لوحات نشأت الزعبي تضمّ ما بقي من الأشياء في الذاكرة للمكان لحظة الرسم

24 آب 2011

لازمت الحداثة تجربته منذ بداياتها المبكرة

في لوحات نشأت الزعبي غالباً ما نشاهد ما بقي من الأشياء في ذاكرة الفنان للمكان لحظة الرسم، وهو كما نلاحظ لا يهتم بالتفاصيل التي لا يراها مبرّرة بما تضيفه إلى المشهد المُغتني بما ضمّ من محتويات حميمة، مُظهراً باللون وما تبقى من أدوات تعبير ممكنة الأثر الإنساني للزمن في لوحاته، ومكتفياً بروحانية تلك المفردات والأشكال على الجدار الذي نراه ناهضاً في معظم أعماله متضمناً العديد من الإشارات و المؤثـّرات التي لابدّ أن يعكس بعض حاجتنا لترميم ما افتقدناه من حب باتجاه بعضنا، ومستنهضاً مشاعرنا من خلال ما تركه الزمن على تلك الجدران من أثار طيبة بقيت في المكان بما يضمّ من شجر، حجر، وبشر، وتفاصيل تدلّل على شكل العلاقة التي كانت سائدة فيما بيننا في ذلك الزمن الجميل والذي يصرّ الفنان على استنهاضه في معظم كوادره التي تنتمي للأصالة مثلما تتسم بالمعاصرة وصولاً إلى مشارف الحداثة.


من أعمال التشكيلي نشأت الزعبي


إذن إن تلك الحداثة التي لازمت تجربة الزعبي منذ بدايات تشكّلها في ستينات القرن الماضي والتي استطاعت أن تجد لها مكاناً على الساحة السورية التي كانت تعيش عصراً ذهبياً من الألق والتوهج الذي ترك أثره واضحاً على تجارب مجموعة من الفنانين الشباب آنذاك كان من أبرزهم الفنان نشأت الزعبي المهتم منذ بداياته الفنية المبكرة باستنهاض روح الأشياء في لوحاته أكثر من اهتمامه بمحاكاة الطبيعة بما تضم من جماليات بشكلها الواقعي، وهو إلى اليوم ما زال يقدم رأيه فيما يرى أو يتذكر من الحكاية التي غالباً ما تنتهي مدهشة من تلقائية السرد البصري فيها، وممتعة من حيث فرادة عمارتها وتراكب مفرداتها عمودياً بهذا الاتفاق المميّز على الحضور بين كل من الشكل واللون والضوء، ما جعل تلك المشاهد تبدو متباينة في دلالاتها التعبيرية بحسب أهمية حضور أي من تلك العناصر في المساحة على حساب الآخر، فعندما يولي الفنان الشكل عناية خاصة غالباً ما يكتفي بمنظومة واحدة من الألوان التي يتفاوت توهجها بحسب كمية الضوء التي تنهمر عليها، والعكس يصح في المشاهد التي تظهر محتفية باللون بحيث تتلاشى التفاصيل في الأشكال التي تتحول إلى مفردات من غير إفصاح تسبح هكذا في فضاء اللوحة كرموز للدلالة على أثر إنساني هنا أو روحي هناك في خلفية المشهد، كما تفصح بعض مشاهده عن أشكال لحيوانات أو مسوخ تتقدم باتجاهنا موحية بحالة أشبه بالأسطورة أو الحكاية الشعبية المُتخيَلة، والتي تفيد إسقاطاتها تأكيد بعض أدبياتنا المتوارثة أو بعض الاعتقادات الدينية التي سادت في فترة ما عند بعض الشعوب التي استوطنت هذه الأرض بما تضمّ من كنوز عظيمة من الإرث الحضاري والإنساني عبر الزمن.

من أعمال التشكيلي نشأت الزعبي

لقد استلهم الفنان نشأت الزعبي موضوعاته من فن المنمنمات والموروث البصري المحلي، ليقدم لوحة تشكيلية تعالج الحياة الريفية والموضوعات الاجتماعية، كما امتازت أعماله منذ تلك الفترة وإلى الآن بحساسية غرافيكية ولونية عالية، اعتمد عليها الفنان في إظهار ما يريد من تعبير ودائماً بصياغات خاصة باتت تميّز أعماله وطريقة تفكيره من حيث بنائية اللوحة وعمارتها التشكيلية التي تهدف إلى محاكاة بصيرة متلقيه أكثر من الاهتمام بإدهاشه بصرياً، وهذا يعود إلى تلقائية الفنان في مواجهة أبيض اللوحة الذي غالباً ما يبدأ بتخطيطات غير مترابطة بالأسود ومن غير فكرة محدّدة، قد تشكّل تلك الخطوط والرسومات مدخلاً لبناء تكوين العمل الذي لا يلبث أن يتطور تدريجياً من خلال الألوان التي قد تلغي معظم تلك الخطوط بينما يحافظ الفنان باللاوعي على بعضها ويبني عليها حتى يكتمل التشكيل بخصوصية التقنية التي تُظهر مهارة في المعالجة اللونية لمصور متمكن من أدواته ومواده التي طوّعها بالخبرة والممارسة، والأهم برأيي يبقى الإخلاص لمشروع اللوحة الذي يمثّل بالنسبة للفنان الملاذ الأخير والأسمى في الحياة.

تتنافس في لوحة الفنان نشأت الزعبي جزالة النص التشكيلي بما تضمّ من مهارات تقنية، مع طلاوة وبساطة النص الأدبي بما يفصح عن حوادث وحكايات شعبية متوارثة تستند بالأساس على ما خزّنته ذاكرة الفنان من محطات تفيض بالمأساة والحزن، وربما شكـّلت اللوحة فيما بعد بالنسبة له تلك النافذة من الأمل ينظر من خلالها بملئ بصيرته إلى فسحات أكثر إشراقاً تزدحم فيها عناصر الحياة لتركن بالنهاية على سطح اللوحة بانتظام دقيق وتكوين رشيق وحيوي، يصيغ من خلال تلك المفردات جميعها مشهداً ملحمياً يستوقف فيه لحظات استثنائية من الزمان والمكان في زوايا الذاكرة الرطبة بكل ما تحمل من طاقة إيجابية تصل إلى المتلقي باللاوعي وهو يتأمل المشهد في زحمة المفردات وتقابل الألوان يحاول متابعة تفاصيل الحكاية البصرية الممتعة بفيض من المشاعر المتباينة والأمنيات بحياة أقل شقاءً.

من أعمال التشكيلي نشأت الزعبي

والفنان الزعبي الذي ما زال يعتقد بأن اللوحة هي بمثابة الرواية، أو المفاجأة البصرية، وهي الخلاء من هموم الدنيا ومشكلاتها.. لكون الفن برأيه حرفة واستغراق في الذات بآن معاً.

تجربة الفنان الزعبي التي ما زالت تستند في تأليفها على التفاصيل الحميمة من واقع الحياة اليومية، رغم انتمائها ومنذ بدايتها للحداثة التعبيرية التي لم تخل في أي وقت من النزعة التجريدية باتجاه أفاق أكثر رحابة من الحرية التعبيرية في صياغاتها التي بقيت دائماً تعكس تلك الخصوصية الشديدة لمعارف الفنان التقنية وثقافته البصرية، وهي اليوم بالتأكيد تعيش حصيلة كل هذا المخاض من التجارب والتجريب في المواد والأدوات لتركن في فضاء التشويق البصري بما تضمّ من مؤثرات غرافيكية وتلوينية خاصة بمختبر الفنان الأكثر تواضعاً ومعرفة بأسرار اللوحة التي لابدّ بالنتيجة أن تفيض بالحب رغم مأسويتها وما يكتنفها من غموض وغرابة ودهشة.

هذا الحب الذي يفيض من كتاباته الخاصة مثلما يفيض من عناوين لوحاته أحياناً، يبقى الغاية الأسمى في الحياة، من قوله : «الحب .. عندما الحارات والبيوت ذات الدفء / عندما السماء .. الأرض .. الصخور .. الأشجار ../ دموع اللقاء .. دموع الوداع ../ ابستامات الرضى .. وابتسامات الرغبة.. / ياسمين الدار وياسمين الطرقات ../ رائحة التين في الطرقات القديمة../ السهر القديم على أسطحة المنازل../ السهر في الشرفات ../ النجوم .. القمر .. البستان .. / ذلك هو الحب..».

من أعمال التشكيلي نشأت الزعبي

إذن لا بدّ أن تشكـّل هذه المعطيات وغيرها برأيي، جزء هام من فلسفة المشهد في لوحات الفنان نشأت الزعبي عبر مراحل تجربته التي تجاوز عمرها خمسون عاماً، وهو اليوم أكثر ما نلاحظه متمسّكاً بما تبقى لديه من لوحات ربما مثـّلت معظم مراحل تلك التجربة الغنية بمحطاتها الإبداعية التي عكست توق الفنان بصدق إلى التحرّر من كل ما يمكن أن يحدّ من تحليقها في فضاءات من الحلم كانت لم تتحقّق لولا إصراره ومنذ كان طالباً في الكلية على أن يكون مختلفاً وله طريقته الخاصة والمشروعة برأييه في التعبير عن تلك الأحلام والهواجس لتشكيل ذلك الأساس المتين لهذا الفضاء الإبداعي الرحب الذي مازال يحلّق به بحيوية، رغم بعض الصعوبات الصحية التي يحاول مراعاتها حتى لا ينفصل عن متعة هذا الاكتشاف ودهشته بما تفصح عنه مربعات الرغبة تلك في الانعتاق من رتابة الحياة، باتجاه ضفاف فسيحة من الحب والنشوة.

الفنان التشكيلي نشأت الزعبي من مواليد حماة 1939، شارك في معظم معارض الدولة داخل القطر وخارجه، لقيت أعماله تقديراً خاصاً في ترينالي الهند الدولي في نيودلهي 1971، وفي بينالي الإسكندرية الثامن عام 1969 حيث فازت إحدى لوحاته بجائزة الجناح السوري والجائزة التقديرية للمعرض.

ساهم في تأسيس نقابة الفنون الجميلة حيث انتخب نائباً للنقيب في أول مجلس إدارة فيها، وهو من مؤسّسي اتحاد الفنانين التشكيلين العرب.

أعمال الفنان نشأت الزعبي موجودة في المتحف الوطني بدمشق ومتحف الشارقة الدولي ومتحف البنجاب، ووزارة الثقافة السورية، ولدى مجموعات خاصة في كل من لبنان، مصر، فلسطين، الكويت، الهند، فرنسا وأميركا بالإضافة إلى سورية التي كرّمته وزارة الثقافة فيها العام 2000.


غازي عانا

اكتشف سورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق