبهار ودهشة وبعض الفرح وتفجر الأحلام الذي ولّده انتقاله من بيئة مدينته الصغيرة الريفية المغرقة في بساطتها ونقائها وجمالها وقدرتها على منح الحب والتآلف على الرغم من فقرها الدافئ الذي استطاعت مياه غدرانها الصافية الباردة المتسللة عبر أزقتها وشوارعها الصغيرة أن تحوله إلى غنى روحي خلاّق عند من يملك في داخله بذور العبقرية المعطاءة:

أنا نقطة الماء.... التي فيها كل معاني البحر
وحبة القمح.... التي فيها كل أسرار الحقل
وقطرة الندى.... التي فيها كل أغاني القمر
وشعلة الحق.... التي فيها كل ألغاز الطبيعة
وحفنة التراب.... التي فيها كل مغزى الأرض

هذا الانتقال الذي قاده إلى مدن كبيرة تختال بعمرانها وبهرجها وازدحامها وتعدد أشكال نشاطاتها الثقافية والاجتماعية والسياسية والحياتية بكل تفرعاتها كان فعلا إضافيا ساهم إلى جانب المخزون الإنساني النقي المرهف المتوطن في ذاته إلى تدفق عبقريته الشعرية بقوة وأناقة وتماسك وعذوبة وشراسة وتوهج على متن قصيدة النثر التي لم تكن قد عرفت كثيرا، كما أن الوعي السياسي الذي بدأ يعيشه في العوالم الحضرية التي تنقل بينها وما رافقه من معاناة متعددة الأشكال كان من بينها الاعتقال والفصل من العمل أسس لنهج شعري كان دائماً ثابتا في حياته يرتكز على أن الحرية هي التوءم الحقيقي للإنسان نفسه ومقياس حياته الذي لا يساوم عليه ولا يتوقف عن الدفاع عنه ويعلن قدرته على مواجهة كل محاولة لإسكات نبض التحدي ورغبة التغيير نحو الكمال واحترام إنسانية الإنسان وكرامته وحياته وفكره وعلاقاته بما فيها تلك المتعلقة بمشاعره الخاصة:

سأواجه الواقع بكل عزم وصلابة وجرأة
سأتحمل برجولة كل طارئ وكل مسؤولية
مهما تكون النتيجة
سأقول للجميل أنت جميل
وللقبيح أنت قبيح

سليمان عواد يختلف عن جميع شعراء القصيدة النثرية بأنه لم يحاول في بداياته كتابة الشعر العمودي أو شعر التفعيلة لأن الرغبة الشعرية التي كانت تمور بداخله لم تتوافق مع الأشكال التي لا تتوافر فيها مساحة كافية من التعبير المتمرد على كل القيود الشكلية واللغوية والفنية، والانطلاق في رحابة صدق وصفاء وقدرة الكلمة على التأثير الإيجابي المباشر دون اللجوء إلى تطويعها وأحياناً قتلها من أجل الموسيقا المقررة والقافية المصنعة والشكل الجاهز، ولأنه آمن بأن قصيدة النثر هي المستقبل والحياة في عالم الشعر العربي انغمس في إبداعها وجدد فيها باستمرار مستفيداً من شاعريته وملكته اللغوية التي صنعت من المفردات العادية عوالم حوارية مبهرة وتراكيب فنية تتألق ببساطتها العميقة التي تخترق النفس البشرية حتى حدودها القصوى لتلامس الوجدان بحرارة العشق المتميز الذي لم نعرف معانيه إلا في علاقات الآلهة في الأساطير القديمة، حتى قيل عنه إنه شاعر التمرد والحرية والكلمة النظيفة كأرواح الشهداء والقديسين.

لم أحن رأسي
المفعمة بثمار التأمل والأفكار
إلا لأغصان الزيتون الخضراء
خلال نزهتي الشتائية في الريف
وعندما تساقط المطر
حنَت عليّ هذه الأغصان
كما تحنو مرضعة على وليدها

ولأنه ترجم شعرا لشعراء من فرنسا ورومانيا اعتبر بعض النقاد أن شعره تقليد للشعر الغربي الحداثي مستغلين ذلك لاتهام القصيدة النثرية وموجة الحداثة الشعرية العربية بأنها مستنسخة من التجربة الغربية وتخرّب العقل والوجدان العربي، لكن الواقع كان يؤكد أنه لم يقلد أحدا مع أنه أحب بودلير وويتمان ورامبو ومالارميه وقرأ أشعارهم بل كوّن لنفسه تجربته الخاصة الطالعة من مكنونات النفس البشرية السورية الخالصة المتفردة بإحساسها ورؤياها وفكرها وحتى آلامها وآمالها وأحلامها المنبثقة من الوجع والتي تكبر في حضن التعب والحزن والفرح والشموخ الدائم:

نفسي ظمأى....
فأين ينابيع الفكر والثقافة النيرة؟
نفسي جائعة....
فأين خبز المعرفة وخمرة الأدب والفلسفة؟
وأمامي ماذا أجد في دروب الحياة؟
لا شيء سوى الصقيع، الوحشية، الظلام

في مسيرته التي امتدت أكثر من أربعين عاماً مع القصيدة النثرية كان فارسا مجليا من فرسانها لكنه لم يؤمن بالتغريب اللفظي أو التشكيلي في بنيانها لأنه بيقينه يشكل حاجزا دون وصول الأفكار إلى من يفترض أنها موجهة إليهم، وهذا يفسر عمق بساطة لغته الشعرية بدءا من الحرف الذي يمثل روح القصيدة إلى الكلمة التي هي أساس بنائها عنده فهي التي ترسم الصور وتصنع حالات العبور إلى الدهشة وتطلق الموسيقا والإيقاعات المعبرة عن الأفكار، وتملأ النفوس والأمكنة بتوهج العشق الوحشي الأخاذ لكل ما هو إنساني ووطني وحر ومتحد جدليا بالانتماء إلى ما تعلق به إحساس الشاعر وتداخل في نبضه من مدن وشوارع وأرصفة ومقاه وأغان ووجوه وطقوس استوطنت الذاكرة وتحولت إلى صور وموسيقا وتشكيلات لغوية تتدفق حيويتها على الورق قصائد ملونة مفعمة برغبات الحياة المتجددة البعيدة عن إيقاعات الزمن الصدئ التي تجاوزها بإصرار، فكان هناك تغيير في إبداعه في كل مرحلة مرتبط بمدى التطور التفاعلي الذي وصل إليه من خلال قناعته بأن كل خطوة تقدم إلى المستقبل، والمستقبل دائماً تجاوز للماضي عبر الاستجابة إلى متطلبات اكتشاف ما لم نعرفه بعد، دون أن ننسى مخزون الذاكرة أو ننسلخ عنه:

كالريف أنا
أمنح خيري بصمت.... وسكون
كالريف
أحيا على أنوار الكواكب ونبل الإنسان
مفكرا بمغزى الشتاء الإنساني الكبير
الشتاء الأبدي الذي لا يريد أن ينتهي

بعد حياة اعتبرها معاصروه بوهيمية فيها شيء من الصوفية المرتبطة مباشرة بطبيعته الشعرية المعبرة عن حياته بكل تجلياتها وأحداثها الممزوجة بالبحث عن كل فكرة طليقة وكلمة مختلفة لها دلالاتها وعالمها المتفرد توفي سليمان عواد في دمشق عام 1984 ودفن في السلمية التي ولد فيها عام 1922 بعد غياب عقدين عنها ولم يحضر جنازته إلا قلة من الشعراء.

مؤلفاته الشعرية: سمرنار /شتاء/ أغان بوهيمية /حقول الأبدية /أغان إلى زهرة اللوتس/ الأغنية الزرقاء الأبدية.

ترجماته: قصائد الضياء (شعر الفرنسي لوتشيان بلاغا) ذئب البحر (شعراء من رومانيا).

وله مسرحية بعنوان (من همجستان) ومقالات ثقافية وسياسية ومترجمة كثيرة.


اكتشف سورية

الوطن السورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق